موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (26-29)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

تُشَاقُّونَ: أي: تُخالِفونَ، وتُعادونَ، وتُخاصمونَ، والمشاقةُ عبارةٌ عن كونِ كلِّ واحدٍ مِن الخَصمينِ في شقٍّ غيرِ شقِّ صاحبِه، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ .
السَّلَمَ: أي: الاستِسلامَ والانقيادَ .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: قد مكرَ الكُفَّارُ مِن قَبْلِ مُشرِكي قريشٍ مكرًا شديدًا برُسُلِهم، فأتى اللهُ بُنيانَهم مِن أساسِه وقاعِدتِه، فسقطَ عليهم السَّقفُ مِن فَوقِهم، فأهلكَهم اللهُ من حيثُ لا يحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ. ثمَّ يومَ القيامةِ يَفضَحُهم اللهُ ويُذِلُّهم، ويَقولُ: أين ما كنتُم تعبُدون مِن دُوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؛ فلْيَدفَعوا عنكم العذابَ.
 ثمَّ حكى سُبحانَه ما يَقولُه أولو العِلمِ في هذا الموقِفِ الهائلِ الشَّديدِ، حيث قالُوا: إنَّ الذُّلَّ في هذا اليَومِ والعذابَ على الكافرينَ، الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم في حالِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي، فاستسلَموا لأمرِ اللهِ حين عايَنوا الموتَ، وقالوا: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نَعمَلُ شَيئًا مِن المعاصي، فيُقالُ لهم: كَذَبتُم، قد كُنتم تَعمَلون السُّوءَ، إنَّ اللهَ عليمٌ بأعمالِكم كُلِّها، وسيُجازيكم عليها، فادخُلوا أبوابَ جَهنَّم ماكثينَ فيها أبدًا، فلَبِئسَ منزلُ الذينَ تكبَّروا عن الإيمانِ باللهِ وتوحيده: نارُ جهنَّمَ!

تفسير الآيات:

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى عاقِبةَ إضلالِ المُشرِكينَ، وصَدِّهم السَّائلينَ عن القُرآنِ والإسلامِ في الآخِرةِ؛ أتبَعَه بالتَّهديدِ بأنْ يقَعَ لهم ما وقَعَ فيه أمثالُهم في الدُّنيا مِن الخِزيِ والعذابِ، مع التَّأييسِ مِن أن يَبلُغوا بصُنعِهم ذلك مبلَغَ مُرادِهم، وأنَّهم خائِبونَ في صُنعِهم، كما خابَ مِن قَبلِهم الذين مَكَروا برُسُلِهم .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ.
أي: قد مكرَ الكُفَّارُ- الذين كانوا مِن قَبلِ مُشرِكي قُرَيشٍ- بالرُّسُلِ وأتباعِهم، وصَدُّوا النَّاسَ عن دِينِ اللهِ، فأتاهم عذابُ اللهِ الذي اجتَثَّ بُنيانَهم مِن أصلِه وأساسِه .
كما قال تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا [الرعد: 42] .
وقال سُبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: 46] .
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ.
أي: فسقَطَ السَّقفُ على أولئك الكُفَّارِ مِن فَوقِ رُؤوسِهم، فأهلَكَهم اللهُ .
وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
أي: وأتاهم عذابُ اللهِ بَغتةً مِن حيثُ لا يَحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ؛ إذ ظَنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه .
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ سُبحانَه وتعالى حالَ المكَرَةِ المتمَرِّدينَ عليه في الدُّنيا، أخَذ يذكُرُ حالَهم في الآخرةِ؛ تقريرًا للآخرةِ، وبيانًا لأنَّ عَذابَهم غيرُ مَقصورٍ على الدُّنيويِّ .
وأيضًا فإنَّها عطفٌ على لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النحل: 25] ؛ لأنَّ ذلك وعيدٌ لهم، وهذا تكملةٌ له .
   ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ.
أي: ثُمَّ يومَ القيامةِ يُذِلُّ اللهُ الكافرينَ ويُهينُهم بالعذابِ، ويُظهِرُ فَضائِحَهم، فما كانت تُخفِيه ضمائِرُهم يَجعَلُه علانِيَةً .
وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.
أي: ويَقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للمُشرِكينَ: أين الذين كُنتُم تَعبُدونَهم في الدُّنيا، وتَزعُمونَ أنَّهم شُركائي، وتتَّخِذونَهم أولياءَ مِن دوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؟! فلْيَدفَعوا عنكم هذا العَذابَ .
قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: قال الذينَ آتاهم اللهُ العِلمَ: إنَّ الذِّلَّةَ والهَوانَ يومَ القيامةِ والعذابَ كائِنٌ على الكافِرينَ .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ حُلولِ العَذابِ بمَن حَلَّ بهم الاستِئصالُ، وما يحُلُّ بهم يومَ القِيامةِ؛ ذكَرَ حالةَ وَفاتِهم التي هي بين حالَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، وهي حالٌ تَعرِضُ لجَميعِهم، سَواءٌ منهم مَن أدرَكَه الاستِئصالُ ومَن هلك قبلَ ذلك .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
أي: إنَّ الخِزيَ والسُّوءَ على الكافِرينَ الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم ظالِمونَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فأورَدوها بذلك موارِدَ الهَلاكِ .
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.
أي: فاستسلَمَ أولئك الظَّالِمونَ عندَ المَوتِ لله، وانقادُوا لطاعةِ رَبِّهم حين عايَنوا المَوتَ، وقالوا للمَلائِكةِ الذين يَقبِضونَ أرواحَهم، مُنكِرينَ كُفرَهم ومَعاصِيَهم: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نُشرِكُ به ولا نَعصِيه !
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] .
بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: فيُقالُ لهم: ليس الأمرُ كما تَزعُمونَ، بل كُنتُم تَعمَلونَ السُّوءَ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بالذي كُنتُم تَعمَلونَه مِن الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فلا ينفَعُكم إنكارُكم، وسيُجازيكم على أعمالِكم .
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّها تَفريعٌ على إبطالِ نَفيِ المُشرِكينَ عمَلَ السُّوءِ؛ لأنَّ إثباتَ كَونِهم كانوا يَعمَلونَ السُّوءَ يقتضي استِحقاقَهم العذابَ، وذلك عندما كشفَ لهم عن مَقَرِّهم الأخيرِ .
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: يُقالُ لهم: ادخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ، فكُلٌّ منكم يُعذَّبُ في طبقةٍ مِن طَبقاتِها بحسَبِ عمَلِه، ماكثينَ في جهنَّمَ أبدًا .
كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] .
فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
أي: فلَبِئسَ مَنزِلُ المتكبِّرينَ عن الإيمانِ باللهِ وتَوحيدِه، نارُ جهنَّمَ .
كما قال تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران: 151] .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فيه فَضيلةُ أهلِ العِلمِ، وأنَّهم النَّاطِقونَ بالحَقِّ في هذه الدُّنيا، ويومَ يَقومُ الأشهادُ، وأنَّ لِقَولِهم اعتِبارًا عندَ اللهِ، وعند خَلقِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- الإتيانُ والمَجيءُ مِن اللهِ تعالى نوعانِ: مُطلَقٌ ومُقَيَّدٌ.
النوعُ الأولُ: المَجيءُ والإتيانُ المقيَّدُ، كأن يُقيَّدَ المجيءُ بمجيءِ رَحمتِه أو عذابِه وغيرِ ذلك، ومِن المقيَّدِ قولُه تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف: 52] ، وقولُه تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون: 71] .
النوعُ الثاني: المجيءُ والإتيانُ المُطلَقُ، كقَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] ، وقَولِه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وهذا لا يكونُ إلَّا مَجيئَه سُبحانَه، هذا إذا كان مُطلَقًا، فكيف إذا قُيِّدَ بما يجعَلُه صريحًا في مجيئِه نَفسِه، كقَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] ، فعَطَفَ مَجيئَه على مجيءِ الملائِكةِ، ثمَّ عطَفَ مَجيءَ آياتِه على مَجيئِه.
ومِنَ المجيءِ المُقَيَّدِ قَولُه تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فلمَّا قَيَّده بالمفعولِ- وهو البُنيانُ- وبالمجرورِ- وهو القَواعِدُ- دلَّ ذلك على مجيءِ ما بيَّنَه؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ- سُبحانَه وتعالى- إذا جاء بنَفسِه، لا يَجيءُ مِن أساسِ الحِيطانِ وأسفَلِها، وهذا يُشبِهُ قَولَه تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فهذا مجيءٌ مُقَيَّدٌ لِقَومٍ مَخصوصينَ، قد أوقَعَ بهم بأسَه، وعَلِمَ السَّامِعونَ أنَّ جُنودَه مِن المَلائِكةِ والمُسلِمينَ أَتَوهم، فكان في هذا السِّياقِ ما يدُلُّ على المرادِ، على أنَّه لا يمتَنِعُ في الآيتَينِ أن يكونَ الإتيانُ على حَقيقتِه، ويكونَ ذلك دُنُوًّا ممَّن يُريدُ إهلاكَهم بغَضَبِه وانتِقامِه، كما يَدنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ مِن الحُجَّاجِ برَحمتِه .
2- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عدلَ عن أن يقولَ: (أعداؤُهم) أو (المُؤمِنونَ) ونحوُه؛ إجلالًا لهم بوَصفِهم بالعِلمِ الذي هو أشرَفُ الصِّفاتِ؛ لِكَونِه مَنشأَ كُلِّ فَضيلةٍ، وتَعريضًا بأنَّ الحامِلَ للكُفَّارِ على الاستِكبارِ الجَهلُ الذي هو سبَبُ كُلِّ رَذيلةٍ .
3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إن قيلَ: هذه الآياتُ تدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ يكتُمونَ يومَ القيامةِ ما كانوا عليه مِن الكُفرِ والمعاصي، كقَولِه تعالى عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقَولِه تعالى عنهم: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، ونحوِ ذلك، مع أنَّ اللهَ صَرَّحَ بأنَّهم لا يَكتُمونَ حَديثًا في قَولِه تعالى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] .
فالجوابُ: هو أنَّهم يقولونَ بألسِنَتِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيَختِمُ اللهُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ أيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يَكسِبونَ، فالكَتمُ باعتِبارِ النُّطقِ بالجُحودِ وبالألسِنةِ، وعدمُ الكَتمِ باعتبارِ شَهادةِ أعضائِهم عليهم، وهذا الجمعُ يُشيرُ إليه قولُه تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] . وأجاب بعضُ العلماءِ بتعدُّدِ الأماكنِ، فيكتمونَ في وقتٍ، ولا يكتمونَ في وقتٍ آخرَ، والعلم عند الله تعالى .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يدُلُّ على تَفاوُتِ مَنازِلِهم في العِقابِ، فيكونُ عِقابُ بَعضِهم أعظَمَ مِن عِقابِ بَعضٍ .
5- قال الله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ إنَّما صرَّحَ تعالى بذِكرِ الخُلودِ؛ ليَكونَ الغَمُّ والحُزنُ أعظَمَ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَصفُ التكَبُّرِ دَليلٌ على استِحقاقِ صاحِبِه النَّارَ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
- قولُه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه تَشبيهٌ، حيث شُبِّهَت حالُ أولئك الماكِرينَ في تَسويتِهم المكايدَ؛ للإيقاعِ بالرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وفي إبطالِه تعالى تلك الحيلَ، وجَعْلِه إيَّاها أسبابًا لهلاكِهم، بحالِ قومٍ بَنَوا بُنيانًا وعَمَدوه بالأساطينِ، فأُتِيَ ذلك مِن قِبَلِ أساطينِه بأنْ ضُعْضِعَت، فسقَطَ عليهم السَّقفُ فهَلَكوا؛ ووَجْهُ الشَّبهِ: أنَّ ما عَدُّوه سبَبَ بقائِهم، عاد سبَبَ استئصالِهم وفَنائِهم، كقولِهم: مَن حفَرَ لأخيه جُبًّا، وقَعَ فيه مُنكبًّا ، وهذا الوجهُ على اعتبارِ أنَّ المذكورَ مِن بابِ المثلِ.
- وقولُه: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه احتراسٌ، حيث أتَى بذِكْرِ مِنْ فَوْقِهِمْ مع أنَّ السَّقفَ لا يكونُ إلَّا مِن فوق؛ للاحتراسِ من احتمالِ أنَّ السَّقفَ قد يكونُ أرضًا بالنِّسبةِ لغيرِهم؛ فإنَّ كثيرًا من السُّقوفِ يكونُ أرضًا لقومٍ وسَقفًا لقومٍ آخرينَ؛ فرفَعَ اللهُ تعالى هذا الاحتمالَ بجُملتَينِ، وهما قولُه: عَلَيْهِمُ، وقولُه: خَرَّ؛ لأنَّها لا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فيما يهبِطُ أو يسقُطُ مِن العُلوِّ إلى السُّفلِ . وقولُه: مِنْ فَوْقِهِمْ تأكيدٌ لجُملةِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ . وقيل: إنَّ السَّقفَ رُبَّما يخِرُّ ولا يكونُ تحتَه أحَدٌ، فلمَّا قال: مِنْ فَوْقِهِمْ، عُلِم أنَّهم كانوا تَحتَه، فخرَّ عليهم فأُهلِكوا جميعًا .
2- قوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ فيه الجَمعُ بينَ الإهانةِ بالفعلِ، والإهانةِ بالقولِ بالتَّقريعِ والتَّوبيخِ، وأضاف تَعالى الشُّركاءَ إليه، والإضافةُ تكونُ بأدْنَى مُلابَسةٍ، والمعنى: شُركائي في زَعمِكم؛ فالإضافةُ إلى نفْسِه حكايةٌ لإضافتِهم؛ ليُوبِّخَهم بها على طريقِ الاستهزاءِ بهم ، وهو أقطَعُ في تَوبيخِهم، وأدَلُّ على تناهي الغَضَبِ .
-  وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الاستفهامُ عن المكانِ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامُ تَهكُّمٍ؛ ليظهَرَ لهم كالطَّماعيَةِ للبحثِ عن آلهتِهم، وهم عَلِموا أنْ لا وُجودَ لهم، ولا مكانَ لحُلولِهم .
- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، ثُمَّ للإيماءِ إلى ما بينَ الجَزاءَينِ مِن التَّفاوُتِ، مع ما يدُلُّ عليه من التَّراخي الزَّمانيِّ. وتَغييرُ السَّبكِ بتقديمِ الظَّرفِ يَوْمَ ليس لقَصرِ الخِزْيِ على يومِ القيامةِ- كما هو المُتبادِرُ مِن تَقديمِ الظَّرفِ على الفعلِ- بل لأنَّ الإخبارَ بجزائِهم في الدُّنيا مُؤْذِنٌ بأنَّ لهم جزاءً أُخروِيًّا، فتبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً إلى وُرودِه، سائلةً عنه بأنَّه ماذا؟ مع تَيقُّنِها بأنَّه في الآخرةِ؛ فسيقَ الكلامُ على وَجْهٍ يُؤْذِنُ بأنَّ المقصودَ بالذِّكرِ إخزاؤُهم، لا كونُه يومَ القيامةِ .
- قولُه: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ هذا القولُ قاله الَّذين أُوتوا العلمَ؛ توبيخًا لهم، وإظهارًا للشَّماتةِ بهم، وتَقريرًا لِمَا كانوا يَعِظونهم، وتحقيقًا لِمَا أَوعَدوهم به. وإيثارُ صِيغَةِ الماضي قَالَ؛ للدَّلالةِ على تَحقُّقِه وتَحتُّمِ وُقوعِه، حسْبَما هو المُعتادُ في إخبارِه سُبحانَه .
- وإيرادُ الظَّرفِ الْيَوْمَ؛ للإشعارِ بأنَّهم كانوا قبلَ ذلك في عِزَّةٍ وشِقاقٍ .
- وَجِيءَ بجُملةِ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غيرَ معطوفةٍ؛ لأنَّها واقعةٌ مَوقِعَ الجوابِ لقولِه: أَيْنَ شُرَكَائِيَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الَّذين أُوتوا العلمَ ابْتَدروا الجوابَ لَمَّا وجَمَ المُشركونَ، فلم يُحِيروا جوابًا، فأجاب الَّذين أُوتوا العلمَ جوابًا جامعًا؛ لنَفيِ أنْ يكونَ الشُّركاءُ المَزْعومون مُغْنِينَ عن الَّذين أشركوا شيئًا، وأنَّ الخِزيَ والسُّوءَ أحاطَا بالكافِرين .
- وقولُه: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ يدُلُّ على حَصرِ الخزيِ والضَّرِّ يومَ القيامةِ في الكونِ على الكافرينَ، وهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لبُلوغِ المُعرَّفِ بلامِ الجنسِ الْخِزْيَ حَدَّ النِّهايةِ في جنسِه، حتَّى كأنَّ غيرَه من جنسِه ليس من ذلك الجنسِ. وتأكيدُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ إِنَّ، وبصِيغَةِ القصرِ، والإتيانُ بحَرفِ الاستعلاءِ عَلَى الدَّالِّ على تمكُّنِ الخزيِ والسُّوءِ منهم: يفيدُ معنى التَّعجُّبِ مِن هَولِ ما أُعِدَّ لهم .
3- قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ... فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارِعِ تَتَوَفَّاهُمُ؛ لاستحضارِ صُورةِ تَوفِّيهم إيَّاهم لِمَا فيها مِن الهَولِ. والعُدولُ إلى صِيغَةِ الماضي فَأَلْقَوُا؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ الوُقوعِ .
- قولُه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هو عطفٌ على قولِه: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ... وما بينهما- يعني قولَه تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ- جُملةٌ اعتراضيَّةٌ جِيءَ بها؛ تحقيقًا لِمَا حاق بهم من الخِزيِ على رُؤوسِ الأشهادِ .
4- قوله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
- جُملةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذييلٌ، ولم يُعبِّرْ عن جهنَّمَ بالدَّارِ كما عبَّرَ عن الجنَّةِ فيما يأتي بقولِه تعالى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ؛ تَحقيرًا لهم، وأنَّهم ليسوا في جَهنَّمَ بمنزلةِ أهلِ الدَّارِ، بل هم مُتراصُّونَ في النَّارِ وهم في مَثْوًى، أي: محَلِّ ثَواءٍ . وذِكْرُهم بعُنوانِ التَّكبُّرِ للإشعارِ بعِلِّيتِه لثَوائِهم فيها .
- قولُه: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الزُّمرِ: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72] ، وقال في سُورةِ غافرٍ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 76] ؛ فخُصَّتِ الآيةُ في سُورةِ النَّحلِ وحدَها بدُخولِ اللَّامِ على (بِئْسَ) فيها، وخَلَتِ الآيتانِ مِن السُّورتينِ منها؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ من هذه السُّورةِ في ذِكْرِ قومٍ قد ضَلُّوا في أنفُسِهم وأضَلُّوا غيرَهم، وهم الَّذين أخبَرَ اللهُ تعالى عن أتباعِهم أنَّهم سأَلُوهم عن القُرآنِ، فقالوا: ليس من عند اللهِ، وإنَّما هو أساطيرُ الأوَّلينَ، وهؤلاء أكثرُ النَّاسِ وأشَدُّهم آثامًا، وأشدُّهم عِقابًا، ومَن هذه صِفَتُه احْتِيجَ عند تَغليظِ العِقابِ له إلى المُبالغةِ في تأكيدِ لفظِه، فاختِيرَت اللَّامُ هنا لذلك، ولأنَّ بعدها في ذِكْرِ أهلِ الجنَّةِ قولَه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] ؛ فاللَّامُ في وَلَنِعْمَ بإزاءِ اللَّامِ في لَبِئْسَ، وليس كذلك الآيتانُ في سُورتيِ الزُّمَرِ وغافرٍ؛ لأنَّهما في ذِكْرِ جُملةِ الكُفَّارِ؛ فلمَّا كان المَذكورونَ في سُورةِ النَّحلِ ممَّن لزِمَهم وِزْرانِ؛ عن ذُنوبِهم الَّتي أَتَوها، وعن ذُنوبِ غيرِهم الَّتي حملوا عليها، ولم يذكُرْ مَن سِواهم في الآيتينِ الأُخريينِ بحمْلِ أثقالِهم: حسُنَ التَّوكيدُ هناك فضلَ حُسنٍ؛ فلذلك خُصَّ باللَّامِ . وقيل غير ذلك .