موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (127-129)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات :

قَاهِرُونَ: أي: غالِبونَ، أو عالُونَ، والقَهْرُ: الغَلَبَةُ والتَّذليلُ معًا، وأَصْلُ (قهر): يَدُلُّ على غَلَبَةٍ وَعُلُوٍّ [1420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/370)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 687)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 740). .
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ: أي: يَجعلَكم تَخْلُفونَ مَن قَبْلَكم، والخِلافةُ: النِّيابةُ عن الآخَرِ، وخَلَفَ فلانٌ فلانًا: قام بالأمْرِ عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأصْلُه: مجيءُ شيءٍ بعْدَ شيءٍ يقوم مَقامَه [1421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/373)، (( مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (1/294). .

المعنى الإجمالي :

وقال الأشرافُ من قومِ فِرعونَ له: أتترُكُ موسى وقومَه المؤمنين من بني إسرائيلَ ليُفسِدوا في الأرضِ، ويترُكَ عِبادتَك، وعِبادةَ آلهتِك؟! قال فِرعونُ مُجيبًا لهم: سنُقتِّلُ أبناءَهم، ونَستحي نِساءَهم، وإنَّا عالُون فوْقَهم.
قال موسى لقومِه: استعينوا باللهِ واصبِروا؛ إنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَنْ يشاءُ من عِبادِه، والعاقبةُ المحمودةُ تكون لِمَنِ اتَّقى اللهَ تعالى.
قال بنو إسرائيلَ لموسى: آذانا فرعونُ وقومُه مِنْ قَبْلِ أنْ تأتيَنا، ومن بَعْدِ مَجيئِك بالرِّسالةِ أيضًا، قال لهم موسى: عسى ربُّكم أنْ يُهلِكَ عدُوَّكم فرعونَ وقومَه، ويجعلَكم خُلفاءَ في الأرضِ مِنْ بَعْدِ هلاكِهم، فينظُرَ كيف سيكون عَمَلُكم.

تفسير الآيات :

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
أي: وقال الأشرافُ من قومِ فرعونَ وكُبراءِ رجالِه له: أتترُكُ موسى وقومَه المؤمنين مِن بني إسرائيلَ مِن غيْرِ أنْ تُعاقبَهم، وتضرِبَ على أيدِيهم، فيُفسِدوا عليك رَعيَّتَك في أرضِ مِصْرَ بعبادةِ اللهِ وحْدَه من دونِكَ، والدَّعوةِ إليه، وإلى التَّمسُّكِ بالفضائلِ ومكارمِ الأخلاقِ [1422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/365)، ((البسيط)) للواحدي (9/290)، ((تفسير ابن كثير)) (3/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/97- 98). قال ابن عاشور: (والإفسادُ عِندهم هو إبطالُ أصولِ ديانتِهم، وما ينشأ عن ذلك من تفريقِ الجماعةِ، وحثِّ بني إسرائيلَ على الحرِّيَّةِ، ومُغادَرةِ أرضِ الاستعبادِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/58). وقال الشِّنقيطي: (معنى إفسادِهم في الأرضِ: أنَّهم يَزعمون أنَّهم يؤمنون بموسى، ويكونون معه، ويَكونون حَرْبًا على القِبْطِ؛ [فيُخرجونهم] من بلادِ مصرَ، هذا معنى إفسادِهم في الأرضِ المزعومِ). ((العذب النمير)) (4/98). ؟!
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
أي: أتترُكُ موسى وقومَه يُفسِدون في الأرضِ، والحالُ أنَّه يَترُكُ عِبادتَك- يا فرعونُ- وعِبادةَ آلِهتِك [1423] قال الشنقيطي: (وقراءةُ الجمهورِ: وَآلِهَتَكَ، ويذرك فلا يَعْبُدك، ويَذر آلهتَك فلا يعبدها، وقراءةُ ابنِ عبَّاسٍ: «وَيَذَرَكَ وإِلَاهَتَكَ»، أي: وعِبادتَكَ، وهي قراءةٌ شاذَّةٌ). ((العذب النمير)) (4/99). قال ابن عاشور: (كان القِبطُ مُشرِكين يَعبدون آلهةً متنوِّعةً من الكواكبِ والعناصرِ، وصوَّروا لها صورًا عديدةً مختلِفةً باختلافِ العصورِ والأقطارِ... وكان أعظمُ هذه الأصنامِ هو الَّذي يَنتسِب فرعونُ إلى بُنُوَّتِه وخِدْمتِه، وكان فرعونُ معدودًا ابنَ الآلهةِ، وقد حلَّتْ فيه الإلهيَّةُ على نحوِ عقيدةِ الحُلولِ، ففرعونُ هو المنفِّذُ للدِّينِ، وكان يُعَدُّ إلهَ مصرَ، وكانت طاعتُه طاعةً للآلهةِ كما حَكَى اللهُ تعالى عنه: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/58- 59). ، ويَنهى النَّاسَ عنكَ وعن عِبادتِها [1424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/365- 366)، ((تفسير ابن كثير)) (3/459)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/58)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/99). قال ابن تيميَّةَ: (ومن لم يعبُدِ اللهَ أصلًا كفرعونَ ونحوِه ممَّن قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] ، فهؤلاء مُعطِّلةٌ، وهم شرُّ الكفَّارِ، ومع هذا يكون لهم ما يعبدونه دونَ اللهَ، كما قال تعالى في قومِ فرعونَ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، فقال غيرُ واحدٍ من السَّلفِ: «كان له آلهةٌ يعبُدُها»). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 292). وللواو في قوله تعالى: وَيَذَرَكَ وجهانِ من الإعرابِ: الأوَّلُ: أنَّها واوُ الحالِ. وهذا اختيار ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/366). الثَّاني: أنَّها واو العطْفِ، فيكون قولُه سبحانه: وَيَذَرَكَ معطوفًا على لِيُفْسِدُوا، وهذا اختيارُ ابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/58). وحَكَى ابنُ كثير الوجهينِ، ولم يُرجِّحْ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/459-460). ؟!
كما قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 45- 47] .
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ
أي: قال فرعونُ مُجيبًا لملئِه: سنُقتِّلُ الأبناءَ الذُّكورَ من أولادِ بني إسرائيلَ [1425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/370)، ((تفسير ابن كثير)) (3/460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/99). قال الرازيُّ: (اتَّفَقَ المفسِّرون على أنَّ هذا التهديدَ وقع في غيرِ الزَّمانِ الأوَّلِ). ((تفسير الرازي)) (14/342). ويعني بالزَّمانِ الأوَّلِ: زمنَ وِلادةِ موسى عليه السَّلامُ. يُنظر: ((الإجماع في التفسير)) لعمَّار الجُماعي (ص: 308). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 25] .
وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
أي: ونَستبقي الإناثَ منهم، فلا نقتُلُهُنَّ [1426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/59)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/99). قال السعديُّ: (أي: نَسْتَبْقيهنَّ فلا نقتلهنَّ، فإذا فعَلْنا ذلك أَمِنَّا من كثرتِهم، وكنَّا مُستخدِمينَ لباقيهم، ومُسخِّرينَ لهم على ما نشاءُ من الأعمالِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 300). وقال ابن عاشور: (الغرَضُ من استبقاءِ النِّساءِ أنْ يتَّخِذوهُنَّ سراريَّ وخَدَمًا). ((تفسير ابن عاشور)) (9/59). .
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
أي: قال فِرعونُ: وإنَّا عالون على بني إسرائيلَ مُذلِّلون لهم؛ فلا خُروجَ لهم عن حُكْمِنا [1427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/99). .
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا
أي: قال موسى لقومِه من بني إسرائيلَ: اطْلُبوا العَوْنَ من اللهِ تعالى على فِرعونَ وقومِه، واصْبِروا على ما يَحِلُّ بكم من المَكارِهِ في أنفُسِكم وأبنائِكم ونسائِكم؛ حتَّى يُنجِّيَكم اللهُ بفضْلِه من ظُلمِهم [1428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/100). .
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
أي: قال موسى لقومِه: إنَّ الأرضَ كُلَّها للهِ، وليسَتْ لفرعونَ ولا لقومِه، يُقدِّرُ اللهُ تعالى لِمَنْ يشاءُ من العِبادِ مِلْكَ شيءٍ منها، ثمَّ ينزِعُه منه، ويُداوِلُه بين النَّاسِ، وَفْقَ مشيئتِه وحِكْمتِه [1429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/60)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/100). .
كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .
وقال سُبحانَه: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] .
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
أي: والحالُ الحَسنةُ المَحمودةُ في الدُّنيا والآخِرةِ تكون في آخِرِ الأمرِ للَّذينَ يتَّقونَ اللهَ عزَّ وجلَّ؛ بفِعْلِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه [1430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/371)، ((تفسير الشوكاني)) (2/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/60)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/100- 101). .
كما قال سُبحانَه: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132] .
وقال تعالى للمؤمنينَ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120] .
وقال تعالى عن إنجائِه يُوسُفَ عليه السَّلامُ من كَيْدِ إِخْوَتِه وغيرِهم: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 89-90] .
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
أي: قال بنو إسرائيلَ لموسى: آذانَا فرعونُ وقومُه بقتْلِ أبنائِنا، واستحياءِ نسائِنا، وإذْلالِنا مِنْ قَبْلِ مجيئِكَ برسالتِكَ- يا موسى- ومِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا كذلك [1431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/372)، ((تفسير ابن كثير)) (3/460)، ((تفسير الشوكاني)) (2/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/60)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/101- 102). .
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
أي: قال موسى لقومِه: أَرْجو لكم مِن خالِقِكم ومُدبِّرِ شُؤونِكم أنْ يُهلِكَ عدُوَّكم فرعونَ وقومَه [1432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/373)، ((تفسير ابن كثير)) (3/460)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/102). .
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ
أي: وأنْ يَجعَلَكم خُلفاءَ في أرضِهم مِنْ بَعْدِ إهلاكِهم، فيُمَكِّنَكم فيها [1433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/373)، ((تفسير ابن كثير)) (3/460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/102). قال القرطبيُّ: (وقد استُخلِفوا في مِصرَ في زمانِ داودَ وسليمانَ عليهما السَّلامُ، وفَتَحوا بَيْتَ المَقْدِسِ مع يُوشَعَ بنِ نُونٍ). ((تفسير القرطبي)) (7/263). .
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
أي: فيَرى اللهُ عزَّ وجلَّ ما تَعمَلونه حينذاكَ من خيرٍ وشرٍّ، وشُكْرٍ وكُفْرٍ، فيُجازِيَكم عليه [1434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/373- 374)، ((تفسير الشوكاني)) (2/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13-14] .

الفوائد التربوية :

1- قولُه تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ مَنِ اتَّقى اللهَ تعالى وخافَه فاللهُ يُعينُه في الدُّنيا والآخرةِ [1436] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/342). .
عُلِمَ من قولِه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنَّ مَنْ يشاء اللهُ أنْ يُورِثَهم الأرضَ هُمُ المتَّقونَ إذا كان في النَّاسِ مُتَّقونَ وغيرُهم، وأنَّ تمليكَ الأرضِ لغيرِهم إمَّا عارِضٌ، وإمَّا لاستواءِ أهلِ الأرضِ في عدمِ التَّقْوى [1437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/61). .
2- قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، المتَّقونَ بمنزِلةِ مَنْ أكَلَ الطَّعامَ النَّافعَ، واتَّقى الأطعمةَ المُؤذيةَ؛ فَصَحَّ جِسمُه، وكانت عاقبتُه سَليمةً، وغيرُ المتَّقي بمنزلةِ مَنْ خَلَطَ مِنَ الأطعمةِ؛ فإنَّه وإنِ اغْتَذَى بها لكنَّ تلك التَّخاليطَ قد تُورِثُه أمراضًا إمَّا مؤذيةً؛ وإمَّا مُهْلِكَةً [1438] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/136-137). .
3- قال تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، هذه الآيةُ الكريمةُ فيها وعيدٌ شديدٌ، وتخويفٌ عظيمٌ، لِمَنِ اسْتَخْلَفَه اللهُ في الأرضِ- بَعْدَ عدُوِّه الَّذي كان يُقاوِمُه- وَبَسَطَ يَدَهُ بالأرضِ، فإذا كان عِنده عَقْلٌ فإنَّه يخافُ من نَظَرِ اللهِ إليه كيف يَفْعَلُ؛ فيُطيعُ اللهَ في كُلِّ ما يفعَلُ، كما لا يَخفى، فهذه من أعظمِ المواعظِ وأكبرِها الَّتي يَعِظُ اللهُ بها الَّذينَ يُسْتَخْلَفونَ في الأرضِ بعْدَ الَّذينَ كانوا فيها [1439] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/102). .
4- قوله تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يدُلُّ على أنَّ المُسْتَخْلَفينَ في الأرضِ لم يُسْتَخْلَفوا فيها لأَجْلِ الإنعامِ بها عليهم، بل كُلُّ ذلك للابتلاءِ والامتحانِ، فيَنظُر اللهُ تعالى هل يُطيعونَه فيما اسْتَخْلَفَهم فيه أو يَعْصونَه [1440] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/102). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، في وَعْدِ موسى تبشيرٌ لقومِه بالنَّصرِ وحُسْنِ الخاتمةِ؛ فنتيجةُ طَلَبِ الإعانةِ توريثُ الأرضِ لهم، ونتيجةُ الصَّبرِ العاقبةُ المحمودةُ، والنَّصرُ على مَنْ عاداهم؛ فلذلك كان الأمرُ بشيئَيْنِ يَنْتِجُ عنهما شيئان [1441] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/145). .
2- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ جِيءَ فيه بلفظَيْنِ عامَّينِ، وهما: مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ و(المتَّقينَ)؛ لِتَكونَ الجُملتانِ تَذْييلًا للكلامِ، ولِيَحْرِصَ السَّامعونَ على أنْ يكونوا مِنَ المتَّقينَ [1442] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/61). .
3- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، عبَّرَ بـ(عَسَى) ولم يَقْطَعْ بالوَعْدِ؛ لئلَّا يُكذِّبوه؛ لِضَعْفِ أنفُسِهم بما طالَ عليهم مِنَ الذُّلِّ والاسْتِخذاءِ لفرعونَ وقومِه، واستعظامِهم لِمُلْكِه وقُوَّتِه [1443] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/72). .
4- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْض، لا تَنافِيَ بين هذا الرَّجاءِ وبين قولِه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ من حيثُ إنَّ الرَّجاءَ غيرُ مقطوعٍ بحُصولِ مُتَعَلَّقِه، والإخبارَ بأنَّ العاقبةَ للمُتَّقينَ واقِعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ العاقبةَ إنْ كانت في الآخرةِ فَظاهِرٌ عَدَمُ التَّنافي، وإنْ كانت في الدُّنيا فليس فيها تصريحٌ بعاقبَةِ هؤلاءِ القومِ المخصوصين؛ فسَلَكَ موسى طريقَ الأدَبِ مع اللهِ، وساقَ الكلامَ مَساقَ الرَّجاءِ [1444] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/146). .
5- قولُ اللهِ تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وهو سُبحانَه يَعلمُ ماذا سيكون قبْلَ أنْ يكونَ، ولكنَّها سُنَّةُ اللهِ وعَدْلُه ألَّا يُحاسِبَ البَشَرَ حتَّى يقَعَ منهم في العِيَانِ ما هو مكشوفٌ مِنَ الغَيْبِ؛ لِعِلْمِه القديمِ، فهو سبحانه لا يُجازيهم على ما يَعلَمه منهم من خَطيئاتِهم الَّتي يعلَمُ أنَّهم عامِلوها لا مَحالةَ، إنَّما يُجازيهم على ما وقَعَ منهم [1445] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/367).

بلاغة الآيات :

قولُه: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
جُملةُ: قَالَ الْمَلَأُ عَطْفٌ على جُملةِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ، أو على جُملةِ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، وإنَّما عُطِفَتْ ولم تُفْصَلْ؛ لِأَنَّها خارِجةٌ عَنِ المُحاوَرَةِ الَّتي بَيْنَ فرعونَ ومَنْ آمَنَ مِنْ قومِهِ بموسى وآياتِه؛ لأنَّ أولئك لم يُعَرِّجوا على ذِكْرِ ملأِ فرعونَ، بل هي مُحاوَرَةٌ بَيْنَ ملأِ فرعونَ وبَيْنه في وقتٍ غيرِ وقتِ المُحاوَرةِ الَّتي جَرَتْ بين فرعونَ والسَّحرةِ [1446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/57). .
والاستفهامُ في قولِهم: أَتَذَرُ مُوسَى مُستعمَلٌ في الإغراء بإهلاكِ موسى وقومِه، والإنكارِ على الإبطاءِ بإتْلافِهم [1447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/58). .
وقولهم: لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ اللام في قوله: لِيُفْسِدُوا لامُ التعليل، وهو مبالغةٌ في الإنكار؛ إذ جَعَلوا تَرْكَ موسى وقومِه مُعلَّلًا بالفسادِ، وهذه اللام تُسمَّى لامَ العاقبة [1448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/58). .
قوله: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ تشديدُ التاءِ في سَنُقَتِّلُ للمبالغةِ في القَتْلِ مُبالغةَ كَثرةٍ واستيعابٍ، والاستحياء مبالغةٌ في الإحياءِ؛ فالسِّينُ والتاءُ في وَنَسْتَحْيِي للمُبالغةِ أيضًا [1449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/59). .
قوله: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
قوله: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ كرَّرَ لفظ الجلالة، وأظهرَه في موضعِ الإضمارِ؛ تذكيرًا بالعَظَمَةِ، وتصريحًا، وتبركًا [1450] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/37). .
قوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ تذييلٌ وتعليلٌ للأمْر بالاستعانةِ بالله، وفيه كنايةٌ عن تَرقُّبِ زَوالِ استِعْبادِ فِرعونَ إيَّاهم، قُصِدَ منها صرفُ اليأسِ عن أنفسِهم النَّاشئِ عن مُشاهدةِ قُوَّةِ فِرعونَ وسُلطانِه [1451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/60). .
وقوله: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تذييلٌ بمنزلةِ تَعليلٍ ثانٍ للأمرِ بالاستعانةِ والصَّبرِ، وبهذا الاعتبارِ أُوثِرَ العطفُ بالواوِ على فَصْلِ الجُملةِ، مع أنَّ مُقتضَى التذييلِ أنْ تَكونَ الجملةُ  مَفصولةً غير مَعطوفةٍ [1452] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/60). . وفيه وعدٌ لبَنِي إسرائيلَ بالنُّصرةِ على القِبطِ، وتذكير لِمَا وعَدَهم من إهلاكِ القبطِ، وتوريثِهم أرضَهم ودِيارَهم، وتحقيقٌ له [1453] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/143)، ((تفسير البيضاوي)) (3/30). .
قوله: قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيه تصريحٌ بما رَمَز إليه مِن البِشارةِ قَبلُ، وكشفٌ عنه، وهو إهلاكُ فِرعونَ، واستخلافُهم بعدَه في أرضِ مِصرَ [1454] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/144). . وعَبَّر بـ(عَسَى) التي تدلُّ على الرجاء والطَّمعِ والإشفاقِ، ومِثلُ هذا الكلام إذا صَدَر من الأنبياءِ يُقوِّي قلوبَ أتْباعِهم، فيَصبرون إلى وُقوعِ مُتعلَّقِ الرَّجاءِ [1455] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/342- 343)، ((تفسير أبي حيان)) (5/146). .
قوله: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ جُملةٌ تَجرِي مجرَى البعثِ والتحريضِ على طاعةِ اللهِ تعالى [1456] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/146). .