غريب الكلمات:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُسكِنَنَّهم ولَنُنزِلَنَّهم؛ مِن التبَوُّءِ: وهو الحُلولُ بالمكانِ، والنُّزولُ به، وأصلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ .
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُسكِنَنَّهم ولَنُنزِلَنَّهم؛ مِن التبَوُّءِ: وهو الحُلولُ بالمكانِ، والنُّزولُ به، وأصلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ .
يقول تعالى: والذين تَرَكوا ديارَهم ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، بَعدَما وقَعَ عليهم الظُّلمُ، لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا حَسنًا، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، ولأجرُ الآخرةِ أكبَرُ؛ لأنَّ ثوابَهم فيها الجنَّةُ، لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ أجرَ اللهِ وثوابَه للمُهاجِرينَ في سَبيلِه، ما تخلَّفَ منهم أحدٌ عن الهجرة. هؤلاء المُهاجِرونَ في سبيلِ اللهِ هم الذين صَبَروا على أوامِرِ الله وعن نواهِيه وعلى أقدارِه المُؤلِمةِ؛ وعلى رَبِّهم وَحدَه يَعتَمِدونَ.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم أقسَموا باللهِ جَهدَ أيمانِهم على إنكارِ البَعثِ والقيامةِ؛ دلَّ ذلك على أنَّهم تمادَوا في الغَيِّ والجَهلِ والضَّلالِ، وفي مِثلِ هذه الحالةِ لا يَبعُدُ إقدامُهم على إيذاءِ المُسلِمينَ وضَرِّهم، وإنزالِ العُقوباتِ بهم، وحينئذٍ يلزَمُ على المُؤمِنينَ أن يُهاجِروا عن تلك الدِّيارِ والمَساكِنِ، فذكر تعالى في هذه الآيةِ حُكمَ تلك الهجرةِ، وبيَّنَ ما لهؤلاءِ المهاجرينَ مِن الحَسَناتِ في الدُّنيا، والأجرِ في الآخرةِ؛ مِن حيثُ هاجروا وصَبَروا وتوكَّلوا على اللهِ، وذلك ترغيبٌ لغَيرِهم في طاعةِ الله تعالى
.
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَر الله تعالى حِكمةَ البَعثِ بأنَّها تبيينُ الذي اختلَفَ فيه النَّاسُ مِن هُدًى وضَلالةٍ، وتبيينُ أنَّ الذين كَفَروا كانوا كاذِبينَ؛ وعُلم من ذلك أنَّه يتبيَّنُ بالبَعثِ أنَّ الذين آمنوا كانوا صادِقينَ بدَلالةِ المُضادَّةِ، وأنَّهم مُثابُونَ ومُكرَمونَ، فلمَّا عُلِمَ ذلك من السِّياقِ، وقَع التصريحُ به في هذه الآيةِ
.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.
أي: والذين تَرَكوا أوطانَهم وقَومَهم؛ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ مِن بعدِ ما ظَلَمَهم الكُفَّارُ وعَذَّبوهم لِيَردُّوهم عن دينِهم- لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا يَرضَونَها، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، وعيشًا هنيئًا، ولنجازينَّهم جزاءً حَسَنًا
.
كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100] .
وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .
وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولَثوابُ اللهِ للمُهاجِرينَ في الجنَّةِ أعظَمُ مِن ثوابِه لهم في الدُّنيا. لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ ثوابَ اللهِ للمُهاجرينَ في الدُّنيا والآخرةِ، لَمَا تخلَّفَ أحدٌ منهم عن الهِجرةِ
.
كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 20-22] .
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42).
الَّذِينَ صَبَرُوا.
أي: المُهاجِرونَ الذين وصَفَهم اللهُ هم الذين صَبَروا في اللهِ على امتثالِ أوامِرِه، وتجنُّبِ نواهيه، وصَبَروا على أقدارِه المُؤلِمةِ، وأذَى النَّاسِ
.
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
أي: وعلى ربِّهم يَعتَمِدونَ، وبه وَحدَه يَثِقونَ، ويُفوِّضونَ إليه أمورَهم
.
1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ فيه دليلٌ على إخلاصِ العمَلِ لله
.
2- قال الله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الصَّبرُ والتوكُّلُ مِلاكُ الأمورِ كُلِّها، فما فات أحدًا شَيءٌ مِن الخيرِ إلَّا لعَدمِ صَبرِه وبَذْلِ جُهدِه فيما أُريدَ منه، أو لعَدَمِ توَكُّلِه واعتمادِه على الله
.
3- قال تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً فإنَّهم ترَكوا مساكِنَهم وأموالَهم، فعوَّضَهم اللهُ خيرًا منها في الدُّنيا، فإنَّ من ترك شيئًا لله عوَّضه الله بما هو خيرٌ له منه، وكذلك وقَعَ؛ فإنَّهم مكَّن اللهُ لهم في البلادِ، وحكَّمَهم على رقابِ العِبادِ، فصاروا أمراءَ حُكَّامًا، وكلٌّ منهم للمُتَّقين إمامًا
.
قَولُ الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أي: وقَع ظلمُهم مِن الكفَّارِ، بناه للمفعولِ؛ لأنَّ المحذورَ وقوعُ الظلمِ، لا كونُه مِن معيَّنٍ .
1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
- قولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مُعترِضةٌ، وهي استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ الوعدِ كلِّها؛ لأنَّ ذلك الوعدَ العظيمَ بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يسألوا: كيف لم يقتَدِ بهم مَن بَقُوا على الكُفرِ؟ فتقَعُ جُملةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بَيانًا لِمَا استَبْهَم على السَّائلِ، والتَّقديرُ: لو كانوا يعلمونَ ذلك لاقتدَوا بهم ولكنَّهم لا يعلمونَ
.
2- قوله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- قولُه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للدَّلالةِ على قَصرِ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، أي: لا يتوكَّلونَ إلَّا على رَبِّهم دونَ التَّوكُّلِ على سَادةِ المُشركين ووَلائِهم
.
- والتَّعبيرُ في جانبِ الصَّبرِ بالمُضيِّ، وفي جانبِ التوكُّلِ بالمُضارعِ إيماءٌ إلى أنَّ صَبرَهم قد آذنَ بالانقضاءِ؛ لانقضاءِ أسبابِه، وأنَّ اللهَ قد جعلَ لهم فَرَجًا بالهِجرةِ الواقعةِ والهِجرةِ المُترَقَّبةِ؛ فهذا بشارةٌ لهم، وأنَّ التوكُّلَ دَيدَنُهم؛ لأنَّهم يَستَقبِلونَ أعمالًا جليلةً تتِمُّ لهم بالتوكُّلِ على اللهِ في أمورِهم، فهم يُكَرِّرونَه؛ وفي هذا بِشارةٌ بضَمانِ النَّجاحِ
، ففي صِيغَةِ الاستقبالِ يَتَوَكَّلُونَ دَلالةٌ على دَوامِ التَّوكُّلِ
.