موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (25 - 37)

ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَغُلُّوهُ: أي: فشُدُّوه بالأغلالِ، واجعَلوها في عُنقِه، وقَيِّدوه، أو: اجمَعوا يدَه إلى عُنقِه بالأغلالِ، وأصلُ (غلل): يدُلُّ على تخَلُّلِ شَيءٍ وثَباتِ شَيءٍ .
صَلُّوهُ: أي: اغمُروه فيها وأَورِدُوه، يُقالُ: أصلَيْتُه النَّارَ وصلَّيتُه: إذا أورَدْتَه إيَّاها، وصَلِيَ النَّارَ وصَلِيَ بها صُلِيًّا، وصِلِيًّا، وصلًى: قاسَى حَرَّها وشِدَّتَها، وأصلُ الصَّلَى: الإيقادُ بالنَّارِ .
فَاسْلُكُوهُ: أي: فاجْعَلُوه فيها، وأصلُ (سلك): يدُلُّ على نُفوذِ شَيءٍ في شَيءٍ .
حَمِيمٌ: أي: قَريبٌ مُشفِقٌ، وحميمُ الرَّجُلِ: خاصَّتُه، مِنْ (حَمَّ): إذا دنا وقَرُبَ، فهو أخصُّ مِن الصَّديقِ، وأصلُ (حمم) هنا: الدُّنوُّ والحُضورُ .
غِسْلِينٍ: أي: غُسالةِ أهلِ النَّارِ مِن قَيحِهم وصَديدِهم، سُمِّيَ غِسْلِينًا؛ لسَيَلانِه مِن أبدانِهم، كأنَّه يَنغَسِلُ منهم، وأصلُ (غسل): يدُلُّ على تطهيرِ الشَّيءِ وتَنقيتهِ .
الْخَاطِئُونَ: أي: الآثِمونَ أصحابُ الخَطايا، وهم الكافِرون، والخاطئُ هو القاصدُ الذَّنْبِ، يُقالُ: خَطِئ الرَّجُلُ: إذا تعمَّدَ الذَّنْبَ، وأخْطَأَ: إذا لم يَتعمَّدْ، وقيل غيرُ ذلك. وأصلُه يدُلُّ على تَعَدِّي الشَّيءِ، والذَّهابِ عنه .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى عاقِبةَ مَن أُوتيَ كتابَه بشِمالِه يومَ القيامةِ، وشدَّةَ ندَمِه، فيقولُ: وأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بشِمالِه فيَقولُ نادِمًا مُتحَسِّرًا: يا لَيْتَني لم أُعْطَ كتابَ أعمالِي السَّيِّئةِ! ولم أعلَمْ ما حِسابي؟! يا لَيْتَ مَوْتَتي في الدُّنيا كانت نهايةَ حَياتي، ما دفَعَ عنِّي مالي الَّذي جمَعْتُه في الدُّنيا! زال عنِّي مُلْكي وجاهي، وذهَبَتْ حُجَّتي!
 ويأتي الأمرُ مِن الله تعالى بإنزالِ العذابِ به، فيقولُ لمَلائكتِه: خُذُوا هذا الكافِرَ فضَعُوا القَيدَ في عُنُقِه، ثمَّ اغمِسُوه في النَّارِ، ثمَّ اجعَلوه في سِلْسلةٍ طُولُها سَبعونَ ذِراعًا.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى الأسبابَ الَّتي أدَّت بهذا الشَّقيِّ إلى هذا العذابِ، فيقول: إنَّه كان في الدُّنيا لا يُؤمِنُ باللهِ العَظيمِ، ولا يَحُثُّ غَيرَه على إطعامِ المساكينِ؛ فليس لهذا الكافِرِ في هذا اليَومِ قَريبٌ يَنفَعُه، ولا طَعامٌ إلَّا مِن صَديدِ أهلِ النَّارِ، لا يأكُلُ هذا الطَّعامَ إلَّا الواقِعونَ في الخَطايا عَمْدًا مِن الكافرينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت العادةُ جاريةً بأنَّ أهْلَ العرْضِ يَنقَسِمونَ إلى قِسمَينِ: مَقبولٍ ومَردودٍ، وذَكَر اللهُ سُبحانَه وتَعالى المقبولَ بادئًا به؛ تَشويقًا إلى حالِه، وتَغبيطًا بعاقبتِه، وحُسنِ مآلِه- أتْبَعَه المردودَ؛ تَنفيرًا عن أعمالِه، بما ذُكِرَ مِن قَبائحِ أحوالِه .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).
أي: وأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَدِه الشِّمالِ، فإنَّه يَقولُ نادِمًا مُتحَسِّرًا: يا ليتَني لم أُعْطَ كتابَ أعمالِي السَّيِّئةِ !
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26).
أي: ولم أعلَمْ ما حِسابي ؟!
يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27).
أي: يا ليتَ مَوْتَتي في الدُّنيا كانت نهايةَ حَياتي، ولم أُبعَثْ للحِسابِ والجَزاءِ !
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28).
أي: لم يَدفَعْ عنِّي مالي الَّذي جمَعْتُه في الدُّنيا شيئًا مِن عذابِ الآخِرةِ !
كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [الشعراء: 88] .
وقال سُبحانَه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29).
أي: زال عنِّي مُلْكي وجاهي، وذهَبَتْ حُجَّتي !
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30).
أي: يقولُ اللهُ تعالى لمَلائكتِه: خُذُوا هذا الكافِرَ فضَعُوا القَيدَ في عُنُقِه .
كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4] .
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31).
أي: ثمَّ اغمِسُوه واغْمُروه في النَّارِ .
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32).
أي: ثمَّ اجعَلوه في سِلْسلةٍ طُولُها سَبعونَ ذِراعًا، فيتعَذَّبُ بها !
كما قال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72].
إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تَعالى لَمَّا شرَحَ هذا العذابَ الشَّديدَ؛ ذكَرَ سَببَه ، فقال:
إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33).
أي: استَحَقَّ هذا الكافِرُ ذلك العذابَ الشَّديدَ؛ لأنَّه كان في الدُّنيا لا يُؤمِنُ باللهِ ذي العَظَمةِ التَّامَّةِ الكامِلةِ .
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34).
أي: ولأنَّه كان لا يَحُثُّ غَيرَه على إطعامِ المحتاجِينَ .
كما حكى اللهُ تعالى سؤالَ أصحابِ اليَمينِ للمُجرِمينَ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42 - 44].
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35).
أي: فليس لهذا الكافِرِ في هذا اليَومِ في الدَّارِ الآخِرةِ أيُّ قَريبٍ يَنفَعُه، فيَدفَعُ عَذابَ اللهِ عنه !
كما قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36).
أي: وليس لهذا الكافِرِ طَعامٌ إلَّا مِن صَديدِ أهلِ النَّارِ .
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37).
أي: لا يأكُلُ هذا الطَّعامَ إلَّا الواقِعونَ في الخَطايا عَمْدًا، مِنَ الكافِرينَ باللهِ تعالى والمُشرِكينَ به .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ للهِ على العِبادِ أن يُوحِّدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وللعبادِ بَعضِهم على بَعضٍ حَقُّ الإحسانِ والمُعاوَنةِ على البِرِّ والتَّقْوى .
2- قَولُه تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ عن أبي الدَّرْداءِ رَضِي اللهُ عنه: (أنَّه كان يحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ لأجْلِ المساكِينِ، وكان يقولُ: خلَعْنا نِصفَ السِّلسِلةِ بالإيمانِ، أفلا نخلَعُ نِصفَها الآخَرَ؟!) .
3- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ شَرَّ الخِصالِ بعْدَ الكُفرِ: البُخلُ، وقَسوةُ القَلبِ .
4- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ مدارُ السَّعادةِ ومادَّتُها أمْرانِ: الإخلاصُ للهِ -الَّذي أصلُه الإيمانُ باللهِ-، والإحسانُ إلى الخَلقِ بوُجوهِ الإحسانِ الَّتي مِن أعظَمِها دَفعُ ضَرورةِ المحتاجِينَ بإطعامِهم .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه دليلانِ قَويَّانِ على عِظَمِ الجُرمِ في حِرمانِ المساكينِ:
أحَدُهما: عَطْفُه على الكُفرِ، وجَعْلُه قرينةً له!
والثَّاني: ذِكرُ الحَضِّ دونَ الفِعلِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ تارِكَ الحَضِّ بهذه المنزلةِ، فكيف بمَن يترُكُ الفِعلَ ؟!
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه مَوعِظةٌ للمُؤمِنينَ زاجِرةٌ عن مَنعِ المساكينِ حَقَّهم في الأموالِ، وهو الحَقُّ المعروفُ في الزَّكاةِ والكفَّاراتِ وغَيرِها .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ سؤالٌ: أنَّ في سورةِ (الانشقاقِ) يقولُ اللهُ تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10] ، فكيف يمكنُ الجَمعُ بيْن قَولِه: كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وقولِه: كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ؟
الجوابُ: أنَّه يأخُذُه بشِمالِه، لكنْ تُخْلَعُ الشِّمالُ إلى الخَلفِ مِن وراءِ ظهْرِه، والجزاءُ مِن جنسِ العملِ، فكما أنَّ هذا الرَّجُلَ جَعَل كتابَ اللهِ وراءَ ظهْرِه، أُعطيَ كتابَه يومَ القيامةِ مِن وراءِ ظهْرِه؛ جزاءً وِفاقًا !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ بيَّن أنَّه لَمَّا نَظَر في كتابِه، وتذكَّرَ قبائِحَ أفعالِه، خَجِلَ منها، وصار العذابُ الحاصِلُ مِن تلك الخَجالةِ أَزْيَدَ مِن عَذابِ النَّارِ، فقال: لَيْتَهم عذَّبوني بالنَّارِ، وما عَرَضوا هذا الكتابَ الَّذي ذكَّرَني قبائِحَ أفعالي؛ حتَّى لا أقَعَ في هذه الخَجالةِ، وهذا يُنَبِّهُ على أنَّ العذابَ الرُّوحانيَّ أشَدُّ مِن العذابِ الجُسمانيِّ .
3- قَولُه تعالى: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ استُدِلَّ به على أنَّ الكافرَ يُحاسَبُ؛ لقَولِه في آخِرِ الكلامِ: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ .
4- في قَولِه تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أنَّه قد يُنْفَى الشَّيءُ الَّذي نَفْيُه يَستلزِمُ نفْيَ غيرِه، لكنْ تُذكَرُ تلك اللَّوازمُ على سبيلِ التَّصريحِ؛ للفَرقِ بيْن دَلالةِ اللَّوازِمِ ودلالةِ المُطابَقةِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة: 42] ؛ فإنَّ كلَّ مَن لَبَّسَ بالباطلِ فلا بُدَّ أنْ يَكتُمَ بعضَ الحقِّ، وهذا ليس مِن بابِ النَّهيِ عنِ المجموعِ المقتضِي لجوازِ أحدِهما! ولا مِن بابِ النَّهيِ عن فِعلَينِ مُتباينَينِ حتَّى لا يُعادَ فيه حرفُ النَّفيِ، بل هو مِن بابِ النَّهيِ عنِ المتلازِماتِ،كما يُقالُ: لا تَكْفُرْ وتُكَذِّبْ بالرَّسولِ، ولا تُجادِلْ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ !
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ دَلَّت الآيةُ على أنَّ الكُفَّارَ يُعاقَبونَ على تَركِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وهو المرادُ مِن قَولِ: إنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّرائعِ ، فقد عطَف عدمَ الحضِّ على طعامِ المسكينِ، على عدمِ الإيمانِ باللهِ العظيمِ، مِمَّا يُشيرُ إلى أنَّ الكافرَ يُعَذَّبُ على الفروعِ؛ فالإيمانُ يَزيدُ بالطَّاعةِ، والمؤمنُ يُثابُ على إيمانِه وعلى طاعتِه، وكذلك الكفرُ يَزدادُ بالمعاصي، ويُجازَى الكافرُ على كفرِه وعلى عصيانِه .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ فيه سؤالٌ: ما التَّوفيقُ بيْنه وبيْن قَولِه تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] ، وفي آخَرَ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44]، وفي آخَرَ: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174]؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ؛ منها:
الأوَّلُ: لا مُنافاةَ؛ إذ يجوزُ أن يكونَ طعامُهم جميعَ ذلك.
الثَّاني: أنَّ العذابَ أنواعٌ، والمعذَّبينَ طَبَقاتٌ؛ فمنهم أكَلَةُ غِسلِينٍ، ومنهم أكَلَةُ الضَّريعِ، ومنهم أكَلَةُ الزَّقُّومِ، ومنهم أكَلَةُ النَّارِ؛ لكُلِّ بابٍ مِنهم جزءٌ مَقسومٌ . فالاختِلافُ بحسَبِ مَن يَطْعَمُ مِن أهلِ النَّارِ؛ فمَنِ اتَّصَفَ بالصِّفةِ الأُولى فطَعامُه مِن غِسْلِينٍ، ومَنِ اتَّصَف بالثَّانيةِ فطعامُه مِن ضَريعٍ . وقيل غيرُ ذلك .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
- جُملةُ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ قيل: هي في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ (لَيتني)، والمعْنى: أنَّه كان مُكذِّبًا بالحسابِ، وهو مُقابلُ قولِ الَّذي أُوتِيَ كتابَه بيَمينِه: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 20] ، وجُملةُ الحالِ مُعترِضةٌ بيْن جُملتَي التَّمنِّي. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفًا على التَّمنِّي، أي: يا لَيتني لم أدْرِ ما حِسابِيَهْ، أي: لم أعرِفْ كُنْهَ حِسابي، أي: نَتيجتَه، وهذا وإنْ كان في معْنى التَّمنِّي الَّذي قبْلَه فإعادتُه تَكريرٌ مِن أجْلِ التَّحسُّرِ والتَّحزُّنِ .
- والاستِفهامُ في مَا حِسَابِيَهْ معْناهُ التَّعظيمُ والتَّهويلُ .
- وقوله: يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ تمَنٍّ آخَرُ، ولم يُعطَفْ على التَّمنِّي الأوَّلِ؛ لأنَّ المقصودَ التَّحسُّرُ والتَّندُّمُ .
- وجُملةُ يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مِن الكلامِ الصَّالحِ لأنْ يكونَ مَثلًا؛ لإيجازِه، ووَفْرةِ دَلالتِه، ورَشاقةِ معْناه، عبَّرَ بها عمَّا يقولُه مَن أُوتِيَ كتابَه بشِمالِه مِن التَّحسُّرِ بالعبارةِ الَّتي يَقولُها المتحسِّرُ في الدُّنيا بكلامٍ عَربيٍّ يُؤدِّي المعْنى المقصودَ .
- قولُه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ يَجوزُ أنْ يكونَ نفْيًا مَحضًا، ومَفعولُ أَغْنَى مَحذوفٌ للتَّعميمِ؛ أخبَرَ بذلك مُتأسِّفًا على مالِه حيثُ لم يَنفَعْه. ويجوزُ أنْ يكونَ استِفهامًا للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ وبَّخَ به نفْسَه، وقرَّرها عليه .
- قولُه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ يقولُ ذلك مَن كان ذا مالٍ وذا سُلطانٍ مِن ذلك الفريقِ مِن جميعِ أهلِ الإشراكِ والكفْرِ، فما ظنُّك بحسرةِ مَنِ اتَّبَعوهم واقتَدَوا بهم إذا رَأَوهم كذلك؟! وفي هذا تَعريضٌ بسادةِ مُشرِكي العرَبِ مِثلِ أبي جَهلٍ وأُميَّةَ بنِ خلَفٍ؛ قال الله تبارك وتعالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] .
- وضُمِّنَ (هَلَكَ) معْنى (غاب)؛ فعُدِّيَ بـ (عن)، أي: لم يَحْضُرني سُلْطاني الَّذي عهِدْتُه .
2- قولُه تعالَى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ
- قولُه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ مَقولٌ لقولٍ مَحذوفٍ مَوقعُه في مَوقعِ الحالِ مِن ضَميرِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] ، والتَّقديرُ: يُقالُ: خُذُوه. ومَعلومٌ مِن المقامِ أنَّ المأمورينَ بأنْ يَأخُذوه هم الملائكةُ الموكَّلونَ بسَوقِ أهلِ الحسابِ إلى ما أُعِدَّ لهم . أو جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للإجابةِ عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ؛ كأنَّه قِيل: وما يُفعَلُ به بعْدَ هذا التَّحسُّرِ الصَّادرِ عنه؟ فقِيل: يُقالُ: خُذُوه .
- وقولُه: فَغُلُّوهُ عُطِفَ بفاءِ التَّعقيبِ؛ لإفادةِ الإسراعِ بوَضْعِه في الأغلالِ عَقِبَ أخْذِه .
- قولُه: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ فيه تَقديمُ الجحيمِ على عامِلِه؛ لتَعجيلِ المَساءةِ، مع الرِّعايةِ على الفاصلةِ، وكذلك تَقديمُ فِي سِلْسِلَةٍ على عامِلِه . أو تَقديمُ الجَحيمِ للدَّلالةِ على التَّخصيصِ، والاهتِمامِ بذِكرِ أنواعِ ما يُعذَّبُ به، وكذلك تَقديمُ فِي سِلْسِلَةٍ، أي: لا تَسلُكوه إلَّا في هذه السِّلسلةِ .
ثُمَّ مِن قولِه: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ للتَّراخي الرُّتبيِّ بالنِّسبةِ لمَضمونِ الجُملتينِ قبْلَها؛ لأنَّ مَضمونَ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا أعظَمُ مِن مَضمونِ فَغُلُّوهُ، ومَضمونَ فَاسْلُكُوهُ دلَّ على إدخالِه الجحيمَ، فكان إسلاكُه في تلك السِّلسلةِ أعظَمَ مِن مُطلَقِ إسلاكِه الجحيمَ .
- أو يُمكِنُ بَقاءُ (ثُمَّ) على مَوضوعِها مِن الدَّلالةِ على المهْلةِ الزَّمانيَّةِ، وأنَّه أوَّلًا يُؤخَذُ فيُغَلُّ، ولَمَّا لم يُعذَّبْ بالعَجَلةِ، صارت له استراحةٌ، ثمَّ جاء تَصليةُ الجَحيمِ، فكان ذلك أبلَغَ في عَذابِه؛ إذ جاءَه ذلك وقد سَكَنَت نفْسُه قليلًا، ثمَّ جاء سَلْكُه بعْدَ ذلك بعْدَ كَونِه مَغلولًا مُعذَّبًا في النَّارِ، لكنَّه كان له انتقالٌ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، فيَجِدُ بذلك بَعضَ تَنفُّسٍ، فلمَّا سُلِكَ في السِّلسلةِ كان ذلك أشدَّ ما عليه مِن العذابِ، حيثُ صار لا حِراكَ له ولا انتقالَ، وأنَّه يُضيَّقُ عليه غايةً، فهذا يَصِحُّ فيه أنْ تكونَ (ثُمَّ) على مَوضوعِها مِن المهْلةِ الزَّمانيَّةِ .
- وجُملةُ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا صِفةُ سِلْسِلَةٍ، وهذه الصِّفةُ وَقَعَت مُعترِضةً بيْن المجرورِ ومُتعلَّقِه؛ للتَّهويلِ على المشرِكين المكذِّبين بالقارعةِ، وليست الجُملةُ ممَّا خُوطِبَ الملائكةُ الموكَّلونَ بسَوقِ المجْرِمين إلى العَذابِ؛ قيل: ولذلك فعَدَدُ السَّبعينَ مُستعمَلٌ في معْنى الكثرةِ على طَريقةِ الكِنايةِ .
- قيل: وفي تَخصيصِ الطُّولِ بسَبعينَ ذِراعًا مُبالَغةٌ في إرادةِ الوصْفِ بالطُّولِ؛ لأنَّ السِّلسلةَ كلَّما طالت كان الإرهاقُ أشَدَّ، والعذابُ أمَضَّ، كأنَّ السِّلسةَ أفظَعُ مِن سائرِ أدواتِ الإرهاقِ؛ لأنَّها لَمَّا الْتَفَّت عليه تَضاعيفُها، صارت كأنَّها وِعاءٌ له .
- واقترانُ فِعلِ فَاسْلُكُوهُ بالفاءِ؛ إمَّا لتَأكيدِ الفاءِ الَّتي اقتَرَنَت بفِعلِ فَغُلُّوهُ، وإمَّا للإيذانِ بأنَّ الفِعلَ مُنزَّلٌ مَنزلةَ جَزاءِ شرْطٍ مَحذوفٍ، وهذا الحذْفُ يُشعِرُ به تَقديمُ المعمولِ غالبًا، كأنَّه قِيل: مهْما فعَلْتُم به شَيئًا فاسْلُكوه في سِلسلةٍ، أو مهْما يكُنْ شَيءٌ فاسْلُكوه، والمقصودُ تأْكيدُ وُقوعِ ذلك، والحثُّ على عدَمِ التَّفريطِ في الفعلِ، وأنَّه لا يُرْجى له تَخفيفٌ .
3- قولُه تعالَى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ
- جُملةُ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ بدَأَ بأقْوى أسبابِ تَعذيبِه، وهو كفْرُه باللهِ، وهو في مَوضعِ العِلَّةِ للأمْرِ بأخْذِه وإصلائِه الجحيمَ على طَريقةِ الاستِئنافِ للمُبالَغةِ -لأنَّ السُّؤالَ المقدَّرَ فيه تَكثيرٌ للمعْنى مع تَقليلِ لَفظِه-، كأنَّ قائلًا قال: لِمَ يُعذَّبُ هذا العذابَ البليغَ الشَّديدَ؟ فأُجِيبَ وقيل: إنَّه كان لا يُؤمِنُ .
- ووصْفُ اللهِ سُبحانَه بالعظيمِ هنا إيماءٌ إلى مُناسَبةِ عِظَمِ العذابِ للذَّنْبِ؛ إذ كان الذَّنْبُ كُفرانًا بعَظيمٍ، فكان جَزاءً وِفاقًا .
- وقدْ جُعِل عدَمُ الحضِّ على طَعامِ المسكينِ مُبالَغةً في شُحِّ هذا الشَّخصِ عن المساكينِ بمالِ غيرِه، وكِنايةً عن الشُّحِّ عنهم بمالِه .
- ولعلَّ تَخصيصَ الأمْرَينِ بالذِّكرِ؛ لأنَّ أقبحَ العقائدِ الكفرُ باللهِ تَعالى، وأشنعَ الرَّذائلِ البُخلُ وقَسوةُ القلبِ .
- وأضافَ الطَّعامَ إلى المسكينِ مِن حيث لم يَنسُبْه إليه؛ إذ يَستحِقُّ المسكينُ حقًّا في مالِ الغنيِّ الموسِرِ ولو بأدْنى يَسارٍ .
- قولُه: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ مِن تَمامِ الكلامِ الَّذي ابتُدِئَ بقولِه: خُذُوهُ، وتَفريعٌ عليه، والمقصودُ منه أنْ يَسمَعَه مَن أُوتِيَ كِتابَه بشِمالِه، فيَيأَسَ مِن أنْ يَجِدَ مُدافِعًا يَدفَعُ عنه بشفاعةٍ، وتَنديمٌ له على ما أضاعَهُ في حَياتِه مِن التَّزلُّفِ إلى الأصنامِ وسَدَنتِها، وتَمويهِهم عليه أنَّه يَجِدُهم عندَ الشَّدائدِ وإلْمامِ المصائبِ، وهذا وجْهُ تَقييدِ نفْيِ الحميمِ باليومِ؛ تَعريضًا بأنَّ أحِمَّاءَهُم في الدُّنيا لا يَنفَعونَهم اليومَ، كما قال تعالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] ، وقولُه عنهم: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف: 53] ، وغيرُ ذلك ممَّا تفرَّقَ في آيِ القرآنِ الكريمِ .
- والحميمُ: القريبُ، قيل: هو هنا كِنايةٌ عن النَّصيرِ؛ إذ المتعارَفُ عندَ العرَبِ أنَّ أنصارَ المرْءِ هم عَشيرتُه وقَبيلتُه .
- وتَعريفُ الْخَاطِئُونَ للدَّلالةِ على الكَمالِ في الوَصْفِ، أي: المرْتَكِبون أشدَّ الخطَأِ، وهو الإشراكُ .