موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (14-17)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بَلَغَ أَشُدَّهُ: الأشَدُّ: استحكامُ قوَّةِ شبابِه وسِنِّه، قيل: هو جمعُ شَدٍّ، وقيل: جمعُ شِدَّةٍ، وقيل: هو جمعٌ لا واحدَ له، وقد اختُلِف في وقتِ بُلوغِ الأشُدِّ، وأصلُ (بلغ): وصولٌ إلى شَيءٍ، وأصلُ (شدد): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ [161] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215، 277)، ((تفسير ابن جرير)) (9/663)، ((معاني القرآن)) للنحاس (5/164)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301) و (3/179)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 326)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 121). .
وَاسْتَوَى: أي: تمَّ خَلْقُه، واعتدلَ، واستَحْكَم شبابُه واستقرَّ، فلم تكُنْ فيه زيادةٌ، وقيل: بلَغ أربعينَ سنةً، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استقامةٍ واعتدالٍ بيْنَ شيئينِ [162] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 329)، ((تفسير ابن جرير)) (18/181)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 279)، ((تفسير الرسعني)) (5/517)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 327)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 109). .
شِيعَتِهِ: أي: أصحابِه وأتباعِه، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ ومُساعَفةٍ [163] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 329)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 293)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 327). .
فَاسْتَغَاثَهُ: أي: طلَبَ غَوْثَه ونَصْرَه، وأصلُ (غوث): يدُلُّ على النُّصرةِ عندَ الشِّدَّةِ [164] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/400)، ((المفردات)) للراغب (ص: 617)، ((تفسير القرطبي)) (13/260). .
فَوَكَزَهُ: أي: دفَعَه وضرَبَه بجُمْعِ كَفِّه في صَدرِه [165] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 330)، ((تفسير ابن جرير)) (18/186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/139)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 950). .
ظَهِيرًا: أي: مُساعِدًا ومُعِينًا، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [166] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/77)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 280)، ((تفسير القرطبي)) (13/321). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا آخَرَ مِن حياةِ موسَى عليه السَّلامُ، فيقولُ: ولَمَّا بلَغَ موسى عليه السَّلامُ مُنتهى قوَّتِه، واكتمَلَ خَلْقُه واستحكَمَ؛ آتَيْناه حُكمًا ومَعرِفةً قبْلَ النُّبوَّةِ، وكذلك نجزي كُلَّ مَن أحسَنَ عمَلَه.
ودخل موسى المدينةَ في وقتٍ لا يشعُرُ فيه أحدٌ بدُخولِه، فوجَد فيها رجُلينِ يتقاتلانِ؛ أحدُهما مِن شيعتِه بني إسرائيلَ، والآخرُ قِبطيٌّ مِن قَومِ فِرعَونَ، فطلَب الرَّجلُ الإسرائيليُّ مِن موسى أن يُعينَه ويَنصُرَه على خَصمِه القِبطيِّ، فضرَبَ موسى القِبطيَّ بجُمْعِ كَفِّه فقتَلَه بتلك الضَّربةِ!
قال موسى: هذا القَتلُ مِن إغواءِ الشَّيطانِ لي ووسوَستِه؛ إنَّ الشَّيطانَ عدوٌّ يسعى في إضلالِ الإنسانِ، ظاهِرُ العداوةِ والإضلالِ.
قال موسى: ربِّ إنِّي ظَلمتُ نفْسي، فاغفِرْ لي ذنْبي، فغفَرَ اللهُ له ذَنْبَه؛ لأنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
قال موسى: ربِّ بسبَبِ إنعامِك علَيَّ فلن أكونَ مُعِينًا للمجرمينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14).
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا.
أي: ولَمَّا بلغَ موسى عليه السَّلامُ مُنتهى شِدَّتِه وقوَّتِه، وتناهى شبابُه، واكتَمَل خَلْقُه واستحكَمَ؛ آتَيْناه حُكمًا [167] قال الماوَرْدي: (في الحُكمِ أربعةُ أقاويلَ؛ أحدُها: أنَّه العقلُ، قاله عِكْرِمةُ. الثَّاني: النُّبوَّةُ، قاله السُّدِّيُّ. الثَّالثُ: القوَّةُ، قاله مجاهدٌ. الرَّابعُ: الفقهُ، قاله ابنُ إسحاقَ). ((تفسير الماوردي)) (4/241). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالحُكمِ هنا: الفَهمُ في الدِّينِ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/338)، ((تفسير ابن جرير)) (18/182)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5501). وقيل: المرادُ به: الحِكمةُ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عطية، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/280)، ((تفسير الشوكاني)) (4/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/87). وقيل: المرادُ به: الفِقهُ والعقلُ. وممَّن قال بذلك: الواحديُّ، والسمعاني، والبَغويُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/393)، ((تفسير السمعاني)) (4/127)، ((تفسير البغوي)) (3/526). وقيل: المرادُ به: النُّبوَّةُ. وممَّن قال بذلك: النسفيُّ. ينظر: ((تفسير النسفي)) (2/632). ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (4/173). ممَّن اختار أنَّ إيتاءَه الحُكمَ والعِلمَ كان قبلَ النُّبوَّةِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والبغوي، والعليمي، ومحمد رشيد رضا. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/136)، ((الوسيط)) للواحدي (3/393)، ((تفسير البغوي)) (3/526)، ((تفسير العليمي)) (5/178)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/262). وعِلمًا قبْلَ النُّبوَّةِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/180 - 182)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 814)، ((تفسير القرطبي)) (13/258)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/87). .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
أي: وكما جازَيْنا موسى بإيتائِه الحُكْمَ والعِلمَ بسَبَبِ إحسانِه، نُثِيبُ أيضًا كُلَّ مَن أحسَنَ عمَلَه في عبادةِ اللهِ، أو في إحسانِه للخَلقِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 66، 67). .
كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .
وقال سُبحانَه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر: 10] .
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ بتهيُّئِه لنُبوَّتِه؛ أخبَرَ بما هو سَبَبٌ لهِجرتِه إلى مَدْيَنَ، وتوالي الأحداثِ الجِسامِ عليه [170] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/255)، ((تفسير المراغي)) (20/43). :
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا.
أي: ودخَل موسى مدينةً في مِصرَ في وقتٍ لا يَشعُرُ فيه أهلُها بدُخولِه [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/183)، ((تفسير البيضاوي)) (4/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 69-71). .
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ.
أي: فوجَدَ موسى في المدينةِ رجُلينِ يتضارَبانِ ويتنازَعانِ؛ أحدُهما مِن بني إسرائيلَ، والآخَرُ قِبطيٌّ مِن قَومِ فِرعَونَ [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/186)، ((تفسير ابن كثير)) (6/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 73). .
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ.
أي: فطلَبَ الرَّجلُ الإسرائيليُّ مِن موسى أن يُعينَه ويَنصُرَه على خَصمِه الرَّجلِ القِبطيِّ [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/186)، ((تفسير القرطبي)) (13/260)، ((تفسير الشوكاني)) (4/188). قال السعدي: (استغاثتُه لموسى دليلٌ على أنَّه بلغ موسى عليه السَّلامُ مَبلغًا يُخافُ منه، ويُرجَى مِن بيتِ المملكةِ والسُّلطانِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 613). .
فَوَكَزَهُ مُوسَى .
أي: فضرَبَ موسى القِبطيَّ بجُمْعِ كَفِّه (بقبضةِ يدِه) [174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/186)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 814)، ((تفسير الألوسي)) (10/263). .
فَقَضَى عَلَيْهِ .
أي: فقتَلَه بتلك الضَّربةِ [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/190)، ((تفسير ابن كثير)) (6/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613). .
قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
أي: قال موسى: هذا القَتلُ قد وقَع بسبَبِ إغواءِ الشَّيطانِ لي، وتَزيينِه ووَسوستِه [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/190)، ((تفسير القرطبي)) (13/261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613). .
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
أي: إنَّ الشَّيطانَ عدُوٌّ يسعَى في إضلالِ بني آدَمَ عن الحَقِّ، ظاهِرُ العداوةِ والإضلالِ لهم [177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/190)، ((تفسير الشوكاني)) (4/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613). .
وفي حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((... فيأتونَ موسى فيقولونَ: يا موسى، أنتَ رسولُ اللهِ، فَضَّلَك اللهُ برِسالتِه وبكَلامِه على النَّاسِ، اشفَعْ لنا إلى ربِّك، ألَا ترى إلى ما نحنُ فيه؟ فيقولُ: إنَّ ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غضَبًا لم يَغضَبْ قَبْلَه مِثْلَه، ولن يغضَبَ بعْدَه مِثلَه، وإنِّي قد قتلتُ نفْسًا لم أُومَرْ بقَتلِها، نفْسي نفْسي نفْسي، اذهَبوا إلى غيري، اذهَبوا إلى عيسى ...)) [178] رواه البخاري (4712) واللفظ له، ومسلم (194). قال الشوكاني: (موسى عليه السَّلامُ ما زال نادمًا على ذلك، خائفًا مِن العقوبةِ بسببِه، حتى إنَّه يومَ القيامةِ عندَ طلَب النَّاسِ الشَّفاعةَ منه يقولُ: «إنِّي قتلتُ نفسًا لم أُومَرْ بقَتلِها»، كما ثبَت ذلك في حديثِ الشَّفاعةِ الصَّحيحِ... ولا شَكَّ أنَّهم معصومون مِن الكبائرِ، والقَتلُ الواقعُ منه لم يكُنْ عن عَمدٍ، فليس بكبيرةٍ؛ لأنَّ الوَكْزةَ في الغالبِ لا تَقتُلُ). ((تفسير الشوكاني)) (4/189). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/90). .
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16).
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي.
أي: قال موسى: ربِّ إنِّي ظَلمتُ نفْسي بقَتلِ نَفْسٍ لم تأمُرْني بقَتلِها، فاستُرْ ذَنْبي، ولا تؤاخِذْني به [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/190)، ((تفسير القرطبي)) (13/261)، ((تفسير أبي السعود)) (7/7). .
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أي: فغَفَر اللهُ لموسى ذنْبَه، ولم يُعاقِبْه عليه؛ لأنَّ اللهَ هو الغفورُ لِذُنوبِ عبادِه، الرَّحيمُ بهم [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/191)، ((تفسير البيضاوي)) (4/174)، ((تفسير الألوسي)) (10/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/92). قال الألوسي: (ترتيبُ «غفَرَ» على ما قبْلَه بالفاءِ يُشعِرُ بأنَّ المرادَ: غفَرَ له لاستِغفارهِ. وجملةُ إِنَّهُ ... إلخ كالتَّعليلِ للعِلِّيَّةِ، أي: إنَّه تعالى هو المبالِغُ في مغفرةِ ذنوبِ عبادِه ورحمتِهم؛ ولذا كان استغفارُه سببًا للمغفرةِ له). ((تفسير الألوسي)) (10/264). .
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17).
أي: قال موسى: ربِّ بسبَبِ إنعامِك علَيَّ [181] قيل: المرادُ بالإنعامِ هنا: العفوُ عن قتلِ تلك النَّفْسِ، والمغفرةُ وعدَمُ المُعاقَبةِ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والثعلبي، والسمعاني، والبغوي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/339)، ((تفسير ابن جرير)) (18/191)، ((تفسير السمرقندي)) (2/602)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5505)، ((تفسير الثعلبي)) (7/241)، ((تفسير السمعاني)) (4/128)، ((تفسير البغوي)) (3/527). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613). وقيل: المرادُ بالإنعامِ هنا: المعرفةُ والحِكمةُ والتَّوحيدُ. وممَّن قال بذلك: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/262). وقيل: الجاهُ والعِزُّ والمَنَعةُ. وممَّن قال بذلك: ابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/225). قال الشوكاني: (والمرادُ بما أنعَمَ به عليه: هو ما آتاه مِن الحُكمِ والعِلمِ، أو بالمغفرةِ، أو الجميعِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/189). فأُعاهِدُك ألَّا أكونَ مُعينًا للمجرمين [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/191)، ((تفسير القرطبي)) (13/261)، ((تفسير ابن جزي)) (2/111)، ((تفسير ابن كثير)) (6/225)، ((تفسير الشوكاني)) (4/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 613). قال الألوسي: (والمجرمين جمعُ مُجرِمٍ، والمرادُ به: مَن أوقَعَ غيرَه في الجُرمِ، أو مَنْ أدَّتْ مُعاونَتُه إلى جُرمٍ؛ كالإسرائيليِّ الَّذي خاصمَه القِبطيُّ فأدَّتْ مُعاوَنتُه إلى جُرمٍ في نظَرِ موسى عليه السَّلامُ... وجُوِّز أن يُرادَ بذلك الكفَّارُ، وعنى بهم مَنِ استغاثه ونحوَه؛ بِناءً على أنَّه لم يكُنْ أسلَمَ. وقيل: أراد بالمجرمين فِرعونَ وقَومَه، والمعنى: أُقسِمُ بإنعامِكَ علَيَّ لَأَتُوبَنَّ فلن أكونَ مُعينًا للكفَّارِ بأنْ أصحَبَهم وأُكثِّرَ سَوادَهم، وقد كان عليه السَّلامُ يَصحَبُ فِرعونَ ويَركبُ برُكوبِه؛ كالولدِ مع الوالدِ، وكان يُسمَّى ابنَ فِرعونَ). ((تفسير الألوسي)) (10/264). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/398). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لِلْمُجْرِمِينَ أي: المشركين الكافرين: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/191)، ((تفسير القرطبي)) (13/262)، ((تفسير ابن كثير)) (6/225)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 509)، ((تفسير العليمي)) (5/180). قال الواحدي: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] قال ابنُ عبَّاسٍ: عَوْنًا للكافرين. وهذا يدُلُّ على أنَّ الإسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافرًا، وهو قولُ مُقاتلٍ). ((الوسيط)) (3/393). وممَّن اختار أنَّ الإسرائيليَّ الَّذي نصَرَه موسى عليه السَّلامُ كان كافرًا: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، والسمرقنديُّ، وابن الجوزي، والخازن، والعليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/339)، ((تفسير السمرقندي)) (2/602)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/378)، ((تفسير الخازن)) (3/360)، ((تفسير العليمي)) (5/180). قيل: وإنَّما ذكَر تعالى أنَّه مِن شِيعَتِه؛ لأنَّه كان إسرائيلِيًّا، ولم يُرِدِ الموافقةَ في الدِّينِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/262). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى:   فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ إثباتُ العَداوةِ والوَلايةِ، وهو أصلٌ في الدِّينِ؛ فإنَّ وَلايةَ المؤمِنينَ مِن واجبِ المؤمنِ، والبراءةَ مِن الكُفَّارِ مِن واجبِ المؤمنِ؛ قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] ، فهذا أمرٌ لا بُدَّ منه، فلا بُدَّ أنْ يَتبرَّأَ الإنسانُ مِن كلِّ كافرٍ [183] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 73). .
2- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ندَمُ موسى عليه السَّلامُ حمَلَه على الخُضوعِ لربِّه، والاستغفارِ عن ذَنْبٍ باءَ به عندَه تعالى، فغفَرَ اللهُ خطأه ذلك. قال قَتادةُ: (عرَفَ -واللهِ- المَخرَجَ فاستغفَرَ) [184] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/280). .
3- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فيه فضلُ الاعتِرافِ بالذُّنوبِ، لعَلَّامِ الغُيوبِ، وهو استِكانةٌ موجِبةٌ لعطفِه ولُطفِه، بغَفْرِ الذُّنوبِ وسَترِ العُيوبِ، وهذا دأبُ المُصْطَفَيْنَ مِن عِبادِ الله؛ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 87، 88]. وعلَّمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضيَ الله عنه دعاءً يدعو به في صلاتِه، قال: ((قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظلَمتُ نفْسي ظُلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنت، فاغفِرْ لي مغفرةً مِن عِندِكَ، وارحَمْني؛ إنَّك أنت الغفورُ الرَّحيمُ )) [185] رواه البخاري (834، 6326، 7387)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه. ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعائشةَ رضيَ الله عنها: ((إنَّ العبدَ إذا اعترَفَ بذَنْبِه، ثمَّ تاب؛ تاب اللهُ عليه)) [186] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 267). والحديث رواه البخاري (2661، 4750)، ومسلم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها. .
4- قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ هذا وعدٌ مِن موسى عليه السَّلامُ؛ بسبَبِ مِنَّةِ الله عليه: ألَّا يُعِينَ مُجرِمًا، كما فعَلَ في قَتلِ القِبطيِّ، وهذا يُفيدُ أنَّ النِّعَمَ تقتضي مِن العبدِ فِعْلَ الخيرِ، وترْكَ الشَّرِّ [187] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 613). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال الحسَنُ: (مَن أحسنَ عبادةَ الله فِي شَبيبتِه، لقَّاه الله الحِكمةَ عند كِبَرِ سِنِّه) [188] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/167). .
2- في قَولِه تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ جوازُ دفْعِ الصائلِ ولو أدَّى إلى قتْلِه [189] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 203)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 73). .
3- في قَولِه تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ جوازُ الاستغاثةِ بالمخلوقِ فيما يَقدِرُ عليه، أمَّا ما لا يَقدِرُ عليه فلا يجوزُ؛ وعليه فلا تجوزُ الاستغاثةُ بالأمواتِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 72). .
4- قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ إنَّما أغاثه؛ لأنَّ نَصرَ المظلومِ دِينٌ في المِلَلِ كُلِّها، وفَرضٌ في جميعِ الشَّرائِعِ [191] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/492). .
5- في قَولِه تعالى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أنَّ المعاصيَ مِن أوامرِ الشَّيطانِ وأعمالِه [192] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 73). .
6- قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ لَمَّا كان الشيطانُ عدوًّا للإنسانِ، وكانت له مَسالكُ إلى النُّفوسِ؛ استدلَّ موسى عليه السَّلامُ بفِعلِه المؤدِّي إلى قتْلِ نَفْسٍ أنَّه فِعلٌ ناشِئٌ عن وَسوسةِ الشَّيطانِ، ولولاها لكان عَمَلُه جاريًا على الأحوالِ المأذونةِ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الأصلَ في النَّفْسِ الإنسانيَّةِ هو الخيرُ، وأنَّه الفِطرةُ، وأنَّ الانحرافَ عنها يحتاجُ إلى سَبَبٍ غيرِ فِطريٍّ، وهو تخلُّلُ نَزْغِ الشَّيطانِ في النَّفْسِ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/90). .
7- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أنَّ قتْلَ الكافرِ الذي له عَهدٌ بعَقدٍ أو عُرْفٍ: لا يجوزُ؛ فإنَّ موسى عليه السَّلامُ عَدَّ قَتْلَه القِبطيَّ الكافِرَ ذنْبًا، واستغفرَ اللهَ منه [194] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 619). .
8- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي إثباتُ أنَّ الرُّسلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ قد يُخطِئون، لكِنْ لا يقعُ منهم فَسادُ الأخلاقِ وشُربُ الخمورِ وما أشبهَ ذلك، أمَّا الغَيرةُ والحَميَّةُ فهذا قد يقَعُ منهم [195] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 74). الأنبياءُ معصومون مِنَ الوُقوعِ في الكبائرِ، ومِن فِعلِ الصَّغائرِ الَّتي فيها نقصٌ أو شَيْنٌ أو خِسَّةٌ، وقد نقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ. أمَّا ما عدا ذلك مِنَ الصَّغائرِ فمَذهَبُ مُعظَمِ الفُقهاءِ والمُحَدِّثينَ والمتكلِّمينَ مِنَ السَّلفِ والخلَفِ على جوازِ وُقوعِها منهم، فإنْ وقَع منهم شَيءٌ مِن ذلك فإنَّهم يَتدارَكونه بصِدقِ الإنابةِ إلى الله حتَّى يَبْلُغوا بذلك درجةً أعلى مِن درجةِ مَن لم يقَعْ منه ذلك. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/308)، ((شرح النووي على مسلم)) (3/54)، ((أضواء البيان) للشنقيطي (4/105). .
9- قد أخبَر سُبحانَه أنَّ الصِّدِّيقينَ المتَّقينَ لهم أعمالٌ سيِّئةٌ يُكَفِّرُها، ولا رَيْبَ أنَّها ظُلْمٌ للنَّفْسِ، فقال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا [الزمر: 33-35] ، وقال موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وقال آدمُ عليه السَّلامُ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، وقال يونسُ عليه السَّلامُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ، وقال تعالى: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل: 10-11] . فظُلْمُ النَّفْسِ لا يُنافي الصِّدِّيقيَّةَ والولايةَ، ولا يُخرِجُ العبدَ عن كَونِه مِنَ المتَّقينَ، بل يجتمِعُ فيه الأمْرانِ: يكونُ وليًّا لله صِدِّيقًا مُتَّقيًا، وهو مُسيءٌ ظالمٌ لنفْسِه. ونُكتةُ المسألةِ أنَّ الاصطِفاءَ والولايةَ والصِّدِّيقيَّةَ وكَوْنَ الرَّجُلِ مِنَ الأبرارِ ومِنَ المُتَّقينَ ونحو ذلك كلُّها مراتبُ تَقْبَلُ التَّجزُّؤَ والانقِسامَ، والكمالَ والنُّقْصانَ، كما هو ثابتٌ باتِّفاقِ المسلمينَ في أصلِ الإيمانِ [196] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 199). .
10- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي جوازُ التَّوسُّلِ إلى اللهِ سُبحانه وتعالى بحالِ الدَّاعي [197] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 75). ، فالطَّالبُ السَّائلُ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلَبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخبَرِ؛ إمَّا بوصفِ حالِه، وإمَّا بوصفِ حالِ المسؤولِ، وإمَّا بوصفِ الحالَينِ. وقولُه: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فيه وصْفُ حالِ النَّفْسِ، والطَّلَبُ [198] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/223، 225). .
11- ينبغي على العَبدِ إضافةُ السَّيِّئاتِ إلى نفْسِه، مع عِلْمِه بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ موجودٍ مِن الأعيانِ والصِّفاتِ، والحَركاتِ والسَّكَناتِ، كما قال موسى عليه السَّلامُ: إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، وقال آدمُ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، وقال الخليلُ عليه السَّلامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] ، وقيل لخاتَمِ الرُّسلِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] ، وأمثالُ هذا كثيرٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ [199] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/442). .
12- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إثباتُ أنَّ الدُّعاءَ سببٌ، خِلافًا لِمَن أنكَرَ سَببيَّتَه [200] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 75). .
13- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ دَلالةٌ على أنَّه لا يجوزُ مُعاوَنةُ الظَّلَمةِ والفَسَقةِ [201] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/586). ، وعلى أنَّ مُظاهَرةَ المجرمِ تُنافي الشُّكرَ، فهي مُحرَّمةٌ؛ لأنَّها إجرامٌ حقيقةً، بل تكونُ مُساعَدةُ المجرمِ بمنعِ إجرامِه؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((انصُرْ أخاك ظالِمًا أو مَظلومًا. فقال رجُلٌ: يا رسولَ الله، أنصُرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالِمًا، كيفَ أنصُرُه؟ قال: تَحْجُزُه -أو تَمنَعُه- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلك نصْرُه)) [202] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 79). والحديث أخرجه البخاري (6952) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ هذا اعتِراضٌ بيْنَ أجزاءِ القصَّةِ المُرتَّبةِ على حسَبِ ظُهورِها في الخارجِ. وهذا الاعتِراضُ نشَأَ عن جُملةِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص: 13] ؛ فإنَّ وعْدَ اللهِ لها قد حُكِيَ في قولِه تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] ، فلمَّا انتَهَى إلى حِكايةِ رَدِّه إلى أُمِّه بقولِه: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا [القصص: 13] إلى آخِرِه، كَمَّلَ ما فيه وفاءُ وَعْدِ اللهِ إيَّاها بهذا الاستِطرادِ في قولِه: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا؛ وإنَّما أُوتِيَ الحُكْمَ -أي: النُّبوَّةَ، على أحدِ الأقوالِ- بعدَ خُروجِه مِن أرضِ مَدْينَ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/87). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تقدَّمَ نَظيرُ هذه الآيةِ في سُورةِ (يُوسفَ) إلَّا قولَه: وَاسْتَوَى؛ ووجهُ ذلك أنَّ الأشُدَّ كَمالُ القوَّةِ، وأنَّ الاستواءَ كَمالُ البِنْيةِ؛ ولهذا أُرِيدَ لمُوسى الوصْفُ بالاستواءِ، ولم يُوصَفْ يُوسفُ إلَّا ببُلوغِ الأشُدِّ خاصَّةً؛ لأنَّ مُوسى كان رجُلًا طُوالًا، كما في الحَديثِ: ((كأنَّه مِن رِجالِ شَنُوءةَ )) [204] أخرجه البخاري (3239)، ومسلم (165) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وطُوال: معناه: طويل، وهما لغتان. وشَنُوءة: حيٌّ مِنَ اليَمنِ، مَعرفون بالطُّولِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/226)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/429). ؛ فكان كاملَ الأعضاءِ، ولذلك كان وَكْزُه القِبطيَّ قاضيًا على المَوكوزِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/87). . وقيل غيرُ ذلك [206] يُنظر: ((أسرار التكرار)) للكرماني (ص: 194)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/267،  268)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/354). .
2- قَولُه تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ طُوِيَت أخبارٌ كَثيرةٌ تُنْبئُ عنها القصَّةُ؛ وذلك أنَّ مُوسى يَفَعَ وشَبَّ في قَصرِ فِرعونَ، فكان مَعدودًا مِن أهلِ بيتِ فِرعونَ. وجُملةُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عطْفٌ على جُملةِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] عطْفَ جُزءِ القصَّةِ على جُزءٍ آخَرَ منها [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/88). .
- قولُه: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا المقصودُ مِن ذِكْرِ هذا الوقتِ الإشارةُ إلى أنَّ قتْلَه القِبطيَّ لم يَشعُرْ به أحدٌ؛ تَمهيدًا لقولِه بعدُ: قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ [القصص: 19] الآياتِ، ومُقدِّمةً لذِكْرِ خُروجِه مِن أرضِ مِصرَ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/88). .
- والإشارتانِ في قولِه: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ تَفصيلٌ لِمَا أُجمِلَ في قولِه: رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/88). .
- جُملةُ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ مُسْتأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ كأنَّ سائلًا سَألَ: ماذا كان مِن أمْرِ مُوسى حينَ فُوجِئَ بمَوتِ القِبطيِّ؟ وحِكايةُ ذلك للتَّنبيهِ على أنَّ مُوسى لم يَخطُرْ ببالِه حينَئذٍ إلَّا النَّظرُ في العاقبةِ الدِّينيَّةِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/90). .
- وجُملةُ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ تَعليلٌ لكَونِ شِدَّةِ غَضبِه مِن عَمَلِ الشَّيطانِ؛ إذ لولا الخاطرُ الشَّيطانيُّ لَاقتصَرَ على زَجْرِ القِبطيِّ، أو كَفِّه عن الَّذي مِن شِيعَتِه [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/90). .
- ومُتعلِّقُ عَدُوٌّ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المقامِ، أي: عدُوٌّ لآدَمَ وذُرِّيَّةِ آدَمَ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/90). .
- وفي قولِه: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ رُتِّبَ على الإخبارِ عنه بالعَداوةِ وَصْفُه بالإضلالِ؛ لأنَّ العَدُوَّ يَعمَلُ لإلحاقِ الضُّرِّ بعَدُوِّه [213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/91). .
3- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- تَوسيطُ الفِعلِ قَالَ بينَ كلامَيْ موسى عليه السَّلامُ؛ لإبانةِ ما بيْنَهما مِن المُخالَفةِ مِن حَيثُ إنَّه مُناجاةٌ ودُعاءٌ، بخِلافِ الأوَّلِ [214] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/6، 7). .
- والفاءُ في قولِه: فَغَفَرَ لَهُ للتَّعقيبِ، أي: استجابَ استغفارَه، فعجَّلَ له بالمغفرةِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/91، 92). .
- وجُملةُ فَغَفَرَ لَهُ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وجُملةِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [القصص: 17] ؛ كان اعتراضُها إعلامًا لأهْلِ القرآنِ بكرامةِ مُوسى عليه السَّلامُ عندَ ربِّه [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/91، 92). .
- قولُه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعليلٌ لجُملةِ فَغَفَرَ لَهُ؛ علَّلَ المغْفرةَ له بأنَّه شَديدُ الغُفرانِ، ورحيمٌ بعِبادِه، مع تأْكيدِ ذلك بصِيغةِ القصْرِ (تَعريف المُبتدَأ والخَبر)؛ إيماءً إلى أنَّ ما جاء به هو مِن ظُلمِ نفْسِه [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/92). .
4- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ
- قولُه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ إعادةُ الفِعلِ (قال) أفاد تأكيدًا لفِعلِ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [القصص: 16] ؛ أُعِيدَ القولُ للتَّنبيهِ على اتِّصالِ كلامِ مُوسى؛ حيث وقَعَ الفصْلُ بيْنَه بجُملتَيْ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/92). [القصص: 16] .
- قولُه: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يَجوزُ أنْ يكونَ قَسَمًا جوابُه مَحذوفٌ، تَقديرُه: أُقسِمُ بإنعامِك علَيَّ بالمغفرةِ لَأَتُوبَنَّ، فلنْ أكونَ ظَهِيرًا للمُجرِمينَ، وأنْ يكونَ استِعطافًا؛ كأنَّه قال: ربِّ اعْصِمني بحَقِّ ما أنعَمْتَ علَيَّ مِن المغفرةِ، فلنْ أكونَ -إنْ عصَمْتني- ظهيرًا للمُجرِمين. ويجوزُ أنْ تكونَ الباءُ للسَّببيَّةِ؛ فحينَئذٍ لا يكونُ قَسَمًا، ولا استِعطافًا؛ فالمعنى: بسَببِ ما أنعمْتَ علَيَّ مِن القوَّةِ أشكُرُك، فلنْ أستعمِلَ القوَّةَ إلَّا في مُظاهَرةِ أوليائِك [219] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/398)، ((تفسير البيضاوي)) (4/174)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/25)، ((تفسير أبي حيان)) (8/293)، ((تفسير أبي السعود)) (7/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/92). .