موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيتان (71-72)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات:

وَسِيقَ: أي: وحُشِر، والسَّوْقُ يَقْتَضي الحثَّ على المَسيرِ بعُنْفٍ، وهو الغالبُ فيه [1324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/117)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224). .
زُمَرًا: أي: جَماعاتٍ وأفْواجًا مُتفَرِّقةً، وأصلُ (زمر) هنا: يدُلُّ على جِنْسٍ مِن الأصواتِ، واشتُقَّت الزُّمرةُ -بمعْنى الجماعةِ- مِن هذا؛ لأنَّها إذا اجْتَمَعتْ كانَتْ لها جَلَبَةٌ [1325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 383)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 364)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 492). .
حَقَّتْ: أي: وجَبَت، والحقُّ نَقيضُ الباطلِ، وأصلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [1326] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 197)، ((تفسير الطبري)) (20/265)، (مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 153). .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ تعالَى مُبيِّنًا مَصيرَ الكافرينَ وما يَقولُه لهم خَزَنةُ جَهنَّمَ: وسِيقَ الكُفَّارُ يَومَ القِيامةِ إلى جَهنَّمَ جَماعاتٍ مُتفَرِّقةً، حتَّى إذا جاؤُوا جَهنَّمَ فُتِحَت لهم أبْوابُها السَّبعةُ، وقال لهمْ خَزَنةُ جَهنَّمَ: ألمْ يَأتِكم رسُلٌ مِنكم يقرؤُونَ عليكمْ آياتِ رَبِّكم، ويُخَوِّفونَكم لِقاءَ يوْمِ القِيامةِ؟
قال الَّذين كَفَروا مُجِيبينَ خَزَنةَ جَهنَّمَ: بلَى! قدْ كان ذلك، ولكِنْ وَجَب عَذابُ اللهِ على الكافِرينَ. قيل لهمْ: ادخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ ماكِثينَ فيها أبدًا؛ فبِئسَ مَقامُ المتكَبِّرينَ نارُ جَهنَّمَ!

تفسير الآيتين:

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالَى أشياءَ مِن أحوالِ يومِ القِيامةِ على سَبيلِ الإجمالِ؛ بَيَّن بعْدُ كَيفيَّةَ أحوالِ الفَريقَينِ، وما أفضَى إليه كُلُّ واحدٍ مِنهما [1327] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/224). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالَى حُكمَه بيْنَ عِبادِه الذينَ جمَعَهم في خَلْقِه ورِزقِه وتَدبيرِه، واجتِماعَهم في الدُّنيا، واجتِماعَهم في مَوقِفِ القِيامةِ؛ فرَّقَهم تعالَى عندَ جَزائِهم، كما افتَرَقوا في الدُّنيا بالإيمانِ والكُفرِ، والتَّقوى والفُجورِ [1328] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 730). .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا.
أي: ويُساقُ الكُفَّارُ يوْمَ القِيامةِ إلى جَهنَّمَ جَماعاتٍ مُتفَرِّقةً [1329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((تفسير القرطبي)) (15/283)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/369). قال الرسعني: (سَوْق الكفار: طردُهم إلى النَّارِ، وزجرُهم بأبلغِ ما يكونُ مِن العنفِ). ((تفسير الرسعني)) (6/579). ممَّن اختار أنَّ معْنى زُمَرًا: جَماعاتٌ متفرِّقةٌ: أبو عُبَيدة، وابنُ عطيَّةَ، وجلالُ الدِّين المحلِّي، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/191)، ((تفسير ابن عطية)) (4/542)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 616)، ((تفسير الشوكاني)) (4/546). قال السعديُّ: (ويُساقون إليها زُمَرًا أي: فِرَقًا مُتفرِّقةً، كلُّ زُمرةٍ معَ الزُّمْرةِ التي تُناسِبُ عَمَلَها، وتُشاكِلُ سَعْيَها، يَلعَنُ بَعضُهم بعضًا، ويَبرَأُ بَعضُهم من بعضٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 730). وقال ابنُ عاشورٍ: (إنَّما جُعِلوا زُمَرًا؛ لاختلافِ دَرَجاتِ كُفرِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/69). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 479-480). قيل: يُساقُ كُفَّارُ كُلِّ أمَّةٍ على حِدَةٍ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: مُقاتِلُ بنُ سُليمان، والثَّعلبيُّ، والبَغَويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/688)، ((تفسير الثعلبي)) (8/257)، ((تفسير البغوي)) (4/101)، ((تفسير الخازن)) (4/65). .
كما قال تعالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 86] .
وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 83] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] .
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.
أي: حتَّى إذا بلَغَ الكُفَّارُ جَهنَّمَ فُتِحَت لهمْ أبْوابُها السَّبعةُ فَجأةً فَوْرَ وُصولِهم [1330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/174، 175)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/69)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 480-481). .
قال تَعالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 43، 44].
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ.
أي: وقال لهم خَزَنةُ جَهنَّمَ القائِمونَ عليها، الموكَّلونَ بها: ألمْ يَأتِكم رسُلٌ مِنكم [1331] قيل: المرادُ: مِن جِنسِكم البَشَريِّ. وممَّن قال بهذا المعنى: السَّمَرْقنديُّ، ومكِّيٌّ، وابنُ عطيَّةَ، والرازيُّ، والبيضاويُّ، وأبو حيَّانَ، وابنُ كَثير. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/195)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6388)، ((تفسير ابن عطية)) (4/543)، ((تفسير ابن عطية)) (4/543)، ((تفسير البيضاوي)) (5/49)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118). وعبَّر عن ذلك المعنى مُقاتلُ بن سُلَيمان، والواحديُّ، وابنُ الجَوْزيِّ، والبغويُّ، والشَّوكانيُّ؛ بقولِهم: مِن أنفُسِكم. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/688)، ((الوسيط)) للواحدي (3/594)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/27)، ((تفسير البغوي)) (4/101)، ((تفسير الشوكاني)) (4/546). وقيل: المرادُ: مِن قَومِكم، فتَعرِفونَ صِدْقَهم وأمانتَهم. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: القاسميُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/297). قال ابنُ عُثَيمين: (يقولُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ، وهذا أبلَغُ مِن أن يُقالَ: مِن أنفُسِكم؛ فمُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قُرَيشٍ مِن بَني هاشِمٍ، يَعرِفونَه ويَعرِفونَ أباه ويَعرِفونَ أجدادَه، ويَصِفونَه بالأمينِ ويَثِقونَ به... ولهذا قال تعالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164]: مِن جِنسِهم؛ لأنَّ الرَّسولَ ليس مَلَكًا، وقال تعالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ؛ لأنَّه مِنَ العَرَبِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 481-482). وقال السعديُّ -والظاهرُ أنَّه جمَع بينَ القولَين-: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: مِن جِنسِكم تَعرِفونَهم، وتَعرِفونَ صِدقَهم، وتَتمكَّنونَ مِن التَّلقِّي عنهم؟). ((تفسير السعدي)) (ص: 730). يقرؤُونَ عليكم آياتِ رَبِّكم التي أنْزَلَها إليكم [1332] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((تفسير ابن عطية)) (4/543)، ((تفسير القرطبي)) (15/284)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 480-482). قال ابن عاشور: (التِّلاوةُ: قِراءةُ الرِّسالَةِ والكتابِ؛ لأنَّ القارِئَ يَتْلو بعضَ الكلامِ ببَعضٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/70). وقال ابن كثير: (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ أيْ: يُقيمونَ عليكم الحُجَجَ والبراهينَ على صِحَّةٍ ما دَعَوْكم إليه). ((تفسير ابن كثير)) (7/118). ؟
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا.
أي: ويُخَوِّفونَكم ويُحَذِّرونَكم شَرَّ يَومِ القِيامةِ، ومَصيرَكم إليه؛ فتَستَعِدُّوا له بالتَّقوى [1333] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((تفسير السمرقندي)) (3/196)، ((تفسير القرطبي)) (15/284)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730). ؟
قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: قال الذين كَفَروا مُجيبِينَ خَزَنةَ جَهنَّمَ: بلَى! قدْ أتَتْنا رسُلٌ مِنَّا يقرؤُونَ علينا وَحْيَ رَبِّنا، ويُنذِرونَنا يوْمَ القِيامةِ، ولكِنْ كذَّبْناهم، ووَجَبتْ كَلِمةُ العذابِ -في عِلمِ اللهِ السَّابقِ- على الكافِرينَ به وبآياتِه ورُسُلِه [1334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((تفسير القرطبي)) (15/284)، ((تفسير ابن كثير)) (7/118، 119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 481-482). قيل: معنى حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ: وجَبَت كَلِمةُ اللهِ أنَّ عَذابَه لأهلِ الكُفرِ به. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: ابنُ جَرير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730). قال ابنُ كَثير: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: ولكنْ كذَّبْناهم وخَالَفْناهم؛ لِمَا سَبَق إلينا مِن الشِّقوةِ الَّتي كنَّا نَسْتَحِقُّها حيثُ عَدَلْنا عن الحقِّ إلى الباطلِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/119). وقال ابنُ عطيَّةَ: (أي: الكَلِمةُ المُقتَضيةُ مِن اللهِ تعالَى تَخليدَهم في النَّارِ، وهي عِبارةٌ عن قَضائِه السَّابِقِ لهم بذلك، وهي التي في قَولِه تعالَى لإبليسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85]). ((تفسير ابن عطية)) (4/543). وممَّن فسَّر الكلمةَ بقولِه تعالَى لإبليسَ في سُورةِ (ص): مُقاتلُ بنُ سُليمان، والثَّعلبيُّ، والسَّمعانيُّ، والكرمانيُّ، والبَغَويُّ، وأبو حيَّانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/688)، ((تفسير الثعلبي)) (8/257)، ((تفسير السمعاني)) (4/482)، ((تفسير الكرماني)) (2/1021)، ((تفسير البغوي)) (4/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224). قال الشِّنْقيطيُّ: (المرادُ بالكَلمةِ هو قولُه تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119]، كما دلَّتْ على ذلك آياتٌ مِن كِتابِ اللهِ تعالى؛ كقَولِه تعالَى في آخِرِ سُورةِ «هودٍ»: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118-119] ، وقولِه تعالَى في «السَّجدةِ»: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجدةُ: 13]. وقولِه تعالى في أُخْرَياتِ «ص»: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85]). ((أضواء البيان)) (6/287) بتصرف. ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/546). .
كما قال الله تعالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون: 103- 106].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .
وقال سُبحانَه: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 11] .
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72).
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: فيُقالُ لهم: ادْخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ السَّبعةَ ماكِثينَ فيها أبدًا، لا يَنقَطِعُ عنكم عَذابُها، ولا أنتمْ تُخرَجونَ منها [1335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/265)، ((تفسير ابن كثير)) (7/119)، ((تفسير الشوكاني)) (4/546)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730). قال السعديُّ: (كلُّ طائفةٍ تَدخُلُ مِن البابِ الذي يُناسِبُها ويُوافِقُ عَمَلَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 730). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/265). وقال ابنُ عاشورٍ: (دخولُ البابِ: وُلوجُه لوُصولِ ما وراءَه). ((تفسير ابن عاشور)) (24/71). .
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان سَببُ كُفرِهم بالآياتِ هو التَّكبُّرَ؛ قالوا لهم [1336] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/463). :
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
أي: فبِئْسَ المَقامُ والمُستقَرُّ للمُتكَبِّرينَ عن الحَقِّ، نارُ جَهنَّمَ [1337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/265)، ((تفسير ابن كثير)) (7/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 730)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/71). .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالَى: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أنَّهم تكَبَّروا عن الحَقِّ، فجازاهم اللهُ مِن جِنسِ عَمَلِهم بالإهانةِ والذُّلِّ والخِزْيِ [1338] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 730). ، وفي ذلك التَّحذيرُ مِن الكِبْرِ؛ لئلَّا يكونَ الإنسانُ مِن أصحابِ النَّارِ، فالنَّارُ مَثْوَى أهلِ الكِبْرِ، وأمَّا أهلُ التَّواضُعِ فمَأْواهم الجنَّةُ؛ فالمتواضِعون للحَقِّ وللخَلْقِ هؤلاء في الجنَّةِ، والمتكبِّرون عن الحقِّ وعن الخَلْقِ هؤلاء مَثْواهم النَّارُ [1339] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 493). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا أنَّ أبوابَ جَهنَّمَ لا تُفتحُ إلَّا إذا جاءَتْ هذه الزُّمَرُ، كسائرِ أبوابِ السُّجونِ؛ فإنَّها لا تَزالُ مُغْلقةً حتَّى يَأتِيَ أصحابُ الجرائمِ الذين يُسْجَنون فيها، فتُفتَحُ ثم تُغلَقُ عليهم [1340] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/224). .
2- في قَولِه تعالَى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنَّه لا وُجوبَ قَبْلَ مَجيءِ الشَّرعِ؛ لأنَّ الملائِكةَ بَيَّنوا أنَّه ما بَقِيَ لهم عِلَّةٌ ولا عُذرٌ بعْدَ مَجيءِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ولو لم يكُنْ مَجيءُ الأنبياءِ شَرطًا في استِحقاقِ العَذابِ لَمَا بَقِيَ في هذا الكلامِ فائِدةٌ [1341] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/479). ؛ فالآيةُ دلَّتْ على أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ إلَّا مَن أرْسَل إليه رَسولًا تَقومُ به الحُجَّةُ عليه، ودلَّ على ذلك أيضًا قولُه تعالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وقولُه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، إلى غيْرِ ذلك مِن النُّصوصِ [1342] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/291). .
3- في قَولِه تعالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه قدْ أقامَ الحُجَّةَ على خَلْقِه برُسُلِه، وقال تعالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8، 9]، إلى غيْرِ ذلك [1343] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/735). .
4- قَولُه تعالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه تَمامُ الحُجَّةِ على بَني آدمَ بإرسالِ الرُّسُلِ منهم؛ لأنَّهم لوْ كانوا مِن غيْرِ الجِنسِ لم تَتِمَّ الحُجَّةُ، فإذا كانوا مِن الجِنسِ نَفْسِه، بلْ مِن القَبيلةِ نَفْسِها، تَمَّتِ الحُجَّةُ [1344] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 485). .
5- في قَولِه تعالَى: يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ أنَّ ما جاءتْ به الرُّسُلُ مِن الوحْيِ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى سَمَّاها آيَاتٍ، والآيةُ: العلامةُ المعَيِّنَةُ لِمَا دَلَّتْ عليه؛ فهي حُجَّةٌ مُلْزِمةٌ لكلِّ مَن سَمِعها [1345] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 485). .
6- اجتماعُ العذابِ القَلْبيِّ والبَدَنيِّ على أهلِ النَّارِ؛ أمَّا البَدَنيُّ فظاهِرٌ، وأمَّا القَلْبيُّ فما يَحْصُلُ لهم مِن التَّوبيخِ والتَّقريعِ، كما في قَولِه تعالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ...، والتَّوبيخُ ليْس بالأمرِ الهَيِّنِ -لا سيَّما في مِثلِ هذا الحالِ-؛ لأنَّهم إذا ذُكِّروا بهذه النِّعمةِ في حالٍ لا يَتمكَّنونَ مِن استدراكِ ما فات، كان ذلك أشَدَّ حَسْرةً، والعِياذُ باللهِ [1346] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 484). !
7- قولُه تعالَى: رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ فيه أنَّه ما مِن رَسولٍ إلَّا وقدْ أتَى بكِتابٍ، ويُؤيِّدُ هذا قولُه سُبحانَه وتعالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25]، وقولُه تعالَى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] ، لكنَّنا لا نَعْلَمُ كلَّ كِتابٍ أُوتِيَه رَسولٌ! فالذي نَعْرِفُه: التَّوراةُ، والإنجيلُ، والزَّبُورُ، وصُحفُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والقُرآنُ [1347] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 485). .
8- قَولُه تعالَى: يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ فيه بَيانُ مُقتَضَى رُبوبيَّةِ اللهِ: أنَّها رُبوبيَّةٌ مَبنيَّةٌ على الرَّحمةِ، فلوْ أنَّ اللهَ تعالَى تَرَكَنا هَمَلًا، لم تكُنْ رُبوبيَّتُه تامَّةً، لكِنَّه سُبحانَه وتعالَى لم يَترُكْنا هَمَلًا، بلْ أرسَلَ إلينا الرُّسُلَ؛ فتَمَّتْ بذلك الرُّبوبيَّةُ التي كان مُقتضاها هِدايةَ الخَلْقِ [1348] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 486). .
9- في قَولِه تعالَى: قَالُوا بَلَى أنَّ جميعَ أهلِ النَّارِ قدْ أنْذَرَتْهم الرُّسلُ في دارِ الدُّنيا؛ فعَصَوْا أمْرَ ربِّهم [1349] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/67). ؛ فـ بَلَى حرْفُ جَوابٍ لإثباتِ النَّفيِ المُصَدَّرِ بالاستفهامِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ، وأفاد إقرارَ المُكَذِّبِين في ذلك اليومِ إقرارًا كاملًا [1350] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 486). .
10- في قَولِه تعالَى: قَالُوا بَلَى سُؤالٌ: أنَّ في هذه الآيةِ وأمثالِها أنَّهم لَمَّا سُئِلوا اعتَرَفوا وأقَرُّوا بما كانوا فيه، وأخْبَروا بالواقِعِ، وأيضًا في القُرآنِ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على إنكارِهم وحَلِفِهم على الإنكارِ، كقَولِه عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ! فهذه الآياتُ تدُلُّ على إنكارِهم لِما جاؤوا به مِن الكُفرِ، وتلك تدُلُّ على إقرارِهم!
والجوابُ: أنَّه قدْ سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن ذلِك، فأجاب: أنَّهم إذا رأَوا أنَّ أهلَ الشِّركِ لا خَلاصَ لهم، قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فعِندَ ذلك يَختِمُ اللهُ على ألْسِنتِهم، وتَشهَدُ أيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يَكسِبونَ [1351] عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: (جاء رجُلٌ إلى ابنِ عبَّاسٍ، فقال: أشْياءُ تَختلِفُ علَيَّ في القُرآنِ، فقال: ما هو؟ أَشَكٌّ في القُرآنِ؟! قال: ليس بالشَّكِّ، ولكنَّه اخْتِلافٌ. قال: فهاتِ ما اختلَفَ عليكَ مِن ذلك. قال: أسمَعُ اللهَ يقولُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقال: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ؛ فقدْ كَتَموا. فقال ابنُ عبَّاسٍ: أمَّا قولُه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعامُ: 23]؛ فإنَّهم لمَّا رَأوْا يومَ القِيامةِ أنَّ اللهَ يَغفِرُ لأهْلِ الإسْلامِ، ويَغفِرُ الذُّنوبَ، ولا يَغفِرُ شِركًا، ولا يَتعاظَمُه ذَنْبٌ أنْ يَغفِرَه؛ جحَدَ المُشرِكونَ فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ؛ رَجاءَ أنْ يَغفِرَ لهم، فختَم على أفْواهِهم، وتَكلَّمَتْ أيْديهم وأرجُلُهم بما كانوا يَعمَلونَ، فعِندَ ذلك يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ). أخرَجَه عبدُ الرَّزَّاقِ في ((تفسيره)) (1/457، 458)، ومن طريقِه ابنُ جَرير في ((تفسيره)) (7/43). ، قال تعالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] ... فهذه الأسرارُ التي تُقالُ ويُفصِحُ عنها إنَّما هي لأيْديهم وألسِنَتِهم وجُلودِهم، كما قال تعالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [1352] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/275، 276). [فصلت: 22] .
وأيضًا فإنَّ يوْمَ القِيامةِ يومٌ طويلٌ، والأحوالُ فيه مُختلِفةٌ؛ فتارةً يُقِرُّونَ، وأُخرَى يَجْحَدونَ، وذلك يدُلُّ على شِدَّةِ خَوفِهم، واضطرابِ أحوالِهم؛ فإنَّ مَن عَظُمَ خَوفُه كَثُرَ الاضطرابُ في كَلامِه [1353] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/151). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
- قولُه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا تَنفيذٌ للقَضاءِ الذي جاء في قولِه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: 69] ، وقولِه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر: 70] ؛ فإنَّ عاقِبةَ ذلك ونَتيجتَه إيداعُ المُجْرمينَ في العِقابِ، وإيداعُ الصَّالحينَ في دارِ الثَّوابِ. وابتُدِئَ في الخبَرِ بذِكرِ مُستحقِّي العِقابِ؛ لأنَّه الأهمُّ في هذا المقامِ؛ إذْ هو مَقامُ إعادةِ الموعظةِ والتَّرهيبِ للذين لم يَتَّعِظوا بما تَكرَّرَ في القُرآنِ مِن العِظاتِ مِثلِ هذه، فأمَّا أهلُ الثَّوابِ فقدْ حصَلَ المقصودُ منهم، فما يُذكَرُ عنهم فإنَّما هو تَكريرُ بِشارةٍ وثَناءٍ [1354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/68، 69). .
- قولُه: فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا جَوابُ إِذَا، وأغْنى ذِكرُ إِذَا عن الإتيانِ بـ (لمَّا) التَّوقيتيَّةِ، والتَّقديرُ: فلمَّا جاؤوها فُتِحَت أبوابُها، أي: وكانتْ مُغلقةً؛ لِتُفتَحَ في وُجوهِهم حِين مَجيئِهم فَجْأةً تَهويلًا ورُعْبًا [1355] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/69). .
- قولُه: فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا قُرِئَ فُتِّحَتْ بتَشديدِ التَّاءِ [1356] قرَأ عاصمٌ وحمْزةُ والكِسائيُّ وخَلَف بالتخفيفِ هنا وفي الآيةِ (73)، وقرَأ الباقونَ بالتَّشديدِ فيهما. يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 625)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/364). ؛ للمُبالَغةِ في الفتْحِ [1357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/69). .
- والاستفهامُ الموجَّهُ مِن خَزَنةِ جَهنَّمَ إلى أهلِ النَّارِ في قولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا استفهامٌ تَقريريٌّ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ والزَّجْرِ والتَّقريعِ، كما دلَّ عليه قولُهم بعْدَه: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، ومِنْكُمْ صِفةٌ لِـ رُسُلٌ، والمقصودُ مِن الوَصْفِ التَّورُّكُ عليهم؛ لأنَّهم كانوا يَقولون: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ [1358] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/146)، ((تفسير البيضاوي)) (5/49)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224)، ((تفسير أبي السعود)) (7/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/70). [القمر: 24].
- وفي قولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ أُسْنِدَت التِّلاوةُ إلى جَميعِ الرُّسلِ وإنْ كان فيهم مَن ليْس له كِتابٌ، على طَريقةِ التَّغليبِ [1359] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/146)، ((تفسير البيضاوي)) (5/49)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224)، ((تفسير أبي السعود)) (7/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/70). .
- وأُضِيف اليوْمُ إليهم في قولِه: لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؛ لأنَّ المرادَ لِقاءُ وقْتِكم هذا، وهو وقْتُ دُخولِهم النَّارَ، لا يومُ القِيامةِ، واستِعمالُ لفْظِ اليومِ والأيَّامِ في أوقاتِ الشِّدَّةِ مُستفيضٌ [1360] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/478). .
- قولُه: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ لم يُعطَفْ فِعلُ قَالُوا على ما قبْلَه؛ لأنَّه جاء في مَعرِضِ المقاوَلةِ في المُحاوَراتِ [1361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/71). .
- مَحلُّ الاستِدراكِ في قولِه: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ هو ما طُوِيَ في الكلامِ ممَّا اقْتَضى أنْ تَحِقَّ عليهم كَلِماتُ الوَعيدِ؛ وذلك بإعراضِهم عن الإصغاءِ لأمْرِ الرُّسلِ، فالتَّقديرُ: ولكنْ تَكبَّرْنا وعانَدْنا، فحَقَّتْ كَلِمةُ العذابِ على الكافرينَ [1362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/71). .
- قولُه: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ، أي: علينا؛ فوُضِعَ الظَّاهرُ مَوضعَ الضَّميرِ، فصرَّحوا بالوصْفِ المُوجِبِ لهمُ العِقابَ، وللدَّلالةِ على اختِصاصِ ذلك بالكَفَرةِ [1363] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/49)، ((تفسير أبي حيان)) (9/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/70). .
2- قولُه تعالَى: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
- قولُه: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ فيه إبهامُ القائلِ؛ لِتَهويلِ المَقُولِ [1364] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/49)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/443)، ((تفسير أبي السعود)) (7/264). . وقيل: حُذِف الفاعلُ في قولِه: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا كأنَّ الكونَ كلَّه نطَق بذلك وقالَه لهم، حتَّى تقولَه أعضاؤُهم وأرواحُهم وأرضُهم وسَماؤُهم [1365] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 64-65)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 162). ، وكلُّ مَن رآهم وعَلِم حالَهم يَشهَدُ عليهم بأنَّهم مُستحِقُّون للعَذابِ؛ ولهذا لم يُسنِدْ هذا القولَ إلى قائلٍ معيَّنٍ، بلْ أطْلَقه؛ لِيدُلَّ على أنَّ الكونَ شاهدٌ عليهم بأنَّهم مُستحِقُّونَ ما همْ فيه بما حكَم العدْلُ الخبيرُ عليهمْ به [1366] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/119). . وقيل: عبَّر بالمبنيِّ للمفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّهم وصَلوا إلى أقصَى ما يكونُ مِن الذُّلِّ؛ بحيثُ إنَّهم يَمتثِلونَ قوْلَ كلِّ قائلٍ جَلَّ أو قَلَّ [1367] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/566). !
- والمَخصوصُ بالذَّمِّ في قولِه: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ مَحذوفٌ، دلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: بِئسَ مَثوَى المتكبِّرين جَهنَّمُ، ووُصِفوا بالمتكبِّرين؛ لأنَّهم أعْرَضوا عن قَبولِ الإسلامِ تَكبُّرًا عن أنْ يَتَّبِعوا واحِدًا منْهم [1368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/71). .
- وفي الآيةِ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ فتحتَ قَوْلِ خَزَنةِ النَّارِ لأهْلِها: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، وقَوْلِ خَزَنةِ الجنَّةِ لأهلِها: فَادْخُلُوهَا [الزمر: 73] ؛ سِرٌّ لَطيفٌ ومعْنًى بَديعٌ لا يَخفَى على المتأمِّلِ، وهو أنَّها لَمَّا كانتْ النَّارُ دارَ العُقوبةِ، وأبوابُها أفظَعَ شَيءٍ، وأشَدَّه حَرًّا، وأعظَمَه غمًّا، يَستَقبِلُ فيها الدَّاخِلُ مِن العذابِ ما هو أشَدُّ منها، ويَدْنو مِن الغَمِّ والخِزْيِ والحُزنِ والكَرْبِ بدُخولِ الأبوابِ، فقِيلَ: ادخُلوا أبوابَها؛ صَغارًا لهم، وإذلالًا وخِزيًا، ثمَّ قيل لهم: لا يَقتَصِرْ بكمْ على مُجرَّدِ دُخولِ الأبوابِ الفَظيعةِ، ولكِنْ وَراءَها الخُلودُ في النَّارِ. وأمَّا الجنَّةُ فهي دارُ الكَرامةِ، والمَنزِلُ الذي أعَدَّه اللهُ لأوليائِه؛ فبُشِّروا مِن أوَّلِ وَهْلةٍ بالدُّخولِ إلى المقاعِدِ والمنازِلِ والخُلودِ فيها [1369] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 53). .