الموسوعة الحديثية


- يَجْمَعُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى النَّاسَ، فَيَقُومُ المُؤْمِنُونَ حتَّى تُزْلَفَ لهمُ الجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فيَقولونَ: يا أبانا، اسْتَفْتِحْ لنا الجَنَّةَ، فيَقولُ: وهلْ أخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلَّا خَطِيئَةُ أبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قالَ: فيَقولُ إبْراهِيمُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، إنَّما كُنْتُ خَلِيلًا مِن وراءَ وراءَ، اعْمِدُوا إلى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ الذي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فيَقولُ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، اذْهَبُوا إلى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ ورُوحِهِ، فيَقولُ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لَسْتُ بصاحِبِ ذلكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَيَقُومُ فيُؤْذَنُ له، وتُرْسَلُ الأمانَةُ والرَّحِمُ، فَتَقُومانِ جَنَبَتَيِ الصِّراطِ يَمِينًا وشِمالًا، فَيَمُرُّ أوَّلُكُمْ كالْبَرْقِ قالَ: قُلتُ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي أيُّ شيءٍ كَمَرِّ البَرْقِ؟ قالَ: ألَمْ تَرَوْا إلى البَرْقِ كيفَ يَمُرُّ ويَرْجِعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشَدِّ الرِّجالِ، تَجْرِي بهِمْ أعْمالُهُمْ ونَبِيُّكُمْ قائِمٌ علَى الصِّراطِ يقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حتَّى تَعْجِزَ أعْمالُ العِبادِ، حتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلَّا زَحْفًا، قالَ: وفي حافَتَيِ الصِّراطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ به، فَمَخْدُوشٌ ناجٍ، ومَكْدُوسٌ في النَّارِ. والذي نَفْسُ أبِي هُرَيْرَةَ بيَدِهِ إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.
الراوي : أبو هريرة وحذيفة بن اليمان | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم : 195 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
اللهُ سُبحانَه وتعالَى رَؤوفٌ رَحيمٌ بعِبادِه، وقد وَسِعَت رَحمتُه كلَّ شَيءٍ، وقد جعل الجنَّة دارَ النَّعيمِ المُقيمِ لعِبادِه المتَّقينَ المؤمِنينَ وجَعَل النَّارَ عِقابًا للعاصين والكَفَرةِ، ومَن رَأى هَولَ المَحشَرِ والقيامةِ، ثُمَّ فازَ بالجنَّةِ؛ فإنَّه يَعلَمُ مِقدارَ نِعمةِ اللهِ وفَضلِه عليه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَعضِ أحداثِ يَومِ القيامةِ، وأنَّ اللهَ تَبارَك وتعالَى يجمَعُ النَّاسَ يومَ القيامةِ، فيَقومُ المُؤمنونَ حتَّى «تُزلَفَ» لهم الجنَّةُ، أي: تُقرَّبُ لهم وتَدنو منهم، وحينئذٍ يَشتاقون لدُخولِها والخَلاصِ من هَولِ المَوقِفِ، فيَبحَثون عمَّن يَشفَعُ لهم إلى اللهِ أن يُنهيَ الحِسابَ، وفي صَحيحِ مُسلِمٍ من رِوايةِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ: «فيَهتَمُّون لذَلِكَ -أو: فيُلهَمُون لذَلِكَ- فيَقولون: لوِ استَشْفَعْنا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا»، والمَعنَى على الأُولى: أنَّهُم يَعتَنون بسُؤالِ الشَّفاعةِ، وزَوالِ الكَربِ الَّذي هم فيه، ومَعنَى الثَّانيةِ: أنَّ اللهَ تَعالَى يُلهِمُهُم سُؤالَ ذلك، والإلهامُ: أن يُلقيَ اللهُ تَعالَى في النَّفسِ أمرًا يَحمِلُ على فِعلِ الشَّيءِ، أو تَركِه؛ فيَأتون آدَمَ عَليه السَّلامُ -وهو أبو البَشَرِ- يَطلُبون منه أن يَشفَعَ عِندَ اللهِ، فيَقولون: «يا أبانا، استفتِحْ لنا الجنَّةَ»، أي: اطلُب فَتحَ بابِها حتَّى نَدخُلَها، فيَقولُ: «وهلْ أخرَجَكم منَ الجنَّةِ إلَّا خَطيئةُ أبيكم آدَمَ؟!» وهي أكلُه منَ الشَّجَرةِ، وقد نُهي عنها، «لَسْتُ بصاحِبِ ذلك» المَقامِ الَّذي أردتُموه منَ الشَّفاعةِ الكُبرى، والمرتَبةِ العَظيمةِ المُسمَّاةِ بالمَقامِ المحمودِ، وفي الصَّحيحَينِ: أنَّ آدَمَ عَليه السَّلامُ يَقولُ: «إنَّ ربِّي غَضِبَ اليَوَم غَضَبًا لَم يَغضَبْ قَبْلَه مِثلَه، ولنْ يَغضَبَ بَعدَه مِثَله، وإنَّه نَهانِي عنِ الشَّجَرةِ؛ فعَصَيتُ، نَفسِي نَفسِي نَفسِي! اذهَبوا إلى غَيرِي»، ثم يُرشِدُهم أن يَذهَبوا لغَيرِه منَ الأنبياءِ؛ فيَقولُ: «اذهَبوا إلى ابني إبراهيمَ خليلِ اللهِ»، والخَليلُ مَعناهُ: المُحِبُّ الكامِلُ المَحَبَّةِ، والمَحبوبُ المُوَفِّي بحَقيقةِ المَحبَّةِ، اللَّذانِ ليس في حُبِّهِما نَقصٌ ولا خَلَلٌ، فإنَّه من أفضلِ الرُّسلِ، وهو جَدُّ خاتَمِ الأنبياءِ، فتَقرَّبوا إليه واعرِضوا أمرَكم عليه، فيَأتون إبراهيمَ عَليه السَّلامُ ويَسألونَه الشَّفاعةَ فيَقولُ لهم إبراهيمُ: لَستُ بصاحبِ هذا المَقامِ، «إنَّما كنتُ خَليلًا من وَراءَ وَراءَ»، أي: من خَلفِ حجابٍ، والمُرادُ: لَم أكُن في التَّقريبِ والإدلالِ بمَنزِلةِ الحَبيبِ، وهي كَلِمةٌ تُقالُ على سَبيلِ التَّواضُعِ، أي: لَستُ في تِلك الدَّرَجةِ، أوِ المَعنَى: أنَّ الفضلَ الَّذي أُعطيتُه كان بسِفارةِ جِبريلَ، ولَكِنِ ائتوا مُوسَى الَّذي كَلَّمه اللهُ بلا واسِطةٍ، وقد ذَكَر إبراهيمُ عَليه السَّلامُ في رِوايةٍ أُخرى في الصَّحيحَينِ: أنَّه قَد كَذَب ثَلاثَ كَذَباتٍ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّحيحَينِ: «لَمْ يَكْذِبْ إبراهِيمُ النَّبِيُّ عليهِ السَّلامُ قَطُّ، إلَّا ثَلاثَ كَذَباتٍ، ثِنْتَينِ في ذاتِ اللهِ؛ قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وقَوْلُه: بلْ فَعَلَه كَبِيرُهم هذَا، ووَاحِدَةٌ في شَأْنِ سَارَةَ»، ثم أرشَدَهُم أن يَتوجَّهُوا إلى مُوسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي كَلَّمه اللهُ تَكليمًا، بلا واسطةِ كِتابٍ، ومِن غيرِ حِجابٍ، كما في قَولِ اللهِ تَعالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فالكَلامُ صِفةٌ ثابِتةٌ لله تَعالَى لا يُشبِه كَلامَ غَيرِه.
فيَأتون مُوسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «فيَقولُون: يا مُوسَى، أنتَ رَسولُ اللهِ، فضَّلَكَ اللهُ برِسالَتِه وكَلامِه على النَّاسِ... وقال: إنِّي قَتَلتُ نَفسًا لم أُومَرْ بقَتلِها»، ويُخبِرُ أنَّه ليس هو بصاحِبِ هذا المَقامِ، ثم يُرشِدُهم إلى أن يَذهَبوا إلى غَيرِه منَ الأنبياءِ، فيقولُ: «اذهَبوا إلى عِيسَى كَلمةِ اللهِ ورُوحِه»، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «فيَقولُونَ: يا عِيسَى أَنتَ رَسولُ اللهِ، وكَلِمَتُه أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ، ورُوحٌ مِنهُ، وكَلَّمتَ النَّاسَ في المَهدِ صَبِيًّا... -ولمَ يَذكُرْ ذَنبًا-»، وجاء في رِوايةِ التِّرمِذِيِّ من حَديثِ أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ: «إنِّي عُبِدت من دُونِ اللهِ»، ولذلك يَقولُ عِيسَى عَليهِ السَّلامُ: لَستُ بصاحِبِ ذلك المَقامِ، وفي رِوايةِ أنَسٍ في الصَّحيحَينِ: «ولكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم؛ عَبدًا قَد غُفِرَ له مَا تَقدَّمَ مِن ذَنبِهِ وما تَأخَّرَ».
فيَأتون مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي رِوايةٍ للبُخارِيِّ: «فيَأتُونِي فأَسجُدُ تَحتَ العَرشِ؛ فيُقَالُ: يا مُحمَّدُ، ارفَعْ رَأسَكَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ»، ويستأذِنُ في الشَّفاعةِ؛ لإزالةِ كَربِ الموقفِ وعُمومِ الأحزانِ، فيُؤذَنُ له إمَّا في دُخولِ الجَنَّةِ، كما هو ظاهِرُ هذا الحَديثِ، وإمَّا أن يُؤذَنَ له في الشَّفاعةِ المَوعودِ بها، والمَقامِ المَحمودِ الذي ادَّخَرَه اللهُ تَعالَى له، وأعلَمَه أنَّه يَبعَثُه فيه، كما جاء في حَديثِ أنَسٍ في الصَّحيحَينِ.
«وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فتَقومانِ جَنَبَتَيِ الصِّراطِ، يَمينًا وشِمالًا»، أي: إنَّ الأمانةَ والرَّحِمَ -لعِظَمِ شأنِهما، وفَخامةِ ما يَلزَمُ العبادَ من رِعايةِ حقِّهما- يُوقَفانِ هناك للأمينِ والخائنِ، والمُواصِل والقاطعِ، وتَقومانِ لِتُطالِبَا بحَقِّهِما من كلِّ مَن يُريدُ المُرورَ، فيُحاجَّانِ عن المُحقِّ، ويَشهَدانِ على المُبطِل، ثم يَبدَأُ النَّاسُ المُروَر على الصِّراطِ -وهو الجِسرُ الذي يَمُرُّون عَليهِ فوقَ جَهنَّمَ- فيمُرُّ أولُ المارِّين منَ المُؤمِنين كالبرقِ، فسَأل أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَفدِيكَ «بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، أيُّ شَيءٍ كَمَرِّ البَرْقِ؟» والمَعنَى: في أيِّ شَيءٍ تُشبِّهُه بالبَرقِ؟ فأجَابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يُشبِهُه في سُرعَتِه الَّتي تَكونُ كطَرفِة عَينٍ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ سُرعةِ مُرورِهِم دون أن يُصِيبَهُم أيُّ أذًى، ثمَّ يَمُرُّ مَن بَعدَهُم مِثلَ الرِّيحِ، وهذا كِنايةٌ عن سُرعةٍ مُرورِهم، ولكِنْ أقلُّ مِمَّن قَبلَهُم، ثمَّ يَمُرُّ مَن بَعدَهم مِثلَ مُرورِ الطِّيرِ، ومَن بَعدَهم مِثلَ شَدِّ الرِّجال، أي: يَكونُ مُرورُهم وجَرْيُهم كسُرعةِ الذي يَجري على قَدَمِه، وتجري بهم أعمالُهم، فسُرعةَ مرورِ الناس على الصِّراطِ تكونُ بقدرِ أعمالِهم ومبادرتِهم لطاعةِ ربِّهم في الدُّنيا، وهذا كُلُّه من عَدلِ اللهِ تَعالَى، وإظهارِ ذلك لعِبادِه، وإلَّا فالكُلُّ برَحمَتِه، ويَكونُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمًا على الصِّراطِ يَدعو اللهَ ويقولُ: «ربِّ، سلِّمْ سلِّمْ»، وهذا من كَمالِ شَفَقَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَحمَتِه بالخَلقِ، ويَظَلُّ النَّاسُ يَمُرُّون حتَّى تَعجِزَ أعمالُ العبادِ وتَضعُفَ، حتَّى يجيءَ الرَّجلُ فلا يَستطيعُ السَّيرَ والمرورَ على الصِّراطِ إلَّا زَحفًا على مَقعَدَتِه، ويَكونُ على جانِبَيِ الصِّراطِ «كَلاليبُ مُعلَّقةٌ»، والكلاليبُ جمعُ كَلُّوبٍ، وهو الخُطَّافُ الَّذي يَخطَفُ النَّاسَ، «مَأمورةٌ بأخذِ مَن أُمِرَتْ به؛ فمَخْدوشٌ ناجٍ»، أي: فمنهم مَجروحٌ بتِلكَ الكَلاليِب إلَّا أنَّه يَنجو منَ الوقوعِ في النَّارِ، وخَدْشُه منَ النَّارِ هو مِقدارُ جَزائه منها، ومِنهُم «مَكدوسٌ في النَّارِ»، أي: مُلقًى فيها ومَدفوعٌ فيها.
وأقسَمَ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه باللهِ الَّذي نفسُ أبي هُرَيرةَ بيَدِه، على أنَّ عُمقَ قَعرِ جهنَّمَ وبُلوغَه يَكونُ مَسيرةَ سَبعين سنَةً في النُّزولِ والهبوطِ، وهذا يَدُلُّ على عَظيمِ اتِّساعِها وشِدَّةِ عُمقِها.
وفي الحديثِ: ثُبوتُ الشَّفاعةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: بَيانُ عِظَمِ أمرِ الأمانةِ والرَّحِمِ.
وفيه: ثُبوتُ الصِّراطِ.
وفيه: التَّفاضُلُ في المرورِ على الصِّراطِ.
وفيه: فَضيلةُ مُوسى عليه السَّلامُ بتَكليمِ اللهِ عزَّ وجلَّ له.
وفيه: أنَّ الدَّعَواتِ تَكونُ بحَسَبِ المَواطِنِ، فيُدعَى في كُلِّ مَوطِنٍ بما يَليقُ به.