موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (23-27)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

وَسُلْطَانٍ: أي: حُجَّةٍ وبُرهانٍ، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقهرُ، مِن التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا [407] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (18/252)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724)، ((تفسير القرطبي)) (13/287)، ((تفسير ابن كثير)) (6/137). .
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ: أي: استَبقُوهنَّ أحياءً، والاستحياءُ: الإبقاءُ حَيًّا، واستَفعَلَ فيه بمعنى أفعَلَ، وأصلُ (حيي): يدُلُّ على خِلافِ الموتِ [408] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/307)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 502)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/122)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 74). .
ذَرُونِي: أي: اتْرُكوني، ودَعُوني، يُقالُ: فلانٌ يَذَرُ الشيءَ، أي: يَرْميه لِقلَّةِ اعتِدادِه به [409] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/574)، ((المفردات)) للراغب (ص: 862)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 989). .
عُذْتُ: أي: التجَأْتُ واعتَصَمْتُ واستَجَرْتُ، وأصلُ العَوذِ: الالتِجاءُ إلى الغَيرِ، والتعَلُّقُ به [410] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/31)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/183)، ((المفردات)) للراغب (ص: 594)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 659). .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ اللهُ تعالَى جانبًا مِن قِصَّةِ موسى عليه السلامُ معَ فرعونَ، مُسَلِّيًا لنبِيِّه صلَّى اللَّه عليه وسَلَّم، بذِكرِ نموذجٍ مِن أحوالِ المكذِّبينَ بالرُّسلِ، فيقولُ: ولقدْ أرسَلْنا موسى بمُعجِزاتِنا وبحُجَّةٍ ظاهِرةٍ مُوضِّحةٍ للحَقِّ، إلى فِرعَونَ، ووَزيرِه هامانَ، وقارونَ، فقالوا: إنَّ موسى ساحِرٌ كَذَّابٌ! فلمَّا جاءَهم موسَى بالحَقِّ مِن عِندِ اللهِ قالوا: اقتُلوا أبناءَ الَّذين آمَنوا معَ موسى، واستَبقُوا نِساءَهم أحياءً. وما كَيدُهم هذا إلَّا كَيدٌ باطلٌ زائِلٌ!
وقال فِرعَونُ: اتْرُكوني أقتُلْ موسى، ولْيَدْعُ رَبَّه فيَمنَعَه مِنِّي؛ إنِّي أخافُ -لو ترَكْتُ موسى- أن يُغَيِّرَ دِينَكم بسِحْرِه، أو أنْ يُظهِرَ في أرضِ مِصرَ الفَسادَ! وقال موسى: إنِّي أستَجيرُ وأعتَصِمُ برَبِّي ورَبِّكم مِن كُلِّ مُتكَبِّرٍ لا يُؤمِنُ بيَومِ القِيامةِ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا سلَّى اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذِكرِ الكُفَّارِ الذين كذَّبوا الأنبياءَ قَبْلَه، وبمُشاهَدةِ آثارِهم؛ سلَّاه أيضًا بذِكرِ موسَى عليه السَّلامُ، وأنَّه معَ قوَّةِ مُعجِزاتِه بعَثَه إلى فِرعَونَ وهامانَ وقارونَ، فكَذَّبوه، وقالوا: هو ساحِرٌ كذَّابٌ [411] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/506). !
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23).
أي: ولقدْ أرسَلْنا موسى بمُعجِزاتِنا، وبحُجَّةٍ ظاهِرةٍ مُظهِرةٍ للحَقِّ [412] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/306، 307)، ((تفسير القرطبي)) (15/304)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 216-220). ممَّن قال: إنَّ المرادَ بقولِه: بِآَيَاتِنَا: المعجزاتُ: السمعاني، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/14)، ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي السعود)) (7/273). وممَّن قال: المرادُ بها الآياتُ التسعُ؛ أي: المذكورةُ في قولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101] : السمرقندي، والقرطبي، والنسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/202)، ((تفسير القرطبي)) (15/304)، ((تفسير النسفي)) (3/206)، ((تفسير الشوكاني)) (4/559). وممن قال: إنَّ المرادَ بالسلطانِ: الحجةُ: مقاتل بن سليمان، والزجاج، والسمرقندي، ومكي، والسمعاني، والقرطبي، والبيضاوي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/710)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/370)، ((تفسير السمرقندي)) (3/202)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6419)، ((تفسير السمعاني)) (5/14)، ((تفسير القرطبي)) (15/304)، ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/564)، ((تفسير الألوسي)) (12/315). قال البقاعيُّ: (وَسُلْطَانٍ أي: أمرٍ قاهِرٍ عَظيمٍ جِدًّا، لا حِيلةَ لهم في مُدافَعةِ شَيءٍ منه مُبِينٍ أي: بَيِّنٍ في نَفسِه، مُنادٍ لكُلِّ مَن يُمكِنُ اطِّلاعُه عليه أنَّه ظاهِرٌ جِدًّا، وذلك الأمرُ هو الذي كان يمنَعُ فِرعَونَ مِن الوُصولِ إلى أذاه مع ما له مِن القُوَّةِ والسُّلطانِ). ((نظم الدرر)) (17/48). .
كما قال تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101] .
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24).
أي: إلى فِرعَونَ مَلِكِ مِصرَ، ووَزيرِه هامانَ، وقارونَ الذي كان مِن قَومِ مُوسَى فبغَى عليهم؛ فقالوا عن مُوسَى: هو ساحِرٌ فيما يُرينا مِن آياتٍ، كذَّابٌ في زَعْمِه أنَّ اللهَ أرسَلَه إلينا [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/307)، ((تفسير القرطبي)) (15/304)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736). .
كما قال تعالَى: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت: 39] .
وقال سُبحانَه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25).
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ.
أي: فلمَّا جاءَهم مُوسى بالحَقِّ مِن عِندِ اللهِ، لم يُذِعنوا له، وقالوا: اقتُلوا أبناءَ الذين آمَنوا مع مُوسى، واستَبْقُوا نِساءَهم أحياءً [414] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/307، 308)، ((تفسير القرطبي)) (15/305)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/122، 123). قال ابنُ كثير: (هذا أمرٌ ثانٍ مِن فِرعَونَ بقَتلِ ذُكورِ بني إسرائيلَ؛ أمَّا الأوَّلُ: فكان لأجْلِ الاحترازِ مِن وُجودِ موسى، أو لإذلالِ هذا الشَّعبِ وتَقليلِ عَدَدِهم، أو لِمَجموعِ الأمْرَينِ. وأمَّا الأمرُ الثَّاني: فلِلعلَّةِ الثَّانيةِ: لإهانةِ هذا الشَّعبِ، ولكي يَتشاءَموا بمُوسى عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/139). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/308). ممَّن اختار أنَّ الأمرَ بالقتلِ مِن فرعونَ: مقاتلُ بنُ سليمان، والماتريدي، ومكي، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/710)، ((تفسير الماتريدي)) (9/20)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6419، 6420)، ((تفسير السمعاني)) (5/15). وممَّن قال: إنَّ المرادَ بقوله: قَالُوا: فرعونُ وقومُه: الثعلبي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/272)، ((تفسير البغوي)) (4/109). وقال ابنُ عطية وأبو حيان: إنَّ المرادَ: فرعونُ، وهامانُ، وقارونُ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/554)، ((تفسير أبي حيان)) (9/249). .
كما قال تعالَى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [إبراهيم: 6] .
وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ.
أي: كادُوا هذه المَكِيدةَ زاعِمينَ أنَّهم إذا قَتَلوا أبناءَهم واستَحْيَوا نِساءَهم، لم يَقْوَوا، وبَقُوا تحتَ عُبُوديَّتِهم؛ فما كيْدُهم هذا إلَّا كَيدٌ باطِلٌ مُضمَحِلٌّ؛ فلا يَتمُّ لهم ما قَصَدوه به [415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/308)، ((تفسير القرطبي)) (15/305)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/123، 124). .
كما قال الله سُبحانَه: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال: 18] .
وقال تعالى: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر: 37] .
وقال سُبحانَه عن أصحابِ الفيلِ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل: 2] .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالَى بفِعلِ فِرعَونَ بمَن تابَعَ موسى عليه السَّلامُ؛ أخبَرَ عن فِعلِه معه بما عُلِمَ به أنَّه عاجِزٌ؛ فقال [416] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/50). :
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ.
أي: وقال فِرعَونُ: دَعوني أقتُلْ مُوسى، ولْيَدْعُ رَبَّه الذي يَزعُمُ أنَّه أرسَلَه إلينا؛ فيَمنَعَه منِّي [417] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/308)، ((تفسير ابن جزي)) (2/230)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير الشوكاني)) (4/560). قيل: إنَّما قال فرعونُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى؛ لأنَّهم كانوا يكُفُّونَه عن قتلِه، ويمنعونَه منه، وممن اختار هذا المعنى: السَّمرقندي، والواحدي، والبغوي، وابنُ الجوزي، والرَّسعني، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/203)، ((الوسيط)) للواحدي (4/9)، ((تفسير البغوي)) (4/110)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/35)، ((تفسير الرسعني)) (6/605)، ((تفسير الخازن)) (4/72)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 621)، ((تفسير العليمي)) (6/109)، ((تفسير الشوكاني)) (4/560). قيل: إنَّما منَعوه عن قتلِه؛ لأنَّه كان فيهم مَن يعتقِدُ بقلبِه أنَّه كان صادِقًا، وقيل: كان في خاصةِ قومِ فرعونَ مَن يمنعُه مِن قتلِه خوفًا مِن الهلاكِ، وقيل: قالوا: لا تقتُلْه؛ فإنَّه هو ساحرٌ ضعيفٌ، فلا يقدِرُ أنْ يغلبَ سحرَنا، وإن قتلته قالت العامَّةُ: كان محقًّا صادقًا، وعجزوا عن جوابِه فقتلوه. وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/151)، ((تفسير الرازي)) (27/506)، ((تفسير الخازن)) (4/72). وقال السمرقندي: (وذلك أنَّ قومَه كانوا يقولونَ: أرجئْه وأخاه، ولا تقتُلْه حتَّى لا يُفسدوا عليك الملكَ. فقال لهم فرعونُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى؛ فإِنَّي أعلمُ أنَّ صلاحَ مُلكي في قتلِه). ((تفسير السمرقندي)) (3/203). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (4/526). وقيل: إنَّ فرعونَ كانَ قد استيقنَ أنَّ موسَى عليه السلامُ نبيٌّ، وأنَّ ما جاءَ بهِ آياتٌ باهرةٌ، وما هو بسحرٍ ولكنْ كان يخافُ إنْ همَّ بقتلِه أنْ يُعاجَلَ بالهلاكِ، وكانَ قولُه هذا تمويهًا على قومِه، وإيهامًا أنَّهم هم الكافُّونَ له عن قتلِه، وممن اختار هذا المعنى: الزمخشري، والنسفي، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/160)، ((تفسير النسفي)) (3/207)، ((تفسير أبي السعود)) (7/273)، ((تفسير الألوسي)) (12/316). وقال ابنُ عطيةَ: (الظاهرُ مِن أمرِ فرعونَ أنَّه لما بهَرتْ آياتُ موسَى عليه السلامُ انهدَّ ركنُه، واضْطَربتْ معتقداتُ أصحابِه، ولم يفقِدْ منهم مَن يجاذبُه الخلافَ في أمرِه، وذلك بيِّنٌ مِن غيرِ ما موضعٍ مِن قصتِهما، وفي هذه الآيةِ على ذلك دليلان: أحدهما: قولُه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى فليسَتْ هذه مِن ألفاظِ الجبابرةِ المتمكِّنينَ مِن إنفاذِ أوامرِهم. والدليلُ الثاني: مقالةُ المؤمنِ وما صدَع به، وأنَّ مكاشفتَه لفرعونَ أكثرُ مِن مساترتِه، وحكمَه بنُبوَّةِ موسَى أظهرُ مِن توريتِه في أمرِه. وأمَّا فرعونُ فإنَّما لجأ إلى المخرقةِ والاضطرابِ والتَّعاطي، ومِن ذلك قولُه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي: إنِّي لا أُبالي عن ربِّ موسَى، ثمَّ رجَع إلى قومِه يُريهم النَّصيحةَ والحمايةَ لهم فقال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ...). ((تفسير ابن عطية)) (4/555). !
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ.
أي: قال فِرعَونُ مُعَلِّلًا إرادتَه قَتْلَ موسى: إنِّي أخافُ -لو ترَكْتُ مُوسى- أن يُغَيِّرَ دِينَكم الذي أنتُم عليه بسِحْرِه [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/308، 309)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). !
أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.
أي: أو أنْ يُظهِرَ مُوسى في أرضِ مِصرَ الفَسادَ [419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/309، 310)، ((تفسير القرطبي)) (15/305)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). قال الواحديُّ: (معنى «أو» وقوعُ أحدِ الشَّيئَينِ، المعنى: أخافُ أن يُبدِّلَ دِينَكم، وإنْ لم يُبَدِّلْه أوقَعَ فيه الفَسادَ). ((الوسيط)) (4/9). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالأرضِ هنا: أرضُ مِصرَ: مقاتل بن سليمان، وابن جرير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/711)، ((تفسير ابن جرير)) (20/310). قال ابن عاشور: (الأرضُ: هي المعهودةُ عِندَهم، وهي مملكةُ فِرعَونَ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). وقيل: المرادُ بقَولِ فِرعَونَ: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ: هو إظهارُ موسى عِبادةَ رَبِّه، وتغييرُ دِينِهم وتبديلُه. ومِمَّن قال بذلك في الجُملة: ابن جرير، والثعلبي، البَغوي، والرَّسْعني، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/310)، ((تفسير الثعلبي)) (8/272)، ((تفسير البغوي)) (4/110)، ((تفسير الرسعني)) (6/606)، ((تفسير الخازن)) (4/72). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). قال قتادة: (والفسادُ عِندَه أنْ يُعمَلَ بطاعةِ اللهِ). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/310). وقيل: هو أنْ يُقَتِّلَ أبناءَكم ويَستحْيِيَ نساءَكم، كما فعَلْتُم بقَومِه يفعَلُ بكم. قاله مقاتل بن سليمان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/711). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُريجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/284). وقيل: المرادُ أنَّه يَقَعُ بينَ النَّاسِ خِلافٌ بسبَبِ موسى. ومِمَّن قال بهذا: القرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/305)، ((تفسير الشوكاني)) (4/560). وقيل: الفسادُ: هو ما يُفسدُ دُنياهم مِن التحارُبِ والتهارُجِ، وممَّن اختار هذا المعنى: الزمخشري، والبيضاوي، والنَّسَفي، وأبو حيان، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير النسفي)) (3/207)، ((تفسير أبي حيان)) (9/250)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274). وقيل: المرادُ: فَسادُ المعايِشِ؛ فإنَّه إذا غَلَب قَوِيَ على مَن سِواه، فسَفَك الدِّماءَ وسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وانتهَبَ الأموالَ؛ ففَسَدت الدُّنيا مع فسادِ الدِّينِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/51). قال ابنُ جُزَيٍّ: (يَعني: فَسادَ أحْوالِهم في الدُّنْيا). ((تفسير ابن جُزَيٍّ)) (2/230). وقال الرازيُّ: (المَقصودُ من هذا الكَلامِ بَيانُ السَّببِ الموجِبِ لقَتلِه، وهو أنَّ وُجودَه يُوجِبُ إمَّا فَسادَ الدِّينِ أو فَسادَ الدُّنيا، أمَّا فَسادُ الدِّينِ؛ فلأنَّ القومَ اعتَقَدوا أنَّ الدِّينَ الصَّحيحَ هو الَّذي كانوا عليه، فلمَّا كان موسى ساعيًا في إفْسادِه كان في اعْتِقادِهم أنَّه ساعٍ في إفْسادِ الدِّينِ الحقِّ، وأمَّا فَسادُ الدُّنيا؛ فهو أنَّه لا بدَّ وأنْ يجتَمِعَ عليه قومٌ، ويَصيرَ ذلك سَببًا لوُقوعِ الخُصوماتِ، وإثارةِ الفِتَنِ). ((تفسير الرازي)) (27/507). .
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27).
أي: وقال موسى: إنِّي أستَجيرُ وأعتَصِمُ برَبِّي ورَبِّكم مِن كُلِّ مُتكَبِّرٍ مُتعاظِمٍ عن الحَقِّ، لا يُؤمِنُ بيَومِ القِيامةِ الَّذي يحاسِبُ اللهُ فيه عِبادَه، ويُجازيهم على أعمالِهم [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/310)، ((تفسير القرطبي)) (15/305)، ((تفسير ابن كثير)) (7/139)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/52)، ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/126)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/383). قيل: هذا الخِطابُ من موسى لفِرعَونَ ومَلَئِه. ومِمَّن قال بهذا القول: ابن جرير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/310)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 236). وقيل: هذا الخِطابُ مِن موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ. ومِمَّن قال بهذا القول: الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((تفسير الألوسي)) (12/ 316)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/126، 127). .
كما قال الله تعالَى حاكيًا قَولَ موسى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان: 20] .
وعن أبي مُوسَى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا خاف قَومًا قال: ((اللـهُمَّ إنَّا نَجعَلُك في نُحورِهم، ونَعوذُ بك مِن شُرورِهم)) [421] أخرجه أبو داود (1537)، والنَّسائي في ((السنن الكبرى)) (8631)، وأحمد (19720). صحَّحه ابن حبان في ((الصحيح)) (4765)، والحاكمُ على شرط الشيخينِ في ((المستدرك)) (2629)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (4/396)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/429)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (127): (حسنٌ غريبٌ). وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1537)، وحَسَّنه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19720). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يدُلُّ على أنَّ الطَّريقَ المؤكَّدَ المُعتبَرَ في دَفعِ الشُّرورِ والآفاتِ عن النَّفسِ: الاعتِمادُ على اللهِ، والتوكُّلُ على عِصمةِ اللهِ تعالَى [422] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/507). .
2- في قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ جاء بذِكرِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ نفْسِه مُبتدأً به، ثمَّ إلى ضَميرِ قوْمِه بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ علَى عادةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مِن البَداءةِ بأنفُسِهم في الدُّعاءِ، وإشارةً إلى أنَّ الاجتماعَ على الدُّعاءِ واتِّفاقَ الأرواحِ على التَّوجُّهِ والطَّلبِ؛ أبلَغُ في إنجاحِ الحاجاتِ؛ ولذلك شُرِعَت الجماعةُ في الصَّلواتِ. وصِفةُ الرُّبوبيَّةِ المشْعِرة بالحِفظِ والتَّربيةِ للتَّوسُّلِ بها إلى اللهِ تعالَى خُصوصيَّةٌ عَظيمةٌ في إنجاحِ المطالبِ؛ لِما فيها مِن التَّملُّقِ والتَّعطُّفِ، والانضيافِ إلى اللهِ تعالَى بأخصِّ أنواعِ التَّقرُّبِ، على أنَّه أتى بها مُتحقِّقًا بالتَّعلُّقِ بها مِن حيث أطْلَقَها فِرعونُ في قولِه: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر: 26] على وجْهِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ، فاستَظهَرَ بتَعلُّقِه بها وثِقتِه بها على عكْسِ ما ظَنَّه فِرعونُ [423] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (7/279). .
3- قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ قدْ أراد مُوسى عليه السَّلامُ بتَشريكِه قوْمَه معه في إضافةِ الرَّبِّ أنْ يُشارِكوه في هذا الخيْرِ؛ إذ كَمالُ إيمانِ العبْدِ أنْ يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسِه، وبهذا يَتخلَّقُ العبدُ بالوَدوديَّةِ، وليس في العبادِ أوَدُّ لهم مِن الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [424] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) (7/279، 280). .
4- في قولِه: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ لم يَأْتِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دفْعِ الشِّدَّةِ إلَّا بأنِ استعاذَ باللهِ واعتَمَدَ عليه؛ فلا جرَمَ أنْ صانَه اللهُ عن كلِّ بَلِيَّةٍ، وأوْصَلَه إلى كلِّ أُمنيَّةٍ؛ فكما أنَّ عِندَ القِراءةِ يقولُ المسلمُ: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، فاللهُ تعالَى يَصونُ دِينَه وإخلاصَه عن وَساوسِ شَياطينِ الجِنِّ، فكذلك عندَ تَوجُّهِ الآفاتِ والمخافاتِ مِن شَياطينِ الإنسِ؛ إذا قال المسلمُ: (أعوذُ باللهِ) فاللهُ يَصونُه عن كلِّ الآفاتِ والمخافاتِ؛ فمعنَى قولِه: بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ كأنَّ العبْدَ يقولُ: إنَّ اللهَ سُبحانه هو الذي رَبَّاني، وإلى دَرَجاتِ الخيْرِ رَقَّاني، ومِن الآفاتِ وَقَّاني، وأعْطاني نِعَمًا لا حدَّ لها ولا حصْرَ، فلمَّا كان الموْلى ليْس إلَّا اللهَ وجَبَ ألَّا يَرجِعَ العاقلُ في دفْعِ كلِّ الآفاتِ إلَّا إلى حِفظِ اللهِ تعالَى [425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/507، 508). .
5- قولُه: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ الاستقراءُ يدُلُّ على أنَّه كلَّما كان الرَّجلُ أعظَمَ استكبارًا عن عِبادةِ اللهِ، كان أعظَمَ إشراكًا باللهِ؛ لأنَّه كلَّما استَكبَرَ عن عِبادةِ اللهِ ازدادَ فقْرُه وحاجتُه إلى المرادِ المحبوبِ الذي هو المقصودُ؛ مَقصودُ القلْبِ بالقصْدِ الأوَّلِ، فيكونُ مُشرِكًا بما استَعبَدَه مِن ذلك، ولنْ يَستغنِيَ القلْبُ عن جَميعِ المخلوقاتِ إلَّا بأنْ يكونَ اللهُ هو مَوْلاهُ الذي لا يَعبُدُ إلَّا إيَّاه، ولا يَستعينُ إلَّا به، ولا يَتوكَّلُ إلَّا عليه، ولا يَفرَحُ إلَّا بما يُحِبُّه ويَرْضاه، ولا يَكرَهُ إلَّا ما يُبغِضُه الرَّبُّ ويَكرَهُه، ولا يُوالي إلَّا منَ والاهُ اللهُ، ولا يُعادي إلَّا مَن عاداهُ اللهُ، ولا يُحِبُّ إلَّا للهِ، ولا يُبغِضُ شيئًا إلَّا للهِ، ولا يُعْطي إلَّا للهِ، ولا يَمنَعُ إلَّا للهِ، فكلَّما قَوِيَ إخلاصُ دِينهِ للهِ كمَلَت عُبوديَّتُه واستِغْناؤه عن المخلوقاتِ، وبكَمالِ عُبوديَّتِه للهِ يُبرِّئُه مِن الكِبرِ والشِّركِ [426] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/197). .
6- قولُه تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ لَعلَّك تَعلَمُ وتَفهَمُ مِن دُعاءِ مُوسى هذا في مُقابَلةِ قوْلِ فِرعونَ، وهو يَعلَمُ أنَّه مَحفوظٌ منه -لقولِه تعالَى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] - أنَّ العبْدَ لا يَنْبغي له أنْ يَغفُلَ عن ذِكرِ اللهِ تعالَى عندَ كلِّ قَليلٍ وكثيرٍ، واللَّجاءِ إليه في كلِّ خطْبٍ حَقيرٍ وجَليلٍ [427] يُنظر: ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) للغزي (7/280). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالَى لا يُرسِلُ رَسولًا إلَّا بآيةٍ بَيِّنةٍ تَدُلُّ على صِدقِه، وقدْ أكَّدَ ذلك الحَديثُ الثَّابتُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما مِن الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ )) [428] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:221). والحديث أخرجه البخاريُّ (7274)، ومسلم (152) مطوَّلًا، واللفظُ له، مِن حديث أبي هُرَيرَةَ رَضيَ اللهُ عنه. .
2- في قَولِه تعالَى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ أنَّ الزُّعماءَ يقومونَ مَقامَ الأتْباعِ؛ لأنَّ الرِّسالةَ ليستْ إلى هؤلاءِ الثَّلاثةِ فقط، بلْ إلى آلِ فِرعَونَ كلِّهم، لكِنَّ الأسيادَ يقومونَ مَقامَ الأتْباعِ [429] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:222). .
3- في قَولِه تعالَى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ أنَّ العُتاةَ المُعانِدينَ للرُّسُلِ تتنَوَّعُ أسبابُ عِنادِهم ومُعارضتِهم للرُّسُلِ؛ قد تكونُ السُّلطةَ، وقد تكونُ الوَزارةَ، وقد يكونُ المالَ، وقدْ تكونُ القُوَّةَ البَدنيَّةَ؛ ففي هذه الآيةِ ثلاثةُ أسبابٍ: المُلْكُ. والثَّاني: الوَزارةُ. والثَّالثُ: المالُ. وفي عادٍ القُوَّةُ البَدنيَّةُ، قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [430] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:222). [فصلت: 15] .
4- في قَولِه تعالَى: فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أنَّ ما قالوه في رَدِّ الدَّعوةِ مُجرَّدُ دَعوى؛ لأنَّهم لم يُقيموا على دَعواهم أيَّ دليلٍ، بل قالوا: «ساحِرٌ كذَّابٌ»، وهذا يَلجَأُ إليه الضُّعَفاءُ العاجِزونَ؛ إذا عَجَزوا عن مُدافعةِ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ ذهَبوا إلى السَّبِّ والشَّتمِ، وما أشبهَ ذلك [431] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:222). !
5- في قَولِه تعالَى: قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ أنَّ اللهَ تعالَى قدْ يُسَلِّطُ أعداءَه على المؤمِنينَ امتِحانًا وابتِلاءً، والواقِعُ كذلك، وقد يكونُ الإنسانُ كُلَّما اشتدَّ إيمانُه اشتَدَّ إيذاءُ أعداءِ اللهِ له [432] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 229). .
6- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، أي: إلَّا في مُجانَبةٍ للسَّدادِ المُوصِلِ إلى الظَّفَرِ والفَوزِ، وكذا أفعالُ الفَجَرةِ مع أولياءِ اللهِ؛ ما حَفَر أحَدٌ منهم لأحَدٍ منهم حُفرةَ مَكرٍ إلَّا أرْكَسَه اللهُ فيها [433] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/50). .
7- قولُه: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ فيه البُشرى التَّامَّةُ للمُؤمِنينَ بأنَّ الكُفَّارَ مهْما كادوا فإنَّ كيْدَهم ضائعٌ وهالكٌ، لنْ يَنفَعَهم، ولنْ يَسْتفيدوا منه شيئًا، وإنِ استَفادوا فإنَّما يَسْتفيدون فائدةً مُؤقَّتةً؛ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [434] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص 229). [الأعراف: 128] .
8- في قولِه: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر: 26] خوْفُ الكفَّارِ مِن سِلاحِ المؤمنينَ بالدُّعاءِ، وإنْ كان المقصودُ التَّحدِّيَ، لكنْ لا شَكَّ أنَّه قدْ فَهِم أنَّ الدُّعاءَ سِلاحٌ لمُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص 235). .
9- في قولِه: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ أنَّ الموجِبَ للإقدامِ على إيذاءِ النَّاسِ أمرانِ؛ أحدُهما: كوْنُ الإنسانِ مُتكبِّرًا قاسيَ القلْبِ، والثَّاني: كونُه مُنكِرًا للبعثِ والقيامةِ؛ وذلك لأنَّ المُتكبِّرَ القاسيَ قدْ يَحمِلُه طبْعُه على إيذاءِ النَّاسِ، إلَّا أنَّه إذا كان مُقِرًّا بالبعثِ والحسابِ صار خوْفُه مِن الحسابِ مانعًا له مِن الجرْيِ على مُوجِبِ تَكبُّرِه، فإذا لم يَحصُلْ عنده الإيمانُ بالبعثِ والقيامةِ كانت الطَّبيعةُ داعيةً له إلى الإيذاءِ، والمانعُ -وهو الخوْفُ مِن السُّؤالِ والحسابِ- زائلًا، وإذا كان الخوْفُ مِن السُّؤالِ والحسابِ زائلًا، فلا جَرَمَ تَحصُلُ القسْوةُ والإيذاءُ [436] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/508). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ الواوُ استئنافيَّةٌ، والجُملةُ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للشُّروعِ في قِصَّةِ مُوسى عليه السَّلامُ مع فِرعونَ [437] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/476). .
- وفيه تَسليةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذه القِصَّةُ تَزِيدُ على ما أُجمِلَ مِن قَصصِ أُمَمٍ أُخرى أنَّ فيها عِبرتَينِ: عِبرةً بكَيدِ المكذِّبينَ وعِنادِهم ثمَّ هَلاكِهم، وعِبرةً بصَبْرِ المؤمنينَ وثَباتِهم ثم نَصْرِهم، وفي كِلْتا العِبرتَينِ وَعيدٌ لِقُريشٍ أنْ يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بفِرْعونَ وقَومِه مِن نِقْماتِ اللهِ، ووَعدٌ للمؤمنينَ بالظَّفَرِ والنَّصْرِ وحُسْنِ العاقبةِ [438] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/122). .
- وعُطِفَ قولُه: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ على بِآَيَاتِنَا؛ لِتَغايُرِ الوَصفَينِ، أو لإِفرادِ بعضِ المُعجزاتِ كالعَصا؛ تَفْخيمًا لِشأْنِه [439] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي السعود)) (7/273). .
وقيل: إنَّ الآياتِ سُلطانٌ وحُجَّةٌ للرُّسُلِ على مَن أُرسِلوا إليهم، وعلى هذا فيكونُ عَطفُ «سلطان» على «آيات» مِن بابِ عَطْفِ الشَّيءِ على نَفسِه؛ لبيانِ فائِدتِه وثَمَرتِه؛ فالآياتُ هي السُّلطانُ، ويُستفادُ مِن الآيةِ كذلك أنَّ الآياتِ لا بُدَّ أنْ تكونَ مُبِينةً مُظهِرةً للحَقِّ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 222). .
2- قَولُه تعالَى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ نصَّ على هامانَ وقارونَ؛ لِمَكانتِهما في الكُفرِ، ولأنَّهما أشهَرُ أتْباعِ فِرعَونَ [441] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/249). .
- قولُه: فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ لم يَقولوا: سَحَّارٌ، كما قالوا: كَذَّابٌ؛ لأنَّهم كانوا يَزعُمون أنَّه ساحرٌ، وأنَّ سَحَرَتَهم أسْحَرُ منه، كما قالوا: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الشعراء: 37] [442] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (8/173). ، ولئَلَّا يَتوهَّمَ أحَدٌ أنَّه يمدَحُه بالبَراعةِ في عِلمِ السِّحرِ، فتتحَرَّكَ الهِمَمُ للإقبالِ عليه للاستِفادةِ منه [443] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/49). .
3- قولُه تعالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
- قولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أي: أظهَرَ لهم الآياتِ الحقَّ، أي: الواضحةَ، فأطلَقَ جَاءَهُمْ على ظُهورِ الحقِّ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/122). .
- وقولُه: مِنْ عِنْدِنَا وَصفٌ للحقِّ؛ لإفادةِ أنَّه حقٌّ خارقٌ للعادةِ لا يكونُ إلَّا مِن تَسخيرِ اللهِ وتأْييدِه، وهو آياتُ نُبوَّتِه التِّسعُ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/122). .
- ووَجهُ وُقوعِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا بعْدَ قولِه: أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا [غافر: 23] مع اتِّحادِ مُفادِ الجُملتَينِ؛ فإنَّ مُفادَ جُملةِ جَاءَهُمْ مُساوٍ لِمُفادِ جُملةِ أَرْسَلْنَا، ومُفادَ قولِه: بِالْحَقِّ مُساوٍ لِمُفادِ قولِه: بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [غافر: 23] -: أنَّ الأوَّلَ للتَّنويهِ برِسالةِ مُوسى وعَظَمةِ مَوقِفِه أمامَ أعظَمِ مُلوكِ الأرضِ يَومئذٍ، وأمَّا قولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ فهو بَيانٌ لِدَعوتِه إيَّاهم وما نشَأَ عنها، وتَقديرُ الكلامِ: أرسَلْنا مُوسى بآياتِنا إلى فِرْعونَ، فلمَّا جاءهُم بالحقِّ، فسُلِكَت في هذا النَّظْمِ طَريقةُ الإطنابِ؛ للتَّنويهِ والتَّشريفِ، وجُملةُ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ مُعترِضةٌ [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/122، 123). .
- قولُه: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ اعتِراضٌ جِيءَ به في تَضاعيفِ ما حُكِيَ عنهم مِن الأباطيلِ؛ للمُسارعةِ إلى بَيانِ بُطلانِ ما أظْهَروه مِن الإبراقِ والإرعادِ واضمِحْلالِه بالمرَّةِ [447] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/273). .
- وأيضًا في قولِه: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ سُمِّيَ هذا الرَّأيُ كَيدًا؛ لأنَّهم تَشاوَروا فيه فيما بيْنهم دونَ أنْ يَعلَمَ بذلك مُوسى والذين آمَنوا معه، وأنَّهم أضْمَروه ولم يُعْلِنوه، ثُمَّ شغَلَهم عن إنفاذِه ما حَلَّ بهم مِن المصائبِ التي ذُكِرت في سُورةِ (الأعرافِ): وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ... الآيةَ [الأعراف: 130] ، ثُمَّ بقولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ [الأعراف: 133] الآيةَ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/123، 124). .
- واللَّامُ في الْكَافِرِينَ للعهْدِ، والإظهارُ في مَوضعِ الإضمارِ فلمْ يقُلْ: (وما كيدُهم)؛ لِذمِّهم بالكُفْرِ، والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ وتَعميمِه، أو تكونُ للجِنْسِ، وهم داخِلون فيه دُخولًا أوَّليًّا [449] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي السعود)) (7/273). ؛ فتدبَّرْ هذه النُّكتةَ التي يَكثُرُ مُرورُها في كِتابِ اللهِ تعالَى: إذا كان السِّياقُ في قِصَّةٍ مُعَيَّنةٍ أو على شَيءٍ مُعَيَّنٍ، وأرادَ اللهُ أن يحكُمَ على ذلك المُعَيَّنِ بحُكمٍ لا يختَصُّ به، ذكَرَ الحُكْمَ وعلَّقَه على الوَصفِ العامِّ؛ لِيَكونَ أعَمَّ، وتندَرِجَ فيه الصُّورةُ التي سِيقَ الكلامُ لأجْلِها، ولِيَندفِعَ الإيهامُ باختِصاصِ الحُكمِ بذلك المعَيَّنِ؛ فلهذا لم يَقُلْ: (وما كيدُهم إلَّا في ضَلالٍ)، بل قال: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [450] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 736)، ويُنظر أيضًا: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 122). .
4- قولُه تعالَى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ
- ومعنى ذَرُونِي إعْلامُهم بعَزْمِه بضَرْبٍ مِن إظْهارِ مَيلِه لذلك، وانتظارِه الموافَقةَ عليه، بحيث يُمثِّلُ حالَه وحالَ المخاطَبينَ بحالِ مَن يُرِيدُ فِعلَ شَيءٍ فيُصَدُّ عنه، فلِرَغبتِه فيه يقولُ لِمَن يَصُدُّه: دَعْني أفعَلْ كذا؛ لأنَّ ذلك التَّركيبَ ممَّا يُخاطَبُ به الممانِعُ والملائمُ، ثمَّ استُعْمِلَ هذا في التَّعبيرِ عن الرَّغبةِ ولم يكُنْ ثَمةَ مُعارِضٌ أو مُمانِعٌ، وهو استِعمالٌ شائعٌ في هذا وما يُرادِفُه، مِثلُ: دَعْني وخَلِّني، وذلك يَستتبِعُ كِنايةً عن خَطَرِ ذلك العمَلِ وصُعوبةِ تَحصيلِه؛ لأنَّ مِثلَه ممَّا يَمنَعُ المستَشارُ مُستشيرَه مِن الإقدامِ عليه، وكان قولُه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى تَمويهًا على قَومِه، وإيهامًا أنَّهم هم الذين يَكُفُّونه، وما كان يَكُفُّه إلَّا ما في نفْسِه مِن هَولِ الفزَعِ -وذلك على قولٍ-؛ ولذلك عطَفَ عليه: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ؛ لأنَّ مُوسى خوَّفَهم عذابَ اللهِ، وتحدَّاهم بالآياتِ التِّسعِ [451] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/160)، ((تفسير أبي حيان)) (9/250)، ((تفسير أبي السعود)) (7/273، 274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/124، 125). .
- ولامُ الأمْرِ في وَلْيَدْعُ رَبَّهُ مُستعمَلةٌ في التَّسويةِ، وإظهارِ التَّجلُّدِ، وعدَمِ الاكتراثِ بدُعاءِ مُوسى ربَّه. وقيل: المقصودُ بالأمْرِ هنا التَّعجيزُ، بزَعْمِه [452] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/125)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/477). .
- وجُملةُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ تَعليلٌ للعزْمِ على قتْلِ مُوسى، والإضافةُ في قولِه: دِينَكُمْ تَعريضٌ بأنَّهم أَولى بالذَّبِّ عن الدِّينِ، وإنْ كان هو دِينَه أيضًا، لكنَّه تَجرَّدَ في مُشاوَرتِهم عن أنْ يكونَ فيه مُراعاةٌ لِحَظِّ نفْسِه، كما قالوا همْ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ [الأعراف: 127] ؛ وذلك كلُّه إلهابٌ وتَحضيضٌ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). .
- قولُه: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ معنى إظهارِ مُوسى الفَسادَ عِندَهم أنَّه يَتسبَّبُ في ظُهورِه بدَعوتِه إلى تَغييرِ ما همْ عليه مِن الدِّيانةِ والعوائدِ، وعُبِّرَ بالإظهارِ عن الفُشُوِّ والانتشارِ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/125). .
- ولَمَّا كان حُبُّ النَّاسِ لأديانِهم فَوقَ حُبِّهم لأموالِهم، لا جَرَمَ بدأ فِرعَونُ بذِكرِ الدِّينِ [455] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/507). .
5- قولُه تعالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ قيل: هذا حِكايةُ كَلامٍ صَدَرَ مِن مُوسى في غَيرِ حَضْرةِ فِرعونَ؛ لأنَّ مُوسَى لم يكُنْ ممَّن يَضُمُّه مَلأُ استشارةِ فِرْعونَ حين قال لِقَومِه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى [غافر: 26] ، ولكنَّ مُوسى لَمَّا بلَغَه ما قالَه فِرعونُ في مَلَئِه، قال مُوسى في قُومِه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ؛ ولذلك حُكِيَ فِعلُ قولِه مَعطوفًا بالواوِ؛ لأنَّ ذلك القولَ لم يقَعْ في مُحاوَرةٍ مع مَقالِ فِرعونَ، بخِلافِ الأقوالِ المحكيَّةِ في سُورةِ (الشُّعراءِ) مِن قولِه: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، إلى قولِه: قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/126). [الشعراء: 18 - 31] .
- قولُه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ صدَّرَ الكلامَ بـ (إنَّ) تأْكيدًا، وإظْهارًا لِمَزيدِ الاعتناءِ بمَضمونِه، وفرْطِ الرَّغبةِ فيهِ، وإشْعارًا أنَّ السَّببَ المؤكِّدَ في دفْعِ الشَّرِّ هو العِياذُ باللهِ [457] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/251)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274). . وأيضًا تأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ) مُتوجِّهٌ إلى لازِمِ الخبَرِ؛ وهو أنَّ اللهَ ضمِنَ له السَّلامةَ، وأكَّدَ ذلك؛ لِتَنزيلِ بعْضِ قَومِه -أو جُلِّهم- مَنزلةَ مَن يَتردَّدُ في ذلك لِما رَأى مِن إشفاقِهم عليه [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/127). .
- وكذلك في قولِه: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ خَصَّ اسمَ الرَّبِّ؛ لأنَّ المطلوبَ هو الحِفظُ والتَّربيةُ، وأضافَه إليه وإليهم؛ حثًّا لهم علَى مُوافَقتِه؛ لِما في تَظاهُرِ الأرواحِ مِن استِجلابِ الإجابةِ. وللإيماءِ إلى أنَّ عليهم ألَّا يَجْزَعوا مِن مُناوأةِ فِرْعونَ لهم، وأنَّ عليهم أنْ يَعوذوا باللهِ مِن كلِّ ما يُفْظِعُهم؛ ففيه إيماءٌ إلى تَوجيهِ العَوذِ به؛ لأنَّ العبْدَ يَعوذُ بمَولاهُ [459] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/55، 56)، ((تفسير أبي حيان)) (9/251)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/127). .
- وقولُه: كُلِّ مُتَكَبِّرٍ يَشمَلُ فِرْعونَ وغيرَه مِن الجَبابرةِ، ولكنَّه قال ذلك على طَريقِ التَّعريضِ؛ فكان أبلَغَ، وجُعِلَت صِفةُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ مُغنيةً عن صِفةِ الكُفْرِ أو الإشراكِ؛ لأنَّها تَتضمَّنُ الإشراكَ وزِيادةً؛ لأنَّه إذا اجتمَعَ في الرَّجلِ التَّجبُّرُ والتَّكذيبُ بالجزاءِ، قَلَّت مُبالاتُه بعواقبِ أعمالِه؛ فكمَلَتْ فيه أسبابُ القسْوةِ والجُرأةِ على اللهِ وعِبادِه، ولم يَترُكْ عَظيمةً إلَّا ارْتكَبَها [460] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/56)، ((تفسير أبي حيان)) (9/251)، ((تفسير أبي السعود)) (7/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/127). . وقيل: لم يَذكُرْ فِرعَونَ في هذا الدُّعاءِ؛ لأنَّه كان قد سَبَق له حَقُّ تَربيةٍ على موسى مِن بَعضِ الوُجوهِ، فتَرَك التَّعيينَ رِعايةً لذلك الحَقِّ [461] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/508). .
- قولُه: لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ يَعْني يوْمَ القِيامةِ، وعدَلَ عن (يوْم القيامةِ) إلى (يوْم الحسابِ)؛ لأنَّ الحسابَ أشدُّ خوْفًا مِن (يوْم القيامةِ)، إذا قِيل للإنسانِ: إنَّك سوْفَ تُحاسَبُ على ما عَمِلْتَ مِن خيْرٍ وشَرٍّ؛ فإنَّه سوْفُ يَخافُ ويَوجَلُ، ويَستقيمُ؛ فيَرتدِعُ عن المعاصي، ويَقومُ بالأوامرِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص 237). .
- ومِن بَلاغةِ القُرآنِ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالَى يُكرِّرُ ذِكرَ قِصَّةِ مُوسى، ويَبسُطُها تارةً، ويَختصِرُها تارةً، ويُنوِّعُها؛ فقدْ جَمَعت بيْن الكثرةِ والتَّنويعِ مِن حيث الأسلوبُ والتَّنويعُ مِن حيث البسْطُ والاختصارُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاش في قومٍ مُشركين أوَّلَ الرِّسالةِ، وفي قوْمٍ يَهودَ بعْدَ الهجرةِ، ولهذا جاءت السُّوَرُ المكِّيَّةُ يُذكَرُ فيها قِصَّةُ مُوسى ببسْطٍ واختصارٍ تارةً؛ لأجْلِ أنْ يَتهيَّأَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمجادَلةِ اليهودِ الذين سَتكونُ الهجرةُ إلى بلدٍ همْ ساكنونَ فيه، ولهذا لا تَجِدُ قِصَّةَ نَبيٍّ مِثلَ قِصَّةِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لا في تَنوُّعِها، ولا في تَكرارِها، ولا في أُسلوبِها [463] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص 220). .