موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (115-123)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات :

عَهِدْنَا: أي: أمَرْنا ووصَّيْنا، والعَهْدُ: حفظُ الشيءِ، ومراعاتُه حالًا بعدَ حالٍ، وأصلُ (عهد): يدلُّ الاحتفاظُ بِالشَّيءِ [994] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 330)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/167)، ((المفردات)) للراغب (ص: 591)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 93). .
عَزْمًا: أي: صَبرًا وتَصميمًا وثباتًا، والعَزمُ والعَزيمةُ: عَقدُ القَلبِ على إمضاءِ الأمرِ، وأصلُ (عزم): يدُلُّ على القَطعِ [995] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((تفسير ابن جرير)) (16/183)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 336)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/308)، ((المفردات)) للراغب (ص: 565)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 658). .
تَضْحَى: أي: تَبرُزُ للشَّمسِ فتَجِدُ الحَرَّ، والضُّحَى: انبساطُ الشَّمسِ، وامتِدادُ النَّهارِ، وأصلُ (ضحي): يدُلُّ على بروزِ الشَّيءِ [996] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((تفسير ابن جرير)) (24/481)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/391)، ((المفردات)) للراغب (ص: 502)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233). .
فَوَسْوَسَ: فألقَى وحَدَّثَ، والوَسوَسةُ: الخَطْرةُ الرَّديئةُ، من الوَسواسِ، وهو صَوتُ الحُلِيِّ، والهَمسُ الخفيُّ، وحَديثُ النَّفسِ، وأصلُ (وسوس): صَوتٌ غَيرُ رَفيعٍ [997] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 869). .
يَبْلَى: أي: يَزُولُ أوَ يَضعُفُ، يقال: بَلِيَ الثوبُ بِلًى وبَلاءً، أي: خَلُق [998] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 145)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
وَطَفِقَا: أي: جَعَلا وأقْبَلا، يُقال: طَفِقَ يفعَلُ كذا، أي: ظلَّ يفعَلُ [999] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((تفسير ابن جرير)) (10/110)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/413)، ((تفسير القرطبي)) (11/255). .
يَخْصِفَانِ: أي: يَرقَعانِ ويُلزِقانِ الوَرَقَ بَعضَه ببَعضٍ، وأصلُ (خصف): يدُلُّ على اجتِماعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [1000] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 317)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 109)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 292)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
فَغَوَى: أي: جَهِلَ وضَلَّ، وأصلُ (غوي): يدلُّ على خِلافِ الرُّشدِ [1001] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 234)، ((تفسير القرطبي)) (11/257)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 674). .
اجْتَبَاهُ: أي: اصطَفاه واختارَه، والاجتِباءُ: الجَمعُ على طريقِ الاصطِفاءِ، وأصْلُ (جبي): يدلُّ على جَمعِ الشَّيءِ [1002] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/503)، ((المفردات)) للراغب (ص: 186)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 49، 52). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ آدمَ عليه السلامُ، فيقولُ: ولقد وصَّينا آدَمَ مِن قَبلُ ألَّا يأكُلَ مِن الشَّجَرةِ، وألَّا يُطيعَ الشَّيطانَ، فوسوسَ إليه الشَّيطانُ فأطاعَه، ونَسِيَ الوصيَّةَ، ولم نجِدْ له قُوَّةً في العَزمِ يحفَظُ بها ما أُمِرَ به.
واذكُرْ -يا محمَّدُ- إذ قُلْنا للمَلائكةِ: اسجُدوا لآدَمَ سُجودَ تحيَّةٍ وإكرامٍ، فأطاعوا وسجَدوا، لكِنَّ إبليسَ امتَنَعَ مِن السُّجودِ. فقُلْنا: يا آدَمُ، إنَّ إبليسَ هذا عَدُوٌّ لك ولِزَوجِك، فاحذَرا من أن تُطيعاه، فيُخرِجَكما من الجنَّةِ، فتَشقى إذا أُخرِجْتَ منها. إنَّ لك -يا آدَمُ- في هذه الجنَّةِ ألَّا تَجوعَ ولا تعرى، وألَّا تَعطَشَ ولا يصيبَك حَرُّ الشَّمسِ. فوسوسَ الشيطانُ لآدَمَ وقال له: هل أدُلُّك على شَجَرةٍ إن أكَلْتَ منها خُلِّدتَ فلَمْ تَمُتْ، وكان لك مُلكٌ لا ينقضي ولا ينقَطِعُ؟
فأكلَ آدمُ وحوَّاءُ مِن الشَّجَرةِ التي نهاهما اللهُ عنها، فانكشَفَت لهما عوْراتُهما، وقد كانت مَستورةً عن أعيُنِهما، فأخذا يُلصِقانِ عليهما مِن وَرَقِ أشجارِ الجَنَّةِ؛ ليَستُرا ما انكشَفَ مِن عَوْراتِهما، وخالف آدَمُ أمْرَ رَبِّه فأخطأَ طَريقَ الصَّوابِ بالأكلِ مِن الشَّجَرةِ التي نهاه اللهُ عن الاقترابِ منها. ثمَّ اصطفى اللهُ آدَمَ، بعدَ مَعصيتِه، فتابَ عليه منها، وهداه للتوبةِ، ووفَّقه لها، وثبَّته عليها.
 وقال تعالى لآدَمَ -ومعه زوجُه حواءُ- وإبليسَ: اهبِطَا مِن الجنَّةِ إلى الأرضِ جَميعًا بعضُكم عدُوٌّ لبَعضٍ، فإنْ يأتِكم منِّي رسولٌ أُرسِلُه إليكم، وكِتابٌ أُنزِلُه عليكم، فمَن اتَّبَع رسُلي، وعَمِلَ بكُتُبي؛ اهتَدى، وسعِد في الدُّنيا والآخرةِ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 لما قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] ثم إنَّه عظَّم أمرَ القرآنِ، وبالَغ فيه؛ ذكَر هذه القصةَ إنجازًا للوعدِ [1003] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/105). .
وأيضًا فإنه لما كانت قصةُ موسَى عليه السلام مع فرعونَ ومع قومِه ذاتَ عبرةٍ للمكذبين والمعاندين الذين كذَّبوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعاندوه، وذلك المقصودُ من قصصِها، فكأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم استحبَّ الزيادةَ مِن هذه القصصِ ذاتِ العبرةِ رجاءَ أنَّ قومَه يُفيقون مِن ضلالتِهم؛ أُعقِبتْ تلك القصةُ بقصةِ آدمَ عليه السلام وما عرض له به الشيطانُ، تحقيقًا لفائدةِ قولِه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [1004] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/318). [طه: 114] .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ.
أي: ولقَدْ وصَّيْنا آدَمَ -وهو في الجنَّةِ- بألَّا يأكُلَ مِن الشَّجَرةِ ولا يَقرَبَها، وحَذَّرْناه مِن طاعةِ الشَّيطانِ، مِن قبلُ [1005] قال الرازي: (وفي قولِه تعالَى: مِنْ قَبْلُ وجوهٌ: أحدُها: مِن قبلِ هؤلاءِ الَّذين صَرَّفْنا لهم الوعيدَ في القرآنِ. وثانيها: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مِن قبلِ أنْ يأكُلَ مِن الشَّجرةِ عَهِدْنا إليه ألَّا يأكُلَ منها. وثالثُها: أي: مِن قبلِ محمَّدٍ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم والقرآنِ. وهو قولُ الحسنِ). ((تفسير الرازي)) (22/105). ممن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/182). وممن اختار القولَ الثاني: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/251). وقيل: معنى مِنْ قَبْلُ أي: مِن قبلِ هذا الزمانِ. وممن اختاره: العُليمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (4/330)، ((تفسير الشوكاني)) (3/459)، ((تفسير القاسمي)) (7/150). وقال ابن عاشور: (قَولُه: مِنْ قَبْلُ حُذِفَ ما أُضيفَ إليه قَبْلُ. وتقديرُه: مِن قبلِ إرسالِ موسى، أو مِن قبلِ ما ذُكر... والذي ذُكر: إمَّا عهدُ موسى الذي في قولِه تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] ؛ وقولِه: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 16] ، وإمَّا عهدُ الله لبني إسرائيلَ الذي ذكرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبانَ أسفًا، وهو ما في قولِه: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الآية [طه: 86] ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/319). ، فنَسِيَ [1006] قال الشنقيطي: (قولُه تعالى: فَنَسِيَ فيه للعلماء وجهان معروفان: أحدُهما: أنَّ المرادَ بالنِّسيانِ التَّركُ، فلا ينافي كونَ التَّركِ عَمدًا. والعربُ تطلِقُ النِّسيانَ وتُريدُ به التركَ ولو عمدًا... والوجه الثاني: هو أن المرادَ بالنِّسيانِ في الآية: النسيانُ الذي هو ضِدُّ الذكر؛ لأنَّ إبليسَ لَمَّا أقسم له باللهِ أنَّه له ناصِحٌ فيما دعاه إليه مِن الأكلِ مِن الشَّجَرةِ التي نهاه ربُّه عنها، غَرَّه وخَدَعه بذلك، حتى أنساه العَهدَ المذكورَ. أما على القول الأوَّلِ فلا إشكالَ في قَولِه: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، وأمَّا على الثاني ففيه إشكال معروف؛ لأنَّ النَّاسيَ معذورٌ، فكيف يقالُ فيه وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ وأظهَرُ أوجُهِ الجوابِ عندي عن ذلك: أنَّ آدَمَ لم يكن معذورًا بالنِّسيانِ، وقد بيَّنتُ في كتابي «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» الأدلَّةَ الدالَّةَ على أنَّ العُذرَ بالنِّسيانِ والخطأ والإكراهِ من خصائِصِ هذه الأمَّةِ، كقوله هنا فَنَسِيَ مع قَولِه وَعَصَى فأسنَد إليه النِّسيانَ والعصيانَ؛ فدَلَّ على أنَّه غيرُ معذور بالنِّسيانِ). ((أضواء البيان)) (4/103-104). واختار في ((العذب النمير)) (4/282) أنَّ أصحَّ التفسيرين هو أن معناه: التركُ عمدًا. ونسَب القرطبي هذا القولَ، أي أنَّ المرادَ بالنسيانِ: التركُ -أي: تركُ الأمرِ والعهدِ- إلى مُجاهِدٍ وأكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر ((تفسير القرطبي)) (11/251). وصيَّتي، فلمَّا وسْوَس له الشَّيطانُ أطاعه، وأكَلَ من الشجرةِ [1007] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/181)، ((تفسير ابن عطية)) (4/66)، ((تفسير القرطبي)) (11/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/319)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/103، 104). قال ابنُ جرير: (يقول تعالى ذكره: وإن يضيِّعْ يا محمدُ هؤلاء الذين نصرِّفُ لهم في هذا القرآنِ مِن الوعيدِ عهدي، ويخالفوا أمري، ويتركوا طاعتي، ويتَّبعوا أمرَ عدوِّهم إبليسَ، ويطيعوه في خلافِ أمري، فقديمًا ما فعَل ذلك أبوهم آدمُ). ((تفسير ابن جرير)) (16/181). .
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا.
أي: ولم نجِدْ لآدَمَ عَزمَ قلبٍ على حِفظِ وصِيَّتي، وصَبرًا على الوَفاءِ بعَهدي، وجَزمًا على تَركِ مُخالَفتي [1008] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/185)، ((تفسير القرطبي)) (11/251، 252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/355)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/319)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/103، 104). .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116).
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ؛ طاعةً لي، وتكريمًا له، فسَجَدوا كلُّهم إلَّا إبليسَ امتنَعَ أن يكونَ مع السَّاجِدينَ لآدَمَ [1009] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/185)، ((تفسير ابن عطية)) (4/66)، ((تفسير ابن كثير)) (5/320)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/106). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذكره معلمًا نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، ما كان مِن تضييعِ آدمَ عهدَه، ومعرِّفَه بذلك أنَّ ولدَه لن يعدوا أن يكونوا في ذلك على منهاجِه، إلا مَن عصَمه الله منهم). ((تفسير ابن جرير)) (16/185). .
فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117).
فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ.
أي: فقُلنا: يا آدَمُ، إنَّ هذا الذي عصاني ولم يسجُدْ لك، عدُوٌّ لك ولِزَوجِك حوَّاءَ [1010] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/185)، ((تفسير السمرقندي)) (2/415)، ((تفسير ابن كثير)) (5/320). .
فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى.
أي: فاحذَرا أن تُطيعا عَدُوَّكما إبليسَ، فيتسَبَّبَ في إخراجِكما من الجنَّةِ، فتتعَبَ -يا آدَمُ- في طَلَبِ الرِّزقِ والكِسوةِ والسَّكَنِ؛ الذي تحصُلُ عليه في الجنَّةِ بلا مشقَّةٍ [1011] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/67)، ((تفسير ابن كثير)) (5/320)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/106). .
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى علَّل شقاوة آدمَ على تقديرِ الإخراجِ بوصفِها بما لا يوجدُ في غيرِها من الأقطابِ التي يدورُ علها كفافُ الإنسانِ، وهي الشبعُ والريُّ والكسوةُ والكنُّ [1012] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/357). .
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118).
أي: إنَّ لك -يا آدَمُ- ألَّا تَجوعَ في الجنَّةِ، ولا تعرَى عن اللِّباسِ [1013] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/187)، ((تفسير ابن عطية)) (4/67)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/107). .
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119).
أي: وأنَّك لا تَعطَشُ في الجنَّةِ، ولا تَبرُزُ للشَّمسِ، فيُؤذيَك حَرُّها [1014] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/187)، ((تفسير ابن عطية)) (4/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/107). قال الشنقيطي: (قولُه: وَلَا تَضْحَى أي: لا تصيرُ بارزًا للشمسِ، ليس لك ما تستكِنُّ فيه مِن حرِّها). ((أضواء البيان)) (4/107). .
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120).
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ.
أي: فألقى إبليسُ إلى آدَمَ وسوستَه، وكلَّمه كلامًا خفيًّا [1015] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/188)، ((تفسير النسفي)) (2/387)، ((تفسير القنوجي)) (8/286)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/110). .
كما قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف: 20 - 22] .
قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى.
أي: قال إبليسُ: يا آدَمُ، هل أدلُّك على شَجَرةٍ إن أكَلْتَ منها تُخلَّدْ في الجنَّةِ فلا تمُتْ، ويكُنْ لك مُلكٌ لا يَفنى ولا ينقَطِعُ [1016] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/284)، ((تفسير ابن جرير)) (16/188)، ((تفسير ابن عطية)) (4/67)، ((تفسير ابن كثير)) (5/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/111). ؟!
كما قال تعالى: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20] .
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121).
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا.
أي: فأكَلَ آدَمُ وحَوَّاءُ من الشَّجرةِ التي نهاهما اللهُ عنها، فظَهَرت لهما عوراتُهما بعدما كانت مستورةً عن أعيُنِهما [1017] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/189)، ((تفسير السمرقندي)) (2/415)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/113). قال الشنقيطي: (الفاءُ في قَولِه فَأَكَلَا تدُلُّ على أنَّ سَبَبَ أكلِهما هو وسوسةُ الشَّيطانِ المذكورةُ قَبلَه في قَولِه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أي: فأكلا منها بسبَبِ تلك الوسوسةِ. وكذلك الفاءُ في قوله: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا تدُلُّ على أنَّ سَبَبَ ذلك هو أكلُهما من الشَّجَرةِ المذكورةِ، فكانت وسوسةُ الشيطانِ سَببًا للأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، وكان الأكلُ منها سببًا لبدُوِّ سَوءاتِهما). ((أضواء البيان)) (4/112-113). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/358). .
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
أي: وأخَذَ آدَمُ وحَوَّاءُ يُلصِقانِ عليهما مِن وَرَقِ أشجارِ الجنَّةِ؛ لِيَستُرا به عوراتِهما [1018] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/114). .
وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
أي: وخالَف آدَمُ وصِيَّةَ رَبِّه، فأكَل مِن الشَّجَرةِ التي نهاه اللهُ عن الأكلِ منها، فأخطأَ طَريقَ الصَّوابِ، ولم يحصُلْ على ما وعَدَه الشَّيطانُ [1019] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((تفسير السمرقندي)) (2/415)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/116). .
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122).
أي: ثم اصطَفَى الله تعالى آدَمَ بعدَ مَعصيتِه، فتابَ عليها منها، وهداه للتوبةِ، ووفَّقه لها، وثبَّته عليها [1020] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((تفسير الشوكاني)) (3/461)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515). .
كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37] .
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123).
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا.
أي: قال اللهُ لآدَمَ -ومعه زوجُه حواءُ التي هي تبَعٌ له- وإبليسَ: اهبِطا من الجنَّةِ إلى الأرضِ [1021] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/258)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 30)، ((تفسير ابن كثير)) (5/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/360). وممَّن اختار القولَ المذكورَ، وهو أنَّ الخطابَ لآدمَ وإبليسَ، وأمَّا حواءُ فهي تبَعٌ لآدمَ: القرطبي، وابن القيم، وابن كثير، والبقاعي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ القيم: (والذي يوضِّحُ أنَّ الضَّميرَ في قولِه: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا لآدمَ وإبليسَ: أنَّ الله سُبحانَه لَمَّا ذكر المعصيةَ أفرد بها آدَمَ دونَ زَوجِه، فقالوَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا، وهذا يدُلُّ على أنَّ المخاطَبَ بالإهباطِ هو آدَمُ ومَنْ زَيَّنَ له المَعصيةَ، ودخلتِ الزَّوجةُ تَبَعًا؛ فإن المقصودَ إخبارُ الله تعالى للثَّقَلينِ بما جرى على أبوَيهما مِن شُؤمِ المعصيةِ ومخالفةِ الأمرِ؛ فذِكرُ أبَوَيهما أبلغُ في حُصولِ هذا المعنى مِن ذِكرِ أبَوَي الإنسِ فقط. وقد أخبَرَ سُبحانَه عن الزَّوجةِ بأنَّها أكلت مع آدمَ، وأخبَرَ أنَّه أهبَطَه وأخرجه من الجنَّةِ بتلك الأَكلةِ، فعُلِم أنَّ حُكمَ الزَّوجةِ كذلك، وأنَّها صارت إلى ما صار إليه آدَمُ، وكان تجريدُ العنايةِ إلى ذِكرِ حالِ أبَوَي الثَّقَلينِ أَولى مِن تجريدِه إلى ذِكْرِ أبي الإنسِ وأُمِّهم. فتأمَّلْه). ((حادي الأرواح)) (ص: 30). ويُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/16). وقيل: الخطابُ لآدَمَ وحَوَّاء. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والعُليمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((تفسير العليمي)) (4/332)، ((تفسير الشوكاني)) (3/462)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/120). قال ابنُ كثير: (وقد ذَكَر المفسِّرونَ الأماكنَ الَّتي هَبَط فيها كلٌّ مِنهم، ويرجِعُ حاصلُ تلكَ الأخبارِ إلى الإسرائيليَّاتِ، واللَّهُ أعلمُ بصِحَّتِها. ولو كان في تعيينِ تلك البقاعِ فائدةٌ تعودُ على المكلَّفينَ في أمرِ دينِهم، أو دُنْياهم، لذَكَرها اللَّهُ تعالَى في كتابِه أو رسولُه صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم). ((تفسير ابن كثير)) (3/399). .
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
أي: تقَعُ العداوةُ بينكم؛ فآدمُ وذريَّتُه من جهةٍ، وإبليسُ وذُرِّيتُه مِن جِهةٍ أخرى [1022] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/322)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/360-361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/328). .
كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى.
أي: فإنْ يأتِكم -يا بني آدَمَ- مِن عندي رسولٌ أرسِلُه إليكم، وكِتابٌ أُنزِلُه عليكم؛ فمَن اتَّبَعَ رُسُلي وعَمِلَ بكُتُبي، اهتَدى، وسعِد في الدُّنيا والآخرةِ [1023] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190)، ((تفسير ابن عطية)) (4/68)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/335)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/33)، ((تفسير ابن كثير)) (5/322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/125). ممن عمَّم فجعَل نفيَ الضلالِ والشقاءِ كليهما في الدُّنيا والآخرةِ، أي: فلا يضِلُّ في الدنيا والآخرةِ، ولا يشقَى فيهما: ابنُ تيمية، وابنُ القيم، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/335)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/128)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515). قال ابن عثيمين: (نَفْيُ الضلالِ والشقاءِ عنهم يتضمَّنُ كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدنيا والآخرةِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/268). وممن ذهَب إلى أنَّ قَولَه تعالى: فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى معناه: فلا يضِلُّ في الدنيا، ولا يشقَى في الآخرةِ: ابنُ جريرٍ، والواحدي، والسمعاني، وابنُ عطية، وابن جزي، والعُليمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/190-191)، ((البسيط)) للواحدي (14/550)، ((تفسير السمعاني)) (3/361)، ((تفسير ابن عطية)) (4/68)، ((تفسير ابن جزي)) (2/16)، ((تفسير العليمي)) (4/333)، ((تفسير الشوكاني)) (3/462)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/125). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ عباس. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/191). .

الفوائد التربوية:

1- رغَّب الله تعالى آدمَ عليه السلام في دوامِ الراحةِ وانتظامِ المعيشةِ بقولِه: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى وآدمُ عليه السلام مع كمالِ عقلِه وعلمِه بأنَّ الله تعالى مولاه وناصرُه ومربِّيه، أعلمه بأنَّ إبليسَ عدوُّه؛ حيثُ امتنعَ مِن السجودِ له، وعرَّض نفسه للَّعْنةِ بسببِ عداوتِه، فكيف قبِل في الواقعةِ الواحدةِ والمقصودِ الواحد قولَ إبليسَ، مع علمِه بكمالِ عداوتِه له، وأعرضَ عن قولِ الله تعالى؟! ومَن تأمَّل في هذا البابِ، طال تعجبُه، وعرَف آخرَ الأمرِ أنَّ هذه القصةَ كالتنبيهِ على أنَّه لا دافعَ لقضاءِ الله، ولا مانعَ منه، والدليلُ وإن كان في غايةِ الظهورِ، ونهايةِ القوةِ؛ فإنَّه لا يحصلُ النفعُ به إلَّا إذا قضَى الله تعالى ذلك وقدَّره [1024] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/107). .
2- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فتَمَّت النِّعمةُ عليه وعلى ذرِّيَّتِه، ووجَبَ عليهم القيامُ بها والاعترافُ، وأن يكونوا على حَذَرٍ مِن هذا العدُوِّ المرابطِ الملازِمِ لهم، ليلًا ونهارًا؛ قال الله تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [1025] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 514). [الأعراف: 27] .
3- قد يكونُ الإنسانُ بَعْدَ الذَّنبِ أعلى مقامًا منه قَبلَ الذَّنبِ؛ لأنه قَبْلَ الذنبِ قد يكون مُستمرِئًا للحالِ التي كان عليها، وماشيًا على ما هو عليه، معتقدًا أنه كاملٌ، وأنْ ليس عليه ذنوبٌ، فإذا أذنبَ وأحسَّ بذنبه رجعَ إلى الله وأنابَ إليه، وأخْبَتَ إليه، فيزدادُ إيمانًا، ويزدادُ مقامًا، فيرتَفِعُ مقامُه عند الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى في آدَمَ: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ، فجَعَلَ سبحانه الاجتباءَ بعد هذه المعصيةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى، وهذا كثيرًا ما يقعُ: إذا أذنبَ الإنسانُ عَرَفَ قَدْرَ نفسِه، وأنه محتاجٌ إلى الله، ورجعَ إلى الله، وأحسَّ بالخطيئةِ، وأكثرَ مِن الاستغفارِ، وصار مقامُه بَعْدَ الذنبِ أعلى مِن مقامِه قَبْلَ الذَّنبِ [1026] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (3/449). .
4- قَولُ الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى في هذه الآيةِ وِصايةُ اللهِ آدَمَ وذُرِّيتَه باتِّباعِ رُسُلِ الله والوَحيِ الإلهيِّ، وبذلك يُعلَمُ أنَّ طَلَبَ الهدى مركوزٌ في الجبلَّةِ البَشَريَّةِ [1027] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/330). .
5- قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فضَمِن سُبحانَه لِمن اتَّبع هداه -وهو كلامُه- الهُدى في الدُّنيا والآخرةِ، والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخرةِ، فهاهنا أمرانِ: طريقةٌ وغايةٌ؛ فالطريقةُ: الهُدى، والغايةُ: السَّعادةُ والفلاحُ؛ فمَن لم يسلُكْ هذه الطَّريقةَ لم يَصِلْ إلى هذه الغايةِ [1028] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1128). .
6- عن ابن عباس، قال: (تضمَّن الله لِمَن قرأ القُرآنَ، واتَّبع ما فيه ألَّا يَضِلَّ في الدُّنيا، ولا يشقَى في الآخرةِ)، ثم تلا هذه الآيةَ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [1029] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/389). .
7- قال ابنُ الجوزي: (تأمَّلت قولَه تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123] : قال المفسرون: هُدَايَ: رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكتابي. فوجدتُه على الحقيقةِ: أنَّ كلَّ مَن اتَّبع القرآنَ والسنةَ، وعمِل بما فيهما، فقد سلِم مِن الضلالِ بلا شكٍّ، وارتَفع في حقِّه شقاءُ الآخرةِ بلا شكٍّ، إذا مات على ذلك) [1030] يُنظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 143). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا إنَّما عطَفَ قِصَّةَ آدَمَ على قَولِه: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ [طه: 113] ؛ للدَّلالةِ على أنَّ أساسَ بني آدَمَ على العِصيانِ، وعِرقَهم راسِخٌ بالنِّسيانِ [1031] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/40). .
2- قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا قَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا يدُلُّ على أنَّ أبانا آدَمَ عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ ليس من الرسُلِ الذين قال اللهُ فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ، وهم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومحمَّدٌ، صلَّى الله عليهم وسلَّم [1032] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/106). وأيضًا فإنَّ آدمَ عليه السلامُ نبيٌّ، وليس برسولٍ، فأوَّلُ الرسلِ هو نوحٌ عليه السلامُ. يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/529). ، على الأشهرِ في تحديدِ أُولي العزمِ [1033] يُنظر: ((معارج القبول)) للحكمي (2/680). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا بيانُ أنَّ أولَ نَقْصٍ دَخَلَ على أبي البَشَرِ، وسَرَى إلى أولادِه، أنَّه كان مِن عَدَمِ العِلمِ والعَزْمِ [1034] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 107). ، وذلك على أحدِ القولينِ في تفسيرِ النسيانِ.
4- قَولُ الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فيه سؤالٌ: لمَ قال تعالى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ مع أن المُخرجَ لهما من الجنَّةِ هو اللهُ تعالى؟
 الجواب: أنَّه لما كان بوَسوَستِه هو الذي فعَلَ ما ترتَّبَ عليه الخروجُ، صَحَّ ذلك [1035] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/106). . وفيه وجهٌ آخر: أنَّه أسنَدَ الإخراجَ إلى إبليسَ؛ لزيادةِ التَّحذيرِ، والإبلاغِ في التَّنفيرِ [1036] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/356). .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى جمعَ تعالى لآدَمَ -عليه السَّلامُ- في هذا الخبَرِ أصولَ كَفافِ الإنسانِ في مَعيشتِه؛ إيماءً إلى أنَّ الاستكفاءَ منها سيكونُ غايةَ سَعيِ الإنسانِ في حياتِه المُستَقبلَة؛ لأنَّ الأحوالَ التي تُصاحِبُ التَّكوينَ تكونُ إشعارًا بخصائِصِ المُكَوَّن في مُقَوِّماتِه، كما ورَد في حديثِ الإسراءِ مِن تَوفيقِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لاختيارِ اللَّبَنِ على الخَمرِ، فقيلَ له: ((لو اخترْتَ الخَمرَ، لَغَوتْ أُمَّتُك )) [1037] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/322). والحديث أخرجه البخاري (3394)، ومسلم (168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
6- قال الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى أعلَمَنا في هذه الآيةِ أنَّ النَّفَقةَ التي تجِبُ للمرأةِ على زَوجِها هذه الأربعةُ: الطعامُ، والشَّرابُ، والكِسوةُ، والمَسكَنُ، فإذا أعطاها هذه الأربعةَ، فقد خرج إليها مِن نَفَقتِها، فإن تفَضَّلَ بعد ذلك فهو مأجورٌ، فأمَّا هذه الأربعةُ فلا بدَّ لها منها؛ لأنَّ بها إقامةَ المُهجةِ [1038] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/253). .
7- قوله تعالى: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى إن قيل: ليست في الجنةِ شمسٌ، فكيف يستقيمُ هذا الكلام؟
 والجوابُ: أنَّه مستقيمٌ؛ لأنَّ أهلَ الجنةِ في ظلٍّ ممدودٍ، فلا يصيبُهم أذَى الشمسِ مثل ما يصيبُهم في الدُّنيا [1039] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/360). .
8- قولُ الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى اقتِصارُ الشَّيطانِ على التَّسويلِ لآدَمَ، وهو يريدُ أن يأكُلَ آدَمُ وحَوَّاءُ؛ لعِلمِه بأنَّ اقتِداءَ المرأةِ بزَوجِها مركوزٌ في الجبِلَّةِ [1040] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/327). .
9- قولُ الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى يدُلُّ على أنَّه إنما وسوسَ إليه الشَّيطانُ مُخاطبةً، لا أنه أوقَعَ ذلك في نَفسِه بلا مُقاوَلةٍ، فمَن ادَّعى على الظَّاهِرِ تأويلًا، ولم يُقِمْ عليه دليلًا، لم يجِبْ قَبولُ قَولِه؛ ويدلُّ أيضًا على أنَّ الوسوسةَ قد تكونُ كلامًا مَسموعًا أو صَوتًا [1041] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/13). .
10- وفي وسوسةِ الشَّيطانِ إلى آدَمَ إشكالٌ معروفٌ، وهو أنْ يُقالَ: إبليسُ قد أُخرِجَ من الجنة صاغرًا مذمومًا مدحورًا، فكيف أمكنه الرجوعُ إلى الجنَّةِ حتى وسوسَ لآدمَ؟
والجوابُ: أنَّه لا إشكالَ في ذلك؛ لإمكانِ أن يَقِفَ إبليسُ خارجَ الجنَّةِ قَريبًا مِن طرفِها بحيث يسمعُ آدَمُ كلامَه وهو في الجنَّةِ، وإمكانِ أن يُدخِلَه الله إيَّاها لامتحانِ آدَمَ وزَوجِه، لا لكرامةِ إبليسَ، فلا مُحالَ عقلًا في شيءٍ من ذلك. والقرآنُ قد جاء بأنَّ إبليس كلَّمَ آدَمَ، وحَلَف له حتى غرَّه وزوجَه بذلك [1042] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/111). وقال أثناءَ إيرادِ هذا الإشكالِ: (والمفسِّرون يذكرونَ في ذلك قصَّةَ الحيَّةِ، وأنَّه دخَل فيها فأدخلَتْه الجنَّةَ، والملائكةُ الموكَّلونَ بها لا يشعرونَ بذلك! وكلُّ ذلك مِن الإسرائيلياتِ). .
11- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ساق إبليسُ لآدَمَ -عليه السَّلامُ- الغِشَّ مساقَ العَرضِ؛ إبعادًا لِنَفسِه من التُّهمةِ والغَرَض، وشوَّقه إليه بِقَولِه: هَلْ أَدُلُّكَ؛ فإنَّ النَّفسَ شَديدةُ الطَّلَبِ لعِلمِ ما تجهَلُه [1043] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/358). .
12- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ قد أفصَحَت هذه الآيةُ عن استِقرارِ محبَّةِ الحياةِ في جِبِلَّةِ البَشَرِ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/326). .
13- قولُه: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا فيه جمْعُ السَّوءاتِ مع أنَّهما سَوأتانِ فقط، ولهذا أَوجهٌ:
 الأوَّل: أنَّ آدَمَ وحواءَ كلُّ واحدٍ منهما له سَوءتانِ: القُبُل، والدُّبُر؛ فهي أربعٌ؛ فكلٌّ منهما يرَى قُبُلَ نفْسِه وقُبُلَ الآخَرِ، ودُبُرَه، وعلى هذا فلا إشكالَ في الجمع.
 الثاني: أنَّ المُثنَّى إذا أُضيفَ إليه شَيئانِ هما جُزآه جازَ في ذلك المضافِ الجَمْعُ، والتثنيةُ، والإفرادُ، وأفصحُها الجَمعُ، فالإفرادُ، فالتثنيةُ؛ فإنْ فُرِّقَ المثنَّى المضافُ إليه فالمختارُ في المضافِ الإفرادُ، نحو: عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة: 78] ، ومثالُ جمْعِ المُثنَّى المضافِ المذكورِ الذي هو الأفصحُ قولُه تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] .
الثالث: أنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنانِ [1045] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/115-116). .
14- قال الله تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، وإثباتُ العِصيانِ لآدَمَ دُونَ زَوجِه يدُلُّ على أنَّ آدَمَ كان قُدوةً لِزَوجِه، فلمَّا أكَلَ مِن الشَّجَرةِ تَبِعَتْه زوجُه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [1046] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/327). [التحريم: 6] .
15- قَولُ الله تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى فيه سؤالٌ: هل يجوزُ أن يقالَ: كان آدَمُ عاصيًا، غاويًا، أخذًا من ذلك؟
الجوابُ: لا؛ إذْ لا يلزَمُ مِن جوازِ إطلاقِ الفِعلِ جوازُ إطلاقِ اسمِ الفاعِلِ، فيجوزُ أن يُقالَ: (تبارك اللهُ)، دون (مُتبارِك)، ويجوزُ أن يقال: (تاب اللهُ على آدم) دون (تائب) [1047] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 368). .
16- إنَّ الأنبياءَ صلوات الله وسلامه عليهم لم يقعْ منهم ما يُزري بمراتبِهم العليةِ، ومناصبِهم الساميةِ، ولا يستوجبُ خطأً منهم، ولا نقصًا فيهم صلواتُ الله وسلامُه عليهم -ولو فرضنا أنَّه وقَع منهم بعضُ الذنوب-؛ لأنهم يتداركون ما وقَع منهم بالتوبةِ، والإخلاصِ، وصدقِ الإنابةِ إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلَى درجاتِهم، فتكونَ بذلك درجاتُهم أعلَى مِن درجةِ مَن لم يرتكِبْ شيئًا مِن ذلك. ومما يوضِّحُ هذا قولُه تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى، فانظرْ أيَّ أثرٍ يبقَى للعصيانِ والغيِّ بعدَ توبةِ الله عليه، واجتبائِه أي: اصطفائِه إيَّاه، وهدايتِه له، ولا شكَّ أنَّ بعضَ الزلاتِ ينالُ صاحبُها بالتوبةِ منها درجةً أعلى مِن درجتِه قبلَ ارتكابِ تلك الزلةِ [1048] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/119). .
17- قال تعالى: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا والإهباطُ تارةً يَذكُرُه بلَفظِ الجَمعِ، وتارةً بلَفظِ التَّثنيةِ، وتارةً بلَفظِ الإفرادِ، كقَولِه في سورةِ الأعرافِ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا [الأعراف: 13] ، وكذلك في سورة ص، وهذا لإبليسَ وَحدَه، وحيث ورد بصيغةِ الجَمعِ فهو لآدَمَ وزَوجِه وإبليسَ؛ إذ مدارُ القِصَّةِ عليهم، وحيث ورد بلَفظِ التَّثنيةِ فإمَّا أن يكونَ لآدَمَ وزَوجِه؛ إذ هما اللَّذانِ باشرَا الأكلَ مِن الشَّجَرةِ وأقدَمَا على المعصيةِ، وإمَّا أن يكونَ لآدَمَ وإبليسَ؛ إذ هما أبَوَا الثَّقَلينِ وأصلَا الذُّرِّيةِ؛ فذَكَر حالَهما ومآلَ أمرِهما؛ ليكونَ عِظةً وعِبرةً لأولادِهما [1049] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 30). .
18- في قَولِه تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى بيانُ أنَّ ثوابَ المُتَّبِعِينَ لهداه أنَّهم لا يَضِلُّون ولا يَشقَونَ، ونفيُ الضَّلالِ والشقاءِ عنهم يتضَمَّنُ كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ [1050] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/268). ، فالهُدى والسعادةُ مُتلازِمانِ، والضَّلالُ والشَّقاءُ مُتلازِمانِ، وكثيرًا ما يَقْرِن سُبحانَه في القُرآنِ بين الضَّلالِ والشَّقاءِ، وبين الهُدى والفلاحِ، وقد جَمَعَ سبحانَه بين الأمورِ الأربعةِ في قَولِه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فهذا الهدى والسَّعادةُ، ثمَّ قال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124-126] فذَكَرَ الضَّلالَ والشَّقاءَ [1051] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/37). .
19- قال الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فلمَّا كَسَره سُبحانَه بإهباطِه مِن الجنَّةِ، جَبَرَه وذريَّتَه بهذا العَهدِ الذي عَهِدَه إليهم [1052] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/33). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا
- افتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ التَّحقيقِ ولامِ القسَمِ وَلَقَدْ لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالقصَّةِ؛ تَنبيهًا على قصْدِ التَّنظيرِ بين القصَّتينِ في التَّفريطِ في العهْدِ؛ لأنَّ في القصَّةِ الأُولى تَفريطَ بني إسرائيلَ في عهْدِ الله، كما قال فيها: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: 86] ، وفي قصَّةِ آدمَ تَفريطًا في العهْدِ أيضًا [1053] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/318). .
- قولُه: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فالمعهودُ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه ما بعْدَه، واللَّامُ جوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ، أيْ: وأُقسِمُ لقد أمَرْناهُ ووصَّيناهُ [1054] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/44). .
- قولُه: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا إنْ كان من الوُجودِ العِلْميِّ، فـ لَهُ عَزْمًا مفعولَاهُ؛ قُدِّمَ الثَّاني على الأوَّلِ لكونِه ظرْفًا، وإنْ كان من الوُجودِ المُقابِلِ للعدَمِ -وهو الأنسبُ؛ لأنَّ مَصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ، وليس في الإخبارِ بكونِ العزْمِ المعدومِ له مَزيدُ مَزيَّةٍ- فـ لَهُ مُتعلِّقٌ به؛ قُدِّمَ على مفعولِه للاهتمامِ بالمُقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ، أو بمَحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِه المُنَكَّرِ؛ كأنَّه قيل: ولم نُصادِفْ له عزْمًا [1055] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45). .
- واستُعمِلَ نفْيُ وِجْدانِ العزْمِ عندَ آدمَ عليه السَّلامُ في مَعْنى عدَمِ وُجودِ العزْمِ من صِفَتِه فيما عُهِدَ إليه؛ تَمثيلًا لحالِ طلَبِ حُصولِه عنده بحالِ الباحثِ على عزْمِه، فلم يجِدْه عنده بعْدَ البحثِ [1056] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/319). .
2- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
- قولُه: وَإِذْ قُلْنَا، أي: واذكُرْ إذ قُلْنا، وتَعليقُ الذِّكْرِ بالوقتِ، مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما وقَعَ فيه من الحوادثِ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ فإنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ على تَفاصيلِ الأُمورِ الواقعةِ فيه؛ فالأمْرُ بذِكْرِه أمْرٌ بذِكْرِ تَفاصيلِ ما وقَعَ فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ [1057] الطَّريق البُرهاني: قياسٌ استثنائيٌّ، يُستدلُّ فيه بنَفْي اللازمِ البيِّنِ انتفاؤُه على نَفْيِ الملزومِ، كما يُقال: هل زيدٌ في البلدِ؟ فتقول: لا؛ إذ لو كان فيها لحَضَرَ مَجلِسَنا، فيُستدلُّ بعدمِ الحُضورِ على عدمِ كونِه في البَلدِ. أو: هو ما يلزمُ مِن نفْيِ مِثلِ مِثلِه نفيُ مثلِه. يُنظر: ((حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع)) (1/452)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/23)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/451). ، ولأنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ على أعيانِ الحوادثِ، فإذا ذُكِرَ صارت الحوادثُ كأنَّها مَوجودةٌ في ذِهْنِ المُخاطَبِ بوُجوداتِها العينيَّةِ، أي: اذكُرْ ما وقَعَ في ذلك الوقتِ مِنَّا ومنه؛ حتَّى يَتبيَّنَ لك نِسيانُه وفُقدانُ عزْمِه [1058] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45). .
- وجُملةُ: أَبَى مُستأنَفةٌ، وقعَتْ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ عن الإخبارِ بعدَمِ سُجودِه؛ كأنَّه قِيلَ: ما بالُه لم يَسجُدْ؟ فقِيلَ: أبى واستكبَرَ. ومَفعولُ أَبَى إمَّا مَحذوفٌ، أي: أبى السُّجودَ، كما في قولِه تعالى: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، أو غيرُ مَنْويٍّ رأسًا بتَنزيلِه مَنزِلَةَ اللَّازمِ، أي: فعَلَ الإباءَ وأظْهَره [1059] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/91)، ((تفسير البيضاوي)) (4/40)، ((تفسير أبي حيان)) (7/389)، ((تفسير أبي السعود)) (6/45). .
3- قوله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى
- قولُه: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ الفاءُ في قولِه: فَقُلْنَا لتَرتيبِ مُوجبِ النَّهيِ على عَداوتِه لهما، أو على الإخبارِ بها [1060] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45). .
- وهَذَا إشارةٌ إلى الشَّيطانِ؛ إشارةً مُرادًا منها التَّحقيرُ [1061] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/320). .
- وفي قولِه: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال في سُورةِ (الأعرافِ): إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] ؛ فعبَّرَ عنه باسْمِه. وقولُه: عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، هو كقولِه في (الأعرافِ): وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] ؛ فذُكِرَتْ عَداوتُه لهما جُملةً هنالك، وذُكِرَت تَفصيلًا هنا، فابْتُدِئَ في ذِكْرِ مُتعلِّقِ عَداوتِه بآدمَ؛ لأنَّ آدمَ هو منشَأُ عَداوةِ الشَّيطانِ لحسَدِه، ثمَّ أُتْبِعَ بذِكْرِ زوجِه؛ لأنَّ عَداوتَه إيَّاها تبَعٌ لعَداوتِه آدمَ زوجَها، وكانت عَداوتُه مُتعلِّقةً بكلَيهما؛ لاتِّحادِ عِلَّةِ العَداوةِ [1062] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/321). .
- قولُه: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى تَفريعٌ على الإخبارِ بعَداوةِ إبْليسَ له ولزوجِه، بأنْ نُهِيَا نهْيَ تَحذيرٍ عن أنْ يتسبَّبَ إبليسُ في خُروجِهما من الجنَّةِ؛ لأنَّ العَدُوَّ لا يَروقُه صَلاحُ حالِ عدُوِّه. ووقَعَ النَّهيُ في صُورةِ نهْيٍ عن عمَلٍ هو من أعمالِ الشَّيطانِ لا من أعمالِ آدمَ؛ كِنايةً عن نهْيِ آدمَ عن التَّأثُّرِ بوَسائلِ إخراجِهما من الجنَّةِ [1063] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/321). .
- وإنَّما أُسْنِدَ إلى آدمَ وحْدَه فِعْلُ الشَّقاءِ دونَ حوَّاءَ بعْدَ إشراكِهما في الخُروجِ؛ لأنَّ في ضِمْنِ شَقاءِ الرَّجلِ -وهو قَيِّمُ أهْلِه وأميرُهم- شَقاءَهم، كما أنَّ في ضِمْنِ سَعادتِه سعادتَهم؛ فاخْتُصِرَ الكلامُ بإسنادِه إليه دونَها، مع المُحافَظةِ على الفاصلةِ. أو أُرِيدَ بالشَّقاءِ التَّعبُ في طلَبِ القوتِ، وذلك مُتعلِّقٌ بالرَّجلِ، وهو راجعٌ إليه [1064] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/91 - 92)، ((تفسير البيضاوي)) (4/40)، ((تفسير أبي حيان)) (7/390)، ((تفسير أبي السعود)) (6/45)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 368)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/321). ؛ لِيُعلِمَنا أنَّ نَفَقةَ الزَّوجةِ على الزَّوجِ [1065] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/253). ، وأنَّ عليه التَّكَفُّلَ بأمْرِها، وهو القائِمُ عليها، فجرى اللفظُ بتَوحيدِه مِن هذه الجِهةِ [1066] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/296). .
4- قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى
- وجْهُ إفرادِه عليه السَّلامُ بما ذُكِرَ: أنَّ حواءَ تابعةٌ له في ذلك [1067] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45- 46). .
- وجُملةُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى تَعليلٌ للشَّقاءِ المُترتِّبِ على الخُروجِ من الجنَّةِ المَنْهيِّ عنه؛ لأنَّه لمَّا كان مُمَتَّعًا في الجنَّةِ برَفاهيةِ العيشِ؛ من مأكْلٍ ومَلْبَسٍ، ومَشْربٍ واعتدالِ جَوٍّ مُناسبٍ للمزاجِ: كان الخُروجُ منها مُقتضِيًا فُقدانَ ذلك [1068] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45- 46)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/322). .
- والعُدولُ عن التَّصريحِ بأنَّ له عليه السَّلامُ فيها تَنعُّمًا بفُنونِ النِّعمِ، مع أنَّ فيه من التَّرغيبِ في البقاءِ فيها ما لا يَخْفى، إلى ما ذُكِرَ من نفْيِ نَقائِضِها الَّتي هي الجوعُ والعطشُ، والعُرْي والضُّحِيُّ: لتَذكيرِ تلك الأُمورِ المُنْكَرةِ، والتَّنبيهِ على ما فيها من أنواعِ الشِّقوةِ الَّتي حَذَّرَه عنها؛ ليُبالِغَ في التَّحامي عن السَّببِ المُؤدِّي إليها، على أنَّ التَّرغيبَ قد حصَلَ بما سُوِّغَ له من التَّمتُّعِ بجَميعِ ما فيها، سِوى ما استُثنِيَ من الشَّجرةِ حسَبَما نطَقَ به قولُه تعالى: يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة: 35] ، وقد طُوِيَ ذِكْرُه هَاهُنا اكتفاءً بما ذُكِرَ في مَوضعٍ آخرَ، واقتُصرَ على ما ذُكِرَ منَ التَّرغيبِ المُتضمِّنِ التَّرهيبَ [1069] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/92)، ((تفسير البيضاوي)) (4/41)، ((تفسير أبي السعود)) (6/45- 46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/390). .
- وفيه فَنٌّ بَديعٌ يُسمَّى قطْعَ النَّظيرِ عن النَّظيرِ؛ ففي الآيةِ فُصِلَ الظَّمأُ عن الجوعِ في الذِّكْرِ مع تَجانُسِهما وتَقارُنِهما في الذِّكْرِ عادةً، وكذا حالُ العُرْيِ والضَّحْوِ المُتجانسَينِ؛ لتَوفيةِ مَقامِ الامتنانِ حَقَّه، بالإشارةِ إلى أنَّ نفْيَ كلِّ واحدٍ مِن تلك الأُمورِ نِعْمةٌ على حِيالِها، ولو جُمِعَ بين الجوعِ والظَّمأِ لرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ نفْيَهما نِعْمةٌ واحدةٌ، وكذا الحالُ في الجمْعِ بين العُرْيِ والضَّحْوِ على مِنهاجِ قصَّةِ البقرةِ، ولزيادةِ التَّقريرِ بالتَّنبيهِ على أنَّ نفْيَ كلِّ واحدٍ من الأُمورِ المذكورةِ مَقصودةٌ بالذَّاتِ، مَذكورةٌ بالأصالةِ، لا أنَّ نفْيَ بعْضِها مَذكورةٌ بطَّريقِ التَّبعيةِ لنفْيِ بعْضٍ آخَرَ، كما عسى يُتَوهَّمُ لو جُمِعَ بين كلٍّ منَ المُتجانسَينِ [1070] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/45- 46)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/322- 323)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/258). .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى مُقابَلةٌ مَعنويَّة حسَنَةٌ؛ فالجوعُ خُلوُّ الباطِنِ، والتعرِّي خُلوُّ الظاهِرِ، فهما مُتناسِبانِ في المَعنى، والظمأُ إحراقُ الباطِنِ، فهو مُوجِبٌ لحرارةِ الباطنِ، والضَّحوُ إحراقُ الظاهِرِ؛ فهو مُوجِبٌ لحرارةِ الظَّاهرِ، فقابَلَ الخُلوَّ بالخلوِّ، والإحراقَ بالإحراقِ، واقتَضَتِ الآيةُ نفيَ جميعِ الآفاتِ ظاهِرًا وباطِنًا [1071] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/391)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/240). .
- وأُكِّدَتِ الجُملةُ بـ (إنَّ) في قوله: إِنَّ لَكَ المكسورةِ، و(أنَّ) المفتوحةِ في قولِه: وَأَنَّكَ [1072] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/324). .
5- قوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى
- الفاءُ في قولِه: فَوَسْوَسَ لتَعقيبِ مَضمونِ جُملتِها على مَضمونِ الَّتي قبْلَها، وهو تَعقيبٌ نِسْبيٌّ بما يُناسِبُ مُدَّةَ تقلُّبٍ في خلالِها بخَيراتِ الجنَّةِ، حتَّى حسَدَه الشَّيطانُ، واشتَدَّ حسَدُه [1073] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/325). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث عُدِّيَ فعْلُ (وسوَسَ) هنا بحرْفِ (إلى)، وباللَّامِ في سُورةِ (الأعرافِ): فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف: 20] ؛ وذلك باعتبارِ كيفيَّةِ تَعليقِ المجرورِ بذلك الفِعْلِ في قصْدِ المُتكلِّمِ، فإنَّه فِعْلٌ قاصرٌ، لا غِنَى له عن التَّعديةِ بالحرفِ؛ فتَعديتُه بحرْفِ (إلى) هنا باعتبارِ انتهاءِ الوَسوسةِ إلى آدمَ، وبُلوغِها إيَّاهُ، وتَعديتُه باللَّامِ في (الأعرافِ) باعتبارِ أنَّ الوَسوسةَ كانتْ لأجْلِهما [1074] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/325). ، وأيضًا كأنَّه عبَّر بـ (إلى)؛ لأنَّ المقامَ لبَيانِ سُرعةِ قَبولِ هذا النَّوعِ للنَّقائصِ وإنْ أتَتْه مِن بَعدُ، أو لأنَّه ما أنهَى إليه ذلك إلَّا بواسطةِ زَوجِه؛ لذلك عَدَّى الفِعلَ عند ذِكرِهما باللَّامِ [1075] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/358). .
- وقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ولم يقلْ: (فيه)؛ لأنَّ المعنى أنَّه ألقَى إليه ذلك، وأوصَله إليه، فدخَل في قلبِه [1076] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/262). .
- قولُه: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ ... إمَّا بدَلٌ من (وَسْوَسَ)، أو استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ منه؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال في وَسوسَتِه؟ فقيل: قال... [1077] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/47). ، أو بَيانٌ لجُملةِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [1078] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/325). .
- وقولُه: هَلْ أَدُلُّكَ استفهامٌ مُستعمَلٌ في العرْضِ [1079] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/325). ، وجاء على سَبيلِ الاستفهامِ الَّذي يُشعِرُ بالنُّصحِ، ويُؤثِرُ قَبولَ مَن يُخاطِبُه [1080] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/391). .
- في قولِه: شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى سمَّاها هنا شجرةَ الخُلْدِ بالإجمالِ؛ للتَّشويقِ إلى تَعيينِها حتَّى يُقبِلَ عليها، ثمَّ عيَّنَها له عَقِبَ ذلك، بما أنبَأَ به قولُه تعالى: فَأَكَلَا مِنْهَا [1081] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/326). ، وأضافَ الشَّجرةَ إلى الخُلدِ، وهو الخُلودُ؛ لأنَّ مَن أكَلَ منها خُلِّدَ بزَعْمِه [1082] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/93)، ((تفسير البيضاوي)) (4/41). .
- في (الأعرافِ): مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ [الأعراف: 20] الآيةَ، وهنا هَلْ أَدُلُّكَ، والجمْعُ بينهما: أنَّ قولَه: هَلْ أَدُلُّكَ يكونُ سابِقًا على قولِه: مَا نَهَاكُمَا؛ لمَّا رأى إصغاءَه ومَيْلَه إلى ما عرَضَ عليه، انتقَلَ إلى الإخبارِ والحصْرِ [1083] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/391). .
6- قوله تعالى: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
- الفاءُ في قولِه: فَأَكَلَا مِنْهَا للتَّفريعِ على ما قبْلَه، ويُوجَدُ جُملةٌ مَحذوفةٌ دَلَّ عليها العرْضُ، أي: فعمِلَ آدمُ بوَسوسةِ الشَّيطانِ، فأكَلَ من الشَّجرةِ، وأكَلَت حوَّاءُ معه [1084] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/326). .
7- قولُه تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَعَصَى آَدَمُ، وجُملةِ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا؛ لأنَّ الاجتباءَ والتَّوبةَ على آدمَ كانا بعْدَ أنْ عُوقِبَ وزوجُه بالخُروجِ من الجنَّةِ، كما في سُورةِ (البقرةِ)، وهو المُناسِبُ لتَرتُّبِ الإخراجِ منَ الجنَّةِ على المعصيةِ دونَ أنْ يترتَّبَ على التَّوبةِ. وفائدةُ هذا الاعتراضِ: التَّعجيلُ ببَيانِ مآلِ آدمَ إلى صَلاحٍ [1085] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/327). .
- وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ في قولِه: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ: مَزيدُ تَشريفٍ له عليه السَّلامُ [1086] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/47). ، وإفرادُه عليه السَّلامُ بالاجتباءِ، وقَبولِ التَّوبةِ؛ لأنَّ حوَّاءَ تابِعةٌ له في ذلك [1087] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/47). .
8- قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
- قولُه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ استئنافٌ بَيانيٌّ، مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من الإخبارِ بأنَّه تعالى قَبِلَ توبتَه وهداهُ؛ كأنَّه قيل: فماذا أمَرَهُ تعالى بعْدَ ذلك [1088] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/328). ؟
- قولُه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا لمَّا كان آدمُ وحوَّاءُ عليهما السَّلامُ أصلَيِ البشرِ، والسَّببينِ اللَّذينِ منهما نشَؤُوا وتفرَّعُوا: جُعِلَا كأنَّهما البشَرُ في أنفُسِهما، فخُوطِبا مُخاطبَتَهم. ولمَّا كانا أصلَيِ الذُّرِّيةِ خاطَبَهما مُخاطبَتَهم، فقال: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، ويُؤيِّدُه قولُه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، وذلك على القولِ بأنَّ الخِطابَ لآدَمَ وحوَّاءَ. وأما على القولِ بأنَّ الخِطابَ لآدَمَ وإبليسَ، فقد خُوطِبَا بضَميرِ الجمْعِ في قولِه: بَعْضُكُمْ؛ لأنَّه أُرِيدَ عداوةُ نَسلَيْهما؛ فإنَّهما أصلانِ لنوعينِ: نوعِ الإنسانِ، ونوعِ الشَّيطانِ [1089] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/94)، ((تفسير البيضاوي)) (4/41)، ((تفسير أبي حيان)) (7/393)، ((تفسير أبي السعود)) (6/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/328). .
- وتَفريعُ جُملةِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى على الأمْرِ بالهُبوطِ من الجنَّةِ إلى الدُّنيا: إنباءٌ بأنَّهم يَستقبِلونَ في هذه الدُّنيا سِيرةً غيرَ الَّتي كانوا عليها في الجنَّةِ؛ لأنَّهم أُودِعوا في عالَمٍ خليطٍ خيرُه بشَرِّه، وحَقائِقُه بأوهامِه، بعْدَ أنْ كانوا في عالَمِ الحقائقِ المَحْضةِ، والخيرِ الخالِصِ، وفي هذا: إنباءٌ بطَورٍ طرَأَ على أصْلِ الإنسانِ في جِبلَّتِه كان مُعَدًّا له من أصْلِ تَركيبِه [1090] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/329). .
- وفي قولِه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ وُضِعَ الظَّاهرُ مَوضِعَ المُضمرِ -حيث لم يقُلْ: (فمَنِ اتَّبَعه)- مع الإضافةِ إلى ضَميرِه تعالى؛ لتَشريفِه، والمُبالَغةِ في إيجابِ اتِّباعِه [1091] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/47). .