موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (113-116)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

غريب الكلمات :

وَاسْتَرْهَبُوهُمْ: أي: أَرْهبوهم، أو أَخافوهم، أو استَدْعَوْا رَهبتَهم، وهي الخوفُ، والرَّهبةُ: مَخافةٌ مع تَحَرُّزٍ واضْطِرابٍ، وأَصْلُ (رهب): يدُلُّ على خَوْفٍ [1321] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 170)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 104)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/447)، ((المفردات)) للراغب (ص: 366)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115). .

مشكل الإعراب:

قولُهُ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ: (أنْ) في الموضعَينِ حَرْفٌ مَصدريٌّ. وأَنْ تُلْقِيَ مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ، وما بَعدَه معطوفٌ عَلَيهِ، وفي محلِّ أَنْ تُلْقِيَ الإعرابيِّ ثلاثةُ أَوْجُهٍ: الأوَّلُ: النَّصْبُ بفِعْلٍ مُقدَّرٍ، أي: اخترْ إمَّا إلقاءَك وإمَّا إلقاءَنا. الثَّاني: الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقديرُ: أَمْرُكَ إمَّا إلقاؤُك وإمَّا إلقاؤُنا. الثَّالثُ: أنْ يكونَ مبتدأً خبرُهُ مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: إمَّا إلقاؤُك مَبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤُنا مبدوءٌ به [1322] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/298)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/592-593)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/415). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ السَّحَرَةَ الَّذينَ جُمِعوا مِنَ المدائنِ، لَمَّا جاؤوا فرعونَ قالوا له: هل ستُعْطينا أجْرًا إنْ نحن غَلَبْنا موسى، قال لهم: نَعَمْ، وستكونون أيضًا مِنَ المُقرَّبينَ منِّي.
فتوجَّهوا بالخِطابِ إلى موسى فخيَّروه بَيْنَ أنْ يُلْقِيَ عصاه، أو يكونوا هُمْ أوَّلَ مَنْ يُلقي، فأَمَرهم موسى أنْ يَبدؤوا هُمْ بالإلقاءِ، فلمَّا ألقَوْا سَحَروا أَعْيُنَ النَّاسِ، وأخافوهم، وجاؤوا بسِحْرٍ عظيمٍ.

تفسير الآيات :

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) 
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِهِ تعالى: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا قراءتانِ:
قراءة إِنَّ على لَفْظِ الخبرِ، والمُرادُ به الإلزامُ؛ وذلك أنَّهم ألزموا فرعونَ أنْ يجعلَ لهم أجْرًا إنْ غلَبوا، وقيل: إنَّهم قَطَعوا ذلك لأنفسِهم في حُكْمِهم إنْ غلَبوا [1323] قرأ بها نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو جعفرٍ وحفصٌ. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (1/472)، ((النشر)) لابن الجزري (1/372). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/416-417)، ((الكشف)) لمكي (1/472). .
قراءة أإنَّ استفهامٌ، على معنى الاستخبارِ، أي: استَخْبَروا فرعونَ: هل يجعلُ لهم أجرًا إنْ غلَبوا، أو لا يجعلُ ذلك لهم [1324] قرأ بها الباقون، إلَّا أنَّ أبا عمرو يُلين الثانية، ويُدخل بين الهمزتين ألِفًا، وهشام يُحقِّق الهمزتين، ويدخل بين الهمزتين ألفًا. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (1/472)، ((النشر)) لابن الجزري (1/372). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/416-417)، ((الكشف)) لمكي (1/473). ؟
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) 
أي: وجاء السَّحَرةُ الَّذينَ جُمِعوا مِنَ المُدُنِ إلى فرعونَ، فلمَّا حضَروا عِنده سألوه: هل ستَمنَحُنا عطاءً عظيمًا إنْ تغلَّبْنا على موسى [1325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/352)، ((البسيط)) للواحدي (9/275)، ((تفسير القرطبي)) (7/258)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/414)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/26)، ((تفسير الشوكاني)) (2/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/45- 46). ؟
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 41] .
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
أي: قال فرعونُ للسَّحرةِ: نَعَمْ، لكم منِّي ذلك، ولكم أيضًا فَوْقَ ما سألْتُم؛ أنْ أَجعلَكم مِنَ الَّذينَ أُقرِّبُهم منِّي [1326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/355)، ((البسيط)) للواحدي (9/276)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/46)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/75). .
قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
أي: قال السَّحرةُ: يا موسى، اختَرْ إمَّا أنْ تُلقيَ عصاكَ أوَّلًا، أو نُلقيَ قَبْلَكَ ما معنا مِنَ العِصِيِّ والحِبالِ [1327] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/355)، ((البسيط)) للواحدي (9/279)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/76). قال السعدي: (فلمَّا حضَروا مع موسى بحَضْرةِ الخَلْقِ العظيمِ قَالُوا على وجه التَّألِّي وعدمِ المبالاةِ بما جاء به موسى: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما مَعَك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 299- 300). وقال الشنقيطيُّ: (يَعْنونَ: إنْ أَلْقَيْتَ قَبْلَنا غلَبْناكَ، وإنْ أَلْقَيْنا قَبْلَكَ غلَبْناكَ، فإنْ شئتَ فتقدَّمْ، وإنْ شئتَ فتأخَّرْ). ((العذب النمير)) (4/77).  .
كما قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه: 65] .
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قَالَ أَلْقُوا
أي: قال موسى للسَّحَرةِ: أَلْقوا أنتم أوَّلًا ما ستُلقونَه [1328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/356)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/77). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس: 80] .
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
أي: فلمَّا أَلْقى السَّحرةُ حِبالَهم وعِصيَّهم، خَيَّلوا إلى الأبصارِ بسِحْرِهم أنَّها حيَّاتٌ تسعَى في الحقيقةِ [1329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/356)، ((البسيط)) للواحدي (9/280)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 300)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/48)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/79). قال ابن تيميَّةَ: (هذا يَقتضي أنَّ أَعْيُنَ النَّاسِ قد حصَلَ فيها تغيُّرٌ؛ ولهذا قال تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 14-15] ، فقدْ علِموا أنَّ السِّحرَ يُغيِّرُ الإحساسَ، كما يوجِبُ المرضَ والقتلَ، وهذا كلُّه من جنسِ مقدورِ الإنسِ؛ فإنَّ الإنسانَ يَقدِرُ أنْ يفعلَ في غيرِهِ ما يُفسِدُ إدراكَه، وما يُمرِضُه ويقتله، فهذا مع كونِهِ ظلمًا وشرًّا هو من جنسِ مقدورِ البشَرِ). ((النبوات)) (2/1053). وقال الشنقيطي: (دلَّ قوله: أَعْيُنَ النَّاسِ على أنَّ سحرَهم من جنسِ الشَّعْبَذاتِ؛ لأنَّهم جاؤوا بسحرٍ أخَذَ بعُيونِ النَّاسِ حتَّى صارتْ ترى تخييلاتٍ ليستْ بحقيقيَّةٍ، وترى العِصِيَّ والحبالَ تظنُّها حيَّاتٍ- ثعابينَ- من أضخم الحيَّاتِ، بالمئاتِ والآلافِ مُكَدَّسَةٍ كالجبالِ، يركَبُ بعضُها بعضًا، حتَّى خافَ الخَلْقُ منها خوفًا شديدًا، فقوله هنا: أَعْيُنَ النَّاسِ يدُلُّ على أنَّه تخييلٌ بالنِّسبةِ للعَينِ لا حقيقةٌ). ((العذب النمير)) (4/79). .
كما قال تعالى: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44] .
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
أي: وأخافَ السَّحرةُ النَّاسَ، وأفزعوهم بما خَيَّلوا إلى أعيُنِهم مِنَ الحيَّاتِ الكثيرةِ الضَّخمةِ الَّتي تَسْعى [1330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/356)، ((البسيط)) للواحدي (9/280)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/80). قال ابن عاشور: (والاسترهابُ: طلَبُ الرَّهَبِ، أي: الخوفِ، وذلك أنَّهم عزَّزوا تخيُّلاتِ السِّحرِ بأمورٍ أُخْرى تُثيرُ خوفَ النَّاظرينَ؛ لِتزدادَ تمكُّنُ التَّخيُّلاتِ من قلوبِهم، وتلك الأمورُ أقوالٌ وأفعالٌ توهِمُ أنْ سيقَعَ شيءٌ مُخيفٌ كأنْ يقولوا للنَّاسِ: خُذوا حِذْرَكم وحاذِروا، ولا تقترِبوا، وسيقع شيءٌ عظيمٌ، وسيحضُرُ كبيرُ السَّحرةِ، ونحوِ ذلك مِنَ التَّمْويهاتِ، والخُزعبِلاتِ، والصِّيَاحِ، والتَّعجيبِ، ولك أنْ تجعلَ السِّينَ والتَّاءَ في وَاسْتَرْهَبُوهُمْ للتَّأكيدِ، أي: أَرْهِبوهم رهبًا شديدًا، كما يُقالُ: استكبَرَ، واستجابَ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/48). .
وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
أي: وجاءَ السَّحرةُ بتخييلٍ عظيمِ الشَّأنِ عِند مَنْ يَراهُ مِنَ النَّاسِ، ذي تأثيرٍ كبيرٍ في أَعْيُنِهم، وقد أدخَلَ الخوفَ الشَّديدَ في نُفوسِهم [1331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/356)، ((البسيط)) للواحدي (9/281)، ((تفسير المراغي)) (9/29). قال الشنقيطي: (فإنْ قيل: قوله في طه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ [طه: 66] ، وقوله في الأعراف: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، الدَّالَّانِ على أنَّ سحْرَ سَحَرةِ فرعونَ خيالٌ لا حقيقةَ له، يُعارِضُهما قوله في الأعراف: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ؛ لأنَّ وصْفَ سِحرِهم بالعِظَمِ يدُلُّ على أنَّه غيرُ خيالٍ، فالَّذي يَظهر في الجوابِ- والله أعلم- أنَّهم أخَذوا كثيرًا مِنَ الحبالِ والعِصيِّ، وخيَّلوا بسِحرِهم لأعيُنِ النَّاسِ أنَّ الحبالَ والعصيَّ تسعى، وهي كثيرةٌ، فظنَّ النَّاظرونَ أنَّ الأرضَ مُلِئَتْ حيَّاتٍ تسعى؛ لكثرةِ ما ألقَوْا مِنَ الحبالِ والعِصيِّ، فخافوا من كثرتِها، وبتَخْييلِ سَعْيِ ذلك العددِ الكثيرِ، وَصَفَ سحرَهم بالعِظَمِ). ((أضواء البيان)) (4/36). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- السِّحرُ لا يؤثِّرُ بقلبِ الأعيانِ إلى أعيانٍ أُخرَى [1332] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (1/88) (5/2)، ((تفسير البغوي)) (1/148)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (1/490). ، مما يدلُّ على ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ فلو كان السَّحرةُ قادرينَ على قلبِ الأعيانِ، لَمَا احتاجوا إلى طلَبِ الأجْرِ والمالِ من فرعونَ؛ لأنَّهم لو قَدَروا على قلبِ الأعيانِ فلِمَ لم يَقلِبوا التُّرابَ ذهَبًا؟! ولِمَ لَمْ يَنقُلوا مُلكَ فرعونَ إلى أنفُسِهم، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفُسَهم مُلوكَ العالَمِ، ورؤساءَ الدُّنيا [1333] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/334). ؟!
2- قولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ يدُلُّ على أنَّ كُلَّ الخَلْقِ كانوا عالِمينَ بأنَّ فرعونَ كان عبْدًا ذليلًا مَهينًا عاجِزًا، وإلَّا لَمَا احتاجَ إلى الاستعانةِ بالسَّحرةِ في دَفْعِ موسى عليه السَّلامُ [1334] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/334). .
3- ليس في أمْرِ موسى عليه السَّلامُ إيَّاهم بالتَّقدُّمِ في قولِ اللهِ تعالى: قَالَ أَلْقُوا ما يَقتضي تسويغَ مُعارَضةِ دعوةِ الحقِّ؛ لأنَّ القومَ كانوا مَعروفينَ بالكُفْرِ بما جاء به موسى، فليس في مُعارَضَتِهم إيَّاهُ تجديدُ كُفْرٍ، ولأنَّهم جاؤوا مُصمِّمينَ على مُعارَضَتِهِ، فليس الإذْنُ لهم تسويغًا، ولكنَّهم خيَّروه في التَّقدُّمِ أو أن يتقدَّموا، فاختار أنْ يتقدَّموا؛ لِحِكْمَةٍ إلهيَّةٍ تَزيدُ المعجزةَ ظُهورًا، ولأنَّ في تقديمِهِ إيَّاهم إبلاغًا في إقامةِ الحُجَّةِ عليهم، ولعلَّ اللهَ أَلْقى في نفسِهِ ذلك، وفي هذا دليلٌ على جوازِ الابتداءِ بتقريرِ الشُّبهةِ للَّذي يَثِقُ بأنَّه سيدفَعُها [1335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/47-48). . ومِن الحِكْمةِ في أمْرِه لهم بالتَّقدُّمِ- والله أعلم- لِيَرى النَّاسُ صَنيعَهم ويتأمَّلوه، فإذا فُرِغَ من بَهْرَجِهِم، جاءَهم الحقُّ الواضحُ الجَلِيُّ بعْدَ التَّطلُّبِ له، والانتظارِ منهم لمجيئِه، فيكون أَوْقَعَ في النُّفوسِ، وكذا كان [1336] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/456). .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدُلُّ على رغبتِهم في أنْ يُلقوا قَبْلَه من تأكيدِ ضَميرِهم المُتَّصِلِ بالمُنْفَصِلِ وتعريفِ الخبرِ، أو تعريفِ الخبرِ وإقحامِ الفَصْلِ، وقد سوَّغَ لهم موسى ما تَراغَبوا فيه؛ ازدِراءً لِشأنِهم، وقِلَّةَ مُبالاةٍ بهم، وثِقَةً بما كان بصَدَدِهِ مِنَ التَّأييدِ السَّماوِيِّ، وأنَّ المعجزةَ لنْ يغلِبَها سِحْرٌ أبدًا [1337] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/140). .
5- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا، أَعادَ كلمةَ أَلْقُوا وحدَها؛ للإيذانِ بعدمِ مُبالاتِهِ، فهذه الكلمةُ الواحدةُ تبدو فيها قِلَّةُ المُبالاةِ، وتُلْقي ظِلَّ الثِّقةِ الكامنةِ وراءَها في نَفْسِ موسى [1338] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/57) .

بلاغة الآيات :

قوله: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
قوله: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ استئنافٌ بيانيٌّ، منوطٌ بسُؤالٍ نَشأَ مِن حِكايةِ مجيء السَّحرةِ، كأنَّه قيل: فماذا قالوا له عندَ مجيئهم فِرعونَ، وحين مُثُولِهم بينَ يَدَيْهِ؟ فقيل: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا...؛ ولذلك لم يقُل: (وجاءَ السَّحرةُ فرعون فَقالوا)؛ لأنَّه على تَقديرِ سائِلٍ سألَ: ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقولِه: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا... [1339] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/139)، ((تفسير أبي السعود)) (3/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/45). .
وتنكيرُ الأجرِ في قولِه: إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا للتَّعظيمِ [1340] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/139). .
وقوله: إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ فيه تأكيدٌ لضمير (كنَّا) بالضَّمير (نحن)؛ إشعارًا بجدارتِهم بالغَلبِ، وثِقتِهم بأنَّهم أعلمُ النَّاسِ بالسِّحرِ؛ فأكَّدوا ضميرَهم؛ لزيادةِ تقريرِ مدلولِه [1341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/46). .
وفيه مُناسَبةٌ حَسنَةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا، وقال في سورة الشُّعَراءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ [الشعراء: 41] ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا تقدَّم في سورةِ الشُّعراءِ ما شرْحُه أكثَرُ، وما في سورةِ الأعرافِ أَوْجَزُ وأَخْصَرُ، كان قولُه في الأعرافِ: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بمعنى ما كان بإزائِهِ في سورةِ الشُّعَراءِ: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ [الشعراء: 41] ، فَلَمْ يَحْتَجْ في جوابِ (لَمَّا) إلى (فاء) ولا إلى (واو)، وكذلك هُنا في سورةِ الأعرافِ، لَمَّا قَصَدَ هذا المعنى دَلَّ بحَذْفِ العاطِفِ على هذا القَصْدِ، فكأنَّه قال: فلمَّا جاء السَّحَرةُ فرعونَ قالوا: أَئِنَّ لنا لأجرًا [1342] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/659-660)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 127). .
قولُه: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فيه مناسبة حسنة، حيث حَكَى اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ قولَ فِرعونَ بقولِه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وفي سورةِ الشُّعَراءِ بقولِه: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] ، بزيادةِ إِذًا في الشُّعَراءِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ (إذًا) تقَعُ جوابًا وجزاءً، والمعنى في السُّورتَيْنِ مقصودٌ به الجزاءُ، فوَقَعَ الاكتفاءُ في الأعرافِ بقولِهِ تعالى: نَعَمْ، والمعنى: نَعَمْ، لكم ما أردْتُم مِنَ الأجْرِ، وزيادةُ التَّقريبِ والحُظْوَةِ، ولا شكَّ أنَّ المعنى: إنْ غلَبْتُم فلَكُم ذلك، فالمعنى على ذلك، ثمَّ وَرَدَ في سورةِ الشُّعَراءِ مُفْصَحًا بالأداةِ المُحْرِزَةِ له، وهي: (إذًا)؛ لِيُناسِبَ بزيادتِها ما مضَتْ عليه سورةُ الشُّعَراءِ مِنَ الاستيفاءِ والإطنابِ، وناسَبَ سُقوطُها في الأعرافِ مقصودَ الإيجازِ في هذه القِصَّةِ [1343] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 127-128)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/217-218). .
قوله: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ كأنه قيل: فماذا فَعَلوا بعد ذلك؟ فقيل: قَالُوا يَا مُوسَى... [1344] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/260). .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سُورةِ الأعرافِ: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، وقال في سورةِ طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه: 65] ، والمعنى واحدٌ؛ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ مِنَ الآيتَيْنِ جَرَتْ على وَفْقِ فواصِلِ تِلك السُّورةِ، ورُؤوسِ آياتِها، فالعكسُ لا يُناسِبُ؛ فاختُصَّتْ كُلُّ سورةٍ بما وَرَدَ فيها [1345] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/663-664)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/218). .