موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (99-104)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات :

زُرْقًا: قيل: أي: زُرقَ العُيونِ، وقيل: بِيضَ العيونِ مِن العمَى، قد ذهَب السَّوادُ والنَّاظِرُ، وأصلُ الزُّرقةِ: يدُلُّ على لَونٍ [868] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((المفردات)) للراغب (ص: 379)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 232)، ((تفسير القرطبي)) (11/244). .
يَتَخَافَتُونَ: أي: يتَسارُّونَ، ويتهامَسونَ بينَهم، وأصلُ (خفت): يدلُّ على إسرارٍ وكِتمانٍ [869] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 515)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/202)، ((المفردات)) للراغب (ص: 289)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 232). .
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: أي: أعدَلُهم رَأيًا، أو عَمَلًا وقَولًا، يُقالُ: فلانٌ أمثَلُ بني فلانٍ: أي: أدناهم للخَيرِ، أي: إنَّه مُماثِلٌ لأهلِ الصَّلاحِ والخَيرِ، وهؤلاءِ أماثِلُ القَومِ، أي: خيارُهم. وأصلُ (مثل): يدُلُّ على نظيرِ الشَّيءِ [870] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((المفردات)) للراغب (ص: 760)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 188). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: كما قَصَصْنا عليك -يا مُحمَّدُ- قصَّةَ موسى وفِرعَونَ وقَومِهما، كذلك نقُصُّ عليك أنباءَ السَّابقينَ لك، وقد آتيناك مِن عِندِنا هذا القُرآنَ العَظيمَ.
ثمَّ بيَّن تعالى عاقبةَ مَن يعرضُ عن هذا القرآنِ، فقال: مَن أعرَضَ عنه فلم يؤمِنْ به ولم يعمَلْ بما فيه، فإنَّه يأتي رَبَّه يومَ القيامةِ يحمِلُ إثمًا عظيمًا، خالدينَ في جزاء هذا الإثمِ في النارِ، وبِئسَ ذلك الحِملُ الثَّقيلُ يومَ القيامةِ.
ثمَّ بيَّن سبحانَه أحوالَ المجرمينَ عندَ الحشرِ، فقال: يومَ يَنفُخُ الملَكُ في «القَرنِ» فتُبعَثونَ بأمرِ اللهِ، ونحشُرُ الكافرينَ ذلك اليومَ وهم زُرقٌ. يتهامَسونَ بينهم، يقولُ بَعضُهم لبعضٍ: ما لَبِثتُم في الحياةِ الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيَّامٍ فحَسْبُ. نحن أعلَمُ بما يقولونَ ويُسِرُّونَ حين يقولُ أعلَمُهم وأعدَلُهم قَولًا: ما لبثتُم في الدُّنيا إلَّا يومًا واحدًا!

تفسير الآيات:

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما بدأت السورةُ بالحديثِ عن القرآنِ، وأنَّه لم ينزلْ على الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ليشقَى به أو بسببِه. وكان مِن القرآنِ قصةُ موسَى عليه السلام وما يبدو فيها مِن رعايةِ الله وعنايتِه بموسَى وأخيه وقومِه- أعقَب السياقَ على القصةِ بالعودةِ إلى القرآنِ ووظيفتِه، وعاقبةِ مَن يُعرِض عنه.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ.
أي: كما قَصَصْنا عليك -يا مُحمَّدُ- قصَّةَ موسى وفِرعَونَ وقَومِه، وأخبارَ بني إسرائيلَ مع موسى؛ كذلك [871] قال ابن كثير: (يقولُ تعالى لنبيه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: كما قصصنا عليك خبرَ موسَى، وما جرَى له مع فرعونَ وجنودِه على الجليةِ والأمرِ الواقعِ، كذلك نقصُّ عليك الأخبارَ الماضيةَ، كما وقعتْ مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ). ((تفسير ابن كثير)) (5/315). وقال البقاعي: (كأنَّه قيل: هل يعادُ شيءٌ مِن القصصِ على هذا الأسلوبِ البديعِ والمثالِ الرفيعِ؟ فقيل: نَعم كَذَلِكَ أي: مثلَ هذا القصِّ العالي، في هذا النظمِ العزيزِ الغالي، لقصةِ موسى ومَن ذُكر معه). ((نظم الدرر)) (12/339). نقصُّ عليك مِن [872] قال الشنقيطي: (الظاهِرُ أنَّ «مِن» في قولِه مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ للتبعيض، ويُفهَمُ مِن ذلك أنَّ بَعضَهم لم يُقصَصْ عليه خَبَرُه). ((أضواء البيان)) (4/93). الأخبارِ الماضيةِ التي سَبَقَت مِن قَبلِك، فلم تُشاهِدْها [873] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/158)، ((تفسير القرطبي)) (11/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/301)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/93، 94). .
كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] .
وقال سُبحانَه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120] .
وقال عزَّ وجلَّ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] .
وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا.
أي: وقد أعْطَيْناك -يا محمَّدُ- مِن عِندِنا عطيَّةً نَفيسةً، وهي القرآنُ الكريمُ [874] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/158)، ((تفسير القرطبي)) (11/243)، ((تفسير ابن كثير)) (5/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/302)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/94). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 58] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50] .
وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100).
أي: مَن أعرَضَ عن القُرآنِ، فلم يؤمِنْ به، ولم يَعمَلْ بما فيه؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ وهو يحمِلُ إثمًا عظيمًا [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/158)، ((تفسير القرطبي)) (11/244)، ((تفسير ابن كثير)) (5/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/95). قال الشِّنقيطي: (قد دلَّت آياتٌ كثيرةٌ مِن كتابِ الله على أنَّ المجرمينَ يأتونَ يوم القيامة يحمِلونَ أوزارَهم، أي: أثقالَ ذنوبِهم على ظهورِهم... المرادُ بذلك الوِزرِ المحمولِ: أثقالُ ذُنوبِهم وكُفرِهم، يأتونَ يومَ القيامة يحملونَها، سواءٌ أقُلْنا: إنَّ أعمالَهم السيئةَ تتجَسَّمُ في أقبحِ صورةٍ وأنتَنِها، أو غيرَ ذلك). ((أضواء البيان)) (4/95، 96). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] .
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101).
خَالِدِينَ فِيهِ.
أي: ماكِثينَ في جزاءِ هذا الوزرِ؛ في النَّارِ، لا يَخرُجونَ منها [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/159)، ((تفسير القرطبي)) (11/244)، ((تفسير ابن كثير)) (5/315). قال بعضُ المفسرين: المعنى: خالدين في جزاءِ الوزرِ. وقال آخرون: في عذابِ الوزرِ. وقال آخرون: عقوبةِ الوزرِ. والمعاني المذكورةُ متقاربةٌ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/411)، ((تفسير البغوي)) (3/274)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/175)، ((تفسير الرسعني)) (4/562)، ((تفسير القرطبي)) (11/244)، ((تفسير الشوكاني)) (3/454). وقال ابنُ جرير: (خالِدونَ في أوزارِهم، والمعنى: أنهم خالدونَ في النَّارِ بأوزارهم، ولكِنْ لما كان معلومًا المرادُ مِن الكلامِ، اكتفى بما ذُكِرَ عمَّا لم يُذكَرْ). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/159). وقال السعدي: (خَالِدِينَ فِيهِ أي: في وِزرِهم؛ لأنَّ العذابَ هو نفسُ الأعمالِ، تنقَلِبُ عذابًا على أصحابِها، بحَسَبِ صِغَرِها وكِبَرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 512-513). .
وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا.
أي: وبِئسَ للمُعرِضينَ عن القُرآنِ حِملُهم الثَّقيلُ مِن الآثامِ يومَ القيامةِ [877] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/244)، ((تفسير ابن كثير)) (5/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 512)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/96). وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وساءَ ذلك الحملُ والثقلُ مِن الإثمِ يومَ القيامةِ حملًا، وحقَّ لهم أن يسوءَهم ذلك، وقد أوردهم مهلكةً لا منجَى منها). ((تفسير ابن جرير)) (16/159). .
كما قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102).
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.
أي: وذلك يومَ يُنفَخُ في القَرْنِ بأمرِ الله، فيُحيي سبحانَه الموتَى بتلك النَّفخةِ [878] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/160)، ((تفسير ابن جزي)) (2/14)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/84)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/341)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513). .
كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كيف أنعَمُ وقد الْتقمَ صاحبُ القَرنِ القَرنَ، وحنَى جَبهَتَه، وأصْغَى سَمعَه، ينتَظِرُ أن يُؤمَرَ أن يَنفُخَ فينفُخَ، قال المُسلِمونَ: فكيف نقولُ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حَسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا)) وربَّما قال سُفيانُ: على اللهِ توكَّلْنا [879] أخرجه الترمذي (3243) واللفظ له، وأحمد (11039) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3243). ويشهدُ له ما أخرجه أحمد (3008)، والطبراني (12/128) (12671)، والحاكم (8677) من حديثِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما. جوَّده ابنُ كثير في ((التفسير)) (2/148)، والشوكاني في ((تفسيره)) (1/598)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4592)، ويُنظر شواهد الحديث الأخرى في ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (1079). تنبيهٌ: قال ابنُ حَجَر: (اشتَهَر أنَّ صاحِبَ الصورِ إسرافيلُ عليه السَّلامُ، ونقل فيه الحليمي الإجماعَ... وجاء أنَّ الذي ينفُخُ في الصورِ غَيرُه... فإن ثبَت حُمِلَ على أنَّهما جميعًا يَنفُخانِ، ويؤيِّدُه ما أخرجَه هنَّاد بن السري في كتابِ الزهدِ بسَنَدٍ صَحيحٍ لكِنَّه موقوفٌ على عبد الرَّحمنِ ابن أبي عَمرةَ قال: «ما مِن صَباحٍ إلَّا ومَلَكانِ مُوَكَّلانِ بالصُّورِ»، ومن طريقِ عبدِ اللهِ بنِ ضَمرةَ مِثلُه، وزاد: «ينتظرانِ متى يَنفُخانِ»، ونحوُه عند أحمدَ مِن طريق سُلَيمانَ التيمي عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «النَّافِخانِ في السَّماءِ الثانيةِ رأسُ أحَدِهما بالمَشرِقِ ورِجلاه بالمَغرِب -أو قال بالعكس- ينتَظِرانِ متى يُؤمَرانِ أن يَنفُخَا في الصُّورِ فيَنفُخا»، ورجالُه ثِقاتٌ، وأخرجه الحاكمُ من حديث عبدِ الله بن عمرٍو بغيرِ شَكٍّ، ولابن ماجه والبزَّار من حديثِ أبي سعيدٍ رَفَعَه: «إنَّ صاحِبَي الصورِ بأيديهما قَرنانِ يُلاحِظانِ النَّظَرَ متى يؤمَرانِ»). ((فتح الباري)) (11/368، 369). .
  وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا.
أي: ونحشُرُ الكافِرينَ والمُشرِكينَ [880] قيل: يُحشرونَ لموقفِ القيامةِ، وممن قال بذلك: ابنُ جريرٍ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/161)، ((تفسير القرطبي)) (11/245). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/16). وقيل: يُحشرونَ إلى النَّارِ، وممن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سليمانَ، ويحيي بنُ سلَّام. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/41)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/278). يومَ القيامةِ زُرقًا [881] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/191)، ((تفسير ابن جرير)) (16/161)، ((تفسير ابن عطية)) (4/63)، ((تفسير القرطبي)) (11/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/304). قيل في معنى زُرْقًا: أي زُرقَ العُيونِ، وممن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/41)، ((تفسير الشوكاني)) (3/455). وقيل: المراد: زُرقةُ ألوانِهم، وممن قال بذلك: السعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/304). قال السعدي: (المجرمون يحشرون زرقًا ألوانُهم مِن الخوف والقلقِ والعطشِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 513). وقال ابن عاشور: (والزرقُ: جمع أزرقَ، وهو الذي لونُه الزرقةُ... وهو في جلدِ الإنسانِ قبيحُ المنظرِ؛ لأنَّه يشبهُ لونَ ما أصابَه حرقُ نارٍ. وظاهرُ الكلام أنَّ الزرقةَ لونُ أجسادِهم، فيكونُ بمنزلةِ قولِه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/304). وقال ابنُ جرير: (فقيل: عنى بالزُّرقِ في هذا الموضعِ: ما يظهَرُ في أعيُنِهم مِن شِدَّةِ العَطَشِ الذي يكونُ بهم عند الحَشرِ، لرأيِ العَينِ، مِن الزُّرقِ. وقيل: أريدَ بذلك أنهم يُحشَرونَ عُميًا، كالذي قال الله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا [الإسراء: 97] ). ((تفسير ابن جرير)) (16/161). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/376). .
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103).
أي: يتهامَسُ المُجرِمونَ بينهم، يقولُ بَعضُهم لبعضٍ سِرًّا: ما لَبِثتُم في الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيَّامٍ فحَسْبُ [882] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/161)، ((تفسير القرطبي)) (11/244، 245)، ((تفسير ابن كثير)) (5/315، 316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513). ممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ أي: في الدنيا: ابنُ جريرٍ، والقرطبي، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. تُنظر: المصادر السابقة. وممن اختاره أيضًا: البغوي، والزمخشري، وابنُ جزي، وابنُ القيِّمِ، والبقاعي، والعليمي، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/274)، ((تفسير الزمخشري)) (3/87)، ((تفسير ابن جزي)) (2/14)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/343)، ((تفسير العليمي)) (4/325)، ((تفسير الشوكاني)) (3/455)، ((تفسير القاسمي)) (7/147)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/157). قال البيضاوي: (يَستقصِرونَ مُدَّةَ لُبثِهم فيها؛ لزوالِها، أو لاستِطالتِهم مُدَّةَ الآخرةِ، أو لتأسُّفِهم عليها لَمَّا عاينوا الشَّدائدَ، وعَلِموا أنَّهم استحَقُّوها على إضاعتِها في قضاءِ الأوطارِ، واتِّباعِ الشَّهَواتِ). ((تفسير البيضاوي)) (4/38). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (8/570). وقيل: المرادُ بقولِه تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ أي: في القبورِ. وممن اختاره: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والسمرقندي، وأبو السعودِ، والألوسي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/41)، ((تفسير السمرقندي)) (2/412)، ((تفسير أبي السعود)) (6/41)، ((تفسير الألوسي)) (8/570)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/305). قال الألوسي: (ومرادُهم مِن هذا القَولِ استِقصارُ المدَّةِ، وسُرعةُ انقِضائِها، والتَّنديمُ على ما كانوا يزعُمونَ؛ حيثُ تبيَّن الأمرُ على خلافِ ما كانوا عليه مِن إنكارِ البَعثِ وعَدِّه من قبيلِ المُحالاتِ، كأنَّهم قالوا: قد بُعِثتُم وما لَبِثتُم في القبرِ إلَّا مُدَّةً يسيرةً، وقد كنتُم تَزعُمونَ أنَّكم لن تقوموا منه أبدًا). ((تفسير الألوسي)) (8/570). ويُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/41). !
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)  .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ.
أي: نحنُ أعلَمُ منهم بما يقولُ بَعضُهم لبعضٍ، ونَسمَعُ تناجيَهم، لا يخفَى علينا منه شيءٌ [883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/162)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513). .
إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا.
أي: حينَ يَقولُ أعقَلُهم، وأعلَمُهم، وأعدَلُهم قَولًا، وأقرَبُهم إلى التَّقديرِ: ما لَبِثتُم في الدُّنيا إلَّا يَومًا واحِدًا [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/162)، ((تفسير القرطبي)) (11/245)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513). وقال الشوكاني: (نسبةُ هذا القَولِ إلى أمثَلِهم؛ لِكَونِه أدَلَّ على شِدَّةِ الهَولِ، لا لِكَونِه أقرَبَ إلى الصِّدقِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/456). وقال السعدي: (والمقصودُ مِن هذا الندمُ العظيمُ، كيف ضيَّعوا الأوقاتَ القصيرةَ، وقطعوها ساهينَ لاهينَ، معرضينَ عما ينفعُهم، مقبلين على ما يضرُّهم، فها قد حضر الجزاءُ، وحقَّ الوعيدُ، فلم يبقَ إلا الندمُ، والدعاءُ بالويلِ والثبورِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 513). !
كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112 - 114] .

الفوائد التربوية:

1- يجِبُ على الأمَّةِ تلَقِّي القرآنِ بالقَبولِ والتَّسليمِ، والانقيادِ والتَّعظيمِ، وأن يُهتدَى بنُورِه إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ، وأن يُقبِلوا عليه بالتعَلُّمِ والتَّعليم. وأمَّا مُقابلَتُه بالإعراضِ، أو ما هو أعظمُ منه مِن الإنكارِ؛ فإنَّه كُفرٌ لهذه النِّعمةِ، ومَن فعَلَ ذلك فهو مُستَحِقٌّ للعقوبةِ؛ قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [885] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 512). .
2- قال الله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا، وقال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 - 207] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس: 45] ، وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] ، وقال تعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 113-114] ، وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف: 35] ؛ فهذه الآيات فيها كفايةٌ في قِصَرِ الأمَلِ، وهو العلمُ بقُرْبِ الرَّحيلِ، وسُرعةِ انقضاءِ مُدَّةِ الحياةِ، وهو مِن أنفعِ الأمورِ للقَلبِ؛ فإنَّه يَبعَثُه على مُغَافَصةِ [886] مُغافَصَة، أي: مُغالَبة. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/449). الأيَّامِ، وانتهازِ الفُرَصِ التي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، ومبادرةِ طَيِّ صحائفِ الأعمالِ، ويُثيرُ ساكنَ عَزَماتِه إلى دارِ البقاءِ، ويَحُثُّه على قضاءِ جَهازِ سَفرِه، وتدارُكِ الفارطِ، ويُزَهِّدُه في الدنيا، ويُرَغِّبُه في الآخرةِ، فيقومُ بقَلبِه إذا داوَمَ مُطالعةَ قِصَرِ الأمَلِ شاهِدٌ مِن شواهِدِ اليَقينِ، يريدُ فَناءَ الدُّنيا، وسُرعةَ انقضائِها، وقِلَّةَ ما بَقِيَ منها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُدبِرةً، وأنَّها لم يبقَ منها إلَّا كما بَقِيَ مِن يومٍ صارت شَمسُه على رُؤوسِ الجبالِ، ويُريه بقاءَ الآخرةِ ودوامَها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُقبِلةً، وقد جاء أشراطُها وعلاماتُها، وأنَّه مِن لقائِها كمُسافرٍ خَرَج صاحِبُه يتلَقَّاه، فكُلٌّ منهما يسيرُ إلى الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يلتَقِيَا سريعًا [887] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/448). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا في تسميةِ القرآنِ بالذِّكرِ وُجوهٌ:
أحدُها: أنه كتابٌ فيه ذِكرُ ما يحتاجُ إليه النَّاسُ مِن أمرِ دينِهم ودنياهم.
وثانيها: أنَّه يذكِّرُ أنواعَ آلاءِ الله تعالى ونعمائِه، ففيه التذكيرُ والمواعِظُ.
وثالثها: فيه الذِّكرُ والشَّرَفُ لك ولِقَومِك على ما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [888] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/97). [الزخرف: 44] .
2- في قَولِ الله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا إنْ قيل: إمَّا أن يُقالَ: إنَّهم نَسُوا قَدْرَ لُبثِهم في الدُّنيا، أو ما نَسُوا ذلك؛ والأوَّلُ غيرُ جائزٍ؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقَى الإنسانُ خمسين سَنةً في بلدٍ ثمَّ ينساه. والثَّاني غيرُ جائزٍ؛ لأنَّه كَذِبٌ، وهذا الكَذِبُ لا فائدةَ فيه؟
والجوابُ فيه وجوهٌ:
الوجهُ الأوَّلُ: لعَلَّهم إذا حُشِروا في أوَّلِ الأمرِ وعاينوا تلك الأهوالَ؛ فلشِدَّةِ وَقْعِها عليهم ذَهَلوا عن مِقدارِ عُمُرِهم في الدُّنيا، وما ذكَروا إلَّا القليلَ، والإنسانُ عندَ الهولِ الشَّديدِ قد يَذهَلُ عن أظهرِ الأشياءِ، وتمامُ تقريرِه مذكورٌ في سورةِ الأنعام في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّهم عالِمونَ بمِقدارِ عُمُرِهم في الدُّنيا إلَّا أنَّهم لَمَّا قابلوا أعمارَهم في الدُّنيا بأعمارِ الآخرةِ وَجدوها في نهايةِ القِلَّةِ، فقال بعضُهم: ما لَبِثْنا في الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيامٍ! وقال أعقَلُهم: بل ما لَبِثْنا إلَّا يومًا واحدًا، أي: قَدْرُ لُبثِنا في الدُّنيا بالقياسِ إلى قَدْرِ لُبثِنا في الآخِرةِ كعَشَرةِ أيامٍ، بل كاليَومِ الواحِدِ، بل كالعَدَمِ! وإنَّما خُصَّ العَشَرةُ والواحِدُ بالذِّكرِ؛ لأنَّ القليلَ في أمثالِ هذه المواضِعِ لا يُعبَّرُ عنه إلَّا بالعَشَرةِ والواحِدِ.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّهم لَمَّا عايَنوا الشَّدائدَ تذكَّروا أيامَ النِّعمةِ والسُّرورِ، وتأسَّفوا عليها، فوصَفوها بالقِصَرِ؛ لأنَّ أيامَ السُّرورِ قِصارٌ.
الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ أيامَ الدُّنيا قد انقَضَت، وأيَّامُ الآخرةِ مُستَقبَلةٌ، والذَّاهِبُ وإن طالت مُدَّتُه قليلٌ بالقياسِ إلى الآتي وإن قَصُرت مدتُه، فكيف والأمرُ بالعَكسِ؟! ولهذه الوجوهِ رجَّح اللهُ تعالى قَولَ مَن بالغَ في التَّقليلِ، فقال: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [889] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/99)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (16/162)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316). .
3- إذا ذُكِرَ العددُ دونَ مَعدودِه المُذَكَّرِ، جاز فيه الوَجهانِ؛ حذفُ التاءِ، وذِكرُها، وعلى هذا جاء قَولُه تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا، فالعَشْرُ هنا أيامٌ؛ بدَليلِ ما بَعدَها: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [890] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/21). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا
- قولُه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ تَذييليَّةٌ؛ خُوطِبَ بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بطَريقِ الوعْدِ الجميلِ بتَنزيلِ أمثالِ ما مَرَّ من أنباءِ الأُمَمِ السَّالفةِ. و(ذلك) إشارةٌ إلى اقتصاصِ حَديثِ مُوسى عليه السَّلامُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ [891] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/302). .
- وفي قولِه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ تَشبيهٌ، والتَّقديرُ: مثْلَ هذا القَصصِ نقَصُّ عليك من أنباءِ القُرونِ الماضيةِ؛ فالتَّشبيهُ راجِعٌ إلى تَشبيهِها بنفْسِها؛ كِنايةً عن كونِها إذا أُرِيدَ تَشبيهُها وتَقريبُها بما هو أعرَفُ منها في بابِها، لم يجِدْ مُرِيدُ ذلك طَريقًا لنفْسِه في التَّشبيهِ إلَّا أنْ يُشبِّهَها بنفْسِها؛ لأنَّها لا يَفوقُها غيرُها في بابِها حتَّى تُقرَّبَ به [892] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/302). .
- والمُرادُ بقولِه: نَقُصُّ: قَصَصْنا، وإنَّما صِيغَ المُضارِعُ؛ لاستحضارِ الحالةِ الحَسنةِ في ذلك القَصصِ [893] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/302). .
- وتَقديمُ عَلَيْكَ على قولِه: مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ [894] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/40). .
- قولُه: وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مِنْ لَدُنَّا تَوكيدٌ لمعنى آَتَيْنَاكَ، وتَنويهٌ بشأْنِ القُرآنِ بأنَّه عطيَّةٌ كانت مَخزونةً عندَ اللهِ، فخَصَّ بها خيرَ عِبادِه [895] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/302). .
- ونُكِّرَ ذِكْرًا للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ [896] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/38)، ((تفسير أبي السعود)) (6/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/302). .
- وتأخيرُه عن الجارِّ والمجرورِ -مِنْ لَدُنَّا-؛ لِمَا أنَّ مَرجِعَ الإفادةِ في الجُملةِ كونُ المُؤْتَى من لدُنْه تعالى ذِكْرًا عَظيمًا، وقُرآنًا كريمًا جامِعًا لكلِّ كَمالٍ، لا كونُ ذلك الذِّكْرِ مُؤْتًى من لدُنْه عَزَّ وجَلَّ، مع ما فيه مِن نَوعِ طُولٍ بما بعْدَه مِن الصِّفةِ، فتَقديمُه يَذهَبُ برَونقِ النَّظمِ الكريمِ [897] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/40- 41). .
2- قوله تعالى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا
- قولُه: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا يُرِيدُ بالوزْرِ: العُقوبةَ الثَّقيلةَ الباهظةَ، سمَّاها وِزْرًا؛ تَشبيهًا في ثقَلِها على المُعاقَبِ، وصُعوبةِ احتمالِها؛ بالحِمْلِ الَّذي يُثقِلُ الحامِلَ، وينقُضُ ظَهْرَه. أو لأنَّها جَزاءُ الوِزْرِ، وهو الإثْمُ [898] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/86)، ((تفسير البيضاوي)) (4/38)، ((تفسير أبي السعود)) (6/41). ، فعبَّرَ عن العُقوبةِ بالوِزرِ؛ لأنَّه سَبَبُها [899] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/381). .
3- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا
- جمَعَ خَالِدِينَ على المعنى؛ لِمَا أنَّ الخُلودَ في النَّارِ ممَّا يَتحقَّقُ حالَ اجتماعِ أهْلِها [900] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/86)، ((تفسير البيضاوي)) (4/38)، ((تفسير أبي السعود)) (6/41). .
- قولُه: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا المَخصوصُ بالذَّمِّ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الوزْرِ السَّابقِ عليه، تَقديرُه: ساء حِمْلًا وِزْرُهم. واللَّامُ في قولِه: وَسَاءَ لَهُمْ لامُ التَّبيينِ. وهي مُبيِّنةٌ للمفعولِ في المعنى؛ لأنَّ أصْلَ الكلامِ: ساءَهُم الحِمْلُ؛ فَجِيءَ باللَّامِ لزِيادةِ تَبْيينِ تعلُّقِ الذَّمِّ بحمْلِه، فاللَّامُ لبَيانِ الَّذين تعلَّقَ بهم سُوءُ الحمْلِ [901] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/86- 87)، ((تفسير البيضاوي)) (4/38)، ((تفسير أبي حيان)) (7/381)، ((تفسير أبي السعود)) (6/41)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/303). .
- وإعادةُ يومِ القيامةِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، وتَهويلِ الأمْرِ [902] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/41). ، فإنهم لَمَّا كانوا مُنكِرينَ لِيَومِ القيامةِ، صرَّحَ بذِكرِه ثانيًا مع قُربِ العَهدِ، قارِعًا لأسماعِهم به، مُجريًا له إجراءَ ما هو به جَديرٌ مِن أنَّه مُتحَقِّقٌ، لا مِريةَ فيه [903] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/341). .
4- قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا
- قولُه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدَلٌ من يَوْمَ الْقِيَامَةِ في قولِه: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا، وهو اعتراضٌ بينَ جُملةِ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه: 99] وما تَبِعَها، وبين جُملةِ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ؛ تخلُّصٌ لذِكْرِ البَعْثِ، والتَّذكيرِ به، والنِّذارةِ بما يحصُلُ للمُجْرِمين يومئذٍ [904] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/303- 304). .
- قولُه: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ، أي: يومَ إذ يُنْفَخُ في الصُّورِ، وذِكْرُه صَريحًا مع تَعيُّنِ أنَّ الحشْرَ لا يكونُ إلَّا يومئذٍ؛ للتَّهويلِ [905] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/41). .
5- قوله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا
- قولُه:   إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ يَتَخَافَتُونَ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/305). ، والتَّقديرُ: إنْ لبِثْتُم إلَّا عشَرةَ أيَّامٍ، وحسَّنَ الحذفَ هنا كونُ ذلك فاصِلَةَ رأْسِ آيةٍ [907] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/383). .