موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (65-76)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ

غريب الكلمات:

يُخَيَّلُ: أي: يُشَبَّهُ ويُظَنُّ، وأصلُ (خيل): يدُلُّ على حركةٍ في تلوُّنٍ [586] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/235)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 431). .
فَأَوْجَسَ: أي: أضمرَ وأحَسَّ، والوَجْسُ: الصَّوتُ الخفيُّ، وأصلُه يدُلُّ على إحساسٍ بِشَيءٍ، وتَسَمُّعٍ له [587] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 280)، ((تفسير ابن جرير)) (21/527)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/87)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 231)، ((تفسير القرطبي)) (11/222)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .
خِيفَةً: أي: خَوفًا، والخَوفُ: توقُّعُ مكروهٍ عن أمارةٍ مَظنونةٍ أو معلومةٍ، وأصلُه يدُلُّ على الذُّعرِ والفَزَعِ [588] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 280)، ((تفسير ابن جرير)) (16/110)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 303). .
تَلْقَفْ: أي: تَلْتَهِمْ وتَبتَلِعْ، يقال: لَقِفتُ الشَّيءَ ألقَفُه، وتَلقَّفتُه: أي: تَناوَلتُه بسُرعةٍ [589] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 170)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((المفردات)) للراغب (ص: 744)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
مِنْ خِلَافٍ: أي: مخالفًا في قَطعِ ذلك منكم؛ يَدِه اليُمنى ورِجلِه اليُسرى، يخالِفُ بينَ قَطعِهما [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/570)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 214)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 116)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 182). .
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ: أي: لأجعَلَنَّكم مُثلةً، ولأقتُلَنَّكم، والصَّلبُ: تعليقُ الإنسانِ للقَتلِ، قيل: هو شدُّ صُلْبِه على خَشَبٍ [591] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/301)، ((المفردات)) للراغب (ص: 489)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304). .
نُؤْثِرَكَ: أي: نختارَك، وأصلُ (أثر): يدُلُّ على تَقديمِ الشَّيءِ [592] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/53)، ((تفسير القرطبي)) (11/225)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 915). .
تَزَكَّى: أي: تطهَّرَ مِن الشِّركِ والفواحِشِ، وأصلُ (زكي): يدلُّ على نماءٍ وزيادةٍ [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/120)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 159)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 310)، ((تفسير القرطبي)) (11/227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317). .

المعنى الإجمالي:

يُخبرُ اللهُ تعالى عمَّا جرَى بينَ موسَى عليه السلامُ والسحرةِ، وأنَّ السَّحَرةَ قالوا لِموسَى عليه السَّلامُ: إمَّا أن تُلقِيَ عَصاك أوَّلًا، وإمَّا أن نبدأَ فنُلقِيَ حِبالَنا وعِصِيَّنا قَبلَك. قال لهم موسى: بل ألقُوا أنتم. فألقَوا حبالَهم وعِصِيَّهم، فخُيِّلَ لموسى مِن قُوَّةِ سِحرِهم أنَّها حَيَّاتٌ تتحرَّكُ! فشعَرَ موسى في نفسِه بالخَوفِ، فقال الله لموسى: لا تَخَفْ؛ فإنَّك أنت الأعلى المنتَصِرُ على هؤلاء السَّحَرةِ، وعلى فِرعَونَ وجُندِه، وألقِ عَصاك التي في يمينِك تَبتَلِعْ حِبالَهم وعِصِيَّهم؛ فإنَّ الذي عَمِلوه مَكرُ ساحِرٍ وتخييلُ سِحْرٍ، ولا يظفَرُ السَّاحِرُ بمَطلوبِه أينما كان.
فألقى موسى عَصاه، فابتلَعَت عِصِيَّ السَّحَرةِ وحِبالَهم، وظهَرَ الحقُّ وقامت الحُجَّةُ عليهم. فألقى السَّحَرةُ أنفُسَهم على الأرضِ ساجدينَ، وقالوا: آمَنَّا برَبِّ هارونَ وموسى.
ثم بيَّن الله تعالى موقفَ فرعونَ مِن السحرةِ، واتهامَه لهم، ثم تهديدَهم، فقال تعالى: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ: أصدَّقتُم بموسى واتَّبَعتُموه، وأقرَرْتُم له بالنبُوَّةِ قبل أن آذَنَ لكم بذلك؟ إنَّ موسى لَعظيمُكم ورئيسُكم الذي عَلَّمكم السِّحرَ، لأُقطِّعنَّ مِن كُلِّ واحدٍ منكم يدَه اليُمنى مع رِجلِه اليُسرى أو العكس، ولأُصلِّبَنَّكم على جذوعِ النَّخلِ، ولتعلَمُنَّ -أيُّها السَّحَرةُ- مَن هو أشَدُّ عذابًا وأدوَمُ له!
ثمَّ ذكَر الله تعالى موقفَ السحرةِ مِن تهديدِ فرعونَ لهم، فقال تعالى: قال السَّحَرةُ لفِرعَونَ: لن نُفَضِّلَك على ما جاءنا مِن البيِّناتِ الدَّالَّةِ على صِدقِ موسى، ولن نُفَضِّلَك على اللهِ الذي خلَقَنا، فافعَلْ ما أنت فاعِلٌ بنا، إنَّما ينفُذُ أمرُك في هذه الحياةِ الدُّنيا، وعذابُك فيها ما هو إلَّا عذابٌ مُنتَهٍ بانتهائِها، إنَّا آمَنَّا برَبِّنا وصدَّقْنا رَسولَه؛ لِيَغفِرَ لنا ذُنوبَنا مِن الكُفرِ والمعاصي، وما أكرَهْتَنا عليه مِن عَمَلِ السِّحرِ في مُعارضةِ موسى. واللهُ خيرٌ لنا مِنك -يا فِرعَونُ- وأجرُه خَيرٌ لنا مِن أجرِك، وهو أدوَمُ عذابًا لِمَن عصاه، وخالَف أمْرَه.
إنَّه مَن يأتِ رَبَّه كافرًا به، فإنَّ له نارَ جهنَّمَ يُعَذَّبُ بها، لا يموتُ فيها فيَستريحَ، ولا يحيا حياةً يتلذَّذُ بها، ومَن يأتِ رَبَّه مُؤمِنًا به قد عَمِلَ الأعمالَ الصَّالحةَ، فله المنازِلُ العاليةُ؛ وهي جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ أشجارِها وغُرَفِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، وذلك النَّعيمُ المقيمُ ثَوابٌ مِن الله لِمَن طهَّر نَفسَه مِن الشِّركِ والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ.

تفسير الآيات:

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65).
أي: فأجمَعَ السَّحَرةُ كَيدَهم، وجاؤوا صَفًّا، وقالوا: يا موسى اختَرْ، فإمَّا أن ترميَ عَصاك قَبْلَنا، وإمَّا أن نرميَ حِبالَنا وعِصِيَّنا قَبلَك [594] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/107، 109)، ((تفسير الرازي)) (22/72)، ((الوسيط)) للواحدي (3/213)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/33). قال السعدي: (خيَّروه موهمينَ أنَّهم على جَزمٍ مِن ظُهورِهم عليه بأيِّ حالةٍ كانت) ((تفسير السعدي)) (ص: 508). .
كما قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف: 115] .
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66).
قَالَ بَلْ أَلْقُوا.
أي: قال لهم موسى: بل ألقُوا أنتم أوَّلًا ما تريدونَ إلقاءَه [595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/109)، ((تفسير ابن كثير)) (5/302)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/33، 34). .
كما قال تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 43، 44].
فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
أي: فألقَى السَّحرةُ ما معهم فإذا حبالُهم وعِصِيُّهم يُشَبَّهُ لموسى بسَبَبِ سِحرِهم أنَّها تتحرَّكُ [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/109)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 699)، ((تفسير القرطبي)) (11/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 508)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/258). قال الشنقيطي: (اختلف العُلَماءُ في السِّحرِ: هل هو حقيقةٌ أو هو تخييلٌ لا حقيقةَ له؟ والتحقيقُ أنَّ منه ما هو حقيقةٌ، ومنه ما هو تخييلٌ). ((أضواء البيان)) (4/50). !
كما قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116].
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67).
أي: فوجَدَ موسى في نفسِه خوفًا [597] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/110)، ((تفسير ابن عطية)) (4/51، 52)، ((تفسير الرازي)) (22/73)، ((تفسير الشوكاني)) (3/442، 443). قال ابنُ عطيَّةَ: (وقَولُه تعالى: فَأَوْجَسَ عبارةٌ عما يعتري نَفسَ الإنسانِ إذا وقع ظَنُّه في أمرٍ على شَيءٍ يَسوءُه، وظاهِرُ الأمرِ كُلِّه الصَّلاحُ، فهذا الفِعلُ مِن أفعالِ النَّفسِ يُسمَّى الوجيسَ، وعَبَّر المفسِّرون عن «أَوْجَسَ» بـ «أضمَرَ»، وهذه العبارةُ أعَمُّ مِن الوَجيسِ بكثيرٍ). ((تفسير ابن عطية)) (4/51). قال ابنُ الجوزي: (في خَوفِه قَولانِ: أحدُهما: أنَّه خوفُ الطَّبعِ البَشَريِّ. والثاني: أنَّه لَمَّا رأى سِحْرَهم مِن جِنسِ ما أراهم في العصا، خاف أن يلتَبِسَ على النَّاسِ أمرُه ولا يؤمِنوا، فقيل له: لا تخَفْ؛ إنَّك أنت الأعلى عليهم بالظَّفَرِ والغَلَبةِ، وهذا أصحُّ مِنَ الأوَّلِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/167). وممَّن قال بنحوِ القولِ الثاني: ابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/302). وقال ابن عاشور: (وإنما خاف موسى مِن أن يَظهرَ أمرُ السَّحرةِ فيُساويَ ما يَظهَرُ على يديه مِن انقلابِ عصاه ثُعبانًا؛ لأنَّه يكونُ قد ساواهم في عملِهم، ويكونون قد فاقوه بالكثرةِ، أو خشِيَ أن يكونَ اللهُ أراد استدراجَ السَّحَرةِ مُدَّةً، فيُمليَ لهم بظُهورِ غَلَبِهم عليه ومَدِّه لِما تكونُ له العاقِبةُ، فخَشِيَ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (16/259). وذكَر الرازي في سببِ هذا الخوفِ أوجهًا أُخرَى. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/73). .
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68).
أي: قُلْنا لموسى تثبيتًا وتَطمينًا: لا تخفْ؛ إنَّك أنت الغالِبُ القاهِرُ، المنتَصِرُ على فِرعَونَ وسَحَرتِه وجُندِه [598] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/111)، ((تفسير البغوي)) (3/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 508). .
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69).
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا.
أي: وألقِ عصاك التي في يمينِك تبتَلِعْ بقُوَّةٍ وسُرعةٍ حِبالَهم وعِصِيَّهم التي خَيَّلوا إلى النَّاسِ بسِحرِهم أنها حيَّاتٌ تتحَرَّكُ [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/111)، ((تفسير القرطبي)) (11/223)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/307)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/37). .
إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ.
أي: إنَّ الذي صَنَعه هؤلاء السَّحرةُ حِيلةٌ من ساحِرٍ [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/111)، ((تفسير السمعاني)) (3/341)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/38). .
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.
أي: ولا يظفَرُ السَّاحِرُ بمَطلوبِه أينما تَوجَّه، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ فكَيدُه ليس بمُثمِرٍ له ولا ناجِحٍ [601] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/112)، ((تفسير القرطبي)) (11/223)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/193)، ((تفسير الشوكاني)) (3/443)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/39، 40). .
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70).
أي: فأَلقَى موسى عصاه، وابتلَعَت عِصِيَّ السَّحَرةِ وحِبالَهم، فعَلِموا عِلمَ اليَقينِ أنَّ هذا الأمرَ ليس مِن قَبيلِ السِّحرِ والحِيَلِ، وأنَّه حَقٌّ لا مِريةَ فيه، ومُعجزةٌ مِن الإلهِ الحَقِّ الذي يقولُ للشَّيءِ كُن فيكونُ، فحينَها وقَعَ السَّحَرةُ على الأرضِ ساجِدينَ لله قائلينَ: آمَنَّا باللهِ رَبِّ هارونَ وموسى [602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/113)، ((تفسير ابن كثير)) (5/303)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/261)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/62). قال القرطبي: (لِمَا رأوا من عظيمِ الأمرِ، وخرقِ العادةِ في العصا، فإنها ابتلعت جميعَ ما احتالوا به مِن الحبالِ والعصيِّ... ثم عادت عصا، لا يعلمُ أحدٌ أين ذهبتِ الحبالُ والعصيُّ إلا الله تعالى!). ((تفسير القرطبي)) (11/224). .
كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 117-122] .
قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)  .
قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ.
أي: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ: أصدَّقتُم بموسى، وأقرَرْتُم له بالنبُوَّةِ قبلَ أن أسمَحَ لكم بالإيمانِ بما يدعوكم إليه؟! فهذا سوءُ أدبٍ منكم، وتجرُّؤٌ عليَّ [603] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/32)، ((تفسير ابن جرير)) (16/114)، ((تفسير القرطبي)) (11/224)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/63). !!
كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123] .
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.
أي: إنَّ موسى لَعظيمُكم ورئيسُكم الكبيرُ الَّذي علَّمَكم السِّحرَ، واتَّفقتُم معه على أن يَغلِبَكم؛ مكيدةً لي ولِقَومي [604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/114)، ((تفسير القرطبي)) (11/224)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/63). !
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ فِرعَونَ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا [الأعراف: 123] .
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ.
أي: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ مُقْسِمًا: لأقطِّعَنَّ مِن كلِّ ساحرٍ منكم يَدَه ورِجلَه مِن جِهَتينِ مُختَلِفَتينِ. أي: يقطَعُ يمنى اليدينِ ويُسرى الرِّجلَينِ، أو يُسرى اليَدَينِ، ويُمنى الرِّجلينِ [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/115)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 699)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/63). .
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.
أي: ولأُصلِّبنَّكم على جُذوعِ النَّخلِ؛ تبشيعًا لقَتلِكم، ورَدعًا لأمثالِكم [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/115)، ((تفسير القرطبي)) (11/224)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/106)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/188)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/312). .
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى.
أي: ولتَعلَمُنَّ -أيُّها السَّحرةُ- مَن هو أشَدُّ عذابًا، وأدوَمُ عِقابًا [607] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/33)، ((تفسير القرطبي)) (11/224)، ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509). قيل: المراد: يعني أنا، أو موسى أشدُّ عذابًا وأبقى. وممَّن اختار ذلك: يحيى بن سلام، وابن جرير. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/267)، ((تفسير ابن جرير)) (16/116). وقيلَ: المرادُ: أنا أم رَبُّ موسى أشدُّ عذابًا وأبقى. وممن اختار ذلك: القرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509). قال الشِّنقيطيُّ: (قَولُه في هذه الآية الكريمة: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قال بعضُ أهل العلم: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا: يعني: أنا أم رَبُّ موسى أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. واقتصرَ على هذا القرطبيُّ. وعليه ففِرعَونُ يدَّعي أنَّ عَذابَه أشدُّ وأبقى مِن عذابِ الله! وهذا كقولِه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، وقَولِه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، وقَولِه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ . وقال بعضُهم: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا: أنا أمْ موسى أشَدُّ عذابًا وأبقى. وعلى هذا فهو كالتهَكُّمِ بموسى لاستضعافِه له، وأنَّه لا يَقدرُ على أن يُعَذِّبَ مَن لم يُطِعْه، كقَولِه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. واللهُ جلَّ وعلا أعلَمُ). ((أضواء البيان)) (4/64). !
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72).
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ.
أي: قال السَّحَرةُ بعد إيمانِهم: لن نُقَدِّمَك -يا فِرعَونُ- على الحَقِّ، فلن نتَّبِعَك ونختارَ دينك؛ طَلَبًا لما وعَدْتَنا مِن الأجرِ، أو السلامةِ مِما توعدْتَنا مِن العذابِ، ونكَذِّبَ لأجْلِك موسى بعدَ أن رأَينا المعجزاتِ الواضِحةَ الدَّالَّةَ على نبوتِه، وصِحَّةِ ما يدعو إليه [608] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/116)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/312)، ((تفسير الشوكاني)) (3/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/65). .
وَالَّذِي فَطَرَنَا.
أي: ولن نُؤثِرَك على اللهِ الذي خلَقَنا، وأنشَأَنا من العَدَمِ، وابتدأَ خَلْقَنا مِن طينٍ؛ فهو المستَحِقُّ للعبادةِ والخُضوعِ لا أنت [609] يُنظر: ((معانى القرآن)) للأخفش (2/444)، ((تفسير ابن جرير)) (16/116)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((تفسير أبي السعود)) (6/29)، ((تفسير القاسمي)) (7/135). قال الشنقيطي: (الواوُ في قوله: وَالَّذِي فَطَرَنَا عاطفةٌ على مَا مِن قَولِه: عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ أي: لن نختارَك على ما جاءنا مِن البيِّناتِ، ولا على الذي فَطَرنا أي: خلَقَنا وأبرَزَنا من العَدَمِ إلى الوجود. وقيل: هي واو القَسَم، والمقسَمُ عليه محذوفٌ دَلَّ عليه ما قبله، أي: والذي فَطَرَنا لا نُؤثِرُك على ما جاءنا من البيِّناتِ). ((أضواء البيان)) (4/65). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/187)، ((تفسير ابن جرير)) (16/116)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/368)، ((البسيط)) للواحدي (14/466)، ((تفسير ابن عطية)) (4/53)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/168)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304). وممن اختار أنَّ الواوَ عاطفةٌ: الفراء، والأخفش، وابن جرير، والزجاج، والواحدي، وابن كثير، وأبو السعود، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/187)، ((معاني القرآن)) للأخفش (2/444)، ((تفسير ابن جرير)) (16/116)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/368)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((تفسير أبي السعود)) (6/29)، ((تفسير القاسمي)) (7/135)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/65). وجوَّز احتمالَ كونِها واوَ قَسَمٍ، من هؤلاء المفسرين: الفراءُ، وابنُ جرير، والزجاجُ، وابنُ كثير. .
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ.
أي: فاصنَعْ ما شِئتَ أن تَصنَعَه بنا، وافعَلْ ما بدا لك؛ فلن نَرجِعَ عن إيمانِنا باللهِ [610] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/116)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/65). قال ابنُ عطيةَ: (هؤلاء السَّحَرةُ اختَلَف النَّاسُ: هل نفَذَ فيهم وعيدُ فِرعونَ؟ فقالت طائفةٌ: صلَبَهم على الجذوعِ كما قال، فأصبحَ القَومُ سَحَرةً، وأمسَوا شُهَداءَ بلُطفِ اللهِ لهم وبرَحمتِه! وقالت فرقةٌ: إنَّ فِرعونَ لم يفعَلْ ذلك، وقد كان الله تعالى وعد موسى أنَّه ومن معه الغالبونَ.  وهذا كلُّه مُحتَمَلٌ). ((تفسير ابن عطية)) (4/53). وممَّن رأى أنهم قُتِلوا: ابن كثير، فقال: (الظاهِرُ أنَّ فِرعونَ -لعَنَه الله- صمَّم على ذلك، وفعَلَه بهم، رَحِمَهم الله؛ ولهذا قال ابنُ عباس وغيرُه مِن السلفِ: أصبحوا سحَرةً، وأمسَوا شُهَداءَ). ((تفسير ابن كثير)) (5/305). وممَّن رأى أنهم لم يُقتَلوا: الشنقيطي، فقال بعدَ أن ذكَر القولينِ: (وأظهرهما عندي: أنَّه لم يقتُلْهم، وأنَّ اللهَ عصمهم منه لأجلِ إيمانهم الراسِخِ بالله تعالى؛ لأنَّ الله يقول لموسى وهارون: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 35] ، والعِلمُ عند الله تعالى). ((أضواء البيان)) (4/65). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حَلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سواهما، وأن يحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا لله، وأن يَكرَهَ أن يَعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) [611] رواه البخاري (16)، ومسلم (43) واللفظ له. .
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
أي: إنما ينفُذُ أمرُك، وتتسلَّطُ علينا، وتَقدِرُ على تعذيبِنا في هذه الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ، وعذابُك فيها ينقضي ويَزولُ، ولا يضُرُّنا، ولا قَضاءَ لك ولا سُلطانَ علينا في الحياةِ الآخرةِ الباقيةِ التي نرجو فيها مِن رَبِّنا الجزاءَ الخالِدَ [612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/116، 117)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير القرطبي)) (11/226)، ((تفسير ابن كثير)) (5/304)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/267). .
إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73).
إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.
أي: إنَّا آمَنَّا بربِّنا وأقرَرْنا بتوحيدِه؛ لِيَغفِرَ لنا ذُنوبَنا من الكُفرِ والمعاصي، فيَستُرَها علينا، ويتجاوَزَ عن مؤاخَذتِنا بها، ويَغفِرَ لنا ما أكرَهْتَنا عليه من العَمَلِ بالسحر، ومن ذلك معارضةُ مُعجزاتِ موسى به [613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/117)، ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((تفسير ابن كثير)) (5/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/267)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/66). .
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
أي: واللهُ خَيرٌ لنا منك، وأجرُه خَيرٌ لنا مِن أجرِك، وهو أدوَمُ ثوابًا للطائعينَ، وأدوَمُ عَذابًا للكافرينَ، وهو الحيُّ الذي لا يموتُ، ولا يزولُ مُلكُه، أما أنت ففانٍ هالكٌ [614] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/118)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير القرطبي)) (11/226)، ((تفسير ابن كثير)) (5/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/265، 267)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/67، 68). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 95، 96].
وقال سُبحانَه: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17].
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74).
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ.
أي: إنَّه من يَمُتْ ويُلاقِ رَبَّه يومَ القيامةِ لِيُجازِيَه بعَمَلِه، والحالُ أنَّه كافِرٌ باللهِ؛ فإنَّ جزاءَه جهنَّمُ [615] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/119)، ((تفسير ابن كثير)) (5/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/68). قال ابن عطية: (قالت فِرقةٌ: هذه الآيةُ بجُملتِها من كلامِ السَّحَرةِ لفِرعَونَ على جهةِ الموعظةِ له والبيانِ فيما فعلوه، وقالت فرقة: بل هي مِن كلامِ الله تعالى لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تنبيهًا على قبحِ ما فعَل فِرعَونُ، وحُسنِ ما فعل السَّحَرةُ، وتحذيرًا قد ضُمِّنَت القِصَّةُ المذكورةُ مِثالَه). ((تفسير ابن عطية)) (4/53). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/34). وممن ذهَب إلى الرأيِ الأوَّلِ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/119)، ((تفسير ابن كثير)) (5/305)، ((تفسير الشوكاني)) (3/445). وممن ذهَب إلى الرأيِ الثاني: الواحدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/467)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/268). قال القرطبي: (مَن قال: هذا مِن قولِ السَّحرة قال: لعلَّ السحرةَ سمعوه مِن موسَى أو مِن بني إسرائيلَ إذ كان فيهم بمصرَ أقوامٌ، وكان فيهم أيضًا المؤمنُ مِن آلِ فِرعَون. قلتُ: ويحتملُ أن يكونَ ذلك إلهامًا مِن الله لهم أنطَقهم بذلك لما آمنوا، والله أعلم). ((تفسير القرطبي)) (11/227). .
لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا.
أي: لا يموتُ الكافِرُ في جهنَّمَ فيَستريحَ من العذابِ، ولا يحيا حياةً هَنِيَّةً يتلَذَّذُ بها وينتَفِعُ [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/119)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 700)، ((تفسير ابن عطية)) (4/53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/268). قال ابنُ عطية: (قولُه: لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا مختَصٌّ بالكافِرِ؛ فإنَّه مُعَذَّبٌ عذابًا ينتهي به إلى الموتِ، ثمَّ لا يُجهَزُ عليه فيستريحَ، بل يعادُ جِلْدُه، ويجَدَّدُ عذابُه). ((تفسير ابن عطية)) (4/53). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [الأعلى: 12، 13].
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولكِنْ ناسٌ أصابَتْهم النَّارُ بذُنوبِهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتةً، حتى إذا كانوا فَحمًا، أذِنَ بالشَّفاعةِ، فجيءَ بهم ضبائِرَ ضبائِرَ [617] الضبائرُ هم الجماعاتُ في تفرقةٍ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/71). ، فبُثُّوا [618] فبُثُّوا أي: فرِّقوا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/38). على أنهارِ الجَنَّةِ، ثم قيلَ: يا أهلَ الجَنَّةِ، أفيضوا عليهم، فيَنبُتونَ نباتَ الحِبَّةِ [619] الحِبَّةُ: هي بزرُ البقولِ والعشبِ تنبتُ في البراري، وجوانبِ السُّيولِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/23). تكونُ في حَميلِ السَّيلِ [620] حميل السَّيلِ: هو ما يجيءُ به السيلُ مِن طينٍ وغيره. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/108). ) [621] رواه مسلم (185). .
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75).
أي: ومَن يَمُت ويلاقِ رَبَّه يومَ القيامةِ، والحالُ أنَّه مُؤمِنٌ باللهِ وَحدَه لا شريكَ له، وقد عَمِلَ الأعمالَ الصَّالحاتِ؛ فأولئك لهم عندَ اللهِ الدَّرَجاتُ العاليةُ [622] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/119)، ((تفسير القرطبي)) (11/227)، ((تفسير ابن كثير)) (5/306)، ((تفسير الشوكاني)) (3/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/68). .
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) .
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: وتلك الدَّرَجاتُ العُلا هي بساتينُ إقامةٍ تجري مِن تحتِ أشجارِها وغُرَفِها الأنهارُ، ماكِثينَ فيها أبدًا [623] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/119)، ((تفسير القرطبي)) (11/227)، ((تفسير ابن كثير)) (5/307). .
وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى.
أي: وذلك الثَّوابُ هو جزاءُ من طهَّر نَفسَه مِن الكُفرِ، والشِّركِ، والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ، والعَمَلِ الصَّالحِ [624] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/120)، ((تفسير ابن كثير)) (5/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/315)، ((تفسير الشوكاني)) (3/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 509)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/269). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في هذا الكلامِ مِن السَّحَرةِ دليلٌ على أنَّه ينبغي للعاقِلِ أن يوازِنَ بينَ لذَّاتِ الدُّنيا ولذَّاتِ الآخرةِ، وبينَ عذابِ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ [625] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 508). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أظهَرَ السَّحَرةُ استخفافَهم بوعيدِ فِرعَون وبتَعذيبهِ؛ إذ أصبَحوا أهلَ إيمانٍ ويَقينٍ، وكذلك شأنُ المؤمِنينَ بالرُّسُلِ إذا أشرَقَت عليهم أنوارُ الرِّسالةِ؛ فسُرعانَ ما يكونُ انقلابُهم عن جَهالةِ الكُفرِ وقَساوتِه، إلى حِكمةِ الإيمانِ وثَباتِه [626] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/266). .
3- في قَولِه تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ إلى قَولِه سُبحانَه: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى بيانُ أنَّ الإيمانَ واليقينَ إذا دَخَلَا القلبَ لا يفتنُه شيءٌ؛ فالسَّحَرةُ -جنودُ فِرعَون- كانوا في أوَّلِ النَّهارِ سَحَرةً كَفَرةً، وفي آخرِ النَّهارِ مُؤمِنينَ بَرَرةً؛ يتَحَدَّونَ فِرعَون؛ لِمَا دَخَلَ في قَلبِهم مِن الإيمانِ [627] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/338). .
4- الإيمانُ مُكَفِّرٌ للسيِّئاتِ، والتوبةُ تجُبُّ ما قبلَها؛ قال تعالى حكايةً عن سحرةِ فرعونَ: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [628] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 508). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فيه سؤالٌ: كيف قال هذا النبيُّ الكريمُ للسَّحَرةِ أَلْقُوا أي: ألقُوا حبالَكم وعِصِيَّكم، يعني: اعملوا السِّحرَ، وعارِضوا به مُعجِزةَ اللهِ التي أيَّدَ بها رسولَه، وهذا أمرٌ مُنكَرٌ؟
والجوابُ: هو أنَّ قَصدَ موسى بذلك قَصدٌ حَسَنٌ يَستَوجِبُه المقامُ؛ لأنَّ إلقاءَهم قَبلَه يستلزِمُ إبرازَ ما معهم من مكايِدِ السِّحرِ، واستِنفادَ أقصى طُرُقِهم ومجهودِهم، فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائِه عصاه بعدَ ذلك، وابتلاعِها لجَميعِ ما ألقَوا؛ من إظهارِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ ما لا جِدالَ بَعدَه في الحَقِّ لأدنى عاقِلٍ؛ ولأجل هذا قال لهم: أَلْقُوا، فلو ألقَى قَبلَهم، وألقَوا بَعدَه، لم يحصُلْ ما ذكَرْنا، والعِلمُ عندَ الله تعالى [629] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/34). .
2- قال موسى عليه السَّلامُ للسَّحَرةِ: أَلْقُوا أي: أنتم أولًا قبلي، والحِكمةُ في هذا -والله أعلَمُ- ليرى النَّاسُ صَنيعَهم ويتأمَّلوه، فإذا فُرِغَ مِن بَهرَجِهم ومِحالِهم، جاءهم الحقُّ الواضِحُ الجَلِيُّ بعد تطَلُّبٍ له والانتظارِ منهم لمجيئِه؛ فيكونُ أوقَعَ في النُّفوسِ، وكذا كان [630] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/456). .
3- قَولُه تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فيه دَليلٌ على أنَّ ما يُوهِمُه السَّحَرةُ مِن تغييرِ خَلقِ الصُّورِ تَخييلٌ لا حقيقةٌ؛ فالسِّحرُ لا يؤثِّرُ في قلبِ الأعيانِ، فلا يجعَلُ الحديدَ خَشَبًا، ونحو ذلك، ومَن زعم أنَّ السَّحَرةَ يَقدِرونَ على تغييرِ الصُّوَرِ وتحويلِها عمَّا خلَقَها اللهُ إلى غيرِها: فقد كَفَر؛ لِمُساواتهم بأفعالِهم رَبَّ العالَمينَ، لكِنْ مع ذلك فلِلسِّحرِ حقيقةٌ؛ فإنَّه يؤثِّرُ: يُمرِضُ الإنسانَ، وربَّما يُفسِدُ فِكرَه، وربَّما يَلحَقُه جنونٌ... إلى غيرِ ذلك، خِلافًا للمُعتَزلةِ الذين قالوا: إنَّ السِّحرَ يقعُ تَخَيُّلًا وليس حقيقةً [631] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/289)، ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 10). .
4- إنْ قيلَ: قَولُه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ، وقَولُه: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] الدَّالانِ على أنَّ سِحرَ سَحَرةِ فِرعَونَ خَيالٌ لا حَقيقةَ له: قد يُظَنُّ تعارُضُهما مع قَولِه: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] ؛ لأنَّ وَصْفَ سِحرِهم بالعِظَمِ قد يُتوَهَّمُ منه أنَّه غيرُ خيالٍ.
فالذي يظهَرُ في الجوابِ -واللهُ أعلمُ- أنَّهم أخَذوا كثيرًا مِن الحِبالِ والعِصِيِّ، وخَيَّلوا بسِحرِهم لأعيُنِ النَّاسِ أنَّ الحِبالَ والعِصِيَّ تسعى وهي كثيرةٌ، فظَنَّ النَّاظِرونَ أنَّ الأرضَ مُلِئَت حيَّاتٍ تسعى؛ لِكَثرةِ ما ألقَوا من الحِبالِ والعِصِيِّ، فخافوا مِن كَثرتِها، وبتَخييلِ سَعيِ ذلك العددِ الكثيرِ وُصِفَ سِحرُهم بالعِظَمِ، وهذا ظاهِرٌ لا إشكالَ فيه [632] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/36). .
5- قال الله عز وجل: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى، قولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمة: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ... يعمُّ نفيَ جميعِ أنواعِ الفلاحِ عن الساحرِ، وأكَّد ذلك بالتعميمِ في الأمكنةِ بقولِه: حَيْثُ أَتَى، وذلك دليلٌ على كفرِه؛ لأنَّ الفلاحَ لا يُنفَى بالكليةِ نفيًا عامًّا إلَّا عمَّن لا خيرَ فيه، وهو الكافرُ [633] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/39). .
6- قال الله تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قال الأصبهانيُّ: (سبحانَ اللهِ، ما أعظَمَ شَأنَهم! ألقَوا حِبالَهم وعِصِيَّهم للكُفرِ والجُحودِ، ثمَّ ألقَوا رؤوسَهم بعد ساعةٍ للشُّكرِ والسُّجودِ، فما أعظَمَ الفَرقَ بينَ الإلقاءينِ) [634] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/309). !!
7- قولُ فرعونَ فيما حكاه الله تعالى عنه: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ دليلٌ على وَهنِ أمرِه؛ لأنَّه إنَّما جعَل ذنبَهم مفارقةَ الإذنِ، ولم يجعَلْه نفسَ الإيمانِ إلَّا بشرطٍ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/440). .
8- قال تعالى حكايةً لقولِ فرعونَ للسحرةِ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، فهَدَّدَهُم فرعونُ مُقسِمًا على أنَّه يقطعُ أيديَهم وأرجلَهم مِن خلافٍ؛ لأنَّه أشدُّ على الإنسانِ مِن قطعِهما مِن جهةٍ واحدةٍ؛ لأنَّه إن كان قطعُهما مِن جهةٍ واحدةٍ يبقَى عندَه شِقٌّ كاملٌ صحيحٌ، بخلافِ قَطْعِهما مِن خلافٍ. فالجنبُ الأيمنُ يَضْعُفُ بقطعِ اليدِ، والأيسرُ يَضْعُفُ بقطعِ الرِّجلِ كما هو معلومٌ. وأنَّه يُصَلِّبُهم في جذوعِ النَّخلِ، وجذعُ النَّخلةِ هو أخشنُ جِذعٍ مِن جذوعِ الشَّجرِ، والتَّصليبُ عليه أشدُّ مِن التَّصليبِ على غيرِه مِن الجذوعِ كما هو مَعروفٌ [636] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/63). .
9- هنا سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقالَ: قَولُهم: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ يدُلُّ على أنَّه أكرهَهم عليه، مع أنَّه قد يُفهَمُ من آياتٍ أُخَرَ أنَّهم فعلوه طائعينَ غيرَ مُكرَهينَ، كقَولِهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وكذلك قَولُه عنهم في (الشُّعَراء): قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 41، 42]، وقَولُه في (الأعرافِ): قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف: 113-114] فتلك الآياتُ يُفهَمُ منها أنَّهم غيرُ مُكرَهينَ.
وللعُلَماءِ عن هذا السُّؤالِ أجوِبةٌ مَعروفةٌ:
منها: أنَّه أكرَههم على الشُّخوصِ من أماكِنِهم؛ لِيُعارِضوا موسى بسِحرِهم، فلمَّا أُكرِهوا على القُدومِ وأُمِروا بالسِّحرِ أتَوه طائِعينَ، فإكراهُهم بالنِّسبةِ إلى أوَّلِ الأمرِ، وطَوعُهم بالنِّسبةِ إلى آخِرِ الأمرِ، فانفَكَّت الجِهةُ، وبذلك ينتفي التعارُضُ، ويدُلُّ لهذا قَولُه: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء: 36] ، وقَولُه: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف: 111] .
ومنها: أنَّه كان يُكرِهُهم على تعليمِ أولادِهم السِّحرَ في حالِ صِغَرِهم، وأنَّ ذلك هو مرادُهم بإكراهِهم على السِّحرِ، ولا ينافي ذلك أنَّهم فعَلوا ما فعلوا من السِّحرِ بعد تعلُّمِهم وكِبَرِهم طائِعينَ [637] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/66). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا دليلٌ على أنَّ المجرمَ في القرآنِ واقعٌ على الكافِرِ [638] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/291). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ ناشِئٍ من حِكايةِ ما جَرَى بينَ السَّحرةِ مِن المُقاوَلةِ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا فعَلُوا بعْدَما قالوا فيما بينَهم ما قالوا؟ فقِيلَ: قَالُوا يَا مُوسَى. وإنَّما لم يتعرَّضْ لإجماعِهم؛ وإتيانِهم بطَريقِ الاصطفافِ؛ إشعارًا بظُهورِ أمْرِهما وغِناهما عن البَيانِ [639] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/26). ؛ ففيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فجَاؤوا مُصطفِّينَ إلى مكانِ الموعدِ، وبيَدِ كلِّ واحدٍ منهم عصًا وحبْلٌ، وجاء مُوسى وأخوه ومعه عصاهُ، فوقفوا، وقالوا:  يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ  ... وذَكَروا الإلقاءَ؛ لأنَّهم عَلِموا أنَّ آيةَ مُوسى في إلقاءِ العصا. قيل: خيَّرُوه ثِقَةً منهم بالغَلبِ لمُوسى، وكانوا يَعْتَقِدون أنَّ أحدًا لا يُقاوِمُهم في السِّحرِ [640] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/353). .
2- قولُه تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى
- قولُه: قَالَ بَلْ أَلْقُوا استئنافٌ ناشِئٌ من حِكايةِ تَخييرِ السَّحرةِ إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كأنَّه قيلَ: فماذَا قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فقيلَ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا [641] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/73)، ((تفسير البيضاوي)) (4/32)، ((تفسير أبي حيان)) (7/353)، ((تفسير أبي السعود)) (6/27). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فألْقَوا، فإِذَا...؛ فالفاءُ فَصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مُسارَعتِهم إلى الإلقاءِ، كما في قولِه تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [642] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/354)، ((تفسير أبي السعود)) (6/27). [الشعراء: 63] .
3- قولُه تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى هذا الخوفُ على ما هو طَبْعُ البَشرِ، وللنظرِ إلى الطَّبعِ عبَّرَ بالنَّفْسِ لا القَلبِ مثلًا [643] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/307). ، وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ.
- وزيادةُ فِي نَفْسِهِ هنا؛ للإشارةِ إلى أنَّها خِيفَةُ تَفكُّرٍ، لم يظهَرْ أثَرُها على مَلامِحِه [644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/259). .
- وتأخيرُ الفاعلِ مُوسَى؛ لمُراعاةِ الفواصلِ، معَ ما فيه مِن التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ، والاهتمامِ بالمُقدَّمِ [645] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/27). .
4- قولُه تعالى: قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى
- قولُه: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى تَعليلٌ للنَّهيِ، وتَقريرٌ لِغَلبتِه وقهْرِه، وقدِ اشتملَتْ هذه الآيةُ على عِدَّةِ مُؤكِّداتٍ:
أ- الاستئنافُ، وهو قولُه تعالى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى، ولم يقُلْ: لأنَّك أنت الأعْلَى؛ فكان ذلك أبلَغَ في إيقانِ مُوسى عليه السَّلامُ بالغَلبةِ والاستعلاءِ، وأثبَتَ ذلك في قَرارةِ نفْسِه بما لا يدَعُ أيَّ مجالٍ للشَّكِّ.
ب- (إِنَّ) المُشدَّدةُ، الَّتي من شأْنِها الإثباتُ لِمَا يأْتي بعْدَها، وتأْكيدُه.
ج- تَكريرُ الضَّميرِ في قولِه: إِنَّكَ أَنْتَ.
د- لامُ التَّعريفِ في قولِه: الْأَعْلَى، أي: دونَ غيرِك.
هـ- لفْظُ (العُلُو) الدَّالِّ على أنَّ الغَلبةَ ثابتةٌ له من جِهَةِ العُلوِّ، وعبَّرَ بـ الْأَعْلَى على وزْنِ (الأفْعَل) الَّذي من شأْنِه التَّفضيلُ، ولم يقُل: العالي؛ فهو أعْلى من كلِّ عَالٍ [646] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/74)، ((تفسير البيضاوي)) (4/32)، ((تفسير أبي حيان)) (7/356)، ((تفسير أبي السعود)) (6/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/259)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/215). .
5- قولُه تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فيه ما يُعْرَفُ بالإبهامِ؛ حيثُ أُبْهِمَ ما في يَمينِ مُوسى ولم يقُل: (وألْقِ عصاكَ)؛ لأمرينِ مُتضادَّينِ؛ أوَّلِهما: استصغارُ أمْرِها، أي: لا تُبالِ بكثْرةِ حِبالِهم وعِصِيِّهم، وألْقِ العُوَيدَ الفرْدَ الصَّغيرَ الجِرْمِ الَّذي بيَدِك؛ فإنَّه بقُدْرةِ اللهِ تعالى يتلقَّفُها على وَحْدتِه وكَثرتِها، وصِغَرِه وعِظَمِها. وثانيهما: تَعظيمُ أمْرِها، أي: لا تعبَأْ بهذه الأجرامِ الكبيرةِ الكثيرةِ؛ فإنَّ في يَمينِك شيئًا هو أعظَمُ منها كلِّها؛ فألْقِها، تمْحَقْها وتُطِحْ بها بإذنِ اللهِ. وفيه نُكتةٌ أُخرى، وهي: أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ أوَّلَ ما عَلِمَ أنَّ العصا آيةٌ مِن اللهِ تعالى عندَما سأَلَه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] ، ثمَّ أظهَرَ له تعالى آيتَها، فلمَّا دخَلَ وقْتُ الحاجةِ إلى ظُهورِ الآيةِ منها، قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ؛ لِيَتيقَّظَ بهذه الصِّيغَةِ للوقْتِ الَّذي قال اللهُ تعالى له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ، وقد أظهَرَ له آيتَها؛ فيكونُ ذلك تَنبيهًا له وتأْنيسًا؛ حيث خُوطِبَ بما عهِدَ أنْ يُخاطَبَ به في وقْتِ ظُهورِ آيتِها، وذلك مَقامٌ يُناسِبُ التَّأْنيسَ والتَّثبيتَ في موقفٍ يُزايِلُ الوَقارُ أشدَّ النُّفوسِ قوَّةً ورِباطةً؛ فعَبَّر عنِ العصا بـ (ما) الموصولةِ تَذكيرًا له بيَومِ التَّكليمِ؛ إذ قال له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] ؛ ليحصل له الاطمئنانُ بأنَّها صائرةٌ إلى الحالةِ التي صارتْ إليها يَومئذٍ، ولذلك لم يقل له: وألق عصاك [647] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/74)، ((تفسير البيضاوي)) (4/32)، ((تفسير القرطبي)) (11/223)، ((تفسير أبي حيان)) (7/356)، ((تفسير أبي السعود)) (6/27-28)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/260)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/216). .
- والجُملةُ الأمْرِيَّةُ وَأَلْقِ مَعطوفةٌ على النَّهيِ، مُتمِّمةٌ بما في حَيِّزِها لتَعليلِ مُوجِبِه ببَيانِ كيفيَّةِ غلَبَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعُلوِّه؛ فإنَّ ابتلاعَ عصاهُ لأباطيلِهم -الَّتي منها أوجَسَ في نفْسِه ما أوجَسَ- ممَّا يقلعُ مادَّتَه بالكُلِّيَّةِ [648] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/28). .
- وفي قولِه: تَلْقَفْ حمْلٌ على معْنى (ما) لا على لفْظِها؛ إذ أُطْلِقَتْ (ما) على العصا، والعصا مُؤنَّثةٌ، ولو حُمِلَ على اللَّفظِ لكان (يَلْقَف) بالياءِ [649] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/356)، ((تفسير أبي السعود)) (6/28). .
- قولُه: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى التَّعبيرُ عنها بـ مَا صَنَعُوا؛ للتَّحقيرِ، والإيذانِ بالتَّمويهِ والتَّزويرِ [650] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/28). .
- وقولُه: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ... تَعليلٌ لقولِه: تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا، وقولُه: كَيْدُ سَاحِرٍ، أي: كيدُ جنْسِ السَّاحرِ. وعدَمُ التَّعرُّضِ لشأْنِ العصا، وكونِها مُعجِزةً إلهيَّةً، مع ما في ذلك من تَقويةِ التَّعليلِ؛ للإيذانِ بظُهورِ أمْرِها [651] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/28). .
- وتَنكيرُ سَاحِرٍ؛ للتَّوسُّلِ به إلى تَنكيرِ ما أُضِيفَ إليه للتَّحقيرِ [652] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/28). . ونَكَّرَ أوَّلًا في قولِه: كَيْدُ سَاحِرٍ، وعرَّفَ ثانيًا في قولِه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى؛ لأنَّه نكَّرَ من أجْلِ تَنكيرِ المُضافِ، لا من أجْلِ تَنكيرِه في نفْسِه، كأنَّه قيل: إنَّ ما صَنَعوا كيدٌ سِحْرِيٌّ، وفي سَعْيٍ دُنيويٍّ [653] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/75)، ((تفسير البيضاوي)) (4/32)، ((تفسير أبي حيان)) (7/357). .
- وجُملةُ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى من تَمامِ الجُملةِ الَّتي قبْلَها؛ فهي مَعطوفةٌ عليها، وتَعريفُ السَّاحرِ تَعريفَ الجِنْسِ؛ لقصْدِ الجِنْسِ المعروفِ، أي: لا يُفلِحُ بها كلُّ ساحرٍ. واخْتِيرَ فِعْلُ (أتى) دونَ نحوِ: حيثُ كان، أو حيثُ حَلَّ؛ لمُراعَاةِ كونِ مُعظَمِ أولئك السَّحرةِ مَجْلوبونَ من جِهاتِ مصْرَ، وللرِّعايةِ على فواصلِ الآياتِ الواقعةِ على حرْفِ الألِفِ المقصورةِ. وتَعميمُ حَيْثُ أَتَى لعُمومِ الأمكنةِ الَّتي يَحضُرُها، أي: بسِحْرِه. وتَعليقُ الحُكْمِ بوصْفِ السَّاحرِ يَقْتضي أنَّ نفْيَ الفلاحِ عن السَّاحرِ في أُمورِ السِّحرِ، لا في تِجارةٍ أو غيرِها. وهذا تأكيدٌ للعُمومِ المُستفادِ من وُقوعِ النَّكرةِ في سِياقِ النَّفيِ؛ لأنَّ عُمومَ الأشياءِ يَستلزِمُ عُمومَ الأمكنةِ الَّتي تقَعُ فيها [654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/260-261). .
- ووحَّدَ سَاحِرٍ ولم يَجْمَعْ؛ لأنَّ القصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسيَّةِ، لا إلى معنى العدَدِ، فلو جمَعَ، لَخُيِّلَ أنَّ المقصودَ هو العددُ؛ ألَا ترَى إلى قولِه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ، أي: هذا الجِنْسُ [655] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/75)، ((تفسير البيضاوي)) (4/32)، ((تفسير أبي حيان)) (7/357). .
6- قولُه تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى
- الفاءُ في فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا فَصيحةٌ مُعْرِبَةٌ عن مَحذوفينِ يَنساقُ إليهما النَّظمُ الكريمُ، غَنِيَّينِ عن التَّصريحِ بهما؛ لعدَمِ احتمالِ تَردُّدِ مُوسى عليه السَّلامُ في الامتثالِ بالأمْرِ، واستحالةِ عدَمِ وُقوعِ اللَّقْفِ الموعودِ، أي: فألقاه عليه السلامُ، فوقَع ما وقَع مِن اللَّقْفِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا [656] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/261). .
- قولُه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ولم يأْتِ (فسَجَدوا)؛ كأنَّه جاءهم أمْرٌ وأزعَجَهم وأخَذَهم، فصنَعَ بهم ذلك، وهو عبارةٌ عن سُرعةِ ما تأَثَّروا لذلك الخارقِ العظيمِ، فلم يَتَمالكوا أنْ وَقَعوا ساجدينَ [657] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/357). . أو أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى المجهولِ؛ لأنَّهم لا مُلْقِيَ لهم إلَّا أنفُسُهم، فكأنَّه قيل: فألْقَوا أنفُسَهم سُجَّدًا [658] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/261). .
- في قولِه: فَأُلْقِيَ فَنُّ التَّكريرِ؛ فقد تَكرَّرَ لفْظُ الإلقاءِ، ولكنَّه تَكرُّرٌ لم يطَّرِدْ على وَتيرةٍ واحدةٍ، وإنَّما هو لفظٌ واحدٌ في مَعنيينِ مُتضادَّينِ مُتناقضَينِ، نقَلَ بهما سُبحانه عِبادَه من غايةِ الكُفْرِ والعنادِ، إلى نِهايةِ الإيمانِ والسَّدادِ [659] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/219). .
- وتَعبيرُهم عن الرَّبِّ بطَريقِ الإضافةِ إلى هارونَ ومُوسى؛ لأنَّ اللهَ لم يكُنْ يُعْرَفُ بينهم يومئذٍ إلَّا بهذه النِّسبةِ؛ لأنَّ لهم أربابًا يَعْبُدونها ويَعْبُدها فِرعونُ [660] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/262). .
- وقُدِّمَ مُوسى في (الأعرافِ) وأُخِّرَ هارونُ؛ لأجْلِ الفواصلِ، ولكونِ مُوسى هو المنسوبَ إليه العصا الَّتي ظهَرَ فيها ما ظهَرَ مِن الإعجازِ، وأُخِّرَ مُوسى في سورة (طه)؛ لأجْلِ الفواصلِ أيضًا. ويحتمِلُ أنْ يكونَ القولانِ من قائلَينِ: نطقَتْ طائفةٌ بقولِهم: رَبِّ مُوسى وهارونَ، وطائفةٌ بقولِهم: ربِّ هارونَ ومُوسى، ولمَّا اشْتَرَكوا في المعنى صَحَّ نِسبةُ كلٍّ من القولينِ إلى الجميعِ. وقيل: قُدِّمَ هارونُ هنا؛ لأنَّه كان أكبَرَ سِنًّا من مُوسى. وقيل: لأنَّ فِرعونَ كان قد ربَّى مُوسى، فبدَؤوا بهارونَ؛ ليَزولَ تَمويهُ فِرعونَ أنَّه ربَّى مُوسى، فيقول: أنا رَبَّيتُه. وقالوا: ربِّ هارونَ ومُوسى، ولم يَكْتَفوا بقولِهم: بربِّ العالمينَ؛ للنَّصِّ على أنَّهم آمنوا بربِّ هذينِ، وكان فيما قبْلُ يزعُمُ أنَّه ربُّ العالمينَ [661] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((تفسير أبي حيان)) (7/357-358)، ((تفسير أبي السعود)) (6/28-29)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 365)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/263). .
- وتَقديمُ هارونَ على مُوسى هنا، وتَقديمُ مُوسى على هارونَ في قولِه تعالى في سُورةِ (الأعراف): قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121، 122]، لا دَلالةَ فيه على تَفضيلٍ ولا غيرِه؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ لا تُفِيدُ أكثَرَ مِن مُطلَقِ الجمْعِ في الحُكمِ المعطوفِ فيه، فهم عَرَّفوا اللهَ بأنَّه رَبُّ هذينِ الرَّجُلينِ، فحُكِيَ كلامُهم بما يدُلُّ على ذلك؛ ألَا ترى أنَّه حُكِيَ في سُورةِ (الأعرافِ) قولُ السَّحرةِ: قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 121]، ولم يُحْكَ ذلك هنا؛ لأنَّ حِكايةَ الأخبارِ لا تَقْتضي الإحاطةَ بجميعِ المَحْكيِّ، وإنَّما المقصودُ موضِعُ العِبْرةِ في ذلك المقامِ بحسَبِ الحاجةِ [662] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/262). .
7- قولُه تعالى: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى
- قولُه: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ، قولُه: قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ ترقٍّ في موجبِ التوبيخِ، أي: لم يكْفِكم أنَّكم آمنتُم بغيري حتَّى فعلتُم ذلك عن غيرِ استئذانٍ، وفصلُها عمَّا قبلَها؛ لأنَّها تعدادٌ للتوبيخِ [663] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/54). .
- واللَّامُ في قولِه: آَمَنْتُمْ لَهُ لتَضمينِ الفِعْلِ معنى الاتِّباعِ [664] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/29). .
- وفيه استكبارٌ باقْتدارِه وقهْرِه، وما ألِفَه من تَعذيبِ النَّاسِ بأنواعِ العذابِ، وتَوضيعٌ لمُوسى عليه السَّلامُ، واستضعافٌ مع الهُزْءِ به. وإمَّا لإراءةِ أنَّ إيمانَهم لم يكُنْ عن مُشاهَدةِ المُعجِزةِ، ومُعايَنةِ البُرهانِ، بل كان عن خَوفٍ من قِبَلِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حيث رَأَوا ابتلاعَ عصاهُ لحِبالِهم وعِصِيِّهم، فخافوا على أنفُسِهم أيضًا [665] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/76)، ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((تفسير أبي حيان)) (7/358)، ((تفسير أبي السعود)) (6/29). .
- قولُه: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ التَّصليبُ: مُبالَغةٌ في الصَّلْبِ، عدَلَ عن حرْفِ الاستعلاءِ (على) إلى حرْفِ الظَّرفيَّةِ (في)؛ تَشبيهًا لشِدَّةِ تمكُّنِ المصلوبِ من الجذْعِ بتمكُّنِ الشَّيءِ الواقعِ في وِعائِه؛ فتَعديةُ فِعْلِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بحرْفِ (في) مع أنَّ الصَّلْبَ يكونُ فوقَ الجذْعِ لا داخِلَه؛ ليدُلَّ على أنَّه صَلْبٌ مُتمكِّنٌ يُشْبِهُ حُصولَ المظروفِ في الظَّرفِ، وأيضًا لما كانت الجذوعُ تضمُّهم كما يضمُّ الوعاءُ ما فيه؛ قيل: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [666] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/465)، ((تفسير الزمخشري)) (3/76)، ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((تفسير أبي حيان)) (7/358)، ((تفسير أبي السعود)) (6/29)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/265). .
8- قولُه تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فيه تَوهينٌ له، واستصغارٌ لِمَا هدَّدَهم به، وعدَمُ اكتراثٍ بقولِه. وفي نِسْبةِ المَجِيءِ إليهم -وإنْ كانتِ البيِّناتُ جاءت لهم ولغيرِهم-؛ لأنَّهم كانوا أعرَفَ بالسِّحرِ من غيرِهم، وقد عَلِموا أنَّ ما جاء به مُوسى ليس بسِحْرٍ؛ فكانوا على جَلِيَّةٍ من العِلْمِ بالمُعجِزِ، وغيرُهم يُقلِّدُهم في ذلك، وأيضًا فكانوا هم الَّذين حصَلَ لهم النَّفعُ بها، فكانت بيِّناتٍ واضحةً في حَقِّهم [667] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/359). .
- قولُه: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا التَّفضيلُ بينَ فِرعونَ وما جاءهم من البيِّناتِ مُقْتَضٍ حذْفَ مُضافٍ يُناسِبُ المُقابَلةَ بالبيِّناتِ، أي: لن نُؤثِرَ طاعتَك أو دِينَك على ما جاءنا من البيِّناتِ الدَّالَّةِ على وُجوبِ طاعةِ اللهِ تعالى، وبذلك يَلْتَئِمُ عطْفُ وَالَّذِي فَطَرَنَا، أي: لا نُؤثِرُك في الرُّبوبيَّةِ على الَّذي فطَرَنا. وَجِيءَ بالموصولِ وَالَّذِي فَطَرَنَا؛ للإيماءِ إلى التَّعليلِ؛ لأنَّ الفاطِرَ هو المُستحِقُّ بالإيثارِ [668] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/266- 267). .
- قولُه: وَالَّذِي فَطَرَنَا عطْفٌ على مَا جَاءَنَا، أي: وعلى الَّذي فطَرَنا. وتأخيرُه؛ لأنَّ ما في ضِمْنِه آيةٌ عقْليَّةٌ نظريَّةٌ، وما شاهدوهُ آيةٌ حِسِّيَّةٌ ظاهرةٌ، ولمَّا لاحَتْ لهم حُجَّةُ اللهِ في المُعجِزةِ بَدَؤوا بها، ثمَّ تَرَقَّوا إلى القادرِ على خرْقِ العادةِ، وهو اللهُ تعالى. وإيرادُه تعالى بعُنوانِ فاطِريَّتِه تعالى لهم؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ خالِقيَّتَه تعالى لهم وكونَ فِرعونَ من جُملةِ مخلوقاتِه، ممَّا يُوجِبُ عدَمَ إيثارِهم له عليه سُبحانَه وتعالى، وهذا جوابٌ منهم لتَوبيخِ فِرعونَ بقولِه: آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ؛ فذَكَروا وصْفَ الاختراعِ، وهو قولُهم: وَالَّذِي فَطَرَنَا؛ تَبْيينًا لعجْزِ فِرعونَ، وتَكذيبِه في ادِّعاءِ رُبوبيَّتِه وإلاهيَّتِه، وهو عاجِزٌ عن صرْفِ ذُبابةٍ، فضْلًا عنِ اختراعِها [669] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/359)، ((تفسير أبي السعود)) (6/29- 30). . وأيضًا أُخِّرَ وَالَّذِي فَطَرَنَا عن مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ؛ لأنَّ البيِّناتِ دليلٌ على أنَّ الَّذي خلَقَهم أراد منهم الإيمانَ بمُوسى، ونبْذَ عِبادةِ غيرِ اللهِ، ولأنَّ فيه تَعريضًا بدَعوةِ فِرعون للإيمانِ باللهِ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/266). .
- وصِيغَةُ الأمْرِ في قولِه: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مُستعمَلةٌ في التَّسويةِ؛ لأن مَا أَنْتَ قَاضٍ تصدق على ما توعدهم به مِن تَقطيعِ الأيدي والأرجُلِ والصَّلْبِ، أي: سواءٌ علينا ذلك: بعْضُه، أو كلُّه، أو عدَمُ وُقوعِه، فلا نطلُبُ منك خَلاصًا منه جَزاءَ طاعتِك، فافْعَلْ ما أنت فاعِلٌ [671] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/266- 267). .
- وقولُه: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا تَمهيدٌ لِمَا بعْدَه [672] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/210). ، وهو أيضًا مع ما بعْدَه تَعليلٌ لعدَمِ المُبالاةِ المُستفادِ ممَّا سبَقَ من الأمْرِ بالقضاءِ، أي: إنَّما تصنَعُ ما تهواهُ، أو تحكُمُ بما تراهُ في هذه الحياةِ الدُّنيا فحسْبُ، وما لنا من رَغبةٍ في عذْبِها، ولا رَهْبةٍ من عذابِها [673] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/33)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/210)، ((تفسير أبي السعود)) (6/30). .
- والقصْرُ المُستفادُ من (إنَّما) قصْرُ مَوصوفٍ على صِفَةٍ، أي: إنَّك مقصورٌ على القضاءِ في هذه الحياةِ الدُّنيا، لا يَتجاوَزُه إلى القضاءِ في الآخرةِ؛ فهو قصْرٌ حَقيقيٌّ [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/267). .
9- قولُه تعالى: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
- جُملةُ: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا ... في مَحلِّ العِلَّةِ لِمَا تضمَّنَه كلامُهم [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/267). .
- قولُه: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ خَصُّوا السِّحرَ بالذِّكْرِ مع اندراجِه في خَطاياهم؛ إظهارًا لغايةِ نُفْرَتِهم عنه، ورَغْبتِهم في مَغْفرتِه. وذِكْرُ الإكراهِ؛ للإيذانِ بأنَّه ممَّا يجِبُ أنْ يُفرَدَ بالاستغفارِ منه مع صُدورِه عنهم بالإكراهِ، وفيه نوعُ اعتذارٍ لاستجلابِ المَغْفرةِ [676] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/30). .
- وجُملةُ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى في موضعِ الحالِ، أو مُعترِضةٌ في آخرِ الكلامِ؛ للتَّذييلِ [677] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/267). .
10- قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
- فيه تَقديمُ ذِكْرِ حالِ المُجْرِمِ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ أشَدِّيَّةِ عَذابِه ودوامِه؛ ردًّا على ما ادَّعاهُ فِرعونُ بقولِه: أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [678] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/31). .
- قولُهم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ ... إلى آخرِ الشَّرطيتينِ تَعليلٌ من جِهَتِهم؛ لكونِه تعالى خيرًا وأبقَى، وتَحقيقٌ له، وإبطالٌ لِمَا ادَّعاهُ فِرعونُ، وتَصديرُهما بضَميرِ الشَّأنِ في إِنَّهُ؛ للتَّنبيهِ على فَخامةِ مَضمونِهما؛ لأنَّ مناطَ وضْعِ الضَّميرِ مَوضِعَه ادِّعاءُ شُهْرَتِه المُغْنيةِ عن ذِكْرِه، مع ما فيه من زِيادةِ التَّقريرِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفْهَمُ منه من أوَّلِ الأمْرِ إلَّا شأْنٌ مُبْهَمٌ لهُ خطَرٌ، فيَبْقى الذِّهنُ مُترَقِّبًا لِمَا يعقُبُه، فيَتمكَّنُ عندَ وُرودِه له فضْلَ تَمكُّنٍ؛ كأنَّه قيل: إنَّ الشَّأنَ الخطيرَ هذا، أي: قولَه تعالى: مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا بأنْ مات على الكُفْرِ والمعاصي، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا فيَنْتهي عذابُه، وهذا تَحقيقٌ لكونِ عَذابِه أبْقَى، وَلَا يَحْيَا حياةً يَنتفِعُ بها [679] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/31). .
11- قوله تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا
- قولُه: فَأُولَئِكَ إشارةٌ إلى (مَنْ)، والجمْعُ باعتبارِ معناها، كما أنَّ الإفرادَ في الفِعْلينِ السَّابقينِ باعتبارِ لفْظِها. وما في (أولئك) من معنى البُعْدِ؛ للإشعارِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وبُعْدِ مَنزلتِهم، أي: فأولئك المُؤمِنون العامِلون للصَّالحاتِ [680] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/31). ، وللتَّنبيهِ كذلك على أنَّهم أحرياءُ بما يُذْكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ من أجْلِ ما سبَقَ اسمَ الإشارةِ [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/269). .
12- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى
- قولُه: وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (ذَلِكَ) إشارةٌ إلى ما أُتيحَ لهم من الفوزِ بما ذُكِرَ من الدَّرجاتِ العُلى، وما فيه من معنى البُعدِ للتَّفخيمِ. وقولُه: جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى تَحقيقٌ لكونِ ثوابِه تعالى أبْقَى [682] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/31). .
- والآياتُ الثَّلاثُ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ...، إلى قولِه: تَزَكَّى -على القولِ بأنَّها خبرٌ منَ اللهِ-، هي جُمَلٌ مُعترِضةٌ بين حِكايةِ قِصَّةِ السَّحرةِ، وبين ذِكْرِ قِصَّةِ خُروجِ بني إسرائيلَ، ساقَها اللهُ؛ موعظةً وتأييدًا لِمَقالةِ المُؤمِنين من قومِ فِرعونَ [683] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/268). .