موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (31-35)

ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ

غريب الكلمات:

وَأُزْلِفَتِ: أي: قُرِّبَت وأُدنِيَت، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تقَدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ [348] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 419، 318)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/79)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 319)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 367، 269). .
أَوَّابٍ: أي: كثيرِ الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالَى بالتَّوبةِ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [349] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .
حَفِيظٍ: أي: كثيرِ المحافَظةِ على كلِّ ما يُقرِّبُه إلى الله تعالى، أو: حفيظٍ لِذُنوبِه الَّتي سلفَتْ منه حتَّى يَتوبَ منها ويَستغفِرَ، وأصلُ (حفظ): يدُلُّ على مُراعاةِ الشَّيءِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/452)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/87)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (11/7056، 7057)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 367). .
مُنِيبٍ: أي: رجَّاعٍ تائبٍ، والنَّوْبُ: رُجوعُ الشَّيءِ مرَّةً بعدَ أُخرَى، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادٍ ورُجوعٍ [351] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 441)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 236). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
قَولُه: غَيْرَ بَعِيدٍ: في نَصبِ غَيْرَ أوجُهٌ:
أحَدُها: أنَّها مَنصوبةٌ على الحالِ مِنَ الْجَنَّةُ، ولم يَقُلْ: غيرَ بَعيدةٍ؛ لتأويلِ الجنَّةِ بالبُستانِ. وقيل: لأنَّ البَعيدَ على زِنةِ المَصدَرِ الَّذي مِن شَأنِه أن يَستويَ فيه المؤنَّثُ والمذَكَّرُ، كالزَّئيرِ والصَّليلِ؛ فعُومِلَ مُعامَلتَه، وأُجريَ مُجراه.
الثَّاني: أنَّها مَنصوبةٌ على الظَّرفِ المكانيِّ، أي: مكانًا غيرَ بَعيدٍ.
الثَّالِثُ: أنَّها نائِبةٌ عن المصدَرِ؛ لِوُقوعِها نعتًا لِمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: إزلافًا غَيرَ بَعيدٍ [352] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/30)، ((تفسير الألوسي)) (13/338)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (26/315). .
2- قَولُه تعالى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ
قَولُه: هَذَا مَا تُوعَدُونَ: هذه الجُملةُ يجوزُ فيها وَجهانِ؛ أحَدُهما: أن تكونَ مُعتَرِضةً بيْنَ البَدلِ والمُبدَلِ منه، وذلك أنَّ لِكُلِّ أَوَّابٍ بدَلٌ مِن لِلْمُتَّقِينَ بإعادةِ اللَّامِ. والثَّاني: أن تكونَ مَنصوبةً بقَولٍ مُضمَرٍ، وذلك القَولُ المُضمَرُ مَنصوبٌ على الحالِ، أي: مَقولًا لهم: هذا ما تُوعدونَ.
 قَولُه: مَنْ خَشِيَ: مَنْ اسمٌ مَوصولٌ مَبنيٌّ في محَلِّ جَرٍّ بَدَلٌ من (كُلِّ)، ويجوزُ أن يكونَ بدلًا من مَوصوفِ أَوَّابٍ المحذوفِ، أي: لكُلِّ شَخصٍ أوَّابٍ، فيكونَ مَنْ بدَلًا مِنْ (شَخصٍ) المَحذوفِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْ مَرفوعَ المحَلِّ، خبَرًا لمبتدَأٍ مَحذوفٍ، أو مَنصوبَ المحَلِّ بفِعلٍ محذوفٍ، وكِلاهما على قَطعِ البَدَلِ لِلمَدحِ، ويجوزُ أن يكونَ مُبتدأً خبَرُه قَولٌ محذوفٌ ناصِبٌ لِقَولِه: ادْخُلُوهَا أي: مَنْ خَشِيَ الرَّحمنَ يُقالُ لهم: ادْخُلوها. وجُمِعَ ادْخُلُوهَا مُراعاةً لِمَعنى مَنْ [353] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/79)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/153)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/685)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/31)، ((تفسير الألوسي)) (13/339). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن المتَّقينَ وحُسنِ عاقبتِهم، فيقولُ: وقُرِّبتِ الجنَّةُ يومَ القيامةِ للمُتَّقينَ إلى مَوضِعٍ غيرِ بَعيدٍ عنهم، هذا الجَزاءُ وَعدٌ لكُلِّ رجَّاعٍ إلى اللهِ تعالى، كثيرِ المحافَظةِ على حُقوقِ اللهِ؛ الَّذي خاف اللهَ في سِرِّه وخَلْوَتِه، وجاء يومَ القيامة بقَلبٍ عاكِفٍ على حبِّ ربِّه وطاعتِه، غيرِ مُلتَفِتٍ إلى ما سِواه.
فيُقالُ لهم يومَ القيامةِ: ادخُلوا الجنَّةَ بأمانٍ مِن كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، ذلك يومُ الخُلودِ في الجنَّةِ أبدًا، لهم في الجنَّةِ ما تَشتَهيه أنفُسُهم، وعِندَ الله لهم ثَوابٌ زائدٌ على ما يُريدونَ ممَّا لم يَخطُرْ لهم على بالٍ، وأعظَمُه النَّظرُ إلى وجهِ الله تعالى!

تفسير الآيات:

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في بَيانِ حالِ المؤمنينَ بعدَ النَّفخِ في الصُّورِ، ومَجيءِ النُّفوسِ إلى مَوقفِ الحسابِ [354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/132). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى النَّارَ، وقَدَّمها؛ لأنَّ المقامَ للإنذارِ- أتْبَعَها دارَ الأبرارِ [355] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/431). .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31).
أي: وقُرِّبتِ الجنَّةُ يومَ القيامةِ للَّذين اتَّقَوُا اللهَ تعالى بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه، إلى مَوضِعٍ غيرِ بَعيدٍ عنهم، فيَرَوْنَها قبْلَ دُخولِها [356] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/114)، ((تفسير ابن جرير)) (21/449)، ((الوسيط)) للواحدي (4/168)، ((تفسير الزمخشري)) (4/389)، ((تفسير ابن عطية)) (5/166)، ((تفسير القرطبي)) (17/19)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: قُرِّبَتْ بحيثُ يُشاهِدونها ويَنظُرون ما فيها مِن النَّعيمِ المُقيمِ قبْلَ أن يَدخُلوها: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والرسعني، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والعليمي، وأبو السعود، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/114)، ((تفسير الثعلبي)) (9/104)، ((تفسير البغوي)) (4/275)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/163)، ((تفسير الرسعني)) (7/393)، ((تفسير القرطبي)) (17/19)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 691)، ((تفسير العليمي)) (6/390)، ((تفسير أبي السعود)) (8/132)، ((تفسير الشوكاني)) (5/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 105). قال الرَّسْعَني: (قُرِّبَتْ لهم حتَّى يَرَوْها قبْلَ أن يَدخُلوها؛ إكرامًا لهم، وتعجيلًا لأسبابِ السُّرورِ والنَّعيمِ لهم). ((تفسير الرسعني)) (7/393). وقال القرطبي: (قيل: هذا قبْلَ الدُّخولِ، في الدُّنيا، أي: قُرِّبتْ مِن قُلوبِهم حينَ قيل لهم: اجتَنِبوا المعاصيَ. وقيل: بعدَ الدُّخولِ، قُرِّبتْ لهم مَواضِعُهم فيها فلا تَبعُدُ). ((تفسير القرطبي)) (17/19). وقال ابن عاشور: (أَي: جُعِلَت الجنَّةُ قَريبًا مِن المتَّقينَ، أي: أُدْنُوا منها. والجنَّةُ موجودةٌ مِن قَبلِ وُرودِ المُتَّقينَ إليها، فإزلافُها قد يكونُ بحشرِهم للحسابِ بمَقْرُبَةِ منها؛ كرامةً لهم عن كُلفةِ المسيرِ إليها، وقد يكونُ عبارةً عن تيسيرِ وُصولِهم إليها بوسائِلَ غَيرِ معروفةٍ في عادةِ أهلِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (26/318). قال ابنُ عطية: (غَيْرَ بَعِيدٍ تأكيدٌ وبَيانٌ أنَّ هذا التَّقريبَ هو في المسافةِ؛ لأنَّ قُرِّبَت كان يحتَمِلُ أنَّ معناه: بالوَعدِ والإخبارِ، فرفَعَ الاحتِمالَ بقَولِه: غَيْرَ بَعِيدٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/166). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/430). وذهب ابنُ كثيرٍ إلى أنَّ معنى: غَيْرَ بَعِيدٍ أي: يومُ القيامةِ ليس ببعيدٍ؛ لأنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/406). وقد ذكر الرازي عِدَّةَ احتِمالاتٍ؛ منها: أنَّ المعنى: قُرِّبت الجنَّةُ وهي غيرُ بعيدٍ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/145). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء: 90، 91].
وقال سُبحانَه: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير: 13].
وعن أبي هُرَيرةَ وحُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالا: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَجمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فيَقومُ المُؤمِنونَ حتَّى تُزلَفَ لهم الجنَّةُ، فيَأتونَ آدَمَ، فيقولونَ: يا أبانا، استَفتِحْ لنا الجنَّةَ ...)) وذكَرَ الحديثَ بطُولِه [357] رواه مسلم (195). .
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32).
أي: هذا الجَزاءُ الَّذي وُعِدْتُم به هو لكُلِّ كثيرِ الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى، فيَرجِعُ مِن مَعصيتِه إلى طاعتِه، ومِنَ الغَفلةِ عنه إلى ذِكرِه، ويَتوبُ إليه مِن ذُنوبِه؛ كثيرِ المحافَظةِ على حُقوقِ اللهِ تعالى، وعَدَمِ التَّعَدِّي على حُدودِه [358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/449، 452)، ((تفسير القرطبي)) (17/20)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/462)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/319). قال مكي: (قال ابنُ عبَّاسٍ: حَفِيظٍ: أي: حفِظ ذنوبَه حتَّى تاب منها. وقيل: معناه حفيظٌ على فرائضِ الله، أي: محافظٌ عليها. وقال قتادةُ: حَفِيظٍ: ما استودَعه الله عزَّ وجلَّ مِن حقِّه ونعمتِه). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (11/7056، 7057). وقال ابن جرير: (وأولَى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ الله تعالى ذكرُه وصَف هذا التَّائبَ الأوَّابَ بأنَّه حفيظٌ، ولم يُحصَرْ به على نوعٍ مِن أنواعِ الطَّاعاتِ دونَ نوعٍ، فالواجبُ أنْ يعمَّ كما عمَّ جلَّ ثناؤُه، فيُقالُ: هو حفيظٌ لكلِّ ما قرَّبه إلى ربِّه مِن الفرائضِ والطاعاتِ، والذُّنوبِ التي سلَفتْ منه للتَّوبةِ منها والاستغفارِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/452). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ خَلْفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أُعَلِّمُك كَلِماتٍ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك )) [359] أخرجه الترمذي (2516 )، وأحمد (2669)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5417). صحَّحه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح الترمذي)) (2516)، وابنُ باز في ((مجموع فتاوى ابن باز)) (160/1)، وحسَّنه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وابنُ حجر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (1/327)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/233). .
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33).
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ.
أي: مَن خاف اللهَ وتَرَك مَعصِيتَه في سِرِّه وخَلْوَتِه [360] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/453)، ((تفسير القرطبي)) (17/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 106). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: مَن خافَ اللهَ في سِرِّه في حالِ مَغيبِه عن أعيُنِ النَّاسِ: ابنُ جُزَي، وابن كثير، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/304)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير القاسمي)) (9/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806، 807)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/320). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/320)، ((تفسير الثعلبي)) (9/105)، ((تفسير البغوي)) (4/276). وقيل: المرادُ: مَن خافَ اللهَ في الدُّنيا مِن قَبلِ أن يَراه أو يَلْقاه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، وابن عطية، والبِقاعي، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/114)، ((تفسير ابن جرير)) (21/453)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1024)، ((تفسير البغوي)) (4/276)، ((تفسير ابن عطية)) (5/166)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/433)، ((تفسير العليمي)) (6/390)، ((تفسير الشوكاني)) (5/92). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (5/354)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 106). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/604). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء: 49] .
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ.
أي: وجاء يومَ القيامة بقَلبٍ عاكفٍ على محبَّةِ ربِّه، وطاعتِه، والخُضوعِ والإخلاصِ له، غيرِ مُلتَفِتٍ إلى ما سِواه [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/453)، ((تفسير القرطبي)) (17/21)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 13)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 107). قال ابنُ القيم: (قَولُه: وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ قال ابنُ عبَّاسٍ: راجِعٍ عن معاصي اللهِ، مُقبِلٍ على طاعةِ اللهِ. وحقيقةُ الإنابةِ: عُكوفُ القَلبِ على طاعةِ اللهِ ومَحبَّتِه، والإقبالُ عليه). ((الفوائد)) (ص: 13). قال ابنُ عاشور: (معنى وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ: أنَّه حَضَر يومَ الحَشرِ مُصاحِبًا قَلْبَه المُنيبَ إلى الله، أي: مات مَوصوفًا بالإنابةِ، ولم يُبطِلْ عمَلَه الصَّالِحَ في آخِرِ عُمُرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/320). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر: 17] .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34).
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ.
أي: يُقالُ يومَ القيامةِ لِمَن كانت تلك صِفاتُه: ادخُلوا هذه الجنَّةَ بأمانٍ مِن كُلِّ سُوءٍ ومَكروهٍ، وآفةٍ وشَرٍّ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/453)، ((تفسير القرطبي)) (17/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/320، 321). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ [الحجر: 45، 46].
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ.
أي: ذلك هو اليَومُ الَّذي يَمكُثونَ فيه في الجنَّةِ أبدًا إلى غيرِ نِهايةٍ [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/453)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807). .
كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73].
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35).
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا.
أي: لهم في الجنَّةِ كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم، فمهما طَلَبوا مِن شَيءٍ أُحضِرَ لهم [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/454)، ((تفسير ابن كثير)) (7/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807). .
كما قال تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء: 102] .
وقال سُبحانَه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف: 70، 71].
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ.
أي: وعِندَنا لهم ثوابٌ زائدٌ على ما يَشاؤونَ مِمَّا لم يَخطُرْ على قُلوبِهم، وأعظَمُ ذلك وأفضَلُه: النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ الكريمِ [365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/454)، ((تفسير القرطبي)) (17/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/407)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807). قال السعدي: (لهم فوقَ ذلك مَزِيدٌ أي: ثَوابٌ يَمُدُّهم به الرَّحمنُ الرَّحيمُ، مِمَّا لا عَينٌ رأت، ولا أذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلبِ بَشَرٍ، وأعظَمُ ذلك وأجَلُّه وأفضَلُه: النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ -تعالى- الكريمِ، والتَّمَتُّعُ بسَماعِ كَلامِه، والتَّنَعُّمُ بقُربِه، نسألُ اللهَ تعالى أن يَجعَلَنا منهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 807). ويُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/116)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 107، 108). .
كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26].
وقال سُبحانَه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23].
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دَخَل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدونَ شَيئًا أَزيدُكم؟ فيقولونَ: ألم تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟! قال: فيَكشِفُ الحِجابَ! فما أُعطُوا شَيئًا أحَبَّ إليهم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهم عزَّ وجَلَّ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [366] رواه مسلم (181). .
وعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا جُلوسًا عند رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذْ نظَرَ إلى القمَرِ لَيلةَ البَدرِ، فقال: أمَا إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَونَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُّونَ [367] لا تُضامُّونَ في رُؤيتِه: يُروى بتَشديدِ الميمِ وتخفيفِها؛ فالتَّشديدُ معناه: لا يَنضَمُّ بَعضُكم إلى بَعضٍ وتَزدَحِمونَ وَقتَ النَّظَرِ إليه تعالى؛ مِنَ المُضامَّةِ، وهي المُزاحَمةُ. ومعنى التَّخفيفِ: لا يَنالُكم ضَيمٌ -ظُلمٌ- في رُؤيتِه؛ فيَراه بَعضُكم دونَ بَعضٍ! يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/101)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3601). في رُؤيتِه!)) [368] رواه البخاري (554)، ومسلم (633) واللَّفظُ له. .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ لَمَّا كانت النَّفْسُ لها قُوَّتانِ: قُوَّةُ الطَّلَبِ، وقُوَّةُ الإمساكِ، كان الأوَّابُ مُستَعمِلًا لقُوَّةِ الطَّلَبِ في رُجوعِه إلى اللهِ، ومَرضاتِه وطاعتِه، والحَفيظُ مُستَعمِلًا لقُوَّةِ الحِفظِ في الإمساكِ عن مَعاصيه ونواهيه؛ فالَحفيظُ: المُمسِكُ نَفْسَه عَمَّا حُرِّمَ عليه، والأوَّابُ: المُقبِلُ على اللهِ تعالى بِطاعتِه [369] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 12). .
2- خَشيةُ اللهِ في الغَيبِ والشَّهادةِ معناها: أنَّ العَبدَ يَخشى اللهَ سِرًّا وإعلانًا، وظاهِرًا وباطِنًا؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَرى أنَّه يَخشى اللهَ في العلانيَةِ وفي الشَّهادةِ، ولكِنَّ الشَّأنَ في خَشيتِه اللهَ في الغَيبِ إذا غاب عن أعيُنِ النَّاسِ، وقد مَدَح اللهُ مَن يَخافُه بالغَيبِ؛ قال تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، وقال: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49] ، وقال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [370] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/162). [الملك: 12] .
3- في قَولِه تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الإنابةُ جُعِلَتْ مع الخَشيةِ؛ وذلك لأنَّ الَّذي يَخشى اللهَ لا بُدَّ أنْ يَرجوَه ويَطمَعَ في رَحمتِه؛ فيُنيبَ إليه ويُحِبَّه، ويُحِبَّ عبادتَه وطاعتَه؛ فإنَّ ذلك هو الَّذي يُنجيه ممَّا يخشاه، ويَحصُلُ به ما يُحِبُّه [371] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/176). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ فيه سُؤالٌ: ما وَجهُ التَّقريبِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: هو أنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على نَقلِ الجنَّةِ، فيُقَرِّبُها للمُؤمِنِ، لذا قال: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، ولم يقلْ: (قُرِّبَ المُتَّقونَ مِن الجنَّةِ)؛ بيانًا للإكرامِ؛ حيث جعَلَهم مِمَّن تُنقَلُ إليهم الجِنانُ بما فيها مِنَ الحِسانِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الجنَّةَ لا تُزالُ ولا تُنقَلُ، ولا المؤمِنُ يُؤمَرُ في ذلك اليَومِ بالانتِقالِ إليها مع بُعْدِها، لكِنَّ اللهَ تعالى يَطوي المسافةَ الَّتي بيْنَ المُؤمِنِ والجنَّةِ، فهو التَّقريبُ إكرامًا للمُؤمِنِ، كأنَّه تعالى أراد بَيانَ شَرَفِ المُؤمِنِ المُتَّقي؛ أنَّه مِمَّن يُمشَى إليه، ويُدنَى منه!
الوَجهُ الثَّالِثُ: قُرِّبَت مِنَ الحُصولِ في الدُّخولِ، لا بمعنى القُربِ المكانيِّ؛ فالجنَّةُ كانت بَعيدةَ الحُصولِ؛ لأنَّه لا قُدرةَ للمُكَلَّفِ على تحصيلِها لولا فَضلُ اللهِ تعالى، وعلى هذا فقَولُه: غَيْرَ نَصبٌ على الحالِ، تقديرُه: قُرِّبَت مِن الحُصولِ، ولم تَكُن بَعيدةً في المسافةِ حتَّى يُقالَ: كيف قُرِّبَت [372] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/144، 148). ؟
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ فيه سُؤالٌ: إنْ حُمِلَ القُربُ على القُربِ المكانيِّ، فما الفائِدةُ في الاختِصاصِ بالمُتَّقينَ، مع أنَّ المؤمِنَ والكافِرَ في عَرْصةٍ واحِدةٍ؟
الجوابُ: قد يكونُ شَخصانِ في مَكانٍ واحِدٍ، وهناك مكانٌ آخَرُ هو إلى أحَدِهما في غايةِ القُربِ، وعن الآخَرِ في غايةِ البُعدِ؛ مِثالُه: مَقطوعُ الرِّجلَينِ والسَّليمُ الشَّديدُ العَدْوِ، إذا اجتَمَعا في مَوضِعٍ وبحَضْرتِهما شَيءٌ لا تَصِلُ إليه اليَدُ بالمَدِّ، فذلك بَعيدٌ عن المقطوعِ، وهو في غايةِ القُربِ مِنَ العادي [373] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/144). . ويمكنُ أنْ يُقالَ: فائدةُ الاختِصاصِ بالمتَّقينَ لِكَونِهم أهلَها، معَ عِلمِ الكفَّارِ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّارِ.
3- قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ نَبَّه على كثرةِ خَشيتِه بقَولِه: الرَّحْمَنَ؛ لأنَّه إذا خاف مع استِحضارِ الرَّحمةِ العامَّةِ للمُطيعِ والعاصي، كان خَوفُه مع استِحضارِ غَيرِها أَولى [374] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/432). . أو: لأنَّ الخَشيةَ مِنَ الرَّحمنِ تَكونُ مَقرونةً بالأُنسِ؛ ولذلك لم يقُلْ: مَن خَشِيَ الجبَّارَ، ولا مَن خَشِيَ القَهَّار [375] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/454). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ فيه سؤالٌ: المؤمِنُ قد عَلِمَ أنَّه إذا دخَلَ الجنَّةَ خُلِّدَ فيها، فما الفائِدةُ في التَّذكيرِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه: ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ قَولٌ قاله اللهُ تعالى في الدُّنيا إعلامًا وإخبارًا، وليس ذلك قَولًا يَقولُه عند قَولِه: ادْخُلُوهَا، فكأنَّه تعالى أخبَرَنا في يَومِنا أنَّ ذلك اليَومَ يَومُ الخُلودِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اطمِئنانَ القَلبِ بالقَولِ أكثَرُ [376] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/148). .
5- قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ الأمرُ هنا أمرُ إكرامٍ؛ أمَّا قَولُه تعالى للمُجرِمينَ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ [غافر: 76] فهذا أمرُ إهانةٍ [377] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 107). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ، أي: زيادةً على ما يَشاؤُونَ مِمَّا لم يَخطُرْ ببالِهم، وفيه دَلالةٌ على أنَّ المفاجأةَ بالإنعامِ ضَربٌ مِن التَّلَطُّفِ والإكرامِ، وأيضًا فإنَّ الإنعامَ يَجيئُهم في صُوَرٍ مُعجِبةٍ [378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/321). .
7- قال الله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ، ففي الجنَّةِ أكثرُ مِمَّا يَتمنَّاه الإنسانُ، وأكثرُ مِمَّا يَتصوَّرُه، وهو النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ النَّظَرَ إلى وَجهِ اللهِ أعظَمُ ما يكونُ مِن النَّعيمِ؛ ولهذا سمَّاه اللهُ زيادةً في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ؛ فقد فَسَّرَ أعلَمُ الخَلقِ باللهِ -وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الزِّيادةَ بأنَّها النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ [379] يُنظر ما أخرجه مسلمٌ (181) مِن حديثِ صُهَيبٍ رضيَ الله عنه. سُبحانَه وتعالى [380] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/590). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ عطفٌ على وَنُفِخَ [ق: 20] ، أي: قُرِّبَتْ للمتَّقينَ عن الكُفْرِ والمعاصي، بحيثُ يُشاهِدونَها مِن المَوقفِ، ويَقِفُون على ما فيها مِن فُنونِ المحاسِنِ، فيَبتهِجُونَ بأنَّهم مَحشورونَ إليها، فائزُون بها [381] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/132). .
أو عطْفٌ على نَقُولُ لِجَهَنَّمَ [ق: 30] ؛ فالتَّقديرُ: يومَ أُزْلِفَت الجنَّةُ للمتَّقينَ، وهو رُجوعٌ إلى مُقابِلِ حالةِ الضَّالِّينَ يومَ يُنفَخُ في الصُّورِ، فهذه الجُملةُ مُتَّصِلةٌ في المعنى بجُملةِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] ، ولو اعتُبِرَت مَعطوفةً عليها لَصحَّ ذلك، إلَّا أنَّ عَطفَها على جُملةِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ فيه غُنْيةٌ عن ذلك، ولا سِيَّما مع طُولِ الكلامِ [382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/318). .
- وخَصَّ المتَّقينَ بذلك؛ لأنَّهم أحَقُّ بها [383] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/38). .
- وأيضًا قالَ: غَيْرَ بَعِيدٍ بعدَ قولِه: وَأُزْلِفَتِ الَّتي بمَعنى قُرِّبَت؛ تأْكيدًا للإزلافِ، أي: مكانًا غيرَ بعيدٍ، بحيثُ يُشاهِدونَها، أو حالَ كَونِها غيرَ بعيدٍ، أيْ: شيئًا غيرَ بعيدٍ [384] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/389)، ((تفسير أبي حيان)) (9/539)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 533)، ((تفسير أبي السعود)) (8/132). .
2- قولُه تعالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ
- جُملةُ هَذَا مَا تُوعَدُونَ مُعترِضةٌ؛ فيَجوزُ جعْلُها وحْدَها مُعترِضةً وما بعْدَها مُتَّصلًا بما قبْلَها، فتَكونُ مُعترِضةً بيْنَ البدَلِ والمُبدَلِ منه، وهُما لِلْمُتَّقِينَ ولِكُلِّ أَوَّابٍ، وتُجعَلُ لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدلًا مِن لِلْمُتَّقِينَ، وتَكريرُ الحرْفِ الَّذي جُرَّ به المُبدَلُ منه لقصْدِ التَّأكيدِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/319). .
- واسمُ الإشارةِ المُذكَّرُ (هذا) مُراعًى فيه مَجموعُ ما هو مُشاهَدٌ عِندَهم مِن الخَيراتِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/319). .
- قولُه: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ اقترنَتِ الخَشيةُ باسمِ الرَّحمنِ الدَّالِّ على سَعةِ الرَّحمةِ، وفي ذلك مُبالَغةٌ في الثَّناءِ على الخاشي؛ لأنَّه إذا خَشِيَه وهو عالِمٌ بسَعةِ رَحمتِه، فناهيكَ بخَشيتِه الَّتي ما بَعْدَها خَشيةٌ، كما أثْنى عليه بالخَشيةِ مع أنَّ المَخشيَّ منه غائبٌ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ هذا المُتَّقِيَ يَخشى اللهَ وهو يَعلَمُ أنَّه رَحمنُ، ولقَصدِ التَّعريضِ بالمُشرِكين الَّذين أنكَروا اسمَه الرَّحمنَ، والمعنى على الَّذين خَشُوا: خَشِيَ صاحبَ هذا الاسمِ، فأنتم لا حَظَّ لكم في الجنَّةِ؛ لأنَّكم تُنكِرون أنَّ اللهَ رَحمنُ، بَلْهَ أنْ تَخشَوه [387] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/390)، ((تفسير البيضاوي)) (5/143)، ((تفسير أبي السعود)) (8/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/320)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/297، 298). .
- والباءُ في بِالْغَيْبِ بمَعنى (في) الظَّرفيَّةِ؛ لتنزيلِ الحالِ مَنزِلةَ المَكانِ، أيِ: الحالةِ الغائبةِ، وهي حالةُ عَدَمِ اطِّلاعِ أحَدٍ عليه؛ فإنَّ الخَشيةَ في تلك الحالةِ تدُلُّ على صِدقِ الطَّاعةِ لله؛ بحيثُ لا يَرْجو ثَناءَ أحَدٍ، ولا عِقابَ أحدٍ، فيَتعلَّقُ المَجرورُ بالباءِ بفِعلِ خَشِيَ. ولك أنْ تُبقِيَ الباءَ على بعضِ مَعانيها الغالبةِ، وهي المُلابَسةُ ونحْوُها، ويكونَ الغَيبُ مَصدرًا، والمجرورُ حالًا مِن ضَميرِ خَشِيَ [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/320). .
- قولُه: وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فيه وصْفُ القلبِ بالإنابةِ -وهي الرُّجوعُ إلى اللهِ تعالى-؛ لأنَّ الاعتِبارَ بما ثبَتَ منها في القلْبِ [389] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/390)، ((تفسير البيضاوي)) (5/143)، ((تفسير أبي السعود)) (8/133). .
3- قولُه تعالَى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ بتأويلِ: يُقالُ لهم: ادخُلوها؛ فهي مِن تَمامِ مَقولِ القَولِ المَحذوفِ، وهذا الإذْنُ مِن كَمالِ إكرامِ الضَّيفِ أنَّه إنْ دُعِيَ إلى الوليمةِ أو جيءَ به؛ فإنَّه إذا بلَغَ المنزِلَ قيلَ له: ادخُلْ بسَلامٍ [390] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/320). .
- ومَحِلُّ هذه الجُملةِ مِن الَّتي قبْلَها الاستِئنافُ البَيانيُّ؛ لأنَّ ما قَبْلَها يُثيرُ ترقُّبَ المخاطَبينَ للإذْنِ بإنجازِ ما وُعِدوا به [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/321). .
- وجُملةُ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يَجوزُ أنْ تكونَ ممَّا يُقالُ للمُتَّقينَ، على حَدِّ قولِه: فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] ، والإشارةُ إلى اليَومِ الَّذي هم فيه، وكأنَّ اسمَ الإشارةِ للبعيدِ للتَّعظيمِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى اليَومِ المذكورِ في قَولِه: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: 30] ؛ فإنَّه بعْدَ أنْ ذكَرَ ما يُلاقيهِ أهلُ جَهنَّمَ وأهلُ الجَنَّةِ، أعْقَبَه بقولِه: ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ترهيبًا وترغيبًا، وعلى الوجْهِ الثَّاني تكونُ هذه الجُملةُ مُعترِضةً اعتِراضًا مُوجَّهًا إلى المُتَّقينَ يومَ القيامةِ، أو إلى السَّامِعينَ في الدُّنيا [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/321). .
4- قولُه تعالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ يجوزُ أنْ يكونَ مِن بقيَّةِ ما يُقالُ للمتَّقينَ، فيَكونَ ضَميرُ الغَيْبةِ الْتِفاتًا، وأصْلُه: لكمْ ما تَشاؤونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ ممَّا خُوطِبَ به الفَريقانِ في الدُّنيا، وعلى الاحتِمالَينِ فهو مُستأنَفٌ استِئنافًا بَيانيًّا [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/321). .
وقيل: قال: لَهُمْ، ولم يقُلْ: (لكم)؛ لأنَّ قَولَه تعالى: ادْخُلُوهَا مُقَدَّرٌ فيه: (يُقالُ لهم)، أي: يُقالُ لهم: ادخُلوها؛ فلا يَكونُ على هذا التِفاتًا [394] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/149). .
- وجاء تَرْتيبُ الآياتِ في مُنتهَى الدِّقَّةِ؛ فبدَأَتْ بذِكرِ إكرامِهم بقولِه: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، ثمَّ بذِكرِ أنَّ الجَنَّةَ جَزاؤُهم الَّذي وُعِدوا به، فهي حَقٌّ لهم، ثمَّ أومأَتْ إلى أنَّ ذلك مِن أجْلِ أعْمالِهم بقولِه: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ ...، ثمَّ ذُكِرَت المُبالَغةُ في إكرامِهم بعدَ ذلك كلِّه بقولِه: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ، ثمَّ طَمأَنَهم بأنَّ ذلك نعيمٌ خالدٌ، وزِيدَ في إكرامِهم بأنَّ لهم ما يَشَاؤُونَ ما لم يَرَوه حينَ الدُّخولِ، وبأنَّ اللهَ وعَدَهم بالمَزيدِ مِن لَدُنْه [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/321، 322). .