موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (48-50)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى: ولقد آتَينا موسى وهارونَ ما يُفرَقُ به بينَ الحَقِّ والباطِلِ، والتوراةَ مُضيئةً طَريقَ الحَقِّ، مُبَصِّرةً لِمن اتَّبَعَها؛ وتذكيرًا ومَوعِظةً للمُتَّقينَ، الذين يخافُونَ رَبَّهم في غَيبِهم وخَلَواتِهم، وهم من القيامةِ خائِفونَ وَجِلونَ.
وهذا القُرآنُ ذِكْرٌ لِمن تذكَّرَ به، وعَمِلَ بأوامِرِه واجتَنَب نواهيَه، كثيرُ الخَيرِ، عَظيمُ النَّفعِ، أنزَلْناه على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أفتُنكِرونَه وهو في غايةِ الظُّهورِ والبَيانِ؟!

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله سُبحانَه لَمَّا تكَلَّم في دلائِلِ التوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ؛ شرع في قَصَصِ الأنبياءِ عليهم السلامُ؛ تسليةً للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما ينالُه مِن قَومِه، وتقويةً لقَلبِه على أداءِ الرِّسالةِ، والصَّبرِ على كُلِّ عارضٍ دونَها [541] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/150). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أتى به رَسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الذِّكرِ، وحالَ مُشرِكي العَرَبِ معه، وقال: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ؛ أتبَعَه بأنَّه عادةُ اللهِ في أنبيائِه، فذكَرَ ما آتى موسى وهارونَ؛ إشارةً إلى قِصَّتِهما مع قَومِهما، مع ما أُوتوا مِنَ الفُرقانِ والضِّياءِ والذِّكرِ [542] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/436). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ.
أي: ولقد آتَينا موسى وهارونَ ما يُفرَقُ به بينَ الحَقِّ والباطِلِ [543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/287، 288)، ((الهداية)) لمكي (7/4764)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/193)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/15)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 525)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/88). وقَولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: التوراةُ التي فَرَق بها بين الحلالِ والحرام. والثاني: البرهانُ الذي فَرَق به بينَ حقِّ موسى وباطِلِ فرعونَ. والثالث: النَّصرُ والنَّجاةُ لموسى، وإهلاكُ فرعونَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/193). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالفرقانِ هنا: التوراةُ: مقاتل بن سليمان، والزجاج، وابن أبي زمنين، والبغوي، والزمخشري، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/82)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/394)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/149)، ((تفسير البغوي)) (3/291)، ((تفسير الزمخشري)) (3/121)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 525). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: مجاهدٌ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/287)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/193). وممن قال: الفُرقانُ: نَصرُ الله لموسى وهارونَ على فِرعَونَ وقَومِه: السمرقندي، وابن القيم. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/428)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/15). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ السائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/193). قال ابنُ جرير: (قال ابنُ زيد في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ قال: الفرقانُ: الحَقُّ آتاه الله موسى وهارونَ، فَرَق بينهما وبين فِرعَونَ، فقضى بينهم بالحَقِّ. وقرأ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال: 41] قال: يومَ بدرٍ. وهذا القولُ الذي قاله ابنُ زيد في ذلك أشبَهُ بظاهرِ التَّنزيلِ). ((تفسير ابن جرير)) (16/288). وقال ابنُ عاشور: (الفُرقانُ: ما يُفرَقُ به بين الحَقِّ والباطِلِ مِن كلامٍ أو فعلٍ... فيجوزُ أن يرادَ بالفُرقانِ: التَّوراةُ... ويجوزُ أن يُرادَ بالفُرقانِ المُعجِزاتُ الفارِقةُ بين المُعجِزةِ والسِّحرِ... ويجوزُ أن يرادَ به الشَّريعةُ الفارِقةُ بين العَدلِ والجَورِ... وعلى الاحتمالاتِ المذكورةِ تجيءُ احتمالاتٌ في قَولِه تعالى الآتي: وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ وليس يلزَمُ أن تكونَ بَعضُ هذه الصفاتِ قَسيمًا لبعضٍ، بل هي صِفاتٌ مُتداخِلةٌ؛ فمجموعُ ما أوتِيَه موسى وهارونُ تتحَقَّقُ فيه هذه الصِّفاتُ الثَّلاثُ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/88، 89). .
قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ [الصافات: 114 - 117] .
وقال سبحانه: وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [غافر: 23] .
وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ.
أي: وآتينا موسى وهارونَ التَّوراةَ نورًا في القَلبِ، مُضيئةً طَريقَ الحَقِّ، مُبَصِّرةً لِمن اتَّبَعَها أحكامَ دينِهم، وهي تذكيرٌ ومَوعِظةٌ للمُتَّقينَ الذين يمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ، ويجتَنِبونَ نواهيَه [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/288، 289)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 525)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/89). قال السَّعدي: (وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ يتذكَّرونَ به ما ينفَعُهم وما يَضُرُّهم، ويُتذَكَّرُ به الخَيرُ والشَّرُّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 525). وقال ابنُ عاشور: (لأنَّه يُذَكِّرُهم بما يَجهَلونَ، وبما يَذهَلونَ عنه مِمَّا عَلِموه، ويجَدِّدُ في نفوسِهم مُراقبةَ رَبِّهم). ((تفسير ابن عاشور)) (17/89،90). وقال البقاعي: (وَذِكْرًا أي: وَعْظًا وشرفًا). ((نظم الدرر))  (12/431). قال السمعاني: (وقَولُه: وَضِيَاءً ... هو صفةٌ أُخرَى للتوراةِ، إذا حَمَلْنا الفرقانَ على التَّوراةِ، وإنْ حَمَلْناه على البُرهانِ، فمعناه: أعطَيناه البرهانَ، وأعطيناه التَّوراةَ الَّتي هي ضِياءٌ). ((تفسير السمعاني)) (3/385). .
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكر اللهُ تعالى التَّقوى؛ ذكَرَ ما أنتجَتْه، وهو: خشيةُ اللهِ، والإشفاقُ مِن عذابِ يَومِ القيامةِ [545] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/437). .
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ.
أي: آتيناهما التَّوراةَ ضِياءً وذِكرًا للمُتَّقينَ الذين يَخافونَ رَبَّهم في غَيبِهم وخَلَواتِهم حيثُ لا يَطَّلِعُ عليهم أحدٌ مِن النَّاسِ، فيَترُكونَ المُحَرَّماتِ، ويقومونَ بالواجِباتِ، مُخلِصينَ لله، خائِفينَ مِن عذابِه [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/289)، ((تفسير ابن عطية)) (4/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 525)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/90).  .
وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.
أي: وهم مِن يومِ القيامةِ وأهوالِه خائِفونَ حَذِرونَ [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/289)، ((تفسير القرطبي)) (11/295)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 525)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/90). قال السعدي: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي: خائفونَ وجِلون؛ لكمالِ معرفتِهم بربِّهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 525). وقال الرسعني: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي: مِن أهوالِها وعذابِها خائفونَ قلِقونَ). ((تفسير الرسعني)) (4/624). قال ابنُ جرير: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ الَّتي تقومُ فيها القيامةُ مُشْفِقُونَ، حَذِرونَ أنْ تقومَ عليهم، فيَرِدوا على رَبِّهم قد فَرَّطوا في الواجبِ عليهم لِلَّهِ، فيعاقِبَهم مِن العقوبةِ بما لا قِبَلَ لهم به). ((تفسير ابن جرير)) (16/289).  .
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ فُرقانَ موسى عليه السَّلامُ، وكان العَرَبُ يُشاهِدونَ إظهارَ اليهودِ للتمَسُّكِ به والمُقاتَلةِ على ذلك والاغتِباطِ؛ حَثَّهم على كتابِهم الذي هو أشرَفُ منه، فقال [548] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/432). :
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.
أي: وهذا القرآنُ ذِكرٌ يتذَكَّرُ ويتَّعِظُ به المُؤمِنونَ، كثيرُ الخيراتِ في الدنيا والآخِرةِ، أنزَلْناه كما أنزَلْنا التوراةَ إلى موسى وهارون ذِكرًا للمُتَّقينَ [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/289)، ((تفسير القرطبي)) (11/295)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/432)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/90، 91)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/161). وقال ابن عاشور: (وَصْفُ القرآنِ بالمباركِ يعُمُّ نواحيَ الخيرِ كُلَّها؛ لأنَّ البَرَكةَ زيادةُ الخير؛ فالقرآنُ كُلُّه خيرٌ مِن جهة بلاغةِ ألفاظِه وحُسنِها، وسُرعةِ حِفظِه، وسهولةِ تلاوتِه، وهو أيضًا خَيرٌ لِما اشتمَلَ عليه من أفنانِ الكلامِ والحِكمةِ والشريعةِ واللَّطائِفِ البلاغية، وهو في ذلك كلِّه آيةٌ على صِدقِ الذي جاء به؛ لأنَّ البَشَرَ عَجَزوا عن الإتيانِ بمِثلِه، وتحدَّاهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك فما استطاعوا، وبذلك اهتَدَت به أممٌ كثيرةٌ في جميعِ الأزمانِ، وانتفَعَ به مَن آمَنوا به، وفريقٌ مِمَّن حُرِموا الإيمانَ، فكان وصفُه بأنَّه مباركٌ وافيًا على وَصفِ كتابِ موسى عليه السَّلامُ بأنَّه فُرقانٌ وضياءٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/90، 91). .
كما قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] .
وقال عزَّ وجلَّ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.
أي: أفأنتم للقُرآنِ مُنكِرونَ نُزولَه من عندِ اللهِ وهو في غايةِ الظُّهورِ؟ وكيف تُنكِرونَ كَونَه مُنَزَّلًا مِن عِندِه سُبحانَه مع اعتِرافِكم بأنَّ التَّوراةَ مُنَزَّلةٌ مِن عندِه [550] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/289)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 717)، ((تفسير ابن كثير)) (5/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/432)، ((تفسير الشوكاني)) (3/485). ؟!

الفوائد التربوية:

1- خَشيةُ اللَّهِ في الغَيبِ والشَّهادةِ المعنيُّ بها أنَّ العَبدَ يخشى اللَّهَ سرًّا وإعلانًا، وظاهِرًا وباطِنًا، فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ يرى أنَّه يخشى اللهَ في العلانيةِ وفي الشَّهادةِ، ولكِنَّ الشَّأنَ في خَشيتِه اللهَ في الغَيبِ إذا غاب عن أعيُنِ النَّاسِ، وقد مدح اللهُ مَن يخافُه بالغَيبِ؛ قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ، وقال: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33] ، وقال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [551] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/162). [الملك: 12] .
2- قال الله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ فوصَفَ القُرآنَ بوَصفَينِ جَليلَينِ:
الأوَّلُ: كَونُه ذِكرًا يُتذَكَّرُ به جميعُ المطالِبِ؛ مِن مَعرِفةِ اللهِ بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ومِن صفاتِ الرُّسُلِ والأولياءِ وأحوالِهم، ومِن أحكامِ الشَّرعِ مِن العِباداتِ والمُعامَلاتِ وغَيرِها، ومِن أحكامِ الجَزاءِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فيُتذَكَّرُ به المسائِلُ والدَّلائِلُ العَقليَّةُ والنَّقليَّةُ، وسَمَّاه ذِكرًا؛ لأنَّه يَذكُرُ ما رَكَزَه اللهُ في العُقولِ والفِطَرِ؛ من التَّصديقِ بالأخبارِ الصَّادِقةِ، والأمرِ بالحَسَنِ عَقلًا، والنَّهيِ عن القَبيحِ عَقلًا.
 والثَّاني: كَونُه مُبَارَكًا وهذا يقتضي كَثرةَ خَيراتِه، ونماءَها وزيادتَها، ولا شَيءَ أعظَمُ بَرَكةً مِن هذا القرآنِ؛ فإنَّ كُلَّ خَيرٍ ونِعمةٍ، وزيادةٍ دينيَّةٍ أو دُنيويَّةٍ أو أُخرويَّةٍ؛ فإنَّها بسَبَبِه وأثَرٌ عن العَمَلِ به، فإذا كان ذِكرًا مُبارَكًا، وجَبَ تَلقِّيه بالقَبولِ والانقيادِ والتَّسليمِ، وشُكرِ اللهِ على هذه المِنحةِ الجَليلةِ، والقيامِ بها، واستِخراجِ بَركتِه بتعَلُّمِ ألفاظِه ومَعانيه [552] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 525). .

الفوائد العلمية واللطائف:

وصَفَ اللهُ تعالى شَريعةَ موسى عليه السَّلامُ بأنَّها ضِياءٌ، كما قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ، والضِّياءُ: هو النُّورُ الذي يَحصُلُ فيه نَوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه نورٌ مَحضٌ فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ؛ قال الله عزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] ، وإن كان قد ذَكَر أنَّ في التَّوراةِ نورًا، كما قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 44] ، ولكِنَّ الغالِبَ على شَريعتِهم الضِّياءُ؛ لِما فيها مِن الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ، ووصفَ شَريعةَ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّها نورٌ؛ لِما فيها مِن الحنيفيَّةِ السَّمحةِ؛ قال الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [553] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/24). [المائدة: 15] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ عطفٌ على جُملةِ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] ؛ لإقامةِ الحُجَّةِ على المشركينَ بالدلائلِ العقليَّةِ والإقناعيَّةِ والزَّجريَّةِ، ثُمَّ بدلائلِ شواهدِ التاريخِ وأحوالِ الأُممِ السابقةِ، الشاهدةِ بتَنظيرِ ما أُوتِيَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما أُوتِيَه سَلَفُه مِن الرُّسُلِ والأنبياءِ، وأنَّه ما كان بِدْعًا مِن الرُّسل في دَعوتِه إلى التوحيدِ، تلك الدعوة التي كَذَّبه المشرِكونَ لأجْلِها، مع ما تَخلَّل ذلك من ذِكر عِنادِ الأقوامِ، وثَباتِ الأقدامِ، والتأييدِ مِن الملك العَلَّامِ، وفي ذلك تَسليةٌ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يُلاقيه مِن قومِه بأنَّ تِلكَ سُنَّةُ الرُّسلِ السابِقينَ [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/87، 88). .
- وفيه أيضًا نوعُ تَفصيلٍ لِمَا أُجمِلَ، وإشارةٌ إلى كيفيَّةِ إنجاءِ الرُّسلِ وإهلاكِ أعدائِهم؛ ففي سَوقِ أخبارِ هؤلاءِ الرُّسُلِ والأنبياءِ تَفصيلٌ لِمَا بُنِيتْ عليه السُّورة مِن قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ إلى قولِه تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، ثم قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، ثم قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45] ، واتِّصالُها بجَميعِ ذلك اتِّصالٌ مُحكَمٌ؛ ولذلك أُعقبتْ بقولِه تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [555] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/88). [الأنبياء: 50] .
- وافتتاحُ القِصةِ بلامِ القسَمِ في وَلَقَدْ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِه، ولتَنزيلِ المُشرِكينَ في جَهْلِ بعْضِهم بذلك، وذُهولِ بعْضِهم عنه، وتَناسي بعْضِهم إيَّاهُ؛ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ تلك القِصَّةَ [556] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/88). .
- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ابْتُدِئَ بذِكْرِ مُوسى وأخيه معَ قَومِهما؛ لأنَّ أخبارَ ذلك مَسطورةٌ في كِتابٍ مَوجودٍ عندَ أهْلِه يَعرِفُهم العرَبُ، ولأنَّ أثَرَ إتْيانِ مُوسى عليه السَّلامُ بالشَّريعةِ هو أوسَعُ أثَرٍ لإقامةِ نِظامِ أُمَّةٍ يَلِي عَظَمةَ شَريعةِ الإسلامِ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/88). .
- والإخبارُ عن الفُرقانِ بإسنادِ إيتائِه إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه لم يَعْدُ كونَه إيتاءً من اللهِ تعالى ووحْيًا كما أُوتِيَ محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ القُرآنَ؛ فكيف يُنكِرونَ إيتاءَ القُرآنِ وهم يَعْلمون أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ ما جاء إلَّا بمثْلِه؟! وفيه تَنبيهٌ على جَلالةِ ذلك المُؤْتى [558] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/89). .
- قولُه: لِلْمُتَّقِينَ يجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ فيه للتَّقويةِ؛ فيكونَ المجرورُ باللَّامِ في مَعْنى المفعولِ، أي: الَّذين اتَّصَفوا بتَقْوى اللهِ؛ لأنَّه يُذكِّرُهم بما يَجْهَلون، وبما يَذْهَلون عنه ممَّا عَلِمُوه، ويُجدِّدُ في نُفوسِهم مُراقبةَ ربِّهم، ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ للعِلَّةِ، أي: ذِكْرٌ لأجْلِ المُتَّقينَ، أي: كِتابٌ يَنتفِعُ بما فيه المُتَّقونَ دونَ غَيرِهم مِن الضَّالِّينَ [559] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/89، 90). . وخَصَّ المتَّقينَ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم المُنتَفِعونَ بذلك عِلمًا وعَمَلًا [560] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 525). .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
- قولُه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ احتمَلَ أنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عنهم، وأنْ يكونَ مَعطوفًا على صِلَةِ الَّذِينَ، وتكونَ الصِّلةُ الأُولى مُشعِرةً بالتَّجدُّدِ دائمًا؛ كأنَّها حالَتُهم فيما يتعلَّقُ بالدُّنيا، والصِّلةُ الثَّانيةُ مِن مُبتدأٍ وخبَرٍ عنه بالاسمِ المُشعِرِ بثُبوتِ الوصْفِ كأنَّها حالَتُهم فيما يتعلَّقُ بالآخرةِ [561] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/437). .

- وفي قولِه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ قُدِّمَ الجارُّ لمُراعاةِ الفواصلِ. وتَخصيصُ إشفاقِهم منها بالذِّكْرِ بعْدَ وَصْفِهم بالخشيةِ على الإطلاقِ؛ للإيذانِ بكونِها مُعظمَ المَخُوفاتِ، وللتَّنصيصِ على اتِّصافِهم بضِدِّ ما اتَّصفَ به المُستعجِلونَ. وإيثارُ الجُملةِ الاسميَّةِ للدَّلالةِ على ثَباتِ الإشفاقِ ودَوامِه [562] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/71). .
- وأيضًا في قولِه: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ عَدَلَ عَنِ الخِطابِ بالجُمْلةِ الفِعليَّةِ -كما هو مُقْتضى السِّياقِ- إلى الخِطابِ بالجُملةِ الاسميَّةِ، وإنَّما يُعْدَلُ عن أحَدِ الخِطابينِ وإنْ كان السِّياقُ يَقْتضيه؛ لضَرْبٍ من التَّأكيدِ والمُبالَغةِ، وقد جِيءَ بها هنا تَنويهًا بالخاصِّ بعْدَ العامِّ، فالخشيةُ مِن اللهِ مُلازِمةٌ لهم، ولكنَّها مِن السَّاعةِ أكثَرُ مُلازَمةً، وأشَدُّ امْتِلاكًا لقُلوبِهم، وأسْرًا لجَوارِحِهم، ما يَرِيمونَ عن تَذكُّرِها وتَفادي كلِّ ذنْبٍ؛ خَشيةَ مُواجهتِها بما هم فيه، وأمْرٌ ثانٍ هو الدَّيمومةُ والاستمرارُ اللَّذانِ تُفِيدُهما الجُملةُ الاسميَّةُ أكثَرَ ممَّا تُفِيدُهما الجُملةُ الفِعْليَّةُ الَّتي تتوزَّعُ على الأزمنةِ [563] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/327). .
- وفيه تَعريضٌ بالَّذين لم يَهْتَدُوا بكِتابِ اللهِ تعالى، بدَلالةِ مَفهومِ المُخالَفةِ لقولِه تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ؛ فمَن لم يَهْتَدِ بكتابِ اللهِ فليس هو مِن الَّذين يَخْشَون ربَّهم بالغيبِ [564] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/53)، ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/90). .
3- قوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
- قولُه: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ اسمُ الإشارةِ يُشِيرُ إلى القُرآنِ؛ لأنَّ حُضورَه في الأذهانِ وفي التِّلاوةِ بمَنزِلَةِ حُضورِ ذاتِه [565] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/90). .
- قولُه: أَنْزَلْنَاهُ زادَهُ تَشريفًا بإسنادِ إنزالِه إلى ضَميرِ الجَلالةِ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/91). . وفيه تَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ أنكَرَ ذلك المُشرِكون كما أنكَرَ أسلافُ اليهودِ ما أنزَلَ اللهُ على مُوسى عليه السَّلامُ [567] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/437). .
- والاستفهامُ في قولِه: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهامُ إنكارٍ لإنكارِهم بعْدَ ظُهورِ كونِ إنزالِه كإيتاءِ التَّوراةِ؛ كأنَّه قيل: أبَعْدَ أنْ علِمْتُم أنَّ شأْنَه كشأْنِ التَّوراةِ في الإيتاءِ والإيحاءِ أنتم مُنكِرون لكونِه مُنزَّلًا مِن عندنا [568]  يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/72). ؟! ففيه تَوبيخٌ وتعجُّبٌ مِن إنكارِهم صِدْقَ هذا الكتابِ، ومِن استمرارِهم على ذلك الإنكارِ [569] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/53)، ((تفسير أبي حيان)) (7/437)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/91). .
- قولُه: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لكونِ إنْكارِهم صِدْقَه حاصِلًا منهم في حالِ الخِطابِ، جِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لِيَتأتَّى جَعْلُ المُسنَدِ اسْمًا دالًّا على الاتِّصافِ في زمَنِ الحالِ، وجَعْلُ الجُملةِ دالَّةً على الثَّباتِ في الوصْفِ؛ وَفاءً بحَقِّ بَلاغةِ النَّظمِ [570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/91). .