موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (79-84)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يُلَقَّاهَا: أي: يُوفَّقُ لها، وأصلُ (لقي) هنا: يدُلُّ على تَوافِي شَيئَيْنِ [1033] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 336)، ((تفسير ابن جرير)) (18/331)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/260)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1701)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 285). .
وَيْكَأَنَّ: (وَيْ) كَلِمةُ تنبيهٍ وتنَدُّمٍ على أمرٍ سبَقَ، يقولُها المُتنَدِّمُ عندَ إظهارِ ندامتِه، ويَقولُها المنَدِّمُ لِغَيرِه، والمنَبِّهُ له، و(كَأَنَّ) للتَّشبيهِ، ووقَع التَّشبيه هنا على أحَدِ مَعنَيينِ؛ أحدهما: أنَّهم أوقعوا التَّشبيهَ على ما في عِلمِهم وعُرفِهم. الثَّاني: أن يكونَ التَّشبيهُ ليس على أصلِه، بل المرادُ به التَّحقيقُ، أي: إنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ، وإنَّ الأمرَ لا يُفلِحُ الكافِرونَ [1034] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 336)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 484)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 285)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان الأندلسي (5/20). ويُنظر أيضًا: ((الكتاب)) لسيبويه (2/154، 155)، ((شرح كتاب سيبويه)) للسيرافي (2/480-482)، ((أمالي ابن الشجري)) (2/183-185). .
وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، يقال: قَدَرْتُ عليه الشَّيءَ: إذا ضيَّقْتَه، كأنَّما جعَلْتَه بقَدْرٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه [1035] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 297). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
وَيْكَأَنَّ فيه أقوالٌ؛ الأوَّلُ: أنَّ (وَيْ) كلمةٌ برأسِها، وهي اسمُ فِعلٍ معناها: أعجَبُ، والكافُ في (كأنَّ) للتَّعليلِ، وأنَّ وما في حَيِّزِها مجرورةٌ بها، أي: أعجَبُ لأنَّ الله يَبسُطُ. الثَّاني: أنَّ (وي) كلمةُ تنبيهٍ وتندُّمٍ على أمرٍ سبَق، وهي منفصِلةٌ مِن (كأنَّ)، لكنْ وُصِلَت في الخطِّ لكثرةِ الاستعمالِ، ومعنى (كأنَّ الله يبسطُ الرِّزقَ) وإنْ كان لفظُه لفظَ التَّشبيهِ، فمعناه التَّحقيقُ، أي: تَنَبَّهْ، إنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ، أي: تنَبَّهْ لِبَسْطِ اللهِ الرِّزقَ. الثَّالثُ: أنَّ (ويْكأنَّ) كلَّها كلمةٌ مُتَّصِلةٌ بسيطةٌ، ومعناها: ألم تَرَ. الرَّابعُ: أنَّ (ويكَ) كَلِمةٌ برأسِها، والكافَ حرفُ خِطابٍ، و (أنَّ اللهَ يبسطُ الرزقَ) معمولٌ لمحذوفٍ، أي: اعلَمْ أنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ، وأنَّ (وَيْكَ) بمعنى (وَيْلَكَ)، وحُذِفتِ اللامُ لكثرةِ استعمالِ هذه اللفظةِ في الكلامِ [1036] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/157)، ((المحتسب)) لابن جني (2/155)، ((تفسير ابن عطية)) (4/301)، ((أمالي ابن الشجري)) (2/183-185)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1027)، ((ارتشاف الضَّرَب)) لأبي حيان الأندلسي (5/2292)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان الأندلسي (5/20)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/697). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى: فخرَجَ قارونُ على قَومِه مِن بَني إسرائيلَ في زِينةٍ عَظيمةٍ، فقال الَّذينَ يُريدونَ الحياةَ الدُّنيا مِن ضِعافِ الإيمانِ حينَ رأَوْا زينةَ قارونَ: يا لَيْتَ لنا مِثلَ الَّذي أُوتِيَه قارونُ؛ إنَّه لَذو نَصيبٍ وافرٍ مِن مَتاعِ الدُّنيا!
فقال لهم أهلُ العِلمِ: ويْلَكم، نعيمُ الجنَّةِ الَّذي أعَدَّه اللهُ في الآخرةِ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالحًا: خيرٌ مِن مُلكِ قارونَ، ولا يُوفَّقُ لذلك إلَّا الصَّابِرونَ!
فخَسَفْنا بقارونَ وبدارِه في باطِنِ الأرضِ، فلمْ يكُنْ لقارونَ جماعةٌ يَمنعونَه مِن عذابِ اللهِ، وما كان مِنَ المنتَصِرينَ بنَفْسِه أو قوَّتِه.
وأصبَحَ الَّذين تمَنَّوا مِن قَبْلُ أن يكونَ لهم ما لِقارونَ يقولونَ: ويْكَأنَّ اللهَ يوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يشاءُ مِن عبادِه، ويُضيِّقُه على مَن يَشاءُ، لولا أنْ منَّ اللهُ علينا لَكُنَّا قد طَغَيْنا مِثلَ طُغيانِ قارونَ، فخَسَف اللهُ بنا كما خَسَف به، ويْكَأنَّه لا يَفوزُ الكافِرونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى سُنَّةً مِن سُنَنِه الَّتي لا تتخلَّفُ، فيقولُ: تلك الدَّارُ -وهي الجنَّةُ- نجعَلُها لِلذَّينَ لا يُريدونَ تكبُّرًا في الأرضِ، ولا إفسادًا فيها بالمعاصي، والعاقِبةُ المحمودةُ في الدُّنيا والآخرةِ للمُتَّقينَ.
مَن جاء يومَ القيامةِ بالحَسَنةِ، فله ثوابٌ عظيمٌ عندَ اللهِ، ومَن جاء يومَ القيامةِ بالسَّيِّئةِ فلا يُثابُ إلَّا جزاءَ ما عَمِلَ، ولا يُظلَمُ بعِقابِه على ما لم يَعمَلْ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى قارونَ ونَعْتَه، وما آتاه مِن الكُنوزِ، وفَرَحَه بذلك فرَحَ البَطِرينَ، وادِّعاءَه أنَّ ما أُوتيَ مِن ذلك إنَّما أُوتيَه على عِلْمٍ- ذَكَرَ ما هو ناشئٌ عن التكبُّرِ والسُّرورِ بما أُوتيَ، فقال [1037] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/327). :
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ.
أي: فخرَج قارونُ على قَومِه مِن بني إسرائيلَ مُتجَمِّلًا في زينةٍ عَظيمةٍ [1038] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/328)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). قال ابنُ عاشور: (الزِّينةُ: ما به جمالُ الشَّيءِ والتَّباهي به مِنَ الثِّيابِ والطِّيبِ والمراكبِ والسِّلاحِ والخدَمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (20/183). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 359). .
قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ.
أي: قال ضِعافُ الإيمانِ الَّذين يُريدونَ الحَياةَ الدُّنيا، حينَ رأَوْا زينةَ قارونَ: يا لَيْتَ لنا مِثلَ الَّذي أُوتِيَه قارونُ مِن زينةِ الحياةِ الدُّنيا ومَتاعِها [1039] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/330)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/183). قال ابن عثيمين: (قوله: يَا لَيْتَ لَنَا ...... هذا التَّركيبُ مُتكرِّرٌ في القرآنِ الكريمِ، والنَّحْويُّون اختلَفوا فيه على هذَينِ الوجهَينِ؛ منهم مَن يقولُ: هو لِمُجَرَّدِ التَّنبيهِ، وليس هناك نداءٌ ولا مُنادى، ومنهم مَن يقولُ: هو لِلنِّداءِ، وأنَّ المُنادى محذوفٌ، فالتَّقديرُ -مثلًا- هنا: يا قَوْمَنا، لَيْتَ لنا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 359). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/34)، ((همع الهوامع)) للسيوطي (1/28)، ((شرح التصريح على التوضيح)) لخالد لأزهري (1/31)، ((حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي)) (3/154). !
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
أي: قالوا: إنَّ قارونَ لَصاحِبُ نَصيب ٍكبيرٍ وافرٍ مِن مَتاعِ الدُّنيا [1040] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/330)، ((تفسير القرطبي)) (13/317)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 360). .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80).
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.
أي: وقال أهلُ العِلمِ النَّافِعِ العارِفونَ بحَقيقةِ الدُّنيا للَّذينَ تَمَنَّوا مِثلَ ما أُوتيَ قارونُ: وَيْلَكم [1041] قال الزمخشري: («ويلك»: أصلُه الدُّعاءُ بالهلاكِ، ثم استُعْمِل في الزَّجرِ والرَّدعِ والبعثِ على تركِ ما لا يُرتضَى). ((تفسير الزمخشري)) (3/432). ! نَعيمُ الجنَّةِ الَّتي أعَدَّها اللهُ في الآخرةِ لِمَن آمَنَ باللهِ ورُسُلِه، وعَمِلَ الأعمالَ الصَّالحاتِ: خَيرٌ ممَّا أُوتيَ قارونُ مِن زينةِ الدُّنيا [1042] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/331)، ((تفسير القرطبي)) (13/317)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالثَّوابِ هنا: الأُخرويُّ: ابنُ جريرٍ، والقُرطُبيُّ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ به: الثَّوابُ العاجِلُ في الدُّنيا بِلَذَّةِ العبادةِ، ومحبَّةِ الله تعالى، والإنابةِ إليه، والإقبالِ عليه. والثَّوابُ الآجِلُ في الجنَّةِ وما فيها من النَّعيمِ. وممَّن قال بذلك: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 624). .
كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17].
وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ.
أي: ولا يُوفَّقُ للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ والزُّهدِ في الدُّنيا الموصِلِ لثَوابِ الآخرةِ إلَّا الصَّابِرونَ على الطَّاعاتِ، وعن المعاصي، وعلى أقدارِ الله المؤلِمةِ؛ كالفَقرِ [1043] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/409)، ((تفسير الزمخشري)) (3/432، 433)، ((تفسير ابن عطية)) (4/301)، ((تفسير القرطبي)) (13/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ الضَّميرَ في قوله تعالى: يُلَقَّاهَا يعودُ إلى القوَّةِ في الدِّينِ بالإيمانِ والعمَلِ الصالحِ، بحيثُ يُؤْثِرُ صاحِبُها الآخرةَ على الدُّنيا: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ عطيَّة، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/357)، ((تفسير ابن عطية)) (4/301)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). وقيل: الضَّميرُ عائِدٌ إلى الكَلِمةِ أو الوصيَّةِ الَّتي قالها الَّذين أُوتوا العِلمَ: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي: لا يوفَّقُ لِقَولِ ذلك إلَّا الصَّابرون. وممَّن قال بهذا المعنى: الفَرَّاءُ، وابنُ جَرير، والزَّجَّاجُ، والثَّعلبيُّ، ومكِّي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/311)، ((تفسير ابن جرير)) (18/331)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/156)، ((تفسير الثعلبي)) (7/263)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5579)، ((تفسير العليمي)) (5/220). قال ابن كثير مُعلِّقًا على هذا القولِ الذي اختاره ابنُ جريرٍ: (وكأنَّه جعَل ذلك مقطوعًا مِن كلام أولئك، وجعَلَه مِن كلامِ الله عزَّ وجلَّ وإخبارِه بذلك). ((تفسير ابن كثير)) (6/255). وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى الجنَّةِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/317)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 363). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ، وابنُ السَّائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3016)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/394). .
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81).
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ.
أي: فغيَّبْنا قارونَ ودارَه في باطِنِ الأرضِ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/331)، ((تفسير القرطبي)) (13/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((بَيْنَما رجُلٌ يَجُرُّ إزارَه مِنَ الخُيَلاءِ [1045] الخيلاء: البَطَرُ والكِبْرُ والزَّهْوُ والتَّبَختُرُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/60). ، خُسِفَ به؛ فهو يَتجَلْجَلُ [1046] يَتجَلْجَلُ: أي: يَتحرَّكُ وينزلُ مُضْطَرِبًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/64). في الأرضِ إلى يَومِ القيامةِ)) [1047] رواه البخاري (3485). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((بَيْنَما رجُلٌ يمشي في حُلَّةٍ [1048] الحُلَّة: ثَوبانِ أحَدُهما فوقَ الآخَرِ، وقيل: لا تُسمَّى حُلَّةً إلَّا أن تكونَ ثَوبَينِ مِن جنسٍ واحدٍ، وقيل: إزارٌ ورِداءٌ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/432)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/260). ، تُعجِبُه نَفْسُه، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ [1049] مُرَجِّل: مِنَ التَّرجيلِ -بالجيمِ-، وهو تسريحُ شَعرِ الرَّأسِ، والجُمَّة: مجتمعُ شعرِ الرَّأسِ، وهو أكبَرُ مِنَ الوَفرةِ، ويُقالُ: هو الشَّعرُ الَّذي يتدلَّى مِنَ الرَّأسِ إلى المَنكِبَينِ وإلى أكثَرَ مِن ذلك. ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (21/298). ؛ إذ خَسَفَ اللهُ به؛ فهو يَتجَلْجَلُ إلى يومِ القيامةِ )) [1050] رواه البخاري (5789) واللفظ له، ومسلم (2088). .
فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: فلمْ يكُنْ لِقارونَ جَماعةٌ يمنَعونَ عنه عذابَ اللهِ حينَ نَزَل به [1051] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/338)، ((البسيط)) للواحدي (17/466)، ((تفسير ابن كثير)) (6/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). .
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ.
أي: ولم ينتَصِرْ لِنَفْسِه فيَمنَعَ العذابَ بقُوَّتِه حينَ خُسِفَ به [1052] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/338)، ((تفسير القرطبي)) (13/318)، ((تفسير ابن كثير)) (6/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). !
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا صَدَرَ منهم تمنِّي حالِ قارونَ، وشاهَدوا الخسفَ؛ كان ذلك زاجرًا لهم عن حُبِّ الدُّنيا، وداعيًا إلى الرِّضا بقَدَرِ اللهِ، فتنَبَّهوا لخطَئِهم [1053] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/329). .
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ.
أي: وأصبحَ الَّذين رَغِبوا مِن قَبْلُ وطَمِعوا في أن تكونَ لهم حالُ قارونَ ومَنزِلتُه في الدُّنيا يقولونَ: ويْكَأنَّ [1054] قيل: معناها: (ألم تَرَ) أو (ألم تعلَمْ). وممَّن قال بذلك في الجملةِ: البخاريُّ، وابن جرير. يُنظر: ((صحيح البخاري)) كتاب أحاديث الأنبياء، باب إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى الآيةَ (4/158)، ((تفسير ابن جرير)) (18/341، 342). قال السمعانيُّ: (ومِن المعروفِ في التَّفاسيرِ عن العلماءِ المتقدِّمينَ: ويْكأنَّ اللهَ: ألم تَرَ أنَّ اللهَ، وحُكيَ مِثلُ هذا عن أبي عُبَيدةَ). ((تفسير السمعاني)) (4/161). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/112). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/339)، ((تفسير الثعلبي)) (7/266)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/394). وقيل: معناها: التَّندُّم والتَّوجُّعُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والقرطبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/434)، ((تفسير القرطبي)) (13/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). وقيل: معناها: ويْلَكَ اعلَمْ أنَّ، ولكِنْ خُفِّفَت، فقيل: «ويْكَ»، ودلَّ فتحُ «أنَّ» على حذفِ «اعلَمْ». وممَّن ذكَر هذا القولَ: ابنُ كثير، وقال: (الظَّاهر أنَّه قويٌّ). يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/258). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/394، 395)، ((تفسير القرطبي)) (13/318، 319)، ((تفسير القاسمي)) (7/538، 539). قال ابنُ عاشور بعدَ ذِكْرِه عدَّةَ أقوالٍ: (ومعنى الآيةِ على الأقوالِ كُلِّها: أنَّ الَّذين كانوا يَتَمَنَّون منزلةَ قارونَ نَدِموا على تمنِّيهم لَمَّا رأوْا سوءَ عاقبتِه، وامتلَكَهم العَجَبُ مِن تلك القِصَّةِ، ومِن خَفيِّ تصَرُّفاتِ الله تعالى في خَلقِه، وعَلِموا وُجوبَ الرِّضا بما قُدِّر للنَّاسِ مِن الرِّزقِ؛ فخاطَبَ بعضُهم بعضًا بذلك وأعلَنوه). ((تفسير ابن عاشور)) (20/188). اللهَ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عبادِه بحِكمتِه، لا لِفَضلِ مَنزِلتِه أو لكَرامتِه عليه، سواءٌ كان فَطِنًا وحاذِقًا في أسبابِ الرِّزقِ أمْ لا، ويُضيِّقُه على مَن يشاءُ منهم بحِكمتِه لا لِهَوانِه عندَه، سواءٌ كان فَطِنًا حاذِقًا أمْ لا؛ فاللهُ يُعطي ويمنَعُ، ويُضَيِّقُ ويُوسِّعُ، ويَخفِضُ ويَرفَعُ، وله سُبحانَه الحِكمةُ البالِغةُ التَّامَّةُ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/339 - 342)، ((تفسير القرطبي)) (13/318، 319)، ((تفسير ابن كثير)) (6/257، 258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/360-362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/186، 188). .
  لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا.
أي: لولا أنَّ اللهَ تفضَّل علينا بأنْ صرَف عنَّا ما تمنَّيْناه مِن حالِ قارونَ، لَكُنَّا قد طغَيْنا مِثلَ طُغيانِه؛ فخَسَف اللهُ بنا كما خَسَفَ به [1056] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/342)، ((تفسير القرطبي)) (13/319)، ((تفسير ابن كثير)) (6/257، 258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/363)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/188). .
وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
أي: ويْكأنَّه لا يَنجَحُ ولا يَفوزُ الكافِرونَ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/342)، ((تفسير ابن كثير)) (6/258)، ((تفسير الشوكاني)) (4/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/188). .
تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن قَولِ أهلِ العلمِ والإيمانِ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ؛ ذَكَر مَحَلَّ الثوابِ، وهو الدَّارُ الآخرةُ [1058] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/330). .
وأيضًا لَمَّا ذكَر تعالى قارونَ وما أُوتيَه مِن الدُّنيا، وما صار إليه عاقبةُ أمرِه، وأنَّ أهلَ العِلمِ قالوا: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ رغَّب تعالى في الدَّارِ الآخرةِ، وأخبَر بالسَّببِ الموصلِ إليها، فقال [1059] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 624). :
تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا.
أي: نعيمُ الجنَّةِ في الآخِرةِ نَجعَلُه للَّذين لا يُريدونَ أيَّ تكبُّرٍ في الأرضِ عن الحَقِّ برَدِّه، أو على الخَلقِ بظُلمِهم، ولا يُريدونَ أيَّ عَمَلٍ بمعاصي اللهِ سُبحانَه [1060] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/343)، ((تفسير القرطبي)) (13/320)، ((تفسير ابن كثير)) (6/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/371، 372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/189، 190). .
عن عِيَاضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قام فينا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يَومٍ خَطيبًا، فقال: إنَّ اللهَ أوحى إلَيَّ أنْ تواضَعوا حتَّى لا يَفخَرَ أحَدٌ على أحدٍ، ولا يَبغِيَ أحدٌ على أحدٍ )) [1061] رواه مسلم (2865). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ، قال رجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يحِبُّ أن يكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسنةً! قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ [1062] بَطَرُ الحَقِّ: أي: دَفعُه وإنكارُه؛ ترفُّعًا وتجبُّرًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/90). ، وغَمْطُ النَّاسِ [1063] غَمْطُ النَّاسِ: أي: احتقارُهم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/90). ) [1064] رواه مسلم (91). .
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
أي: والعاقِبةُ المحمودةُ في الدُّنيا والآخرةِ لِلَّذينَ يَتَّقونَ سَخَطَ اللهِ وعَذابَه؛ بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه، فيَنصُرُهم اللهُ في الدُّنيا، ويُدخِلُهم الجنَّةَ في الآخِرةِ [1065] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/344)، ((تفسير البغوي)) (3/547)، ((تفسير ابن عطية)) (4/302)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/176 - 185)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 378). .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه أنَّ الدَّارَ الآخرةَ ليست لِمَن يريدُ علوًّا في الأرضِ ولا فَسادًا، بل هي للمتَّقين؛ بَيَّنَ بعدَ ذلك ما يحصُلُ لهم [1066] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/19). .
وأيضًا لَمَّا تَحَرَّرَ الفَرقُ بيْنَ أهلِ الدَّارَينِ، وكان لا بُدَّ مِن إتيانِ الآخرةِ، وعُلِمَ أنَّ الآخرةَ إنَّما هي جزاءُ الأعمالِ؛ فاستُؤنِفَ تفصيلُ ذلك -جوابًا لِمَن كأنَّه قال: ما لِمَنْ أحسَنَ ومَن أساءَ عندَ القدومِ؟- بقَولِه [1067] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/373). :
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا.
أي: مَن جاء يومَ القيامةِ بالحَسَنةِ، فله ثوابٌ عَظيمٌ عندَ اللهِ [1068] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/345)، ((تفسير الرازي)) (24/575)، ((تفسير القرطبي)) (13/320)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/200)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 519). وقد تقدَّم تفسيرُ نظيرِ هذه الآيةِ في سورة النملِ الآية (89) مع بيان الخلافِ الواقع في تفسير الحَسَنة، وفي تفسير قوله تعالى: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا. .
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر جزاءَ الإحسانِ؛ أعقَبَ بضِدِّ ذلك، مع مُقابَلةِ فضْلِ اللهِ تعالى على المُحسِنِ بعَدْلِه مع المُسيءِ، على عادةِ القرآنِ مِن قَرْنِ التَّرغيبِ بالتَّرهيبِ، فقال [1069] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/191). :
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: ومَن جاء يومَ القيامةِ بالسَّيِّئةِ [1070] تقدَّم تفسيرُ نظيرِها في سورةِ النمل الآية (89) مع بيان الخلافِ الواقِعِ في تفسيرِ السَّيِّئةِ. فلا يُثابُ أصحابُها إلَّا جَزاءَ ما عَمِلوه بلا زيادةٍ، ولا يُظلَمونَ بتَعذيبِهم على ما لم يَعمَلوا [1071] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/345)، ((تفسير الماتريدي)) (8/204)، ((تفسير السمعاني)) (4/162)، ((تفسير الزمخشري)) (3/436)، ((تفسير القرطبي)) (13/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/147). .
كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- العاقِلُ يَغبِطُ مَن أنفَقَ مالَه في سبيلِ الخَيراتِ، ونَيلِ عُلُوِّ الدَّرَجاتِ، والجاهِلُ يَغبِطُ مَن أنفَقَ مالَه في الشَّهَواتِ، وتوصَّلَ به إلى اللَّذَّاتِ المحَرَّماتِ؛ قال الله تعالى حاكيًا عن قارونَ: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص: 79، 80] إلى قَولِه: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [1072] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 246). [القصص: 83].
2- في قَولِه تعالى: وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ عُبِّرَ بالجَمعِ تَرغيبًا في التَّعاوُنِ؛ إشارةً إلى أنَّ الدِّينَ لصُعوبتِه لا يَستَقِلُّ به الواحِدُ [1073] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/358). .
3- في قَولِه تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ التَّحذيرُ مِن التَّعالي والبَغيِ على الخلْقِ [1074] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 366). .
4- في قَولِه تعالى: لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا مَدْحُ مَن لا يريدُ العلوَّ في الأرضِ ولا الفَسادَ، وهو أعظمُ مِن مَدْحِ مَن لا يَعلو ولا يُفسِدُ، ووجْهُ ذلك: أنَّ انتفاءَ الإرادةِ يَلزَمُ منه انتفاءُ الفِعلِ، أمَّا انتفاءُ الفِعلِ فلا يَلزَمُ منه انتفاءُ الإرادةِ؛ فقد يريدُ الإنسانُ العلوَّ والفسادَ ولكنْ لا يَعلو ولا يُفسدُ؛ لعدَمِ تَمَكُّنِه، أو لسَبَبٍ مِن الأسبابِ، أمَّا الَّذي لا يريدُ فهو أكمَلُ [1075] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 377). .
5- طلَبُ شرَفِ الدُّنيا والرِّفعةِ فيها، والرِّياسةِ على النَّاسِ والعُلوِّ في الأرضِ أضَرُّ على العبدِ مِن طلَبِ المالِ، وضرَرُه أعظَمُ، والزُّهدُ فيه أصعَبُ؛ فإنَّ المالَ يُبذَلُ في طلبِ الرِّياسةِ والشَّرَفِ.
والحِرصُ على الشَّرَفِ على قِسْمَينِ:
أحدهما: طلَبُ الشَّرفِ بالولايةِ والسُّلطانِ والمالِ. وهذا خطرٌ جدًّا، وهو الغالبُ، يمنعُ خيرَ الآخرةِ وشرَفَها، وكرامتَها وعِزَّها؛ قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ... الآيةَ. وقَلَّ مَن يَحرِصُ على رياسةِ الدُّنيا بطلَبِ الولاياتِ فوُفِّقَ؛ بل يُوكَلُ إلى نفْسِه.
الثَّاني: طلَبُ الشَّرفِ والعُلوِّ على النَّاسِ بالأمورِ الدِّينيَّةِ؛ كالعِلمِ والعملِ والزُّهدِ، فهذا أفحَشُ مِنَ الأوَّلِ وأقبَحُ وأشَدُّ فسادًا وخطرًا؛ فإنَّ العِلمَ والعملَ والزُّهدَ إنَّما يُطلبُ بها ما عندَ الله مِنَ الدَّرَجاتِ العُلَى والنَّعيمِ المُقيمِ، ويُطلَبُ بها ما عندَ الله والقُرب منه والزُّلْفى لَديهِ [1076] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/70-71، 78). .
6- قَولُه تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يؤخَذُ منه فضيلةُ التَّقْوى [1077] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 378). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- ذَمَّ سُبحانَه وتعالى مُتَمَنِّي الدُّنيا والغِنى والسَّعةِ فيها، ومَدَح مَن أنْكَر عليهم وخالفَهم، فقال تعالى عن أغنى أهلِ زَمانِه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [1078] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 182). .
2- في قَولِه تعالى: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ أنَّ ذوي النَّظَرِ القاصرِ يَتمنَّونَ مَتاعَ الحياةِ الدُّنيا [1079] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 361). .
3- قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ولم يَقولوا: يا لَيْتَ لنا ما أُوتيَ قارونُ، بل قالوا: مِثلَه؛ قيل: لأنَّهم لو قالوا: لَيْتَ لنا ما أُوتيَ قارونُ، كان ذلك حسَدًا؛ لأنَّهم يَتمَنَّوْنَ بذلك زَوالَ النِّعمةِ عنه [1080] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 360). .
4- قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إنَّما لم يُوصَفوا بإرادةِ ثَوابِ الآخِرةِ؛ تَنْبيهًا على أنَّ العِلْمَ بأحوالِ النَّشْأتينِ يَقتضِي الإعراضَ عن الأُولى، والإقبالَ على الثَّانيةِ حتمًا، وأنَّ تَمَنِّي المُتَمَنِّينَ ليس إلَّا لعدمِ عِلْمِهم بهما كما يَنبغي [1081] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/26). .
5- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ إيثارُ ثَوابِ الآجِلِ على العاجِلِ هي حالةُ العُلَماءِ، فمَن كان هكذا فهو عالِمٌ، ومَن آثَرَ العاجِلَ على الآجِل فليس بعالِمٍ [1082] هذه الفائدةُ للوزيرِ ابنِ هبيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس))، كما في ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/147). ، فأهلُ العلمِ الَّذين يَعلمونَ حقائقَ الأمورِ يَدرونَ أنَّ هذه الدُّنيا ليست بشَيءٍ، وأنَّ ثوابَ الآخرةِ أعظَمُ وأجَلُّ [1083] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 363). .
6- في قَولِه تعالى: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ إخبارٌ أنَّه ما يُلَقَّى الأعمالَ الصَّالحةَ وجزاءَها والحُظوظَ العظيمةَ إلَّا أهلُ الصَّبرِ [1084] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/153). .
7- في قَولِه تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ إنَّما كانت عقوبتُه بالخَسفِ؛ لأنَّه كان باغيًا عاليًا متكبِّرًا، فأُخِذَ بما يُناسِبُ حالَه، فالعالي أشدُّ عقُوبةٍ له أنْ يُنزَلَ مِن مكانتِه العاليةِ؛ ولهذا كانتِ العقوبةُ مُناسِبةً للعَمَلِ؛ قال اللهُ تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت: 40] ، وممَّن خَسَفَ اللهُ به الأرضَ قارونُ ودارُه [1085] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 365). ، فإنَّه لَمَّا انتَهَتْ بقارونَ حالةُ البَغيِ والفَخرِ، وازَّيَّنتِ الدُّنيا عندَه، وكَثُرَ بها إعجابُه؛ بَغَتَه العذابُ؛ جزاءً مِن جنسِ عَمَلِه، فكما رَفَعَ نفْسَه على عبادِ اللهِ، أنزَلَه اللهُ أسفَلَ سافلينَ هو وما اغترَّ به مِن دارِه وأثاثِه ومَتاعِه [1086] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 624). !
8- في قَولِه تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ أنَّ هذا الخَسفَ خارِقٌ للعادةِ؛ لأنَّه لم يتناوَلْ غيرَ قارونَ ومَن ظاهَرَه، وغيرَ دارِ قارونَ؛ فهو معجزةٌ لموسى عليه السَّلامُ [1087] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/185). .
9- في قَولِه تعالى: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ أنَّ اللهَ تعالى إذا أنزَل العقوبةَ بأحدٍ؛ فليس له ناصرٌ دونَ اللهِ، ولو عَظُمَتْ قوَّتُه، وكَثُرَ جندُه [1088] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 366). .
10- في قَولِه تعالى: لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ سؤالٌ: ألَا يُشْكِلُ على هذا ما كان عليه أهلُ الكفرِ مِن النَّعيمِ والتَّرفِ في الدُّنيا؟
الجوابُ: لا يُشْكِلُ؛ لأنَّهم لم يُفلحوا، حتَّى وإنْ نُعِّمُوا في الدُّنيا فلا يُفيدُهم النَّعيمُ، وهم إذا ماتوا انتقَلوا إلى الجحيمِ، فهذا النَّعيمُ في الحقيقةِ يكونُ وبالًا عليهم؛ لأنَّه يَتحوَّلُ بعدَ ذلك إلى عذابٍ [1089] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 371). .
11- قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فمَن أرادَ العُلُوَّ في الأرضِ والفَسادَ لم يكُنْ مِن أهلِ السَّعادةِ في الآخِرةِ [1090] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/500). .
12- قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ لَمَّا كان المقصودُ الأعظمُ طَهارةَ القلبِ الَّذي عنه يَنشأُ عَمَلُ الجَوارحِ، قال: لَا يُرِيدُونَ، ولم يَقُلْ: «يَتعاطَونَ» مثلًا؛ تعظيمًا لضَرَرِ الفَسادِ بالتَّنفيرِ مِن كلِّ ما كان منه تَسَبُّبٌ؛ إعلامًا بأنَّ النُّفوسَ ميَّالةٌ إليه، نزَّاعةٌ له، فمهما رَتَعَتْ قريبًا منه اقتحمَتْه لا محالةَ [1091] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/371). .
13- قَولُه تعالى: لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا فيه أنَّ النِّيَّةَ لها أثرٌ؛ فالإرادةُ بمعنى النِّيَّةِ [1092] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 377). .
14- في قَولِه تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا لم يُعَلِّقْ تعالى الوعدَ بتركِ العلوِّ والفَسادِ، ولكنْ بتركِ إرادتِهما ومَيلِ القلوبِ إليهما، كما قال تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 113] ، فعَلَّقَ الوعيدَ بالرُّكونِ [1093] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/435)، ((تفسير الشربيني)) (3/121). .
15- في قَولِه تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ العاقبةُ هي النِّهايةُ الَّتي تَعقُبُ ما سَبَقَها، وهذه للمُتَّقينَ، فمَن كان مُتَّقيًا لله عزَّ وجلَّ فالعاقبةُ له في كلِّ حالٍ، ولكنَّها تكونُ له باعتبارِ شخصِه وعملِه أحيانًا، وتكونُ له باعتبارِ عملِه دونَ شخصِه، فالإنسانُ المتَّقي للهِ عزَّ وجلَّ لا بُدَّ أنْ تكونَ العاقبةُ له، حتَّى لو اعتدَى عليه مَن يعتدي؛ فإنَّ العاقبةَ له، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 376). [الأنبياء: 105] .
16- في قَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا أنَّ جَزاءَ الحسنةِ خيرٌ منها بالكَمِّيَّةِ والكيفيَّةِ؛ أمَّا الكَمِّيَّةُ فالحسنةُ بعَشرِ أمثالِها، وأمَّا الكيفيَّةُ فإنَّ جزاءَ الحَسَنةِ دائِمٌ، وفِعْلَ الحسنةِ ليس بدائمٍ؛ فالفعلُ ينتهي بموتِ الإنسانِ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [1095] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 380). [الأعلى: 16، 17].
17- ثوابُ اللهِ سبحانه وتعالى دائرٌ بينَ العَدلِ والفَضلِ، وهذان قِسْمانِ: الفَضلُ بالنِّسبةِ للمُحسِنينَ، كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ، والعَدلُ بالنِّسبةِ للمُسيئينَ، كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، أمَّا الجَورُ فهذا ممتنِعٌ في حقِّ اللهِ؛ قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]، فجزاءُ اللهِ تعالى دائرٌ بيْنَ الفضلِ والعدلِ؛ فهو محمودٌ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّه إمَّا عَدْلٌ، وإمَّا فَضْلٌ [1096] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 382). .
18- قال الله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ في قَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ في الموضِعَينِ إشارةٌ إلى أنَّ المدارَ على مجيءِ الإنسانِ بذلك، لا على عَمَلِه؛ فقد يعمَلُ الحَسَنةَ ثمَّ يَرِدُ عليها ما يُبطِلُها، فمثلًا: هناك إنسانٌ عَمِلَ صَدَقةً، ثم مَنَّ بها أو آذَى مَن تصَدَّقَ عليه، فلا تكونُ هذه صَدقةً، بل تَبطُلُ، ولا يُثابُ عليها يومَ القيامةِ. وإنسانٌ آخَرُ عَمِلَ سَيِّئةً، لكِنَّه تاب منها، فذَهَبت السَّيِّئةُ، فلا يأتي بها يومَ القيامةِ [1097] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 380). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (20/190، 191). .
19- في قَولِه تعالى: فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أنَّ عدَمَ مُضاعَفةِ السَّيِّئةِ عامٌّ في مكَّةَ وفي غيرِها، ووجْهُه: أنَّ الآيةَ عامَّةٌ ليس فيها استِثناءٌ، ثمَّ إنَّ سورةَ (القَصَصِ) مكِّيَّةٌ؛ نزلتْ بمكَّةَ، والآيةُ نزلتْ بمكَّةَ، ولم يَستثنِ شيئًا، لكنَّ السَّيِّئةَ في مكَّةَ تكونُ عقوبتُها أشدَّ وأبلغَ إيلامًا؛ فالسَّيِّئةُ لا تكونُ عشرَ سيِّئاتٍ، لكِنَّ جزاءَها يكونُ أشدَّ؛ فهي تُضاعَفُ لا مِن جهةِ الكَمِّيَّةِ، ولكِنْ مِن جهةِ الكيفيَّةِ، ولهذا قال اللهُ تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 381). [الحج: 25] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
- قولُه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ دلَّتِ الفاءُ على أنَّ خروجَه بينَ قومِه في زينَتِه بعدَ ذلكَ كلِّه كان مِن أجْلِ أنَّه لم يُقَصِّرْ عن شَيءٍ مِن سيرَتِه، ولم يَتَّعِظْ بتلكَ المواعظِ ولا زمنًا قصيرًا، بل أعْقَبَها بخُروجِه هذه الخِرْجةَ المَليئةَ صَلَفًا وازْدِهاءً [1099] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/182، 183). .
- وإنَّما فُصِلَتْ جملةُ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ولم تُعطَفْ على الَّتي قَبْلَها؛ لأنَّها تَتَنَزَّلُ مَنزلةَ بدَلِ الاشتمالِ؛ لِمَا اشتَمَلَتْ عليه الزِّينةُ مِن أنَّها ممَّا يَتَمَنَّاهُ الرَّاغبونَ في الدُّنيا، وذلكَ جامِعٌ لأحوالِ الرَّفاهيةِ، وعلى أخْصَرِ وَجهٍ؛ لأنَّ الَّذين يُريدونَ الحياةَ الدُّنيا لهم أميالٌ مُختلفةٌ، ورَغباتٌ مُتفاوِتةٌ؛ فكلٌّ يَتَمَنَّى أُمنيَّةً ممَّا تَلبَّسَ به قارونُ مِن الزِّينةِ، فحَصَل هذا المَعنى مع حُصولِ الإخبارِ عن انْقِسامِ قومِه إلى مُغتَرِّينَ بالزَّخارفِ العاجلةِ عن غيرِ عِلْمٍ، وإلى عُلماءَ يُؤْثِرونَ الآجِلَ على العاجلِ. ولو عُطِفَتْ جملةُ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بالواوِ وبالفاءِ لَفاتتْ هذه الخُصوصيَّةُ البَليغةُ؛ فصارتِ الجملةُ إمَّا خبَرًا مِن جملةِ الأخبارِ عن حالِ قَومِه، أو جُزءَ خبرٍ مِن قِصَّتِه [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/183). .
- قولُه: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ تعليلٌ لتَمنِّيهم، وتأكيدٌ له [1101] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/26). ، والتَّوكيدُ كِنايةٌ عن التَّعجُّبِ؛ حتَّى كأنَّ السَّامعَ يُنكِرُ حَظَّه فيُؤكِّدُه المتكلِّمُ [1102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/183). .
2- قولُه تعالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا عَطْفٌ على جُملةِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا؛ فهي مُشارِكَةٌ لها في مَعناها؛ لأنَّ ما تَشتَمِلُ عليه خِرْجةُ قارونَ وما تدُلُّ عليه مَلامِحُه مِن فتنةٍ ببَهْرَجَتِه وبِزَّتِه؛ دالَّةٌ على قِلَّةِ اعتِدادِه بثوابِ اللهِ، وعلى تَمَحُّضِه للإقبالِ على لَذَائذِ الدُّنيا ومَفاخِرِها الباطلةِ؛ ففي كلامِ الَّذينَ أُوتوا العِلْمَ تَنبيهٌ على ذلكَ، وإزالةٌ لِمَا تَستَجلِبُه حالةُ قارونَ مِن نُفوسِ المُبْتَلَينَ بزَخارِفِ الدُّنيا [1103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/184). .
- وتقديمُ المُسنَدِ إليه في قولِه: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ؛ ليَتَمَكَّنَ الخبرُ في ذِهْنِ السامِعينَ؛ لأنَّ الابتداءَ بما يَدُلُّ على الثَّوابِ المُضافِ إلى أَوْسَعِ الكُرَماءِ كَرَمًا؛ ممَّا تَسْتَشْرِفُ إليه النَّفْسُ [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/184). .
- وعُدِلَ عنِ الإضمارِ إلى المَوصوليَّةِ في قولِه: لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا دونَ: (خَيْرٌ لَكُمْ)؛ لِمَا في الإظهارِ مِن الإشارةِ إلى أنَّ ثوابَ اللهِ إنَّما يَنالُه المؤمنونَ الَّذين يَعمَلون الصَّالحاتِ، وأنَّه على حَسَبِ صِحَّةِ الإيمانِ ووفْرَةِ العمَلِ، مع ما في الموصولِ مِن الشُّمولِ لِمَنْ كان منهم كذلكَ ولغَيْرِهم ممَّن لم يَحْضُرْ ذلك المَقامَ [1105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/184). .
3- قولُه تعالَى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
- دَلَّتِ الفاءُ في قولِه: فَخَسَفْنَا على تَعْقيبِ ساعةِ خُروجِ قارونَ في ازْدِهائِه، وما جَرَى فيها مِن تَمَنِّي قومٍ أنْ يكونوا مِثْلَه، وما أنْكَر عليهم عُلَماؤُهم مِن غَفْلَتِهم عن التَّنافُسِ في ثوابِ الآخرةِ بتَعْجيلِ عِقابِه في الدُّنيا بمَرْأًى مِنَ الَّذينَ تَمَنَّوْا أنْ يَكونوا مِثْلَه [1106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/185). .
- قولُه: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ (مِنْ) صِلةٌ، أي: مِن جماعةٍ تُفيدُ استِغْراقَ الفِئاتِ، وإذا انْتَفَتِ الجُملةُ، ولم يُقْدَرْ على نَصْرِه؛ فانتِفاءُ الواحدِ عن نُصْرتِه أبلَغُ [1107] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/328). .
4- قولُه تعالَى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
- قولُه: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ ... (أَصْبَحَ) إذا حُمِلَ على ظاهِرِه دلَّ على أنَّ الخَسْفَ به وبِدارِه كان ليلًا، وهو أفْظَعُ العذابِ؛ إذِ اللَّيلُ مَقَرُّ الرَّاحةِ والسُّكونِ، والأمسُ يَحتمِلُ أنْ يُرادَ به الزَّمانُ الماضي، ويَحتمِلُ أن يُرادَ به ما قبْلَ يومِ الخَسْفِ، وهو يومُ التَّمنِّي، ويدُلُّ عليه العطفُ بالفاءِ الَّتي تَقْتَضِي التَّعقيبَ في قولِه: فَخَسَفْنَا؛ فيَكونُ فيه اعتِقابُ العذابِ خروجَه في زينَتِه، وفي ذلك تعجيلُ العذابِ [1108] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/328). .
- قوله: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ فائدةُ البيانِ بقولِه: مِنْ عِبَادِهِ الإيماءُ إلى أنَّه في بَسْطَةِ الأرزاقِ وقَدْرِها مُتصَرِّفٌ تصرُّفَ المالِكِ في مِلْكِه؛ إذِ المَبْسوطُ لهم والمَقْدورُ عليهم كلُّهم عَبيدُه؛ فحَقُّهمُ الرِّضا بما قسَمَ لهم مَولاهُم [1109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/188). .
- وأعادَ وَيْكَأَنَّ بعدُ؛ لاتِّصالِ كلٍّ منهما بما لم يتَّصِلْ به الآخَرُ [1110] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 434). . وقيل: إنَّ قولَه: وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تَكريرٌ للتَّعجُّبِ [1111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/188). .
5- قولُه تعالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
- قولُه: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ انْتَهَتْ قِصَّةُ قارونَ بما فيها مِنَ العِبَر مِن خَيرٍ وشرٍّ، فأُعقِبَتْ باستِئنافِ كلامٍ عنِ الجَزاءِ على الخيرِ وضِدِّه في الحياةِ الأبَديَّةِ، وأنَّها مُعَدَّةٌ لِلَّذينَ حالُهم بضِدِّ حالِ قارونَ، مع مُناسَبةِ ذِكْرِ الجَنَّةِ بعُنوانِ الدَّارِ لذِكْرِ الخَسْفِ بدارِ قارونَ؛ للمُقابَلةِ بيْنَ دارٍ زائلةٍ ودارٍ خالدةٍ، وابتُدِئَ الكلامُ بابْتِداءٍ مُشَوِّقٍ وهو اسمُ الإشارةِ إلى غيرِ مَذكورٍ مِن قَبْلُ؛ ليَسْتَشْرِفَ السَّامعُ إلى مَعرفةِ المُشارِ إليه فيَعْقُبُه بيانُه بالاسمِ المُعَرَّفِ باللامِ [1112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/189). .
- قولُه: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ إشارةُ تَعظيمٍ وتفخيمٍ لها؛ كأنَّه قيلَ: تلكَ الَّتي سَمِعتَ خبَرها وبلغَك وَصْفُها [1113] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/435)، ((تفسير البيضاوي)) (4/186)، ((تفسير أبي السعود)) (7/27). . والآخِرةُ: مُرادٌ به الدَّائِمةُ، أي: الَّتي لا دارَ بعْدَها؛ فاللَّفظُ مُستَعْمَلٌ في صَريحِ مَعناهُ وكِنايتِه [1114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/189). .
- وفي تَعليقِ المَوعِدِ بتَرْكِ إرادةِ العُلوِّ والفسادِ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا لا بتَرْكِ أنفُسِهما؛ مَزيدُ تَحذيرٍ منهما [1115] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/27). .
- ومَعنى لَا يُرِيدُونَ قيل: هي كِنايةٌ عن: (لا يَفْعلونَ)؛ لأنَّ مَن لَا يُريدُ الفِعلَ لا يَفْعَلُه إلَّا مُكْرَهًا [1116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/190). .
- وجاءَ التركيبُ بـ (لا) في قولِه: وَلَا فَسَادًا؛ فدَلَّ على أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن العُلُوِّ والفسادِ مَقصودٌ، لا مجموعُهما [1117] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/330). .
- قولُه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْييلٌ، وهو مَعطوفٌ على جُملةِ تِلْكَ الدَّارُ ...، وبه صارتْ جملةُ تِلْكَ الدَّارُ ... كلُّها تَذْييلًا؛ لِمَا اشتَمَلَتْ عليه مِن إثباتِ الحُكْمِ للعامِّ بالمَوصولِ مِن قولِه: لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، والمُعرَّف بلامِ الاستِغراقِ [1118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/190). .
6- قولُه تعالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- تَتَنَزَّلُ جُملةُ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ مَنزِلةَ بدَلِ الاشتِمالِ لجُملةِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ؛ لأنَّ العاقِبةَ ذاتُ أحوالٍ مِن الخَيرِ، ودَرَجاتٍ مِن النَّعيمِ، وهي على حَسَبِ ما يَجيءُ به المُتَّقونَ مِن الحَسَناتِ، فتَفاوُتُ درجاتِهم بتفاوُتِها، واختيارُ فِعْلِ عَمِلُوا في قولِه: الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ؛ لِما فيه مِن التَّنْبيهِ على أنَّ عمَلَهم هو عِلَّةُ جَزائِهم؛ زِيادةٌ في التَّنبيهِ على عَدْلِ اللهِ تعالَى [1119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/190، 191). .
- و(مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) مَاصَدَقُه [1120] الماصَدَق عندَ المَناطِقةِ: الأفرادُ الَّتي يَتحقَّقُ فيها معنَى الكُلِّيِّ، ويُقابِلُه (المفهوم). يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و(2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) لأحمد مختار (2/1284). : الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ الثَّاني هو عَيْنُ (مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ)؛ فكانَ المَقامُ مَقامَ الإضمارِ بأنْ يُقالَ: ومَنْ جاءَ بالسَّيئةِ فلا يُجْزَوْنَ... إلخ، ولكنَّه عَدَل عن مُقتَضَى الظاهرِ؛ لأنَّ في التَّصريحِ بوَصْفِهم بـ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ تَكْريرًا لإسنادِ عَمَلِ السَّيِّئاتِ إليهم؛ لقَصْدِ تَهجينِ هذا العمَلِ الذَّميمِ، وتَبْغيضِ السَّيِّئةِ إلى قُلوبِ السَّامِعينَ مِن المُؤمنينَ [1121] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/436)، ((تفسير البيضاوي)) (4/187)، ((تفسير أبي حيان)) (8/330)، ((تفسير أبي السعود)) (7/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/191). .
- وفي قولِه: إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ استِثناءٌ مُفَرَّغٌ -ناقصٌ مَنفيٌّ- عن فِعْلِ يُجْزَى المَنْفِيِّ المُفيدِ بالنَّفْيِ عُمومَ أنواعِ الجَزاءِ، والمستثنَى تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: جزاءٌ شِبْهُ الَّذي كانوا يَعْمَلونَه [1122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/191). .
- قولُه: إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: إلَّا مِثْلَ ما كانوا يَعمَلون؛ فحُذِفَ المِثْلُ، وأُقيمَ مُقامَه مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ مُبالَغةً في المُماثَلةِ [1123] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/187)، ((تفسير أبي حيان)) (8/330)، ((تفسير أبي السعود)) (7/27). .