موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (30-32)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: وقيلَ للمُتَّقين: ما الذي أنزلَ اللهُ على النبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا: أنزلَ اللهُ عليه القُرآنَ، وهو الخيرُ والهُدى. للَّذينَ آمنُوا باللهِ ورَسولِه وأحسَنوا في هذه الدُّنيا ثوابٌ حَسَنٌ؛ مِن النَّصرِ وسَعةِ الرِّزقِ، وغيرِ ذلك مِن خيرِ الدُّنيا، ولَدارُ الآخرةِ لهم خَيرٌ وأعظَمُ ممَّا أُوتوه في الدُّنيا، ولَنِعمَ دارُ المتَّقين في الآخرةِ جنَّاتُ إقامةٍ لهم، يستَقِرُّون فيها تجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، لهم فيها كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم. مِثلَ هذا الجزاءِ الطَّيِّبِ يَجزي اللهُ المتَّقين الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم طاهرينَ مِن الكُفرِ والمعاصي، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلامٌ عليكم، ادخُلوا الجنَّةَ بما كُنتُم تَعمَلونَ مِن الإيمانِ باللهِ والأعمالِ الصَّالحةِ.

تفسير الآيات:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِيلَ المُكَذِّبينَ بما أنزَلَ اللهُ؛ ذكَرَ ما قالَه المتَّقونَ، وأنَّهم اعتَرَفوا وأقَرُّوا بأنَّ ما أنزَلَه اللهُ نِعمةٌ عَظيمةٌ، وخَيرٌ عَظيمٌ امتَنَّ اللهُ به على العِبادِ، فقَبِلوا تلك النِّعمةَ، وتلَقَّوها بالقَبولِ والانقيادِ، وشَكَروا اللهَ عليها، فعَلِموها وعَمِلوا لها [365] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:439). ، فلمَّا افْتُتِحَت صِفَةُ سيِّئاتِ الكافرينَ وعواقِبِها بأنَّهم إذا قيل لهم: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، جاءت هنا مُقابَلةُ حالِهم بحالِ حَسناتِ المُؤمنينَ، وحُسْنِ عواقبِها؛ فافْتُتِحَ ذلك بمُقابلِ ما افْتُتِحَت به قِصَّةُ الكافرينَ، فجاء التَّنظيرُ بين القِصَّتينِ في أبدعِ نَظمٍ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/141). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ في الدُّنيا والآخرةِ، ذكَرَ حالَ المؤمِنينَ في الدارَينِ، فقال تعالى [367] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/526). :
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا.
أي: وقيلَ للمُتَّقينَ: ماذا أنزَلَ ربُّكم مِن الوَحيِ على نَبيِّه مُحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ قالوا: أنزَلَ اللهُ خَيرًا عَظيمًا في الدُّنيا والآخِرةِ- وهو القُرآنُ- رَحمةً وهُدًى وبَرَكةً لِمَن آمنَ به واتَّبَعَه [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/210)، ((تفسير القرطبي)) (10/100)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/141)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/369). قال ابنُ عاشور في قولِه: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا: (المرادُ بهم المُؤمِنونَ المعهودونَ في مكَّة، فالموصولُ للعَهدِ. والمعنى: أنَّ المؤمنينَ سُئِلوا عن القرآن ومَن جاء به، فأرشدوا السائلينَ، ولم يتردَّدوا في الكَشفِ عن حقيقةِ القرآنِ بأوجَزِ بيانٍ وأجمَعِه، وهو كلمةُ خَيْرًا المنصوبةُ؛ فإنَّ لَفظَها شامِلٌ لكُلِّ خيرٍ في الدنيا وكلِّ خيرٍ في الآخرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/141). .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.
أي: للمُؤمِنينَ الذين أحسَنوا [369] قال ابنُ عطيةَ: (واختلف المتأوِّلون في قولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا... إلى آخر الآية، فقالت فِرقةٌ: هو ابتداءُ كلامٍ مِن اللهِ مَقطوعٌ مِمَّا قبله، لكنَّه بالمعنى وعدٌ متَّصِلٌ بذِكرِ إحسانِ المتَّقين في مقالتِهم، وقالت فرقةٌ: هو من كلامِ الذين قالوا خيرًا، وهو تفسيرٌ للخيرِ الذي أنزل اللهُ في الوحي على نبيِّنا، خبرًا أنَّ مَن أحسَنَ في الدنيا بطاعةٍ فله حسنةٌ في الدنيا ونعيمٌ في الآخرةِ بدُخول الجنَّةِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/390). وممن اختار الأوَّل، وهو أنَّه ابتداءُ كلامٍ مِن الله: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، والواحدي، والخازن، والعليمي، والقاسمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/467)، ((تفسير ابن جرير)) (14/210)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 605)، ((تفسير الخازن)) (3/74)، ((تفسير العليمي)) (4/20)، ((تفسير القاسمي)) (6/365)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/142). وممن اختار أنَّه مِن كلامِ الذين اتَّقَوا: الزمخشري، والرسعني، والرازي، وابنُ جزي، وأبو حيان، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/603)، ((تفسير الرسعني)) (4/25)، ((تفسير الرازي)) (20/201)، ((تفسير ابن جزي)) (1/425)، ((تفسير أبي حيان)) (6/526)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568). في عِبادةِ اللهِ، وأحسَنوا إلى عِبادِ اللهِ، ثوابٌ حَسَنٌ عاجِلٌ في الدُّنيا، بالحياةِ الطَّيِّبةِ والرِّزقِ الحسَنِ، وحُصولِ السُّرورِ، وتحَقُّقِ السَّعادةِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/210)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 47)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/142). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] .
وقال سُبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [الزمر: 10] .
وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كانت دارُ الدُّنيا سريعةَ الزَّوالِ، أخبَرَ عن حالِهم في الآخرةِ، فقال:
وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.
أي: ولَجزاءُ المُؤمِنينَ في الدَّارِ الآخرةِ في الجنَّةِ خَيرٌ لهم مِن الجزاءِ المُعَجَّلِ لهم في دارِ الدُّنيا [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/210)، ((تفسير القرطبي)) (10/101)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/142)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/370).   .
كما قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] .
وقال سُبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص: 80] .
وقال عزَّ وجلَّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16-17] .
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
أي: ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقينَ- الذين يَمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ، ويَجتَنِبونَ نواهيَه- الجنةُ في الآخرةِ [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/143)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/371). .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان المَدحُ في قَولِه: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ مُشَوِّقًا لتفصيلِ ذلك، قيلَ هنا [373] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/147). :
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: بَساتينُ إقامةٍ يَدخُلُها المُتَّقونَ، ولا يَرحَلونَ عنها، تَجري مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ [374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/211، 212)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/372).  .
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ.
أي: للمتَّقينَ في جناتِ عدنٍ كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم وما يُريدونَه [375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/212)، ((تفسير القرطبي)) (10/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439).  .
كما قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] .
كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ.
أي: مِثلَ هذا الجَزاءِ الحسَنِ يَجزي اللهُ كُلَّ مَن آمنَ به واتَّقاه، وأحسَنَ عَمَلَه [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/212)، ((تفسير القرطبي)) (10/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439).  .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى عاد إلى وَصفِ المتَّقينَ، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ في مُقابلةِ قَولِه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [377] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/202). [النحل: 28] .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكر الْمُتَّقِينَ في الآيةِ السَّابقةِ، حَثَّ هنا على مُلازَمةِ التَّقوى بالتَّنبيهِ على أنَّ العِبرةَ بحالِ المَوتِ، فقال تعالى [378] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/148). :
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ.
أي: يَجزي اللهُ بذلك المتَّقينَ الذين تَقبِضُ ملائِكةُ المَوتِ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم طَيِّبونَ بطَهارتِهم من الشِّركِ والمعاصي، ومِن كُلِّ ما يُخِلُّ بإيمانِهم [379] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/212)، ((تفسير ابن كثير)) (4/568، 569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/373).  .
يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ.
أي: تقولُ ملائِكةُ الموتِ للمُتَّقينَ عند قَبضِ أرواحِهم: سَلامٌ عليكم، تحيَّةٌ كامِلةٌ لكم، وسَلامةٌ لكم مِن كُلِّ مَكروهٍ وآفةٍ [380] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/213)، ((تفسير ابن كثير)) (4/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/144). قال السعدي: (يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ أي: التحيةُ الكاملةُ حاصلةٌ لكم، والسلامةُ مِن كلِّ آفةٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 439). .
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ويقولون أيضًا: ادخُلوا الجنَّةَ بسبَبِ ما كُنتُم تَعمَلونَه في حياتِكم الدُّنيا مِن الأعمالِ الصَّالحةِ؛ طلبًا لِمَرضاةِ اللهِ تعالى [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/214)، ((تفسير القرطبي)) (10/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 439). قال القرطبي: (قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يحتَمِل وجهينِ: أحدهما: أن يكونَ معناه: أبشِروا بدخُولِ الجنَّة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرةِ). ((تفسير القرطبي)) (10/102). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 30-31] .
وقال سُبحانَه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 73- 74] .

الفوائد التربوية:

1- قولُ الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الإيمانِ باللهِ والانقيادِ لأمرِه؛ فإنَّ العمَلَ هو السَّببُ والمادَّةُ والأصلُ في دخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ، وذلك العمَلُ حصل لهم برحمةِ الله ومِنَّتِه عليهم، لا بحَولِهم وقوَّتِهم [382] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 439). ويُنظر أيضًا: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/115). .
2- دلَّ القُرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ على أنَّ لكلِّ مَن عَمِلَ خيرًا أجرينِ: عَمَلُه في الدُّنيا، ويُكَمَّلُ له أجرُه في الآخرةِ، كقَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، وفي الآيةِ الأخرى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] ، وقال في هذه السُّورةِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، وقال فيها عن خليلِه: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] فقد تكرَّر هذا المعنى في هذه السُّورةِ دونَ غَيرِها في أربعةِ مَواضِعَ لسِرٍّ بديعٍ؛ فإنَّها سورةُ النِّعَمِ التي عَدَّد اللَّهُ سبحانَه فيها أصُولَ النِّعَمِ وفُروعَها، فعرَّفَ عبادَه أنَّ لهم عنده في الآخرةِ مِن النِّعَمِ أضعافَ هذه بما لا يُدرَكُ تَفاوُتُه، وأنَّ هذه مِن بَعضِ نِعَمِه العاجِلةِ عليهم، وأنَّهم إن أطاعوه زادَهم إلى هذه النِّعَمِ نِعَمًا أخرى، ثمَّ في الآخرةِ يُوَفِّيهم أجورَ أعمالِهم تمامَ التَّوفيةِ [383] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/125). .
3- في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ بيانُ أنَّه سُبحانَه يُسعِدُ المُحسِنَ بإحسانِه في الدُّنيا وفي الآخِرةِ- كما أخبَرَ أنَّه يُشقي المُسيءَ بإساءَتِه في الدُّنيا والآخرةِ؛ قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى [384] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/23). [طه: 124] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ، فهذه الحالةُ لا تَحصُلُ إلَّا في الجنَّةِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ يفيدُ الحصرَ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ لا يجِدُ كُلَّ ما يُريدُه في الدُّنيا [385] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/202). .
2- أسندَ هنا- جلَّ وعلا- التَّوفِّيَ للمَلائكةِ في قَولِه تعالى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وأسنده في (السجدة) لملَكِ الموتِ في قَولِه تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] ، وأسنَدَه في (الزُّمَر) إلى نفسِه- جلَّ وعلا- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] ، ولا مُعارَضةَ بين الآياتِ المذكورةِ؛ فإسنادُه تعالى التَّوفِّيَ لنَفسِه؛ لأنَّه لا يموتُ أحدٌ إلَّا بمَشيئتِه تعالى، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وأسنده لمَلَك الموتِ؛ لأنَّه هو المأمورُ بقَبضِ الأرواحِ، وأسنَدَه إلى الملائِكةِ؛ لأنَّ لِمَلَك الموتِ أعوانًا مِن الملائكةِ، يَنزِعونَ الرُّوحَ مِن الجسَدِ إلى الحُلقومِ فيأخُذُها ملَكُ الموتِ، كما قاله بعضُ العُلَماءِ. والعِلمُ عندَ الله تعالى [386] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/373-374). .
3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هذا النَّصُّ وأمثالُه صَريحٌ بإثباتِ المَلائِكةِ، وأفعالِها، وكَلامِها، وتأثيرِها في العالَمِ بالقَولِ والفِعلِ، وهذا يُبطِلُ قولَ مَن قال: (إنَّ المُؤَثِّرَ في العالَم هو القُوى النَّفسانيَّةُ أو القُوى الطبيعيَّةُ)؛ فإنَّ الملائِكةَ خارِجةٌ عن هذا وهذا، وحينئذٍ فما يَحصُلُ مِن خوارِقِ العاداتِ بأفعالِ الملائِكةِ أعظَمُ ممَّا يَحصُلُ بمُجَرَّدِ القُوى النَّفسانيَّةِ [387] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/207). .
4- قد حرَّمَ اللهُ الجنَّةَ على كلِّ خَبيثٍ، بل جعَلَها مأوى الطَّيِّبينَ، ولا يَدخُلُها إلَّا طَيِّبٌ؛ قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] استحَقُّوا سلامَ المَلائِكةِ ودُخولَ الجنَّةِ بِسبَبِ طِيبِهم [388] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 361). .
5- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على أنَّ الملائكةَ تُسَلِّمُ على المُؤمِنِ عند قَبضِ رُوحِه، وتُبَشِّرُه بما له عند ربِّه مِن الثَّوابِ [389] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/54). .
6- في قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على نعيمِ القبرِ؛ لأنَّه قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ الآنَ، مِن موتكِم [390] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/288). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ
- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ يجوزُ أنْ يكونَ كلامًا مُبتدَأً عِدَةً للقائلينَ، ويُجْعَلَ قولُهم من جُملةِ إحسانِهم، ويُحْمَدوا عليه [391] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/603). .
- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الَّذين أحْسَنوا هم المُتَّقونَ؛ فهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ توصُّلًا بالإتيانِ بالموصولِ إلى الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخبرِ، أي: جزاؤُهم حَسنةٌ؛ لأنَّهم أحْسَنوا [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/142). .
2- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ
- قولُه: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ فيه تَقديمُ فِيهَا؛ للاحترازِ عن تَوهُّمِ تعلُّقِه بالمشيئةِ، أو لأنَّ تأخيرَ ما حَقُّه التَّقديمُ يُوجِبُ تَرقُّبَ النَّفسِ إليه، فيتمكَّنُ عند وُرودِه عليها فضْلَ تمكُّنٍ [393] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/110). .
- ومَضمونُ جُملةِ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ مُكمِّلٌ لِمَا في جُملةِ يَدْخُلُونَهَا مِن استحضارِ الحالةِ البديعةِ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/143). .
- وجُملةُ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُستأنَفةٌ، والإتيانُ باسمِ الإشارةِ كَذَلِكَ؛ لتَمييزِ الجزاءِ والتَّنويهِ به، وجَعلِ الجزاءِ لتَمييزِه وكمالِه بحيث يُشَبَّهُ به جَزاءُ المُتَّقينَ. والتَّقديرُ: يَجْزي اللهُ المُتَّقينَ جَزاءً كذلك الجزاءِ الَّذي عَلِمْتموه، وهو تَذييلٌ؛ لأنَّ التَّعريفَ في الْمُتَّقِينَ للعُمومِ [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/143). .
3- قولُه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِه في أضدادِهم: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [396] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/145). .
- وجُملةُ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هو سَلامُ تأنيسٍ وإكرامٍ حين مَجيئِهم ليتوفَّوْهم. وقولُهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِهم لأضدادِهم: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ [397] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/145). .