موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (69-76)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

الْأَغْلَالُ: جَمعُ غُلٍّ، وهو القَيدُ الَّذي يُوضَعُ في العُنُقِ، وأصلُه يدُلُّ على تَدرُّعِ الشَّيءِ وتَوسُّطِه [1053] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/375)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((تفسير ابن كثير)) (6/520)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/202). .
الْحَمِيمِ: أي: الماءِ الشَّديدِ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الحَرارةِ [1054] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .
يُسْجَرُونَ: أي: يُطرَحونَ فيها فيَكونونَ وَقودًا لها، والسَّجْرُ: مَلءُ النَّارِ بالوَقودِ لِتَقويتِها وتَهييجِها، وأصلُ (سجر) هنا: يدُلُّ على إيقادٍ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/364)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/134)، ((المفردات)) للراغب (ص: 397)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/203). .
تَمْرَحُونَ: المَرَحُ: شِدَّةُ الفَرَحِ، والتَّوسُّعُ فيه، وأصلُ (مرح): يدُلُّ على مَسَرَّةٍ لا يَكادُ يستقرُّ معها طَرَبًا [1056] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/316)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764). قال ابن عاشور: (الفرَحُ: المَسَرَّةُ ورِضا الإنسانِ على أحوالِه، فهو انفعالٌ نفْسانيٌّ. والمَرَحُ ما يَظهَرُ على الفارِحِ مِن الحَرَكاتِ في مَشْيِه ونَظَرِه، ومُعامَلتِه معَ النَّاسِ، وكَلامِه وتكَبُّرِه؛ فهو هَيئةٌ ظاهِريَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/206). .
مَثْوَى: أي: مَنزِلُ، ومقامُ، ومَسكنُ، ومأوَى، والثَّواءُ: الإقامةُ معَ الاستِقرارِ، وأصلُ (ثوي): يدُلُّ على الإقامةِ [1057] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ
قَولُه: وَالسَّلَاسِلُ في رَفعِه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: أنَّه مَعطوفٌ على الْأَغْلَالُ، وأخبَرَ عن النَّوعَينِ بالجارِّ، فالجارُّ في نيَّةِ التَّأخيرِ، والتَّقديرُ: إذ الأغلالُ والسَّلاسِلُ في أعناقِهم. الثَّاني: أنَّه مُبتدأٌ وخَبَرُه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ عليه. الثَّالِثُ: أنَّه مُبتَدأٌ خبَرُه جُملةُ يُسْحَبُونَ، والعائِدُ على المُبتَدأِ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: والسَّلاسِلُ يُسحَبونَ بها. ويُسْحَبُونَ مَرفوعُ المحلِّ على هذا الوَجهِ، وأمَّا في الوَجهَيْنِ المتقدِّمَينِ فيَجوزُ فيه النَّصبُ على الحالِ مِن الضَّميرِ المَنْوِيِّ في شِبْهِ الجُملةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، ويجوزُ أنْ يكونَ مُستأنَفًا لا محَلَّ له مِنَ الإعرابِ [1058] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/495)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (24/273). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُسَلِّيًا نبيَّه عمَّا أصابَه مِن المشركينَ، ومُبيِّنًا سوءَ عاقبتِهم: ألمْ تَرَ -يا مُحمَّدُ- إلى مُشرِكي قَومِك الَّذين يُخاصِمونَ في آياتِ اللهِ: كيفَ يُصرَفونَ عن الحَقِّ إلى الباطِلِ؟! أولئكَ هم الَّذين كذَّبوا بالقُرآنِ، وبالَّذي أرسَلْنا به رُسُلَنا مِنَ التَّوحيدِ، والبَعثِ، وغَيرِ ذلك؛ فسوفَ يَعلَمونَ حينَ تُجعَلُ الأغلالُ في أعناقِهم والسَّلاسِلُ، فيُسحَبونَ في ماءِ الحَميمِ الَّذي اشتَدَّ غَلَيانُه، ثمَّ في النَّارِ يُطرَحونَ فيَكونونَ وَقودًا لها، فتُحمَى بهم!
ثمَّ يُقالُ لهم: أينَ آلهتُكم الَّتي كُنتُم تَجعَلونَها شُرَكاءَ لله؟! قالوا: غابُوا عنَّا، بل لم نكُنْ نَعبُدُ في الدُّنيا أيَّ شَيءٍ مِن دُونِ اللهِ، كذلك الضَّلالِ يُضِلُّ اللهُ الكافِرينَ!
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى الأسبابَ الَّتي أدَّتْ بهم إلى هذا العذابِ، وأنَّه يُقالُ لهم: ذَلِكم بسَبَبِ فَرَحِكم في الدُّنيا بالباطِلِ في أَشَرٍ وبَطَرٍ واختيالٍ؛ فادخُلوا أبوابَ جهنَّمَ ماكِثينَ فيها أبَدًا، فبِئْسَ مَنزِلُ المتكَبِّرينَ عن الحَقِّ: جَهنَّمُ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عُلِمَ مِن قَولِ الله تعالى: فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر: 68] أنَّه تعالى لا كُلفةَ عليه في شَيءٍ مِن الأشياءِ بهذه الأُمورِ المُشاهَدةِ في أنفُسِهم وفي الآفاقِ؛ أنتَجَ التَّعجُّبَ مِن حالِهم لِمَن له الفَهمُ الثَّاقِبُ والبَصيرةُ الوقَّادةُ [1059] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/112). .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69).
أي: ألَمْ تَرَ -يا محمَّدُ- إلى مُشرِكي قَومِك الَّذين يُجادِلونَ ويُخاصِمونَ في آياتِ اللهِ؛ فتَعْجَبَ كيف تُصرَفُ عُقولُهم عن الحَقِّ إلى الباطِلِ [1060] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/360، 362)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/200، 201)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 478-480). ؟!
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70).
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا.
أي: وهم الَّذين كذَّبوا بالقُرآنِ، وكَذَّبوا بالَّذي أُرسِلَ به رُسُلُ اللهِ مِنَ الهدَى والبيانِ؛ كإخلاصِ العبادةِ لِلَّهِ، والإقرارِ بالبعثِ بعدَ المماتِ، والبَراءةِ مِمَّا يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ، إلى غيرِ ذلك [1061] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/362)، ((الوسيط)) للواحدي (4/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/201). قال الشوكاني: (والمرادُ بِالْكِتَابِ: إمَّا القرآنُ، أوْ: جِنسُ الكتبِ المنزَّلةِ مِن عندِ اللهِ، وقولُه: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا معطوفٌ على قولِه: بِالْكِتَابِ، ويُرادُ به ما يوحَى إلى الرُّسلِ مِن غيرِ كتابٍ إنْ كانَت اللَّامُ في الكتابِ للجنسِ، أو سائرُ الكُتُبِ إنْ كان المرادُ بالكتابِ: القرآنَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/574). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالكِتابِ هنا: القُرآنُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والزمخشري، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ إلى جُمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720)، ((تفسير ابن جرير)) (20/362)، ((الوسيط)) للواحدي (4/21)، ((تفسير الزمخشري)) (4/178)، ((تفسير ابن عطية)) (4/568). والمرادُ بالرُّسُلِ هنا: جِنسُ الرُّسُلِ. وقيل: المرادُ بالرُّسُلِ: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720)، ((تفسير ابن جرير)) (20/362). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا أي: مِن سائرِ الكتبِ: الزمخشريُّ، والرازي، والنسفي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/178)، ((تفسير الرازي)) (27/532)، ((تفسير النسفي)) (3/220)، ((تفسير العليمي)) (6/134). وقال ابنُ كثير: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا أي: مِن الهدَى والبيانِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/157). وقال ابن جرير: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يقولُ: وكذَّبوا أيضًا -معَ تكذيبِهم بكتابِ اللهِ- بما أرسَلْنا به رُسلَنا مِن إخلاصِ العبادةِ لِلَّهِ، والبَراءةِ مِمَّا يُعبَدُ مِن دونِه مِن الآلهةِ والأندادِ، والإقرارِ بالبعثِ بعدَ المماتِ للثَّوابِ والعِقابِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/362). وقال أبو حيان: (والظَّاهرُ أنَّها في الكفَّارِ المجادِلينَ فِي رسالةِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ، والكتابِ الَّذي جاءَ به، بدليلِ قولِه: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا، ثُمَّ هَدَّدهم بقولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وهذا قولُ الجمهورِ. وقال محمَّدُ بنُ سِيرينَ وغيرُه: هي إشارةٌ إلى أهلِ الأهواءِ مِن الأُمَّةِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/271). وقال الشوكاني: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ أي: بالقرآنِ، وهذا وصْفٌ لا يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ على فِرْقةٍ مِن فِرَقِ الإسلام). ((تفسير الشوكاني)) (4/574). .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسوفَ يَعلَمُون عاقِبةَ أمْرِهم [1062] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير الشوكاني)) (4/574). قال ابن جرير: (يقولُ جلَّ ثناؤُه: فسوفَ يَعلَمُ هؤلاءِ الَّذينَ يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ، المكَذِّبونَ بالكِتابِ حقيقةَ ما تُخبِرُهم به يا محمَّدُ، وصِحَّةَ ما هم به اليَومَ مُكَذِّبونَ مِن هذا الكتابِ، حينَ تُجعَلُ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم في جهنَّمَ). ((تفسير ابن جرير)) (20/362، 363). وقال ابن عاشور: (أي: سوفَ يَجِدونَ العذابَ الَّذي كانوا يُجادِلونَ فيه فيَعلَمونَه). ((تفسير ابن عاشور)) (24/202). .
كما قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 96] .
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71).
أي: فسوفَ يَعلَمونَ ذلك حينَ تُجعَلُ الأغلالُ في أعناقِهم والسَّلاسِلُ، فيُجَرُّونَ إهانةً وتَعذيبًا لهم [1063] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/362، 363)، ((تفسير القرطبي)) (15/332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 483-485). !
كما قال تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 30 - 32] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4] .
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72).
فِي الْحَمِيمِ.
أي: يُسحَبونَ في الماءِ الحَميمِ الَّذي اشتَدَّ غَلَيانُه، وانتَهى حَرُّه [1064] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720)، ((تفسير ابن جرير)) (20/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/203). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: يُسحَبون في الحميمِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. .
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 67، 68].
وقال سُبحانَه: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ [الرحمن: 43، 44].
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ.
أي: ثُمَّ يُطرَحونَ في النَّارِ فيَكونونَ وَقودًا لها، فتُحمَى بهم [1065] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/364)، ((تفسير السمعاني)) (5/31)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((تفسير ابن جزي)) (2/235)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/115)، ((تفسير الشوكاني)) (4/574، 575)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/203). قال الشوكاني: (يُقالُ: سَجَرْتُ التَّنُّورَ: أي: أوقَدْتُه، وسَجرْتُه: ملأْتُه بالوَقودِ...، فالمعنَى: تُوقَدُ بهم النَّارُ، أو تُملأُ بهم). ((تفسير الشوكاني)) (4/574). ممَّن اختار المعنى الأوَّلَ، أي: تُوقَدُ بهم النَّارُ: الثعلبيُّ، وابنُ أبي زمَنين، والرَّسْعَني، والخازن. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/282)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/142)، ((تفسير الرسعني)) (6/632)، ((تفسير الخازن)) (4/80). وممَّن اختار المعنى الثَّانيَ وأنَّه مِن سَجَرَ التَّنُّورَ؛ إذا ملأه بالوقودِ، فمعناه: أنَّهم في النَّارِ وهم مَسجورونَ بالنَّارِ، مَملوءةٌ بها أجوافُهم: الزمخشريُّ، والنسفيُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/178)، ((تفسير النسفي)) (3/221). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ  ....
أي: ثمَّ يُقالُ لهم: أين آلهتُكم الَّتي كُنتُم تَجعلونَها شُرَكاءَ للهِ في عِبادتِه؛ لِتُنقِذَكم اليَومَ مِن العَذابِ [1066] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير السمرقندي)) (3/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). ؟!
... قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74).
قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا.
أي: قالوا: غابُوا عنَّا، فتَرَكونا في العَذابِ، ولم يَنفَعونا بشَيءٍ [1067] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/204). .
بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا.
أي: بل لم نَكُنْ أصلًا نَعبُدُ في الدُّنيا أيَّ شَيءٍ مِن دونِ اللهِ [1068] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/569)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/116، 117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 487، 488). ممَّن قال: إنَّ المرادَ إنكارُهم لِوُقوعِ الشِّركِ منهم أصلًا: ابنُ عطيَّة، وابن كثير، والبِقاعي، وابن عثيمين، وذكره السعدي احتمالًا. يُنظر: المصادر السابقة. وهو أيضًا اختيارُ جلالِ الدِّينِ المحلِّي، والشنقيطي، يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 628)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/368) و (3/510). وقد ذكر الشنقيطيُّ هذه الآيةَ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا، وقولَه تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقولَه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل: 28] ، ثمَّ قال: (فهذه الآياتُ تدُلُّ على إنكارِهم لِما جاؤوا به مِن الكفرِ). (العذب النمير)) (2/276). قال ابن عثيمين: (فهؤلاء أنكروا، كذَبوا على أنفُسِهم، ظَنُّوا أنَّ هذا سيَنفَعُهم، كما لو أنَّ الجانيَ في الدُّنيا أنكَر جنايتَه رُبَّما يَنفَعُه ذلك، لكنْ في الآخرةِ لا يَنفعُ، حتَّى إذا أنكَروا خُتِم على أفواهِهم، فتَتكلَّمُ الأيدي والأرجُلُ والجُلودُ والألسُنُ بما تَعملُ، وحينَئذٍ لا يَستطيعون حِيلةً ولا يَهتدونَ سبيلًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 488، 489). وقيل: المعنى: بل لم نكُنْ نَعبُدُ مِن قَبْلُ في الدُّنيا شَيئًا مُستَحِقًّا للعبادةِ؛ فيَنفَعَنا، بل كانت عبادتُنا لغَيرِ اللهِ باطِلةً ضائِعةً لا تَنفَعُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والسمعاني، والزمخشري، والرسعني، والعُلَيمي، والشوكاني، واستظهره السعدي، وذهب إليه ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/721)، ((الوسيط)) للواحدي (4/21)، ((تفسير السمعاني)) (5/31)، ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير الرسعني)) (6/633)، ((تفسير العليمي)) (6/135)، ((تفسير الشوكاني)) (4/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/204، 205). قال ابنُ عاشور: (أضرَبوا عن قَولِهم: ضَلُّوا عَنَّا، وقالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا أي: لم نكُنْ في الدُّنيا نَدعو شيئًا يُغْني عنَّا؛ فنَفْيُ دُعاءِ شَيءٍ هنا راجِعٌ إلى نَفيِ دُعاءِ شَيءٍ يُعتَدُّ به، كما تقولُ: حَسِبتُ أنَّ فُلانًا شَيءٌ فإذا هو ليس بشَيءٍ! إن كُنتَ خَبَرْتَه فلم تَرَ عِندَه خَيرًا. وفي الحديثِ: سُئِلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الكُهَّانِ، فقال: «لَيْسوا بشَيءٍ» [البخاري (6213)، ومسلم (2228)]، أي: ليسوا بشَيءٍ مُعتَدٍّ به فيما يَقصِدُهم النَّاسُ لأجْلِه... إذ ليس المعنى على إنكارِ أن يَكونوا عَبَدوا شيئًا؛ لِمُنافاتِه لِقَولِهم: ضَلُّوا عَنَّا المُقتضِي الاعتِرافَ الضِّمنيَّ بعبادتِهم. وفَسَّر كثيرٌ مِن المفسِّرينَ قَولَهم: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا أنَّه إنكارٌ لعبادةِ الأصنامِ بعدَ الاعترافِ بها؛ لاضطرابِهم مِنَ الرُّعبِ، فيكونُ مِن نَحوِ قَولِه تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] . ويجوزُ أن يكونَ لهم في ذلك الموقِفِ مَقالانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/204، 205). !
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 22 - 24] .
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ.
أي: كهذا الضَّلالِ يُضِلُّ اللهُ الكافِرينَ؛ بسَبَبِ كُفرِهم [1069] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6465)، ((تفسير السمعاني)) (5/31)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((حاشية الخفاجي)) (7/ 383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). قال الألوسي: (معنى هذا: مِثلَ ذلك الإضلالِ يُضِلُّ اللهُ تعالى في الدُّنيا الكافِرينَ، حتى إنَّهم يَدْعُونَ فيها ما يَتبَيَّنُ لهم أنَّه ليس بشَيءٍ، أو: مِثلَ ضَلالِ آلهتِهم عنهم في الآخِرةِ نُضِلُّهم عن آلهتِهم فيها، حتَّى لو طلَبوا الآلِهةَ وطلَبَتْهم لم يَلْقَ بعضُهم بعضًا، أو: مِثلَ ذلك الضَّلالِ وعَدَمِ النَّفعِ يُضِلُّ اللهُ تعالى الكافِرينَ، حتَّى لا يَهتَدوا في الدُّنيا إلى ما يَنفَعُهم في الآخِرة. وفي «المجمَعِ»: كما أضلَّ اللهُ تعالى أعمالَ هؤلاءِ وأبطَلَ ما كانوا يُؤَمِّلونَه، كذلك يَفعَلُ بأعمالِ جميعِ مَن يَتدَيَّنُ بالكُفرِ، فلا يَنتَفِعونَ بشَيءٍ منها، فإضلالُ الكافِرينَ على معنى إضلالِ أعمالِهم، أي: إبطالِها. ونُقِلَ ذلك عن الحَسَنِ، وقيل في معناه غيرُ ذلك). ((تفسير الألوسي)) (12/339). .
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75).
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: يُقالُ لهم: ذَلِكم [1070] قيل: المرادُ: ذَلِكم العَذابُ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبي، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((تفسير الألوسي)) (12/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/206). وقيل: المرادُ: ذَلِكم الإضلالُ. وممَّن قال بهذا: الزمخشريُّ، والرازي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير الرازي)) (27/533). بسَبَبِ أنَّكم كُنتُم في الدُّنيا تَفرَحونَ بالباطِلِ [1071] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير القرطبي)) (15/333)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير الألوسي)) (12/339)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/206). قال ابنُ جريرٍ، والقاسِميُّ في قولِه تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: بغيرِ ما أذِنَ لكم به مِن الباطلِ والمعاصي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير القاسمي)) (8/320). وقال الألوسي: (بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشِّركُ والمعاصي، أو بغيرِ استحقاقٍ لذلك). ((تفسير الألوسي)) (12/339). وقال الزمخشريُّ، والرازيُّ، والنسفيُّ: هو الشِّركُ وعِبادةُ الأوثانِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير الرازي)) (27/533)، ((تفسير النسفي)) (3/221). وقال البيضاوي والعُلَيمي وأبو السعود: هو الشِّركُ والطُّغيانُ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير العليمي)) (6/136)، ((تفسير أبي السعود)) (7/285). .
وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ.
أي: وبِسَبَبِ أنَّكم كُنتُم في الدُّنيا في أشَرٍ وبَطَرٍ واختيالٍ وزَهْوٍ بالباطِلِ [1072] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/365)، ((تفسير البغوي)) (4/123)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/118)، ((تفسير القاسمي)) (8/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/206). .
كما قال تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] .
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76).
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: يُقالُ لهم يومَ القيامةِ: ادخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ السَّبعةَ ماكِثينَ فيها أبدًا [1073] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/366)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6466)، ((تفسير القرطبي)) (15/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 743). قال السعدي: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ كُلٌّ بطَبَقةٍ مِن طَبَقاتِها، على قَدْرِ عَمَلِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 743). .
قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 43، 44].
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
أي: فبِئْسَ مَنزِلُ الَّذين تَكبَّروا عن الحَقِّ: جَهنَّمُ يُقيمونَ فيها إقامةً دائِمةً [1074] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/366)، ((تفسير ابن كثير)) (7/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/207). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ أنَّ الإنسانَ قد يُصْرَفُ عن الحقِّ مع بيانِه ووُضوحِه، وهذا يُؤدِّي إلى فائدةٍ أخرَى، وهي خَوفُ الإنسانِ مِن أنْ يُصْرَفَ عن الحقِّ، ويَنتِجُ عن ذلك فائدةٌ ثالثةٌ: وهو سؤالُ الإنسانِ ربَّه دائمًا أنْ يُثَبِّتَه، ولهذا كان مِن دعاءِ المؤمنينَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8] ، فيَنبغي للإنسانِ أنْ يكونَ دائمًا على خَوفٍ؛ وأنْ يَسألَ اللهَ الثَّباتَ دائمًا [1075] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 485). .
2- قال الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ يُشعِرُ أنَّ السُّرورَ لا يَنبغي إلَّا إذا كان مع كَمالِ هذه الحَقيقةِ، وهي الثَّباتُ دائِمًا للمَفروحِ به، وذلك لا يَكونُ إلَّا في الجنَّةِ [1076] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/118). .
3- قال الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذا هو الفَرَحُ المذمومُ الموجِبُ للعِقابِ، بخِلافِ الفَرَحِ المَمدوحِ الَّذي قال اللهُ فيه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ، وهو الفَرَحُ بالعِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ [1077] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .
4- قولُه تعالى: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فيه التَّحذيرُ مِن التَّكَبُّرِ، ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ أحدٌ في قلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن كِبْرِياءَ )) [1078] أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ، فالكِبْرُ -والعياذُ باللهِ- سببٌ لدُخولِ النَّارِ [1079] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 504). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قَولُه تعالى: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا عَطَفَها على قَولِه: بِالْكِتَابِ بإعادةِ العاملِ؛ لإفادةِ استِقلالِ المعطوفِ عن المَعطوفِ عليه؛ لأنَّه ليس تابِعًا له مِن كلِّ وجهٍ، بدَليلِ إعادةِ العامِلِ؛ فقَولُه: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يدُلُّ على أنَّ ما أُرسِلَتْ به الرُّسُلُ كأنَّه مُستَقِلٌّ عنِ الكِتابِ؛ ولهذا كانتِ السُّنَّةُ بمَنزِلةِ الكِتابِ في الدَّلالةِ، ووُجوبِ العَمَلِ بها [1080] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 482). ، وعلى القولِ بأنَّ المرادَ بقولِه: رُسُلَنَا: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم فيُفيدُ أنَّ مِمَّا جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَواعِظَ وإرشادًا كَثيرًا ليس مِنَ القُرآنِ [1081] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/201). .
2- قولُه تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ فيه أنَّ هؤلاء المكذِّبِين بالكتابِ وبما أرسلَ اللهُ به الرُّسُلَ يُعَذَّبُون عذابًا جسديًّا بالسَّلاسلِ والأغلالِ والسَّحْبِ في النَّارِ؛ ويُعَذَّبون عذابًا قلبيًّا بالتَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّنديمِ؛ فيُقالُ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [1082] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 489). .
3- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ أنَّ اللهَ تعالى يُضِلُّ الكافرَ لِكُفْرِه؛ وجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ الحُكْمَ إذا عُلِّقَ على وصْفٍ كان ذلك الوصفُ عِلَّةً له، فالَّذي عُلِّقَ على الكفرِ هنا الإضلالُ، إذًا الكفرُ سببٌ للإضلالِ، ويؤيِّدُ هذا قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، ويَتَفَرَّعُ على ذلك أنَّ الضَّالَّ إذا ضَلَّ فإنَّه هو السَّببُ في ضلالهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لو عَلِمَ فيه خيرًا لَأسْمَعه [1083] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 490). .
4- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ الرَّدُّ على القَدَريَّةِ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ القَدَريَّةَ يَقولونَ: إنَّ أفعالَ العِبادِ ليست مَخلوقةً للهِ سُبحانَه وتعالى، ولا عَلاقةَ للهِ بها! لكِنَّ الآيةَ تدُلُّ على أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هو الَّذي يُضِلُّهم [1084] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 490). .
5- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أنَّ الشَّارِعَ يَذكُرُ العِلَلَ والأوصافَ المؤَثِّرةَ والمعانيَ المُعتبَرةَ في الأحكامِ القَدَرِيَّةِ والشَّرعيَّةِ والجزائيَّةِ؛ لِيَدُلَّ بذلك على تَعلُّقِ الحُكمِ بها أين وُجِدَتْ، واقتِضائِها لأحكامِها، وعَدَمِ تَخَلُّفِها عنها إلَّا لِمانعٍ يُعارِضُ اقتِضاءَها، ويُوجِبُ تَخَلُّفَ أثَرِها عنها [1085] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/150). .
6- في قَولِه تعالى: تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أنَّ الفَرَحَ بغيرِ الحقِّ سببٌ للعذابِ والإضلالِ [1086] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 495). ، وأنَّ الفَرَحَ بالحقِّ محمودٌ، ولهذا قال اللهُ تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] ، فالفرحُ بالحقِّ محمودٌ، والفرحُ بغيرِ الحقِّ مذمومٌ، والفرحُ بما ليس حقًّا ولا باطلًا ليس محمودًا ولا مذمومًا؛ لأنَّه مِن اللَّغْوِ، ولكنَّ عبادَ الرَّحمنِ إذا مَرُّوا باللَّغوِ مَرُّوا كِرامًا [1087] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 495). .
7- في قَولِ الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أنَّ الأسبابَ تَتوارَدُ، بمعنى أنَّه قد يَرِدُ على الشَّيءِ سَببانِ؛ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ، والمَرَحُ أشدُّ الفَرَحِ، وهكذا الأسبابُ الشَّرعيَّةُ تتوارَدُ، بمعنى أنَّه قد يكونُ في الإنسانِ سَبَبانِ، كلُّ واحِدٍ منهما يُوجِبُ الحُكمَ، فإذا اجتَمَعا صار كُلُّ واحِدٍ يقَوِّي الآخَرَ [1088] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 497). ثمَّ ذكَر أنَّه إذا اجتَمَع سببانِ، واختَلف موجَبُهما؛ أخَذْنا بموجَبِ كلٍّ منهما ما لم يكُنْ أحدُهما أقوَى، فيُؤخَذُ بالأقوَى، فالرَّجلُ إذا ماتَتْ زوجتُه، وكانتْ ابنةَ عمِّه اجتمَع في حقِّه النِّصفُ فرضًا، والباقي تعصيبًا، فيرِثُ بالفرضِ والتَّعصيبِ مع توفُّرِ الشُّروطِ. يُنظر: ((المصدر السابق)). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ جملةٌ مُستأنَفةٌ للتَّعجيبِ مِن حالِ انصِرافِهم عن الإيمانِ، بعدَ تلك الدَّلائلِ البَيِّنةِ [1089] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/200). ، وتمهيدٌ لما يعقُبُه مِن بيانِ تكذيبِهم بكلِّ القُرآنِ وبسائرِ الكتبِ والشرائعِ، وترتيبُ الوعيدِ على ذلكَ [1090] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/3). .
وسَجَّلَ على جَهالَتِهم وصَرْفِهم عن الطَّريقِ الحقِّ، مع قِيامِ تلك الحُجَجِ القاطِعةِ والبَراهينِ السَّاطِعةِ بقولِه: أَنَّى يُصْرَفُونَ [1091] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/543). .
- وصِيغةُ المُضارِعِ في يُجَادِلُونَ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ المُجادَلةِ وتَكرُّرِها [1092] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/284). .
 - وتكريرُ ذمِّ المُجادَلةِ لِتَعدُّدِ المجادِلِ -بأن يكونَ المجادِلُ هناك قومًا، وهنا قومًا آخرينَ-، أو المجادَلِ فيه -بأنْ يُحمَلَ في كلٍّ على معنًى مناسبٍ؛ ففيما مرَّ في البعثِ وهنا في التَّوحيدِ-، أو هو للتأكيدِ؛ اهتمامًا بشأنِ ذلك [1093] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/63)، ((تفسير الألوسي)) (12/337). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ مُستعمَلٌ في التَّقريرِ، وهو مَنْفيٌّ لَفظًا، والمرادُ به التَّقريرُ على الإثباتِ، و(أنَّى) بمعنى (كيف)، وهي مُستعمَلةٌ في التَّعجيبِ، أي: أرأيتَ عَجيبَ انصِرافِهم عن التَّصديقِ بالقُرآنِ بصارفٍ غيرِ بَيِّنٍ مَنْشَؤه؟! ولذلك بُنيَ فِعلُ (يُصرَفون) للنَّائبِ؛ لأنَّ سَببَ صَرْفِهم عن الآياتِ ليس غيرَ أنفُسِهم، ويجوزُ أنْ تكونَ (أنَّى) بمعنى (أين)، أي: ألَا تَعجَبُ مِن أين يَصرِفُهم صارفٌ عن الإيمانِ حتَّى جادَلوا في آياتِ اللهِ، مع أنَّ شُبَهَ انصِرافِهم عن الإيمانِ مُنتفيةٌ بما تَكرَّرَ مِن دَلائلِ الآفاقِ وأنفُسِهم، وبما شاهَدوا مِن عاقبةِ الَّذين جادَلوا في آياتِ اللهِ ممَّن سبَقَهم؟! وهذا كما يقولُ المُتعجِّبُ مِن فِعلِ أحدٍ: أين يُذهَبُ بك؟! وبِناءُ فِعلِ يُصْرَفُونَ للمَجهولِ على هذا الوجْهِ للتَّعجيبِ مِن الصَّارفِ الذي يَصرِفُهم، وهو غيرُ كائنٍ في مَكانٍ غيرِ نُفوسِهم [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/200، 201). .
2- قولُه تعالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- وُصِلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ بالتَّكذيبِ دُونَ المُجادَلةِ؛ لأنَّ المُعتادَ وُقوعُ المُجادَلةِ في بَعضِ الموادِّ لا في الكُلِّ. وصِيغةُ الماضي كَذَّبُوا؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ [1095] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/284). .
- وعَطْفُ قولِه: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يجوزُ أنْ يكونَ على أصْلِ العطْفِ مُقتضيًا المُغايَرةَ؛ فيَكونَ المرادُ: كذَّبوا بما أرسَلْنا به رُسُلَنا مِن الكُتبِ قبْلَ نُزولِ القرآنِ، فيَكونَ تَكذيبُهم ما أُرسِلَت به الرُّسلُ مُرادًا به تَكذيبُهم جميعَ الأديانِ. ويَحتمِلُ أنَّه أُرِيدَ به التَّكذيبُ بالبَعثِ؛ فلعلَّهم لَمَّا جاءَهُم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإثباتِ البَعثِ سَأَلوا عنه أهلَ الكِتابِ، فأثْبَتوه، فأنكَرَ المشْرِكون جميعَ الشَّرائعِ لذلك. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفَ مُرادفٍ، فائدتُه التَّوكيدُ، والمرادُ بـ رُسُلَنَا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1096] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/201). .
- وتَفرَّعَ على تَكذيبِهم وَعيدُهم بما سَيَلْقَونَه يومَ القِيامةِ، فقيل: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، أي: سوفَ يَجِدونَ العذابَ الَّذي كانوا يُجادِلونَ فيه فيَعلَمونه، وعُبِّر عن وِجْدانِهم العذابَ بالعِلمِ به بمُناسَبةِ استِمرارِهم على جَهْلِهم بالبعثِ، وتَظاهُرِهم بعَدمِ فَهمِ ما يقولُه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فأُنْذِروا بأنَّ ما جَهِلوه سيَتحقَّقونَه يومَئذٍ [1097] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/201، 202). .
- وحُذِفَ مَفعولُ يَعْلَمُونَ؛ لِدَلالةِ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ عليه، أي: يَتحقَّقون ما كذَّبوا به [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/202). .
3- قولُه تعالَى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ
- قولُه: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ (إذ) ظَرْفٌ لـ يَعْلَمُونَ، وهو ظَرْفٌ لِما مَضَى؛ فلا يَعمَلُ فيه المستقبلُ، فلا يصِحُّ أنْ يُقالَ: سأقومُ أمْسِ. ولَمَّا كان وُقوعُ معنى الجُملةِ سيَقَعُ في الآخِرةِ على الاستِقبالِ؛ كان استخدامُ (إذ) الدَّالَّةِ على الماضِي للدَّلالةِ على تَيقُّنِ حُدوثِه؛ لأنَّه لَمَّا كانتِ الأمورُ المُستقبَلةُ في أخبارِ اللهِ تعالى مُتيَقَّنةً مَقطوعًا بها؛ عُبِّرَ عنها بلَفظِ ما كان ووُجِدَ، والمعنى على الاستِقبالِ [1099] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/178)، ((تفسير أبي حيان)) (9/271)، ((تفسير أبي السعود)) (7/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/202). .
- و(ثُمَّ) عاطفةٌ جملةَ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ على جُملةِ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ، وشأْنُ (ثُمَّ) إذا عطَفَت الجُمَلَ أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ وذلك أنَّ احتِراقَهم بالنَّارِ أشدُّ في تَعذيبِهم مِن سَحْبِهم على النَّارِ؛ فهو ارتِقاءٌ في وَصْفِ التَّعذيبِ الَّذي أُجمِلَ بقولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، والسَّجرُ بالنَّارِ حاصلٌ عقِبَ السَّحبِ، سواءٌ أكان بتَراخٍ أمْ بدونِه [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/203). .
- قولُه: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ السَّجرُ: مَلْءُ التَّنُّورِ بالوقودِ؛ لِتَقويةِ النَّارِ فيه، وهذا يُفِيدُ أنَّهم في النَّارِ، فهي مُحيطةٌ بهم، وهم مَسْجورون بالنَّارِ مَملوءةٌ بها أجوافُهم، والمرادُ أنَّهم يُعذَّبون بأنواعٍ مِن العذابِ، ويُنقَلون مِن بعضِها إلى بعضٍ. وإسنادُ فِعلِ يُسْجَرُونَ إلى ضَميرِهم أُرِيدَ به المبالَغةُ في تَعلُّقِ السَّجْرِ بهم [1101] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير البيضاوي)) (5/63)، ((تفسير أبي حيان)) (9/272)، ((تفسير أبي السعود)) (7/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/203). .
4- قولُه تعالَى: قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ
- قولُه: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (ثُمَّ) هذه للتَّراخي الرُّتبيِّ لا مَحالةَ؛ لأنَّ هذا القولَ يُقالُ لهم قبْلَ دُخولِ النَّارِ؛ بدَليلِ أنَّ ممَّا وقَعَ في آخِرِ القَولِ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، ودُخولُ أبوابِ جهنَّمَ قبْلَ السَّحبِ في حَميمِها والسَّجرِ في نارِها. وهذا القيلُ ارتِقاءٌ في تَقريعِهم وتَوبيخِهم، وإعلانِ خَطَلِ [1102] أي: فَسادِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 93). آرائِهم بيْنَ أهْلِ المحشَرِ، وهو أشدُّ على النَّفْسِ مِن ألَمِ الجسْمِ، ولأنَّ هذا القولَ مُقدِّمةٌ لِتَسليطِ العذابِ عليهم؛ لاشتِمالِه على بَيانِ سَببِ العذابِ؛ مِن عِبادةِ الأصنامِ، وازْدهائِهم في الأرضِ بكُفْرِهم ومَرَحِهم، وهو أيضًا ارتِقاءٌ في وَصفِ أحوالِهم الدَّالَّةِ على نكالِهم؛ إذ ارْتَقى مِن صِفةِ جَزائهم على إشْراكِهم -وهو شَيءٌ غيرُ مُستغرَبٍ تَرتُّبُه على الشِّركِ- إلى وَصفِ تَحقيرِهم آلهتَهم الَّتي كانوا يَعبُدونها، وذلك غَريبٌ مِن أحوالِهم وأشدُّ دَلالةً على بُطلانِ إلهيَّةِ أصْنامِهم، وهو المَقصدُ المهمُّ مِن القَوارعِ الَّتي سُلِّطَت عليهم في هذه السُّورةِ [1103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/204). .
- وصِيغَ قِيلَ بصِيغةِ المُضِيِّ؛ لأنَّه مُحقَّقُ الوُقوعِ، فكأنَّه وقَعَ ومَضَى [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/204). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ على الغَلَطِ والفضيحةِ في الموقفِ؛ فإنَّهم كانوا يَزْعُمون أنَّهم يَعبُدون الأصنامَ لِيَكونوا شُفعاءَ لهم مِن غضَبِ اللهِ، فلمَّا حَقَّ عليهم العذابُ، فلمْ يَجِدوا شُفعاءَ؛ ذُكِّروا بما كانوا يَزْعُمونه، فقِيل لهم: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ، فابْتَدَروا بالجوابِ قبْلَ انتِهاءِ المقالةِ؛ طَمَعًا في أنْ يَنفَعَهم الاعتذارُ؛ فجُملةُ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا مُعترِضةٌ في أثناءِ القولِ الَّذي قِيل لهم. ومعنى ضَلُّوا: غابوا، أي: غُيِّبْنا في التُّرابِ، ثمَّ عرَضَ لهم فعَلِموا أنَّ الأصنامَ لا تُفِيدُهم، فأضْرَبوا عن قَولِهم: ضَلُّوا عَنَّا، وقالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا، أي: لم نكُنْ في الدُّنيا نَدْعو شيئًا يُغْني عنَّا، فنَفْيُ دُعاءِ شَيءٍ هنا راجعٌ إلى نَفْيِ دُعاءِ شَيءٍ يُعتَدُّ به [1105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/204). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وصِيغَ الفِعلانِ قَالُوا ضَلُّوا بصِيغةِ المُضِيِّ؛ لأنَّه مُحقَّقُ الوُقوعِ، فكأنَّه وقَعَ ومَضَى [1106] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/204). .
- وجُملةُ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ تَذييلٌ مُعترِضٌ بيْنَ أجزاءِ القَولِ الَّذي يُقالُ لهم، ومعنى الإشارةِ تَعجيبٌ مِن ضَلالِهم، أي: مِثلَ ضَلالِهم ذلك يُضِلُّ اللهُ الكافرينَ. والتَّشبيهُ في قولِه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ يُفِيدُ تَشبيهَ إضلالِ جَميعِ الكافرينَ بإضلالِه هؤلاء الَّذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ؛ فتكونُ جُملةُ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ تَذييلًا، أي: مِثلَ إضلالِ الَّذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ يُضِلُّ اللهُ جميعَ الكافرينَ؛ فيكونُ إضلالُ هؤلاء الَّذين يُجادِلون مُشبَّهًا به إضلالُ الكافرينَ كلِّهم، والتَّشبيهُ كِنايةٌ عن كَونِ إضلالِ الَّذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ بلَغَ قُوَّةَ نَوعِه، بحيثُ يُنظَّرُ به كلُّ ما خَفِيَ مِن أصنافِ الضَّلالِ، وهو كِنايةٌ عن كَونِ مُجادَلةِ هؤلاء في آياتِ اللهِ أشَدَّ الكفْرِ [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/205). .
5- قولُه تعالَى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ فيه العُدولُ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ للمُبالَغةِ في التَّوبيخِ، أي: هذا بما كُنتُم تُظهِرون في الدُّنيا مِن السُّرورِ بالمعاصي، وكثْرةِ المالِ والأتْباعِ، والصِّحَّةِ [1108] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير أبي حيان)) (9/272)، ((تفسير أبي السعود)) (7/285). .
6- قولُه تعالَى: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
- جُملةُ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ يجوزُ أنْ تكونَ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّهم لَمَّا سَمِعوا التَّقريعَ والتَّوبيخَ، وأيْقَنوا بانتِفاءِ الشَّفيعِ؛ تَرقَّبوا ماذا سيُؤمَرُ به في حقِّهم؟ فقِيل لهم: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ. ويجوزُ أنْ تكونَ بدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ فإنَّ مَدلولَ اسمِ الإشارةِ العذابُ المُشاهَدُ لهمْ، وهو يَشتمِلُ على إدْخالِهم أبوابَ جهنَّمَ والخُلودِ فيها، ودُخولُ الأبوابِ كِنايةٌ عن الكَونِ في جهنَّمَ؛ لأنَّ الأبوابَ إنَّما جُعِلَت لِيُسلَكَ منها إلى البَيتِ ونحْوِه [1109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/206). .
- والمخصوصُ بالذَّمِّ في قولِه: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ مَحذوفٌ؛ لأنَّه يدُلُّ عليه ذِكرُ جَهنَّمَ، أي: فبِئسَ مَثوى المتكبِّرينَ جهنَّمُ. وأُوثِرَ لَفظُ مَثْوَى دونَ (مَدخَل) المُناسِبِ ادْخُلُوا؛ لأنَّ المَثْوى أدَلُّ على الخُلودِ؛ فهو أَولى بمَساءتِهم [1110] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/179)، ((تفسير البيضاوي)) (5/64)، ((تفسير أبي حيان)) (9/273)، ((تفسير أبي السعود)) (7/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/207)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/519). .
- والمرادُ بالمتكبِّرينَ في قولِه: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ المُخاطَبونَ ابتِداءً؛ لأنَّهم جادَلوا في آياتِ اللهِ عن كِبْرٍ في صُدورِهم، ولأنَّ تَكبُّرَهم مِن فَرَحِهم، وإنَّما عُدِلَ عن ضَميرِهم إلى الاسمِ الظَّاهرِ -الْمُتَكَبِّرِينَ-؛ للإشارةِ إلى أنَّ مِن أسبابِ وُقوعِهم في النَّارِ تَكبُّرَهم على الرُّسلِ، ولِيَكونَ لكلِّ مَوصوفٍ بالكِبْرِ حظٌّ مِنِ استِحقاقِ العِقابِ إذا لم يَتُبْ ولم تَغلِبْ حَسناتُه على سَيِّئاتِه إنْ كان مِن أهلِ الإيمانِ [1111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/207). .