موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (114-122)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مَنَنَّا: أي: تَفضَّلْنا وأنعَمْنا، وأصلُ (منن): يَدُلُّ على النِّعمةِ .
الْمُسْتَبِينَ: أي: البَيِّنَ الواضِحَ، وأصلُ (بين): يدُلُّ على الانكِشافِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: ولقد مَنَنَّا على موسى وهارونَ، ونجَّيْناهما وقَومَهما مِنَ الغَمِّ الشَّديدِ الَّذي أصابَهم بسَبَبِ الخَوفِ مِن الغَرَقِ، ومِن فِرعَونَ وقَومِه؛ ونصَرْناهم على فِرعَونَ وقَومِه، فكانوا هم الغالِبينَ، وآتَيْنا موسى وهارونَ الكِتابَ الواضِحَ، وهو التَّوراةُ، وهدَيْناهما الطَّريقَ المُستَقيمَ الَّذي لا اعوِجاجَ فيه، وأثنَيْنا على موسى وهارونَ بالذِّكرِ الجَميلِ الباقي فيمَن بَعْدَهما، سَلامٌ على موسى وهارونَ. مِثلَ هذا الجَزاءِ نَجزي كُلَّ مَن كان مُحسِنًا، إنَّهما مِن عِبادِنا المؤمِنينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى نوحًا وهو القُدوةُ الأولَى، وإبراهيمَ وهو رسولُ المِلَّةِ الحَنيفِيَّةِ الَّتي هي نواةُ الشَّجرةِ الطَّيِّبةِ شجرةِ الإسلامِ؛ ذكَر موسَى لِشِبْهِ شريعتِه بالشَّريعةِ الإسلامِيَّةِ في التَّفصيلِ والجمعِ بيْنَ الدِّينِ والسُّلطانِ، فهؤلاءِ الرُّسلُ الثَّلاثةُ أُصولٌ .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114).
أي: ولقد مَنَنَّا بنِعمَتِنا على موسى وهارونَ .
كما قال تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه: 36، 37].
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه مَنَّ على موسى وهارونَ؛ فصَّلَ أقسامَ تلك المِنَّةِ .
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115).
أي: ونَجَّيْنا موسَى وهارونَ وقَومَهما بني إسرائيلَ مِن الغَمِّ الشَّديدِ العَظيمِ الَّذي أصابَهم؛ بسبَبِ الخَوفِ مِن الغَرَقِ، ومِن فِرعَونَ وقَومِه .
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن نِعمةَ النَّجاةِ مِن الأسْرِ؛ أتْبَعَها نِعمةَ الالتِذاذِ بالنَّصرِ .
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116).
أي: ونصَرْناهم على فِرعَونَ وقَومِه حينَ أغرَقَهم اللهُ، فكانوا هم الغالِبينَ لهم .
كما قال تعالى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 35].
وقال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 49، 50].
وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت فائدةُ النُّصرةِ التَّمَكُّنَ مِن إقامةِ الدِّينِ؛ قال :
وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117).
أي: وآتَيْنا موسى وهارونَ الكِتابَ الواضِحَ الجَليَّ، وهو التَّوراةُ الَّتي جَعَل اللهُ فيها المواعِظَ والأحكامَ، وفصَّل فيها كُلَّ شَيءٍ يحتاجُ إليه بنو إسرائيلَ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48].
وقال سُبحانَه: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 154] .
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118).
أي: وهدَيْنا موسى وهارونَ الطَّريقَ المُستَقيمَ الَّذي لا اعوِجاجَ فيه، الموصِلَ إلى اللهِ تعالى، وهو دينُ الإسلامِ الحَقُّ الَّذي بَعَث اللهُ به أنبياءَه، وشرَعَه لعِبادِه .
كما قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119).
أي: وأثنَيْنا على موسى وهارونَ، وأنعَمْنا عليهما بالذِّكرِ الجَميلِ، والثَّناءِ الباقي في الَّذين يأتُونَ مِن بَعدِهما .
سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120).
أي: سلامٌ على موسَى وهارُونَ وثَناءٌ حسَنُ، فلا يُذْكَرانِ بسُوءٍ .
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121).
أي: مِثلَ هذا الجزاءِ الَّذي جزَيْنا به موسى وهارونَ -لأنَّهما كانا مِنَ المُحسِنينَ- نَجْزي أيضًا كلَّ مَن كان مُحسِنًا .
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122).
أي: إنَّ موسى وهارونَ مِن عِبادِنا المُؤمِنينَ بالله؛ فوَحِّدوا اللهَ، وأخلِصوا العبادةَ له وَحْدَه لا شَريكَ له .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ أنَّ الغَلَبةَ صارَت في النِّهايةِ لِموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَومِه، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: أخْذُ العِبرةِ مِن ذلك بأنَّ النَّصرَ بيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قد يَنصُرُ مَن هو ضَعيفٌ، وقد يُذِلُّ مَن هو قَويٌّ، كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .
2- في قَولِه تعالى: وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أنَّ كُلَّ إنسانٍ مُفتقِرٌ إلى اللهِ تعالى في الهدايةِ مهما بلَغَتْ مَرتبتُه؛ فهذا موسى وهارونُ مَنَّ اللهُ عليهما بهدايتِهما الصِّراطَ المُستقيمَ، فيجِبُ على العبدِ أنْ يَرى قَدْرَ نِعمةِ اللهِ عليه بالهِدايةِ، وألَّا يُعجبَ بعِلمِه أو عمَلِه أو عبادتِه، فكم مِن أُناسٍ أضَلَّهم اللهُ وهم أقوى منه ذَكاءً !
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يَجزي العامِلَ لِشَخصِه، وإنَّما يَجزيه لِعَمَلِه؛ ولهذا بَيَّنَ أنَّ هذا الجَزاءَ لا يَختَصُّ بموسى وهارونَ، بل هو لكُلِّ إنسانٍ مُحسِنٌ .
4- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المقصودُ التَّنبيهُ على أنَّ الفَضيلةَ الحاصِلةَ بسَبَبِ الإيمانِ: أشرَفُ وأعلى وأكمَلُ مِن كُلِّ الفَضائِلِ، ولولا ذلك لَما حَسُنَ خَتمُ فضائِلِ موسى وهارونَ بكَونِهما مِنَ المؤمِنينَ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في بدايةِ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] ، وفي بدايةِ قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 83، 84]، وقال هنا عزَّ وجَلَّ في بدايةِ قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ؛ في اختِلافِ مَبادئِ القِصَصِ الثَّلاثِ إشارةٌ إلى أنَّ الله يَغضَبُ لأوليائِه: إمَّا باستِجابةِ دَعوةٍ، وإمَّا لجزاءٍ على سَلامةِ طَوِيَّةٍ وقَلبٍ سَليمٍ، وإمَّا لِرَحمةٍ منه ومِنَّةٍ على عبادِه المُستَضعَفينَ .
2- وُجوهُ الإنعامِ وإن كانت كثيرةً فإنَّها مَحصورةٌ في نوعَينِ: إيصالُ المنافِعِ للمُنعَمِ عليه، ودَفعُ المَضارِّ عنه، واللهُ تعالى ذكَرَ القِسمَينِ في حَقِّ موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ؛ فقَولُه: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إشارةٌ إلى إيصالِ المنافِعِ إليهما، وقَولُه: وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ إشارةٌ إلى دَفعِ المَضارِّ عنهما .
3- في قَولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ أنَّ هلاكَ عدوِّك يُعتبَرُ غَلَبةً لك -سواءٌ كان هلاكُه على يَدِك أو بعذابٍ مِن عندِ اللهِ-، فإنَّه بلا شكٍّ لم يكنْ هلاكُ فِرعَونَ وقومِه على يدِ موسى وقَومِه، بل كان بفِعلِ اللهِ؛ ومع ذلك جَعَل اللهُ سُبحانَه وتعالى إنجاءَ موسى وقومِه مِن فِرعونَ غَلَبةً، والتَّخلُّصُ مِن العدوِّ يُسمَّى نصرًا وفتحًا وغَلَبَةً، كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوةِ مُؤْتةَ: ((أخَذَ الرَّايةَ زَيْدٌ فأُصِيبَ، ثمَّ أخَذَها جَعفرٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذَها عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذَها خالدُ بنُ الوليدِ مِن غَيْرِ إِمْرةٍ ففُتِحَ له )) ، مع أنَّه لم يَنتصِرْ على الرُّومِ ولم يَغلِبْهم! ولكنْ نجا منهم، فسمَّى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه النَّجاةَ فَتْحًا، كما سَمَّى اللهُ تعالى هنا نجاةَ موسى وهارونَ وقَومِه مِن فِرعونَ نصرًا وغَلَبةً .
4- مادَّةُ «نَصَرَ» تتعدَّى أحيانًا بـ «مِن»، وأحيانًا تتعدَّى بـ «على»؛ فإنْ تَعَدَّتْ بـ «مِن» فمعناها المنعُ والإنجاءُ، كما في قَولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا [الأنبياء: 77]، نصَرْناه منهم، أي: مَنَعْناه منهم؛ وإنْ تَعَدَّتْ بـ «على» صار معناها الظُّهورَ والغَلَبةَ، كما قال الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 14] ، وأحيانًا لا تَتَعدَّى بـ «مِن» ولا بـ «على»، فتَشملُ المعنيَينِ، كما في قَولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وقَولِه تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173] ، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
5- في قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ بيانُ عَظيمِ مِنَّةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بإيتاءِ الكتابِ لموسى وهارونَ، وهو مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ، في قَولِه: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ؛ لأنَّ إيتاءَ الكِتابِ أعظَمُ منه. ويَتفرَّعُ على هذا: أنَّ مَن آتاه اللهُ عِلْمَ كتابِه وسُنَّةِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، فله نَصيبٌ مِن هذه المِنَّةِ .
6- قَولُه تعالى: الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ -أي: البالِغَ البَيانِ- فيه الثَّناءُ على التَّوراةِ، ولا شَكَّ أنَّ التَّوراةَ هي أعظمُ كِتابٍ أنزَلَه اللهُ تعالى على بني إسرائيلَ .
7- في قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنزِلُ الكِتابَ تِبيانًا للنَّاسِ، فيُؤخَذُ مِن ذلك أنَّ العُقولَ لا تَستَقِلُّ بمَعرفةِ ما يَجِبُ لله مِن الحُقوقِ، ولا بمَعرفةِ ما يجِبُ له مِن الصِّفاتِ، ولا بمَعرفةِ ما يجوزُ عليه ولا ما يمتَنِعُ، فيَكونُ في ذلك رَدٌّ على مَن حَكَّموا العُقولَ في بابِ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه .
8- في قَولِه تعالى: وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لم يَقُلْ سُبحانَه: «إلى الصِّراطِ»؛ لأنَّ المرادَ بذلك هِدايةُ التَّوفيقِ، وهدايةُ الدَّلالةِ، وانظُرْ إلى قَولِه تعالى في سُورةِ (الفاتِحةِ): اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ، وقال في حقِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ، فإذا كانتِ الهِدايةُ بمعنى الدَّلالةِ تَعَدَّتْ بـ «إلى»، وإذا كانت بمعنى الدَّلالةِ والتَّوفيقِ تَعَدَّتْ بنَفْسِها .
9- في قَولِه تعالى: سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ جوازُ تَعَدُّدِ الرُّسُلِ في آنٍ واحدٍ، وهذا قَبْلَ بَعثةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أمَّا بعدَ بَعثتِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ فهو خاتَمُ النَّبيِّينَ، ولا نَبيَّ بَعْدَه .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أنَّ البَشَرَ مهما عَلَتْ مَنزِلتُهم ومَرتبتُهم فَهم داخِلونَ ضِمنَ العُبوديَّةِ؛ لأنَّ موسى وهارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أكابرِ الأنبياءِ، ومع ذلك فإنَّ اللهَ تعالى وَصَفَهما بالعُبوديَّةِ له سُبحانَه وتعالى .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في القصَّةِ الثَّالثةِ . أو عطْفٌ على قولِه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ [الصافات: 75] ، وذُكِرَ هنا ما كان مِنَّةً على مُوسى وهارونَ، وهو النُّبوَّةُ؛ فإنَّها أعظَمُ دَرجةً يُرفَعُ إليها الإنسانُ، ولذلك اكْتُفِيَ عن تَعيينِ الممْنونِ به؛ لِحَمْلِ الفِعلِ على أكْمَلِ مَعناهُ، وجُعِلَت مِنَّةً مِنَ اللهِ عليهما؛ لأنَّ مُوسى لم يَسأَلِ النُّبوَّةَ؛ إذ ليستِ النُّبوَّةُ بمُكتسَبةٍ، وكانت مِنَّةً على هارونَ أيضًا؛ لأنَّه إنَّما سأَلَ له مُوسَى ذلك، ولم يَسأَلْه هارونُ؛ فهي مِنَّةٌ عليه، وإرضاءٌ لِمُوسى .
- قوله: وَلَقَدْ اللامُ جوابٌ للقسمِ المحذوفِ، و(قد) حرفُ تحقيقٍ ، وهو مِن حروفِ توكيدِ الخبرِ .
2- قولُه تعالَى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ أي: بعدَ أنْ كان قَومُهما في أسْرِ فِرعونَ وقَومِه وقَسْرِهم، مَقْهورينَ تحتَ أيْديهم العاديةِ، يَسُومُونهم سُوءَ العذابِ، وهذه التَّنجيةُ وإنْ كانتْ بحسَبِ الوُجودِ مُقارِنةً لِمَا ذُكِرَ مِن النَّصرِ والغَلَبةِ، لكنَّها لَمَّا كانتْ بحسَبِ المفهومِ عِبارةً عن التَّخليصِ مِن المكْروهِ، بُدِئَ بها، ثمَّ بالنَّصرِ الَّذي يَتحقَّقُ مَدلُولُه بمَحْضِ تَنْجيةِ المنصورِ مِن عَدُوِّه مِن غيرِ تَغليبِه عليه، ثمَّ بالغَلَبةِ؛ لِتَوفيةِ مَقامِ الامتِنانِ حَقَّه، بإظهارِ أنَّ كلَّ مَرْتبةٍ مِن هذه المراتبِ الثَّلاثِ نِعمةٌ جَليلةٌ على حِيالِها .
- و(هم) مِن قولِه: فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ضَميرُ فَصْلٍ، وهو يُفِيدُ قصْرًا، أي: همُ الغالِبينَ لِغَيرِهم، وغيرُهم لم يَغْلِبوهم، أي: لم يُغلَبوا ولو مرَّةً واحدةً؛ فإنَّ المُنتصِرَ قد يَنتصِرُ بعْدَ أنْ يُغلَبَ في مَواقعَ .
3- قولُه تعالَى: وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ
- الكِتابُ المُستبينُ: هو التَّوراةُ، والمُسْتبينُ: القويُّ الوُضوحِ، البليغُ في البَيانِ والتَّفصيلِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ، يُقالُ: استبانَ الشَّيءُ؛ إذا ظهَرَ ظُهورًا شَديدًا .
- وتَعديةُ فِعلِ الإيتاءِ إلى ضَميرِ مُوسى وهارونَ عليهما السَّلامُ، مع أنَّ الَّذي أُوتِيَ التَّوراةَ هو موسى؛ مِن حيث إنَّ هارونَ كان مُعاضِدًا لِمُوسى في رِسالتِه، فكان له حظٌّ مِن إيتاءِ التَّوراةِ، كما قال اللهُ في الآيةِ الأُخرى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً [الأنبياء: 48] . ولأنَّه مِثلُه في تَقبُّلِ الكتابِ، والعمَلِ بجَميعِ ما فيه، والثَّباتِ على ما يَدْعو إليه، وإنْ كان نُزولُه خاصًّا بمُوسى عليه السَّلامُ .
- وفي ذِكرِ قِصَّةِ موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ عِبرةُ مَثَلٍ كاملٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ في رِسالتِه، وإنزالِ القُرآنِ عليه، وهِدايتِه، وانتِشارِ دِينِه وسُلطانِه بعْدَ خُروجِه مِن دِيارِ المشْرِكينَ .