موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (117-126)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات :

تَلْقَفُ: أي: تَأْكُلُ وتَلْتَهِمُ، وتَلْقَمُ وتَبْتَلِعُ؛ يُقالُ: لَقِفَ الشيءَ وأَلْقَفَه، وتَلَقَّفَه: تَناوَلَه بالحِذْقِ، سواءٌ في ذلك تَناوُلُه بالفَمِ أو اليَدِ .
يَأْفِكُونَ: أي: يَكذِبونَ ويُزوِّرونَ، والإفْكُ: الكَذِبُ، وأصلُ (أفك): يَدُلُّ على قَلْبِ الشَّيْءِ، وصَرْفِهِ عن جِهَتِه .
وَانْقَلَبُوا: أي: رجَعوا، وانصرَفوا، يُقالُ لِمَنْ كان على شيءٍ ثمَّ رجَع عنه: قدِ انْقَلَبَ على عَقِبِهِ، وأَصْلُ (قلب): صَرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه من جِهَةٍ إلى جِهةٍ؛ كقَلْبِ الثَّوْبِ .
صَاغِرِينَ: أي: أذلَّاءَ مُهانينَ، أو مُبْعَدينَ؛ فالصَّغارُ: الذِّلَّةُ والـمَهانَة، وأصلُ (صغر): يَدُلُّ على قِلَّةٍ وحَقارةٍ .
لَمَكْرٌ: أي: لَصَنيعٌ فيما بَيْنكم وبَيْن موسى، وأَصْلُ (مكر): الاحْتيالُ والخِداعُ .
مِنْ خِلَافٍ: الخِلافُ: المُخالَفَةُ، والمرادُ بالقَطعِ مِن خِلافٍ: أنْ يُخالِفَ بينَ العُضوينِ في القَطعِ، وذلِك بقَطْعِ اليَدِ اليُمنى والرِّجلِ اليُسرى، أو قَطْعِ اليدِ اليُسرَى والرِّجلِ اليُمنى .
تَنْقِمُ: أي: تَكْرَهُ مِنَّا، وتُنْكِرُ وتَعيبُ؛ يقال: نَقَمَ الشَّيءَ، إذا أنكره؛ إمَّا باللِّسانِ، وإمَّا بالعقوبةِ، وأَصْلُ (نقم): يدُلُّ على إنكارِ شَيءٍ وعَيْبِه .
أَفْرِغْ: أي: أَنزِلْ واصبُبْ علينا؛ كما يُفرَغُ الدَّلْوُ، أي: يُصَبُّ ما فيه، وأصل (فرغ): يَدُلُّ على خُلُوٍّ، وَسَعَةِ ذَرْعٍ .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه أَوْحى إلى موسى بأنْ يُلْقِيَ عصاهُ بعدَما أَلْقى السَّحرةُ حِبالَهم وعِصِيَّهم، فإذا هي ثُعبانٌ حقيقيٌّ يأكُلُ ما كان أَلْقاهُ السَّحَرةُ ممَّا أَوْهَموا النَّاسَ كَذِبًا أنَّها حيَّاتٌ، فظَهَرَ حينَها الحقُّ، وبَطَلَ ما كانوا يَعمَلونَ، فغُلِبَ عِندَ ذلك الجَمْعِ السَّحَرةُ وفرعونُ وقومُه، وانصرفوا أذِلَّاءَ حقيرينَ، وسجَدَ السَّحرةُ لرَبِّهم بعَدْ أنْ رَأَوْا عظيمَ قُدْرتِه، وقالوا: آمَنَّا برَبِّ العالَمينَ، ربِّ موسى وهارونَ.
قال فرعونُ للسَّحرةِ: أآمَنْتُمْ له قَبْلَ أنْ أُعطيَكم الإذْنَ بذلك؟! إنَّ هذا الَّذي فعلتُموهُ حيلَةٌ اتَّفَقْتُم مع موسى عليها؛ لِتُخْرِجوا أهلَ هذه المدينةِ منها، فسوف تعلَمونَ ما سأفعَلُ بكم مِنَ العذابِ، لَأُقَطِّعَنَّ من كُلِّ ساحرٍ منكم يدَه ورِجْلَه من جِهتَيْنِ مختلِفتَيْنِ، ثمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم كُلَّكم. قال السَّحرةُ الَّذينَ آمَنوا: إنَّا إلى رَبِّنا لَراجِعونَ، وما تُنْكِرُ منَّا يا فرعونُ إلَّا أنَّنا آمَنَّا بآياتِ ربِّنا لَمَّا أَتَتْنا، ثمَّ دعا السَّحرةُ ربَّهم فقالوا: ربَّنا أنزِلْ علينا صَبْرًا، وأَمِتْنا مُسلِمينَ.

تفسير الآيات :

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
أي: وأوحينا إلى موسى بعْدَ أنْ أَلْقى السَّحرةُ حبالَهم وعِصِيَّهم: أنْ أَلْقِ عصاكَ .
كما قال تعالى لموسى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه: 69] .
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِهِ تعالى: تَلْقَفُ قراءتانِ:
قراءة تَلْقَفُ، من لَقِفْتُ الشَّيءَ أَلْقَفُهُ لَقْفًا، قيل: هو أَخْذُ الشَّيءِ بحِذْقٍ في الهواءِ .
قراءة تَلَقَّفُ، قيل: معناه: تَلتَهِمُ العِصِيَّ والحِبالَ الَّتي تُخُيِّلَتْ بِسِحرِ السَّحَرَةِ أنَّها حيَّاتٌ، وقيل: أَصْلُ الكلمةِ: تَتَلَقَّفُ، أي: تُبالِغُ وتتكلَّفُ اللَّقْفَ .
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
أي: فأَلْقى موسى عصاهُ، فانقلَبَتْ في الحقيقَةِ ثُعبانًا عظيمًا، يأكُلُ ويبتَلِعُ بسرعةٍ هائلةٍ جميعَ ما أَلْقاهُ السَّحرةُ مِنَ الحِبالِ والعِصِيِّ، الَّتي أَوْهَموا النَّاسَ كَذِبًا وافتراءً أنَّها حَيَّاتٌ .
كما قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] .
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
فَوَقَعَ الْحَقُّ
أي: فلمَّا جَرَى ذلك ظهَرَ الحقُّ، وتبيَّنَ لجَميعِ الحاضرينَ أنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولٌ من عِندِ اللهِ ربِّ العالَمينَ .
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
أي: واضْمَحَلَّ وزالَ ما كان يَقُومُ به السَّحرةُ مِنَ الخِداعِ والكَذِبِ والتَّخْييلِ .
كما قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 81- 82] .
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
أي: فغُلِبَ فرعونُ وقومُهُ والسَّحرةُ عِند ذلك الجَمْعِ .
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ
أي: وانصَرَفَ فرعونُ وقومُه والسَّحَرةُ أذِلَّاءَ حقيرينَ، بعْدَ أنْ غَلَبَهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الضَّميرُ قَبْلُ في قولِهِ: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ضَميرًا مُشتركًا، جُرِّدَ المؤمنونَ وأُفْرِدوا بالذِّكْرِ .
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
أي: ولم يتمالَكِ السَّحرةُ أنفُسَهم بعَدْ أنْ رَأَوْا عظيمَ قُدْرَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعرَفوا صِدْقَ موسى عليه السَّلامُ، فسقَطوا على وُجوهِهم ساجِدينَ لربِّهم .
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
أي: قال السَّحرةُ: آمَنَّا بخالِقِ ومالِكِ ومُدبِّرِ كُلِّ شيءٍ، فلا نعبُدُ غيرَه .
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَروا أنَّهم آمَنوا بربِّ العالَمينَ، خصُّوا مَنْ هَداهُمُ اللهُ على أَيْديهما؛ تصريحًا بالمُرادِ، وتشريفًا لهما، فقالوا :
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
أي: ربُّنا الَّذي آمَنَّا به هو ربُّ الرَّسولَيْنِ الكريمَيْنِ موسى وهارونَ، اللَّذَيْنِ أيَّدَهما بهذه المعجزةِ العظيمةِ، الدَّالَّةِ على صِدْقِهما .
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ لَمَّا أَعْلَنوا إيمانَهم باللهِ عزَّ وجلَّ: أآمَنْتُمْ بموسى قَبْلَ أنْ أمنَحَكم الإذْنَ بذلك؟! فهذا سوءُ أدَبٍ منكم، وتجرُّؤٌ عليَّ !
كما قال تعالى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71] .
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا
أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ: إنَّ ما فعلتموه خُدْعَةٌ وحيلَةٌ اتَّفَقْتُمْ أنتُمْ وموسى عليها؛ لتكونَ لكم الرِّياسةُ في مدينتِنا هذه، وتُخرِجوا منها أهلَها القِبْطَ، وتُسكِنوا فيها بني إسرائيلَ .
ثم قال فرعونُ مُهدِّدًا السَّحرةَ الَّذينَ آمَنوا:
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
أي: فسوف تَعلَمون ما أفعَلُ بكم مِنَ العذابِ .
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
أي: قال فرعونُ مُبيِّنًا ما سيُعذِّبُ به السَّحرةَ الَّذينَ آمَنوا: أُقْسِمُ لَأُقطِّعنَّ من كلِّ ساحرٍ منكم يدَهُ ورِجْلَه من جِهتَيْنِ مُختلِفتَيْنِ؛ فيقطَعُ اليَدَ اليُمنى والرِجْلَ اليُسرى أو بالعكْسِ .
ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
أي: ثمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ كُلَّكُم- أيُّها السَّحرةُ- على جُذوعِ النَّخْلِ .
كما قال تعالى: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71] .
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
أي: قال السَّحرةُ الَّذينَ آمَنوا بعْدَ أنْ توعَّدَهم فرعونُ بالعذابِ والقتلِ: إنَّا إلى ربِّنا الرَّحيمِ الكريمِ راجِعونَ، فنجِدُ لَدَيْهِ مِنَ النَّعيمِ ما يُنْسينا كُلَّ بلاءٍ ومحنةٍ في الدُّنيا، فلا نُبالي بعِقابِكَ- يا فرعونُ-، ولَنَصْبِرَنَّ على عذابِكَ في الدُّنيا؛ لِنَنْجُوَ من عذابِ اللهِ في الآخرةِ .
كما قال تعالى: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 50- 51] .
وقال سُبحانَه: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72- 73] .
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا
أي: وما الَّذي تُنكرُه وتكرُهه منَّا، وتَعيبُه علينا- يا فرعونُ-؛ حتَّى تجعَلَهُ سببًا لعذابِنا وتقتيلِنا إلَّا أنَّنا صدَّقْنا وأَقْرَرْنا بحُجَجِ ربِّنا وأدلَّتِهِ حين جاءتْنا دالَّةً على رسولِهِ ؟!
ثم دعا السَّحرةُ ربَّهم، فقالوا:
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا
أي: ربَّنا أنزِلْ علينا صَبْرًا عظيمًا عِند تعذيبِ فرعونَ لنا؛ حتَّى نَثبُتَ على دِينِكَ .
وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
أي: أَمِتْنَا- يا ربَّنا- ونحن ثابتونَ على الإسلامِ؛ حتَّى نلقاكَ وأنتَ عنَّا راضٍ .

الفوائد التربوية :

1- النَّفسُ البشريَّةُ حين تُسْتَعْلَنُ فيها حقيقةُ الإيمانِ تستَعْلي على قوَّةِ الأرضِ، وتَستهينُ ببأسِ الطُّغاةِ، وتنتصِرُ فيها العقيدةُ على الحياةِ، وتَحتقِرُ الفَناءَ الزَّائلَ إلى جِوارِ الخُلودِ المُقيمِ، يبيِّن ذلك قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، فلمَّا تمكَّنَ الإيمانُ من قلوبِهم علِموا أنَّ عقوبةَ الدُّنيا أسهلُ من عقوبةِ الآخرةِ وأقلُّ بقاءً، وأنَّ ما يحصُلُ لهم في الآخرةِ مِنْ ثوابِ الإيمانِ أعظَمُ وأنفَعُ وأكثَرُ بقاءً .
2- قال تعالى على لِسانِ السَّحرةِ الَّذينَ آمَنوا: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، دَعَوْا لأنفُسِهم بالوفاةِ على الإسلامِ؛ إيذانًا بأنَّهم غيرُ راغبينَ في الحياةِ، ولا مُبالينَ بوعيدِ فرعونَ، وأنَّ هِمَّتَهم لا تَرْجو إلَّا النَّجاةَ في الآخرةِ، والفَوزَ بما عِند اللهِ .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُ اللهِ تعالى: تَلَقَّفُ بحذْفِ إحدى التَّاءَيْنِ مِنَ الأصلِ، أي: تَلْتَقِمُ التقامًا حقيقيًّا شديدًا سريعًا جدًّا بما دَلَّ عليه حذْفُ التَّاءِ ، على إحدى القراءتين.
قولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ دَلَّ على كثرةِ ما صَنَعوا بقولِهِ: مَا يَأْفِكُونَ، أي: يُجدِّدونَ- حين إلقائِهم- في تَزْويرِه وقَلْبِه عن وَجْهِه .
قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ هذه الحادثةُ الخارقةُ للعادةِ فيها إثباتُ الصانعِ، وإثباتُ نبوةِ أنبيائِه، فإنَّ حدوثَ هذا الحادثِ على هذا الوجهِ في مثلِ ذلك المقامِ يُوجبُ علمًا ضروريًّا أنَّه مِن القادرِ المختارِ لتصديقِ موسَى عليه السَّلامُ، ونصْرِه على السَّحرةِ؛ فقلبُ الأعيانِ إلى ما ليس في طبعِها الانقلابُ إليه، كمصيرِ الخَشبِ حيوانًا حسَّاسًا متحرِّكًا بالإرادةِ، يبلعُ عصيًّا وحبالًا، ولا يتغيَّرُ- ليس هذا مِن جنسِ مقدورِ البشرِ، لا معتادًا ولا نادرًا، ولا يحصلُ بقُوَى نفسٍ أصلًا، ولهذا لمَّا رأَى سحرةُ فرعونَ ذلك علموا أنَّه خارجٌ عن طريقةِ السِّحرِ .
قولُ اللهِ تعالى: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دلَّ بـ(كان) والمضارِعِ على أنَّهم- مع بُطلانِ ما عمِلوا- نَسوا عِلْمَهم، بحيث إنَّه انسدَّ عليهم بابُ العملِ بعْدَ أنْ كان لهم به مَلَكَةٌ كمَلَكَةِ ما هو كالجِبلَّةِ .
قولُ اللهِ تعالى: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لم يُعبَّرْ عنه بالسِّحرِ؛ إشارةً إلى أنَّه كان سِحرًا عجيبًا تكلَّفوا له، وأَتَوْا بمُنتهى ما يَعرِفونَه .
قولُ اللهِ تعالى: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، لم يَقُلْ: (فغَلَبَهم موسى)؛ لأنَّ ذلك لم يكنْ بكَسْبِه وصُنْعِه عليه السَّلامُ .
قولُ اللهِ تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، لم يتأخَّروا عَنِ السُّجودِ حتَّى كأنَّهم خرُّوا من غيرِ اختيارٍ ، فعَبَّرَ بقولِهِ: وَأُلْقِيَ كأنَّ إنسانًا أَمْسَكَهم وأَلْقاهم ساجِدينَ بالقُوَّةِ؛ لِقوَّةِ البُرهانِ الَّذي رَأَوْا به الحَقَّ .
أنَّه قد يكونُ الشَّيءُ الخَسيسُ الحقيرُ وفيه بعضُ النَّفْعُ؛ لأنَّ عِلْمَ السِّحرِ من أَخَسِّ العُلومِ وأَقْبَحِها، وقد صرَّحَ اللهُ جلَّ وعلا في المُحْكَمِ المُنَزَّلِ في سورةِ البقرةِ أنَّ تعلُّمَه يَضُرُّ ولا ينفَعُ، فهو ضَرَرٌ مَحْضٌ لا نَفْعَ فيه، كما قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة: 102] ، ولكنَّ اللهَ قد نَفَعَ هؤلاءِ القومَ بهذا العِلْمِ الخسيسِ الخبيثِ، فتبيَّنَ أنَّ قولَهُ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [البقرة: 102] من جميعِ الحَيْثِيَّاتِ غيرِ هذه الحَيْثِيَّةِ وهو انتفاعُهم به أنَّهم كانوا عالِمينَ بالسِّحرِ، عارِفينَ بِحُدودِه الَّتي يَنتهي إليها، فلمَّا جاءتِ العصا والْتَقَمَتْ جميعَ الحِبالِ والعِصِيِّ، ولم يَجِدوا حبلًا ولا عصا، عرَفوا أنَّ هذا مِنَ اللهِ؛ لأنَّهم يَعرِفونَ السِّحرَ، ويَعرِفونَ مدى تأثيرِه، فمعرفتُهم بالسِّحرِ كانت نَفْعًا لهم؛ بأنْ عرَفوا أنَّ العصا ليسَتْ من جِنْسِ السِّحرِ، فلو كانوا جاهِلينَ بالسِّحرِ لظنُّوا أنَّ عصا موسى من جنْسِ السِّحرِ والشَّعوذةِ، وهُمْ لَمَّا عرَفوا السِّحرَ تمامًا عرَفوا أنَّ البُرهانَ خارجٌ عن طَوْرِ السِّحرِ، وأنَّه لا يدخُلُ فيه، وأنَّه أمْرٌ إلهيٌّ .
قولُ اللهِ تعالى: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، وقولُهُ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدُلُّ على أنَّ فِعْلَ العبْدِ لا يحصُلُ إلَّا بتخليقِ اللهِ وقضائِه .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فيه دليلٌ على أنَّ ظُهورَ الآيةِ موجِبٌ للإيمانِ عِند مَنْ ظهرتْ له، ولو أنَّ الرَّسولَ غيرُ مُرْسَلٍ إليه .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، لماذا خصَّهما اللهُ بالذِّكْرِ، وهما يدخُلانِ في جُملةِ العالَمينَ؟ للعلماءِ في ذلك وُجوهٌ:
الوجْهُ الأوَّلُ: خصَّهما بالذِّكْرِ بعْدَ دُخولِهما في جُملةِ العالَمينَ؛ لأنَّ فيه معنى الَّذي دعا إلى الإيمانِ به موسى وهارونُ .
الوجْهُ الثَّاني: خصَّهما بالذِّكْرِ تفضيلًا وتشريفًا؛ كقولِه: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] .
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ السَّحَرةَ لم يَكتفوا بقولِ: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، حتَّى قالوا: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لئلَّا يتوَّهمَ مُتوهِّمٌ من قومِ فرعونَ المقِرِّينَ بإلَهِيَّتِه أنَّ السُّجودَ له .
الوجْهُ الرَّابِعُ: تخصيصُهما بإضافةِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى لهما؛ لأنَّ ربوبيَّةَ موسى وهارونَ لها اختِصاصٌ زائدٌ على الرُّبوبيَّةِ العامَّةِ للخَلْقِ؛ فإنَّ مَنْ أَعْطاه اللهُ مِنَ الكمالِ أكثَرَ ممَّا أَعْطى غيرَهُ فقدْ ربَّه وربَّاه رُبوبيَّةً وتربيةً أكمَلَ من غيرِهِ .
قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا، لَمَّا خافَ فرعونُ أنْ يكونَ إيمانُ السَّحرةِ حُجَّةَ قومِهِ أَلْقى في الحالِ نوعَيْنِ مِنَ الشُّبَهِ؛ أحدُهما: أنَّ هذا تواطُؤٌ منهم لا أنَّ ما جاء به حقٌّ. والثَّاني: أنَّ ذلك طَلَبٌ منهم للمُلْكِ .
قولُ اللهِ تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، قولُ فرعونَ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؛ لِيُخَوِّفَهم من خطَرِ المُخالَفةِ له بما رجَّاهم فيه من إِذْنِه .
قولُ اللهِ تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ... إلى قولِه: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، طوَّلَ الكلامَ؛ تَبْيينًا لِمَا أرادوا، وتَنْسيَةً لخاطِرِ الإيمانِ .
قولُ اللهِ تعالى على لسانِ فرعونَ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، لَمَّا ظهرتِ الحُجَّةُ عادَ إلى عادةِ مُلوكِ السُّوءِ- إذا غُلِبوا- وهي تَعذيبُ مَنْ ناوَأَهم، وإنْ كان مُحِقًّا .
قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فيه أنَّ الدِّينَ عِند اللهِ الإسلامُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ .
قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ استَدَلَّ به مَنْ قال: إنَّ الإيمانَ والإسلامَ واحدٌ؛ فإنَّهم قالوا أوَّلًا: آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا، ثمَّ قالوا ثانيًا: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ .

بلاغة الآيات :

قوله: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فيه التعبيرُ عن الماضِي بصِيغةِ المضارعِ؛ للدَّلالةِ على التَّجديدِ والتَّكريرِ، مع استحضارِ صُورةِ اللَّقف الهائلةِ .
قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَتَى بقولِه: وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، بعْدَ قولِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ، مع تضمُّنِه معناه؛ لِتقريرِ مَضمونِ جُملةِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ لتَسجيلِ ذَمِّ عَمَلِهم، والنِّداءِ بِخَيْبَتِهم؛ تأنيسًا للمُسلِمينَ، وتهديدًا للمشركينَ، وللكافرينَ أمثالها .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ مِثْلَه: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء: 47- 48] ، وقال في سورةِ طه: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه: 70] ، كرَّرَ ذِكْرَ رَبِّ في السُّورتَيْنِ، ولم يُكرِّرْه في سورةِ طه؛ لأنَّه إذا قيل: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فقدْ دخَلَ فيهم موسى وهارونُ، وهما دَعَوَا إلى ربِّ العالَمينَ لَمَّا قالَا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] ، إلَّا أنَّه كرَّر في السُّورتَيْنِ: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ ليدُلَّ بتَخصيصِهما بعْدَ العُمومِ على تَصديقِهم بما جاءَا به عليهما السَّلامُ عن اللهِ تبارَكَ وتعالى، فكأنَّهم قالوا: آمَنَّا برَبِّ العالَمينَ، وهو الَّذي يَدْعو إليه موسى وهارونُ.
وأمَّا في سورةِ طه فَلَمْ يذكُرْ: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لأنَّه هنا تتمة للآيةِ رعايةً للفواصلِ، كما في السُّورتَيْنِ، فيكونُ مَقْطَعُ الآيةِ فاصلةً مُخالِفةً للفواصلِ الَّتي بُنِيَتْ عليها سورةُ طه، فقال تعالى: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه: 70] ، وربُّهما هو ربُّ العالَمينَ، وكان القَصْدُ حِكايةَ المعنى، لا أداءَ اللَّفْظِ .
قولُه: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
قولُه: آمَنْتُمْ بِهِ بهمزةٍ واحدةٍ إمَّا على الإخبارِ المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخِ، أو على الاستفهامِ التوبيخيِّ بحذفِ الهمزةِ، ومعناه الإنكارُ والاستبعادُ .
وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، وقال في سورتَيْ طه والشُّعراءِ: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: 71، الشعراء: 49]، فأَظهرَ اسْمَ فرعونَ- لَعَنه اللهُ- في سورةِ الأعرافِ في هذا اللَّفظِ، وأَضمَرَه في مِثلِه من سورتَيْ طه والشُّعراءِ؛ وذلك لأنَّ إظهارَ اسْمِ فرعونَ في سورةِ الأعرافِ؛ لأنَّه جاء في الآيةِ العاشرةِ من الآيِ الَّتي أَضْمَرَ فيها ذِكرَه، وهي قولُه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وجاء في الآيةِ العاشرةِ من هذه السُّورةِ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ، ولم يَبْعُدْ هذا الذِّكْرُ في الآيتَيْنِ اللَّتَيْنِ في سورةِ طه والشُّعراءِ؛ لأنَّ فرعونَ مذكورٌ في سورةِ طه في جُملةِ قومِهِ الَّذينَ أَخْبَرَ عنهم بقولِه: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى [طه: 57] وبعْدَه: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه: 60- 61] ، وهذا خِطابُه لفِرعونَ وقومِه، وضَميرُهم مُنْطَوٍ على ضميرِه إلى قولِه: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [طه: 64] .
والذِّكرُ في قولِه: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71] إنَّما هو السَّابعُ من الآيِ الَّتي جَرى ذِكْرُه فيها، وكذلك في سورةِ الشُّعراءِ لم يَبْعُدِ الذِّكْرُ بعْدَه كما في سورةِ الأعرافِ، ألا ترى أنَّ آخِرَ ما ذَكَرَ فيما اتَّصلَ بهذه الآيةِ قولُه تعالى: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] ، وذَكَرَهُ بعْدَ ذلك في الآيةِ الثَّامنةِ من الآيِ الَّتي جَرى ذِكْرُه فيها، فلمَّا بَعُدَ الذِّكرُ في سورةِ الأعرافِ خِلافَ بُعْدِهِ في السُّورتَيْنِ؛ إذْ كان في إحْداهما في السَّابعةِ، وفي الأُخْرى في الثَّامنةِ، وفي الأعرافِ في العاشرةِ أُعيدَ ذِكْرُه الظَّاهرُ لذلك .
ومن المُناسَبةِ الحَسنةِ أيضًا أنَّه قال تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: آمَنْتُمْ بِهِ، وقال في الموضعَيْنِ الآخَرَيْنِ: آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71، والشعراء: 49]؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الباءَ في سورة الأعراف في قولِه: آمَنْتُمْ بِهِ واللَّامَ في آمَنْتُمْ لَهُ في طه والشعراء مُحتاجٌ إلى كلِّ واحدةٍ منهما من حيث إنَّ التَّصديقَ والانقيادَ معنيانِ يُحتاجُ إليهما؛ فالباءُ تُحْرِزُ التَّصديقَ، واللَّامُ تُحْرِزُ الانقيادَ والإذعانَ، فبُدِئَ بالباءِ المُعْطيةِ معنى التَّصديقِ، وهى أخصُّ بالمقصودِ من اللَّامِ، فاقتضى التَّرتيبُ تقديمَها، ثمَّ أُعْقِبَ في السُّورتَيْنِ بَعْدُ باللَّامِ، حتَّى كأنْ قد قيل لهم: أصدَّقتْموه مُنقادينَ له في دعائِه إيَّاكم إلى الإيمانِ بما جاء من عِند اللهِ؟! فحصَلَ المقصودُ على أكملِ ما يُمكِنُ .
وقيل: إنَّ وجْهَ ذلك أنَّ الهاءَ في قولِه: آمَنْتُمْ بِهِ غيرُ الهاءِ في قوله: آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71، والشعراء: 49]، وكلُّ واحدةٍ تَعودُ إلى غيرِ ما تَعودُ إليه الأُخْرى؛ فالَّتي في آمَنْتُمْ بِهِ تعودُ إلى ربِّ العالَمينَ؛ لأنَّه تعالى حَكى عنهم أنَّهم: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وهو الَّذي دعا إليه موسى عليه السَّلامُ، وأمَّا الهاءُ في قولِه: آمَنْتُمْ لَهُ في طه والشعراء تعودُ إلى موسى عليه السَّلامُ. وقيل: يجوز أنْ يكونَ الهاءُ في آمَنْتُمْ بِهِ ضمير موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه يُقالُ: آمَنَ بالرَّسولِ، أي: أظهرْتُم تصديقَه، وأقدمْتُم على خِلافي قبْلَ أنْ آذَنَ لكم فيه، وهذا مكرٌ مَكَرْتُموه، وسِرٌّ أَسْرَرْتُموه؛ لِتقلبوا النَّاسَ عليَّ؛ فاقتَضَى هذا الموضعُ الَّذي ذُكِرَ فيه المكرُ إنكارَ الإيمانِ به، فأمَّا الإيمانُ له في الموضعَيْنِ الآخَرَيْنِ؛ فاللَّامُ تُفيدُ معنى الإيمانِ من أَجْلِه، ومن أَجْلِ ما أَتى به من الآياتِ، فكأنَّه قال: آمَنْتُم بربِّ العالَمينَ لِأَجْلِ ما ظهَرَ لكم على يَدَيْ موسى عليه السَّلامُ من آياتِه، والموضعُ الَّذي ذُكِرَ فيه (له)، أي: مِنْ أَجْلِه، وعُبِّرَ عنه باللَّامِ، هو الموضعُ الَّذي قَصَدَ فيه إلى الإخبارِ بـإِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71، والشعراء: 49]؛ فلذلك خُصَّ باللَّامِ، والأوَّلُ خُصَّ بالباءِ، وقد تدُلُّ اللَّامُ على الاتباعِ؛ فيكونُ المعنى: اتَّبعتُموه؛ لأَنَّهُ كبيرُكم في عَمَلِ السِّحرِ، وقد يُؤمِنُ بالخبرِ مَنْ لا يعملُ عليه، ولا يتَّبِعُ الدَّاعيَ إليه .
وقولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيدٌ ساقَه بطريقِ الإجمالِ؛ للتهويلِ، ثمَّ عقَّبه بالتَّفصيلِ .
قولُه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: فَسَوْفَ تَعْمَلُونَ، وقال في سورةِ طه: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [طه: 71] ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [الشعراء: 49] ، فقال في سورةِ الأعرافِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، ولم يَقُلْهُ في سورةِ طه، وإنَّما أَدْخَلَ الفاءَ على قولِه: فَلَأُقَطِّعَنَّ [طه: 71] ، وأمَّا في سورةِ الشُّعراءِ فإنَّه أتى بـ(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) مع اللَّامِ فقال: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء: 49] ؛ وذلك لأنَّ قولَه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من الوعيدِ المُبْهَمِ، وهذا النَّوْعُ من الوعيدِ أَبْلَغُ مِنَ الإفصاحِ بقَدْرِه، على أنَّه قد قَرَنَ إليه بيانَه، وهو: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآيةَ، فنَطَقَ القرآنُ بحكايةِ التَّعريضِ بالوعيدِ، والإفصاحِ بالتَّهديدِ معًا. وأمَّا اختصاصُ سورةِ الشُّعراءِ بقولِه: فَلَسَوْفَ وزيادةِ اللَّامِ؛ فلتقريبِ ما خوَّفَهم به من اطِّلاعِهم عليه وقُرْبِه منهم، حتَّى كأنَّه في الحالِ موجودٌ؛ إذِ اللَّامُ للحالِ، فالجَمْعُ بينها وبين (سوف) الَّتي للاستقبالِ إنَّما هو لتحقيقِ الفِعْلِ، وإدنائِه مِنَ الوُقوعِ، وقد بيَّنَّا أنَّ سورةَ الشُّعراءِ أَكْثَرُ اقتصاصًا لأحوالِ موسى عليه السَّلامُ في بَعْثِه، وابتداءِ أمْرِه، وانتهاءِ حالِه مع عدُوِّه، فجَمَعَتْ لفظَ الوعيدِ المُبْهَمِ مع اللَّفظِ المُقرِّبِ له، المُحَقِّقِ وُقوعَه، إلى اللَّفظِ المُفصِحِ بمعناه، ثمَّ وقَعَ الاقتصارُ في السُّورةِ الَّتي لم يُقْصَدْ فيها من اقتصاصِ الحالِ ما قُصِدَ في سورةِ الشُّعراءِ على ذِكْرِ بعضِ ما هو في مَوْضِعِ التَّفصيلِ والشَّرْحِ، وهو التَّعريضُ بالوَعيدِ مع الإفصاحِ به. وأمَّا في سورةِ طه فإنَّه اقتصر على التَّصريحِ بما أَوْعَدَهم به، وتَرَكَ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، وقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ [طه: 71] ، إلَّا أنَّه جاء بَدَلَ هذه الكلمةِ ما يُعادِلُها ويُقارِبُ ما جاء في سورةِ الشُّعراءِ الَّتي هي مِثْلُها في اقتصاصِ أحوالِه من ابتدائِها إلى حين انتهائِها، وهو قولُه بَعْدَهُ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه: 71] ، فاللَّامُ والنُّونُ في: (لَتَعْلَمُنَّ) للقَسَمِ، وهما لتحقيقِ الفعْلِ وتوكُّدِه، كما أنَّ اللَّامَ في قولِه: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء: 49] لإدناءِ الفعْلِ وتقريبِه، فقدْ تجاوَزَ ما في السُّورتَيْنِ المقصودَ فيهما إلى اقتصاصِ الحالِ من إعلاءِ الحقِّ وإزهاقِ الباطلِ .
وقولُه تعالى: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، وقال في سورتَيْ طه والشُّعراءِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ [طه: 71، والشعراء: 49]، فاخْتَصَّتْ ما في سورةِ الأعرافِ بـ(ثُمَّ) والأُخْرَيَيْنِ بالواوِ، والمُتوعَّدُ به واحدٌ في الموضعَيْنِ؛ فإنَّ السُّورتَيْنِ اللَّتَيْنِ اختصَّتا بالواوِ هما المَبْنِيَّتانِ على الاقتصاصِ الأكثرِ، والتَّفصيلِ الأوْسَعِ، والواوُ أشبَهُ بهذا المعنى؛ لأنَّه يجوز أنْ يكونَ ما بعْدَها مُلاصِقًا لِمَا قبْلَها، كالتَّعقيبِ الَّذي يُفادُ بالفاءِ، ويجوز أنْ يكونَ مُتراخيًا عنه، كالمُهْلَةِ الَّتي تُفادُ بـ(ثمَّ)، لا، بَلْ يجوز أنْ يكونَ ما بعْدَها مُقدَّمًا على ما قبْلَها، ومُجامِعًا لها؛ إذْ هي موضوعةٌ للجَمْعِ، ولا ترتيبَ فيها، فكانت الواوُ أَشْبَهَ بهذَيْنِ المكانَيْنِ، و(ثم) تختصُّ بأحَدِ المواضعِ الَّتي تَصْلُحُ الواوُ لجميعِها، فلمَّا كانت مُقْتَصَرًا بها على بعضِ ما وُضِعَتْ له الواوُ، استُعْمِلَتْ حيث اخْتُصِرَتِ الحالُ، فاقتَرَنَ بكُلِّ مكانٍ ما يَليقُ بالمقصودِ فيه .
وقيل: لأنَّ (ثمَّ) تدُلُّ على أنَّ الصَّلْبَ يقَعُ بعْدَ التَّقطيعِ، وإذا دلَّ في الأولى عُلِمَ في غيرِها، ولأنَّ موضِعَ الواوِ تصلُحُ له (ثمَّ) .
وقيل: إنَّ (ثمَّ) للتَّبايُنِ والتَّراخي في الزَّمانِ، وتكون للتَّباينِ في الصِّفاتِ والأحكامِ، وغيرِ ذلك مما يُحْمَلُ به ما بعْدَها على ما قبْلَها من غيرِ قصْدِ مُهْلَةٍ زمانيَّةٍ، بل لِيُعْلَمَ موقعُ ما يُعْطَفُ بها وحالُه، وأنَّه لو انفَرَدَ لكان كافيًا فيما قُصِدَ به، ومنه قولُه تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ، فَلَمْ يُقْصَدْ في هذا ترتيبٌ زمانيٌّ، بل تعظيمُ الحالِ فيما عُطِفَ، وموقعُه ومكانتُه، وتحريكُ النُّفوسِ لاعتبارِه، ولَمَّا تقدَّمَ في الأعرافِ تهويلُ الواقعِ من فِعْلِ السَّحرةِ وموقعُه من نُفوسِ الحاضرينَ؛ آنَسَ سُبحانَه نبيَّه موسى عليه السَّلامُ بقولِه: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه: 68] ، ووقَعَ التَّعبيرُ عما ذكَرْنا بقولِه: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، فناسَبَه- رَعْيًا لفظيًّا وتقابُلًا نَظْميًّا- تهويلُ ما توعَّدهم به فرعونُ، فعُطِفَ بـ(ثُمَّ)؛ لِتَحَرُّزِ ما قَصَدَ فرعونُ من تعظيمِ موقِعِ ما توعَّدهم به ثانيًا في قولِه: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ عليهم، وأيضًا فإنَّ فرعونَ وملأَه حين رَأَوْا ما جاءت به السَّحرةُ، ووَقَعَ منهم موقعًا أَطْمَعَهم، وتعلَّقَ به رجاؤُهم، ثمَّ لَمَّا وقَعَ ما أَبْطَلَه، وأَوْضَحَ كيْدَهم فيه وباطِلَهم الخياليَّ وجَدَ الملأُ لذلك، واستشعرَ فِرعونُ ما حلَّ به وبملئِه، فهَوَّلَ في توعُّدِهم ومقالِه؛ تجلُّدًا وتصبُّرًا، أو تعزيةً لنفسِه عمَّا نَزَلَ به، فأَرْعَدَ وأَبْرَقَ في تهويلِه ما توعَّد به السَّحرةُ، فقال: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ، فقدْ تناسَبَ المُتقابِلانِ لفظًا ومعنًى، ولَمَّا ضُمَّ الواقعُ في سورةِ الشُّعراءِ لم يُحْتَجْ إلى هذا الرَّعْيِ، فعُطِفَ بالواوِ، ولم يكُنْ على ما تقرَّر لِيُمْكِنَ العكْسُ .
قوله: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ استئنافٌ مسوقٌ للجوابِ عن سُؤالٍ ينساقُ إليه الذِّهنُ، كأنَّه قيل: فماذا قال السَّحَرةُ عندما سَمِعوا وعيدَ فِرعون؛ هل تأثَّرُوا به أمْ تَصلَّبوا فيما هم فيه مِن الدِّين؟ فقيل: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ .
وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا في سورةِ الأعرافِ: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وقال في سورةِ الشُّعراءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الشعراء: 50] ، بزيادةِ قولِه: لَا ضَيْرَ على ما ذَكَرَ في سُورةِ الأعرافِ؛ وذلك لأنَّ السَّحرةَ قابَلوا وعيدَ فرعونَ بما يُهَوِّنُه، ويُزيلُ أَلَمَه من انتقالِهم إلى ثوابِ ربِّهم، مع التَّحقُّقِ من مُنْقَلَبِ مُعَذِّبِهم فِرعونَ، فجاء في سورةِ الشُّعراءِ- وهي الَّتي قُصِدَ بها الاقتصاصُ الأكبرُ-: لَا ضَيْرَ [الشعراء: 50] ، أي: لا ضَرَرَ علينا؛ فإنَّ مُنْقَلَبَنا إلى جزاءِ ربِّنا؛ فنَنْعَمُ أبدًا، وتُعَذَّبُ أنتَ أبدًا، فالضَّررُ الَّذي تُحاوِلُ إنزالَه بنا بكَ نازِلٌ، وعليك مُقيمٌ، ونحن نَأْلَمُ ساعةً لا يُعْتَدُّ بها مع دوامِ النَّعيمِ بعْدَها، وفي سورةِ الأعرافِ وقَعَ الاقتصارُ على قولِه: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وفيه كِفايةٌ وإبانةٌ عن هذا المعنى، ودَلالةٌ على ما قُصِدَ فيها ممَّا بُيِّنَ وشُرِحَ في سواها .
وقيل: إنَّ قولَه: لَا ضَيْرَ [الشعراء: 50] مُقابَلٌ به ما تقدَّمَ من قولِه: وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشعراء: 44] ؛ لِمَا اعتقدوه أوَّلًا أنَّ له عِزَّةً، ونَسَبوها إليه، فظنُّوا أنَّه يَقْدِرُ على ما يُريدُه، ويستبِدُّ بفعلِه، ثمَّ لَمَّا وَضَحَ لهم الحقُّ، ورجَعُوا عن اعتقادِهم، وعلِموا أنَّ القُدرةَ والعِزَّةَ لله سُبحانَه، وسلَّموا لخالِقِهم، ولم يُبالوا بفِرعونَ وملئِه، فقالوا: لَا ضَيْرَ، أي: لا ضَرَرَ، ولا خوفَ من فرعونَ؛ إذ العِزَّةُ للهِ وحْدَه، ولَمَّا لم يقَعْ من قولِهم في الأعرافِ أوَّلًا مِثْلُ الواقعِ هنا، لم يَجيئوا في الجوابِ بما جاؤوا هنا، فافتَرَقَ الموضعانِ، وجاء كلٌّ على ما يُناسِبُه .
قوله: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فيه تأكيدُ المدحِ بِما يُشبِهُ الذمَّ، أو المدحُ في مَعرِض الذَّمِّ، حيثُ استثنَى مِن صِفةِ الذَّمِّ المنفيَّةِ عن الشَّيءِ، وهي: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا، صِفةَ مَدْحٍ لذلك الشَّيءِ بتقديرِ دُخولِها في صِفة الذمِّ فقال: إِلَّا أَنْ آمَنَّا...، وهو نوعٌ طريفٌ مِن أنواع البَلاغةِ .
وقولُهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أَكْمَلُ مِن أنْ يقولوا: (أنزِلْ علينا صبرًا)؛ لأنَّ إفراغَ الإناءِ هو صَبُّ ما فيه بالكُلِّيَّةِ، فكأنَّهم طلَبوا مِنَ اللهِ تعالى كُلَّ الصَّبْرِ لا بعضَه ، والمقصودُ مِن ذلك: الكنايةُ عن قُوَّةِ الصَّبرِ؛ لأنَّ إفراغَ الإناءِ يستلزمُ أنَّه لم يَبْقَ فيه شيءٌ ممَّا حواه؛ لأنَّه لَمَّا كان وعيدُ فِرعونَ ممَّا لا تُطيقُه النُّفوسُ، سألوا اللهَ تعالى أنْ يَجعلَ لنُفوسِهم صبرًا قويًّا، يفوقُ المتعارَف .
وتَنكيرُ الصَّبرِ في قولِه: صَبْرًا مُفصِحٌ عن التَّفخيمِ، وفيه مِن الجَزالةِ ما لا يَخفَى، حيثُ يدلُّ على الكَمالِ والتَّمامِ، أي: صبرًا كاملًا تامًّا .