موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيتان (41-42)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُسكِنَنَّهم ولَنُنزِلَنَّهم؛ مِن التبَوُّءِ: وهو الحُلولُ بالمكانِ، والنُّزولُ به، وأصلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ [471] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 338)، ((تفسير ابن جرير)) (14/224)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/312)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 289)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: والذين تَرَكوا ديارَهم ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، بَعدَما وقَعَ عليهم الظُّلمُ، لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا حَسنًا، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، ولأجرُ الآخرةِ أكبَرُ؛ لأنَّ ثوابَهم فيها الجنَّةُ، لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ أجرَ اللهِ وثوابَه للمُهاجِرينَ في سَبيلِه، ما تخلَّفَ منهم أحدٌ عن الهجرة. هؤلاء المُهاجِرونَ في سبيلِ اللهِ هم الذين صَبَروا على أوامِرِ الله وعن نواهِيه وعلى أقدارِه المُؤلِمةِ؛ وعلى رَبِّهم وَحدَه يَعتَمِدونَ.

تفسير الآيتين:

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم أقسَموا باللهِ جَهدَ أيمانِهم على إنكارِ البَعثِ والقيامةِ؛ دلَّ ذلك على أنَّهم تمادَوا في الغَيِّ والجَهلِ والضَّلالِ، وفي مِثلِ هذه الحالةِ لا يَبعُدُ إقدامُهم على إيذاءِ المُسلِمينَ وضَرِّهم، وإنزالِ العُقوباتِ بهم، وحينئذٍ يلزَمُ على المُؤمِنينَ أن يُهاجِروا عن تلك الدِّيارِ والمَساكِنِ، فذكر تعالى في هذه الآيةِ حُكمَ تلك الهجرةِ، وبيَّنَ ما لهؤلاءِ المهاجرينَ مِن الحَسَناتِ في الدُّنيا، والأجرِ في الآخرةِ؛ مِن حيثُ هاجروا وصَبَروا وتوكَّلوا على اللهِ، وذلك ترغيبٌ لغَيرِهم في طاعةِ الله تعالى [472] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/209). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَر الله تعالى حِكمةَ البَعثِ بأنَّها تبيينُ الذي اختلَفَ فيه النَّاسُ مِن هُدًى وضَلالةٍ، وتبيينُ أنَّ الذين كَفَروا كانوا كاذِبينَ؛ وعُلم من ذلك أنَّه يتبيَّنُ بالبَعثِ أنَّ الذين آمنوا كانوا صادِقينَ بدَلالةِ المُضادَّةِ، وأنَّهم مُثابُونَ ومُكرَمونَ، فلمَّا عُلِمَ ذلك من السِّياقِ، وقَع التصريحُ به في هذه الآيةِ [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/157). .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.
أي: والذين تَرَكوا أوطانَهم وقَومَهم؛ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ مِن بعدِ ما ظَلَمَهم الكُفَّارُ وعَذَّبوهم لِيَردُّوهم عن دينِهم- لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا يَرضَونَها، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، وعيشًا هنيئًا، ولنجازينَّهم جزاءً حَسَنًا [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/223)، ((تفسير القرطبي)) (10/107)، ((تفسير ابن كثير)) (4/572)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/157، 158). قال الرسعني: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً أي: بلدةً أو دارًا حسنةً، وهي المدينةُ، في قولِ ابنِ عباسٍ، والحسنِ، ومجاهدٍ، وقتادةَ، والأكثرينَ). ((تفسير الرسعني )) (4/31). قال ابنُ كثيرٍ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً قال ابنُ عبَّاسٍ، والشَّعبيُّ، وقتادةُ: المدينةُ. وقيل: الرِّزقُ الطَّيِّبُ، قاله مجاهِدٌ. ولا مُنافاةَ بينَ القولين). ((تفسير ابن كثير)) (4/572). قال الشوكاني في قولِه تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً: (اختُلِف في معنى هذا على أقوالٍ، فقيل: المرادُ: نزولُهم المدينةَ، قاله ابنُ عبَّاسٍ، والحسنُ، والشعبيُّ، وقتادةُ. وقيل: المرادُ: الرِّزقُ الحسَنُ، قاله مجاهدٌ. وقيل: النصرُ على عدوِّهم، قاله الضحَّاكُ. وقيل: ما استولَوا عليه مِن فتوحِ البلادِ، وصار لهم فيها مِن الولاياتِ. وقيل: ما بقيَ لهم فيها مِن الثناءِ وصار لأولادِهم من الشَّرفِ. ولا مانعَ من حملِ الآيةِ على جميعِ هذه الأمورِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/196). قال ابن تيمية: (سببُ نزولها المهاجرونَ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهي عامَّةٌ في كلِّ من اتَّصفَ بهذه الصِّفةِ). ((مجموع الفتاوى)) (8/326). وقال ابن كثير: (يحتملُ أن يكونَ سببُ نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجِرةِ الحبشةِ الذين اشتَدَّ أذى قومِهم لهم بمكَّةَ، حتى خرجوا من بين أظهُرِهم إلى بلادِ الحبشةِ؛ ليتمكَّنوا مِن عبادةِ ربِّهم، ومِن أشرافِهم: عثمانُ بنُ عفانَ، ومعه زوجتُه رُقيَّة بنتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وجعفرُ ابنُ أبي طالبٍ، ابنُ عمِّ الرسولِ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الأسدِ، في جماعةٍ، قريب مِن ثمانينَ، ما بينَ رجلٍ وامرأةٍ). ((تفسير ابن كثير)) (4/572). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/560). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100] .
وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .
وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولَثوابُ اللهِ للمُهاجِرينَ في الجنَّةِ أعظَمُ مِن ثوابِه لهم في الدُّنيا. لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ ثوابَ اللهِ للمُهاجرينَ في الدُّنيا والآخرةِ، لَمَا تخلَّفَ أحدٌ منهم عن الهِجرةِ [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/225)، ((تفسير الزمخشري)) (2/607)، ((تفسير ابن كثير)) (4/573)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). وقال الشوكاني: (وقيل: إنَّ الضمير في يَعْلَمُونَ راجعٌ إلى المؤمنين، أي: لو رأوا ثوابَ الآخرةِ، وعاينوه، لعلموا أنَّه أكبرُ من حسنةِ الدُّنيا). (( تفسير الشوكاني)) (3/197). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 20-22] .
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42).
الَّذِينَ صَبَرُوا.
أي: المُهاجِرونَ الذين وصَفَهم اللهُ هم الذين صَبَروا في اللهِ على امتثالِ أوامِرِه، وتجنُّبِ نواهيه، وصَبَروا على أقدارِه المُؤلِمةِ، وأذَى النَّاسِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/226)، ((تفسير ابن كثير)) (4/573)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). .
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
أي: وعلى ربِّهم يَعتَمِدونَ، وبه وَحدَه يَثِقونَ، ويُفوِّضونَ إليه أمورَهم [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/226)، ((تفسير النسفي)) (2/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 441). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ فيه دليلٌ على إخلاصِ العمَلِ لله [478] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/532). .
2- قال الله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الصَّبرُ والتوكُّلُ مِلاكُ الأمورِ كُلِّها، فما فات أحدًا شَيءٌ مِن الخيرِ إلَّا لعَدمِ صَبرِه وبَذْلِ جُهدِه فيما أُريدَ منه، أو لعَدَمِ توَكُّلِه واعتمادِه على الله [479] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:440). .
3- قال تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً فإنَّهم ترَكوا مساكِنَهم وأموالَهم، فعوَّضَهم اللهُ خيرًا منها في الدُّنيا، فإنَّ من ترك شيئًا لله عوَّضه الله بما هو خيرٌ له منه، وكذلك وقَعَ؛ فإنَّهم مكَّن اللهُ لهم في البلادِ، وحكَّمَهم على رقابِ العِبادِ، فصاروا أمراءَ حُكَّامًا، وكلٌّ منهم للمُتَّقين إمامًا [481]  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/572). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُ الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أي: وقَع ظلمُهم مِن الكفَّارِ، بناه للمفعولِ؛ لأنَّ المحذورَ وقوعُ الظلمِ، لا كونُه مِن معيَّنٍ [482] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/164). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
- قولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مُعترِضةٌ، وهي استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ الوعدِ كلِّها؛ لأنَّ ذلك الوعدَ العظيمَ بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يسألوا: كيف لم يقتَدِ بهم مَن بَقُوا على الكُفرِ؟ فتقَعُ جُملةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بَيانًا لِمَا استَبْهَم على السَّائلِ، والتَّقديرُ: لو كانوا يعلمونَ ذلك لاقتدَوا بهم ولكنَّهم لا يعلمونَ [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/157). .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- قولُه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للدَّلالةِ على قَصرِ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، أي: لا يتوكَّلونَ إلَّا على رَبِّهم دونَ التَّوكُّلِ على سَادةِ المُشركين ووَلائِهم [484] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/157). .
- والتَّعبيرُ في جانبِ الصَّبرِ بالمُضيِّ، وفي جانبِ التوكُّلِ بالمُضارعِ إيماءٌ إلى أنَّ صَبرَهم قد آذنَ بالانقضاءِ؛ لانقضاءِ أسبابِه، وأنَّ اللهَ قد جعلَ لهم فَرَجًا بالهِجرةِ الواقعةِ والهِجرةِ المُترَقَّبةِ؛ فهذا بشارةٌ لهم، وأنَّ التوكُّلَ دَيدَنُهم؛ لأنَّهم يَستَقبِلونَ أعمالًا جليلةً تتِمُّ لهم بالتوكُّلِ على اللهِ في أمورِهم، فهم يُكَرِّرونَه؛ وفي هذا بِشارةٌ بضَمانِ النَّجاحِ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/159). ، ففي صِيغَةِ الاستقبالِ يَتَوَكَّلُونَ دَلالةٌ على دَوامِ التَّوكُّلِ [486] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/116). .