موسوعة التفسير

سُورةُ الفِيلِ
الآيات (1-5)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

كَيْدَهُمْ: أي: مَكْرَهم، وسَعْيَهم في تخريبِ الكعبةِ، واستِباحةِ أهلِها، وأصلُ (كيد): يدُلُّ على مُعالَجةٍ لشَيءٍ بشِدَّةٍ، وكلُّ شُيءٍ تُعالِجُه فأنتَ تَكيدُه [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/627)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/149)، ((البسيط)) للواحدي (24/323)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 750). .
تَضْلِيلٍ: أي: تَضييعٍ وبُطلانٍ وذَهابٍ، وأصلُ (ضلل): يدُلُّ على ضَياعِ الشَّيءِ وذَهابِه في غيرِ حقِّه [6] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/363)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/356)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين (2/384). .
أَبَابِيلَ: أي: كثيرةً مُتفَرِّقةً يَتبَعُ بَعضُها بَعضًا، كقَطيعِ الإبِلِ، قيل: واحِدُها إبَّالةٌ وإِبُّولٌ وإبِّيلٌ. وقيل: هو جَمْعٌ لا واحِدَ له [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 539)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 87)، ((تفسير البغوي)) (8/540)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 476). .
سِجِّيلٍ: أي: طينٍ مُتحَجِّرٍ، وقيل: أصلُها فارسيٌّ (سَنكِ وكِل) أي: الحَجَر والطِّين [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((تفسير ابن جرير)) (12/526)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237). .
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ: أي: كزَرعٍ وتِبْنٍ أكلَتْه الدَّوابُّ فراثَتْه، فيَبِسَ وتفَرَّقَت أجزاؤُه، أو كوَرَقِ زَرْعٍ قد أكَلَتْ منه الدَّوابُّ وبَقِيَ منه بَقايا، أو أكَلَتْ حَبَّه فبَقِيَ بِدونِ حَبِّه، وقيل: المرادُ بالعَصفِ قِشرُ البُرِّ، يعني: الغِلافَ الَّذي تكونُ فيه حَبَّةُ القَمحِ. وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 539)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/328)، ((تفسير البغوي)) (8/541)، ((تفسير القرطبي)) (20/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 476)، ((تفسير الشوكاني)) (5/606). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُخاطِبًا نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائِلًا له: ألمْ تَرَ -يا محمَّدُ- كيف فَعَل رَبُّك بجَيشِ أَبرَهةَ الَّذين صَحِبوا الفِيلَ لهَدْمِ الكَعبةِ؟ ألم يَجعَلِ اللهُ سَعْيَهم في هَدْمِ الكَعبةِ في ضلالٍ وضَياعٍ؟ وأرسَلَ عليهم جَماعاتٍ كثيرةً مِنَ الطَّيرِ يَتبَعُ بَعضُها بعضًا، ترميهم بحِجارةٍ مِن طينٍ صُلبٍ يابِسٍ؛ فجعَلَهم اللهُ مِثلَ زَرعٍ أكلَتْه الدَّوابُّ فراثَتْه، فيَبِسَ وتفَرَّقَت أجزاؤُه!

تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1).
أي: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- كيف فَعَل رَبُّك بجَيشِ أَبرَهةَ الحَبَشيِّ مَلِكِ اليَمَنِ، الَّذين صَحِبوا الفِيلَ، واتَّجَهوا إلى مكَّةَ لهَدْمِ الكَعبةِ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/627)، ((تفسير ابن عطية)) (5/523)، ((تفسير ابن كثير)) (8/483)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935). قال البيضاوي: (الخِطابُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو وإنْ لم يَشهَدْ تلك الوقعةَ لكنْ شاهَدَ آثارَها، وسَمِعَ بالتَّواتُرِ أخبارَها، فكأنَّه رَآها). ((تفسير البيضاوي)) (5/339). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/799)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/545). وقال أبو السعود: (والرُّؤيةُ عِلميَّةٌ. أي: ألم تَعلَمْ عِلمًا رَصِينًا متاخمًا للمُشاهَدةِ والعَيانِ، باستِماعِ الأخبارِ المُتواتِرةِ، ومُعايَنةِ الآثارِ الظَّاهِرةِ). ((تفسير أبي السعود)) (9/200). وقال ابن جرير: (ألم تَنظُرْ يا محمَّدُ بعَيْنِ قلبِك، فتَرى بها). ((تفسير ابن جرير)) (24/627). وقال ابن عاشور: (ويجوزُ أن تكونَ الرُّؤيةُ بَصريَّةً بالنِّسبةِ لِمَن تَجاوَزَ سِنُّه نَيِّفًا وخمسينَ سَنةً عندَ نُزولِ الآيةِ، ممَّن شَهِدَ حادِثَ الفيلِ غُلامًا أو فَتًى). يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/545). وقال القرطبي: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه عامٌّ، أي: ألمْ تَرَوا ما فعَلْتُ بأصحابِ الفِيلِ؟ أي: قد رأيتُم ذلك، وعرَفْتُم مَوضِعَ مِنَّتي عليكم، فما لَكم لا تؤمِنونَ؟!). ((تفسير القرطبي)) (20/187). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/605). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد تواتَرَت قِصَّةُ أصحابِ الفِيلِ، وأنَّ أهلَ الحَبَشةِ النَّصارى سارُوا بجَيشٍ عظيمٍ، معهم فيلٌ؛ لِيَهدِموا الكَعبةَ لَمَّا أهان بعضُ العَرَبِ كنيستَهم الَّتي باليَمَنِ، فقَصَدوا إهانةَ الكعبةِ، وتعظيمَ كنايسِهم؛ فأرسلَ اللهُ عليهم طيرًا أهلَكَهم، وكان ذلك عامَ مَولِدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((الجواب الصحيح)) (6/55). ويُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 94). وقال الرسعني: (كان مِن حديثِ أصحابِ الفيلِ فيما ذكَر بعضُ أهلِ العلمِ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ وعكرمةَ عن ابنِ عباسٍ وعمَّن لقي مِن علماءِ أهلِ اليمنِ وغيرِهم: أنَّ أبرهةَ بنَ الصباحِ الأشرمِ -مَلِكَ اليمنِ- بنَى كنيسةً بصنعاءَ، وسمَّاها «القُلَّيس»، وأراد أنْ يصرِفَ إليها حجَّ العربِ، فخرَج رجلٌ مِن كنانةَ فقَعَد فيها [أي: أحدَث] ليلًا، فبلَغ أبرهةَ ذلك، فقال: مَن اجترأَ على ذلك؟ فقيل: رجلٌ مِن العربِ مِن أهلِ ذلك البيتِ، سمِع بالذي قلتَ، فصنَع هذا، فحلَف ليسيرَنَّ إلى الكعبةِ حتَّى يهدمَها). ((تفسير الرسعني)) (8/732). وقال ابن عطيَّة: (الجُمهورُ على أنَّه فيلٌ واحِدٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/523). ؟
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا فَتَح اللهُ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكَّةَ، قام في النَّاسِ فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: إنَّ اللهَ حَبَس عن مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّط عليها رَسولَه والمؤمِنينَ، فإنَّها لا تَحِلُّ لأحدٍ كان قَبْلي، وإنَّها أُحِلَّت لي ساعةً مِن نهارٍ، وإنَّها لا تَحِلُّ لأحدٍ بَعْدي )) [11] رواه البخاريُّ (2434)، ومسلمٌ (1355) مطوَّلًا. .
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2).
أي: ألم يَجعَلِ اللهُ سَعْيَهم في هَدْمِ الكَعبةِ، وصَرْفِ النَّاسِ عنها: في ضلالٍ وضَياعٍ؛ فلم يَتِمَّ لهم مَكْرُهم الَّذي اجتَهَدوا في حُصولِه [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/627)، ((الوسيط)) للواحدي (4/554)، ((تفسير القرطبي)) (20/195)، ((تفسير ابن كثير)) (8/488). ؟
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3).
أي: وأرسَلَ اللهُ عليهم جماعاتٍ كثيرةً مُتفَرِّقةً مِنَ الطُّيورِ يَتبَعُ بَعضُها بعضًا، فَوجًا بعْدَ فَوجٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/627)، ((تفسير السمرقندي)) (3/622)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/57)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/256)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 320). .
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4).
أي: تَرمي تلك الطُّيورُ أصحابَ الفِيلِ بحِجارةٍ مِن طينٍ صُلبٍ يابِسٍ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/632)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/57)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 320). .
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5).
أي: فجعَلَهم اللهُ مِثلَ زَرعٍ أكلَتْه الدَّوابُّ فراثَتْه، فيَبِسَ وتفَرَّقَت أجزاؤُه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/643)، ((الوسيط)) للواحدي (4/554)، ((تفسير ابن عطية)) (5/524). وممَّن ذهب إلى المعنى المذكور: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والواحديُّ، والسمعانيُّ، وابنُ عطيَّةَ، والرَّسْعَنيُّ، والخازنُ، والعُلَيميُّ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/643)، ((تفسير الثعلبي)) (10/298)، ((الوسيط)) للواحدي (4/554)، ((تفسير السمعاني)) (6/285)، ((تفسير ابن عطية)) (5/524)، ((تفسير الرسعني)) (8/739)، ((تفسير الخازن)) (4/474)، ((تفسير العليمي)) (7/437)، ((تفسير الشوكاني)) (5/606). وقيل: جعَلَهم كوَرَقِ الزَّرْعِ الَّذي جَفَّ وأُكِلَ: أي: وقَعَ فيه الأُكَالُ، وهو أن يأكلَه الدُّودُ ويجوفَه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والبِقاعيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/364)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/258). وقيل: المعنى: كزَرعٍ أكلَتْه الدَّوابُّ وداسَتْه بأقدامِها حتى تفتَّتَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/551)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 320). وقيل: المأكولُ يعني البالي. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمَرْقَنْديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/853)، ((تفسير السمرقندي)) (3/622). قال ابنُ جُزَي: (وفي تَشْبيهِهم به ثلاثةُ أوجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّه شَبَّههم بالتِّبنِ إذا أكلَتْه الدَّوابُّ ثمَّ راثَتْه، فجَمَع التَّلَفَ والخِسَّةَ، ولكِنَّ اللهَ كنَّى عن هذا على حَسَبِ أدَبِ القُرآنِ. الثَّاني: أنَّه أراد وَرَقَ الزَّرعِ إذا أكلَتْه الدُّودُ. الثَّالِثُ: أنَّه أراد كعَصْفٍ مأكولٍ زَرْعُه وبَقِيَ هو لا شَيءَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/513). !

الفوائد التربوية:

1- في مُجْمَلِ هذه السُّورةِ العظيمةِ بيانُ ما فُعِلَ بأصحابِ الفيلِ، وأنَّ كيدَهم صار في نُحورِهم، وهكذا كلُّ مَن أراد الحقَّ بسوءٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ كَيدَه في نَحْرِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 320). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ فيه تذكيرٌ بأنَّ اللهَ تعالى غالِبٌ على أمْرِه [17] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/544). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ تضَمَّن التَّذكيرَ بأنَّ الكعبةَ حَرَمُ اللهِ، وأنَّ اللهَ حماه ممَّن أرادوا به سُوءًا [18] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/543، 544). .
2- في تسليطِه سُبحانَه لنَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا البلدِ، وتمليكِه إيَّاه ولأُمَّتِه مِن بعْدِه: ما دلَّ على صِحَّةِ نُبُوَّتِه؛ فإنَّ اللهَ حَبَسَ عنه مَن يريدُه بالأذى، وأهلَكَه؛ قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، ثُمَّ سَلَّطَ عليه رَسولَه وأُمَّتَه، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ حَبَسَ عن مكَّةَ الفيلَ، وسَلَّطَ عليها رسولَه والمؤمِنينَ )) [19] رواه البخاريُّ (2434)، ومسلمٌ (1355) مطوَّلًا. ؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتَه إنَّما كان قَصْدُهم تعظيمَ البَيتِ وتكريمَه واحترامَه؛ ولهذا أنكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الفتحِ على مَن قال: اليومَ تُستَحَلُّ الكعبةُ! وقال: ((هذا يومٌ يُعَظِّمُ الله فيه الكعبةَ )) [20] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 94). والحديث أخرجه البخاريُّ (4280) مِن حديثِ عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ. .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ فيه سُؤالٌ: لِمَ قال: أَلَمْ تَرَ، مع أنَّ هذه الواقِعةَ وقَعَت قبْلَ المبعَثِ بزمانٍ طويلٍ؟!
الجوابُ: المرادُ مِن الرُّؤيةِ العِلمُ والتَّذكيرُ، وهو إشارةٌ إلى أنَّ الخبَرَ به متواتِرٌ، فكان العِلمُ الحاصِلُ به ضروريًّا مُساويًا في القوَّةِ والجَلاءِ للرُّؤيةِ؛ ولهذا السَّبَبِ قال لغَيرِه على سَبيلِ الذَّمِّ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس: 31] ، لا يُقالُ: فلِمَ قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] ؛ لأنَّ الفَرقَ أنَّ ما لا يُتصَوَّرُ إدراكُه لا يُستَعمَلُ فيه إلَّا العِلمُ؛ ككَونِه قادرًا، وأمَّا الَّذي يُتصَوَّرُ إدراكُه كفِرارِ الفِيلِ فإنَّه يجوزُ أن يُستعمَلَ فيه الرُّؤيةُ [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/289). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لم يتكَرَّرْ في القُرآنِ ذِكرُ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ خِلافًا لقَصَصِ غَيرِهم مِن الأُمَمِ؛ لوَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ إهلاكَ أصحابِ الفيلِ لم يكُنْ مِن أجْلِ تكذيبِ رَسولٍ مِنَ اللهِ.
الوَجهُ الثَّاني: ألَّا يتَّخِذَ منه المشرِكونَ غُرورًا بمكانةٍ لهم عندَ اللهِ، كغُرورِهم بقَولِهم المحكيِّ في قَولِه تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [التوبة: 19] الآيةَ، وقَولِه: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [22] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/544). [الأنفال: 34] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، فيه سؤالٌ: أنَّ أصحابَ هذا الجَيشِ نَصارى، وهُم أهْلُ دِينٍ وكِتابٍ، وأهلُ مكَّةَ وَثَنِيُّونَ لا دِينَ لهم، والكَعبةُ مُمتَلِئةٌ بالأصنامِ، فكيف أهلَكَ اللهُ النَّصارَى أصحابَ الدِّينِ، ولم يُسَلِّطْهم على الوَثَنِيِّينَ؟
الجَوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّل: أنَّ الجَيشَ ظالِمٌ باغٍ، والبَغيُ مَرتَعُه وَخِيمٌ، ولو كان المَظلومُ أقلَّ مِن الظَّالمِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ الوَثَنِيَّةَ اعتِداءٌ على حَقِّ اللهِ في العِبادةِ، وغَزوَ هذا الجَيشِ اعتِداءٌ على حُقوقِ العِبادِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّه إرهاصٌ لمَولدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ وُلِدَ في هذا العامِ نَفْسِه.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ الأصلَ في نَشأةِ البَيتِ وإقامتِه، إنَّما هو اللهُ الَّذي أمَر برفعِ قَواعِدِه، وإقامةِ... في رِحابِه، وكان طاهِرًا مُطَهَّرًا للعاكِفينَ فيه والرُّكَّعِ السُّجودِ، وإنَّما الوَثنِيَّةُ طارِئةٌ عليه، وإلى أَمدٍ قَصيرٍ مَداهُ، ودَنا مُنتهاهُ لدِينٍ جَديدٍ. والمَسيحِيَّةُ بنَفْسِها تَعلمُ ذلك، وتَنُصُّ عليه، وتُبَشِّرُ به، فكانت مُعتَدِيةً على الحَقَّيْنِ معًا: حَقِّ الله في بَيتِه، والَّذي تَعلَمُ حُرْمتَه وما لَه، وحَقِّ العِبادِ الَّذين حَولَه [23] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/107). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (32/290). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ الهَمْزةُ للاستفهامِ التَّقريريِّ، وهو يُفيدُ نفْيَ المُقرَّرِ بإثباتِه؛ للثِّقةِ بأنَّ المُقرَّرَ لا يَسَعُه إلَّا إثباتُ المَنفيِّ، والتَّقريرُ مُستعمَلٌ في التَّكريمِ؛ إشارةً إلى أنَّ ذلك كان إرهاصًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه مع ذلك تَعريضٌ بكُفرانِ قُرَيشٍ نِعمةً عَظيمةً مِن نِعَمِ اللهِ عليهم؛ إذْ لم يَزالوا يَعبُدون غيرَه [24] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/544، 545)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/585). !
- وتَعليقُ الرُّؤيةِ بكَيفيَّةِ فِعلِه عزَّ وجَلَّ لا بنفْسِه، وإيثارُ كَيْفَ دونَ غيرِه مِن أسماءِ الاستِفهامِ، أو المَوصولِ، فلم يقلْ: (ألم تَرَ ما فعَل ربُّك)، أو (الَّذي فعَلَ ربُّكَ)؛ للدَّلالةِ على حالةٍ عَجيبةٍ يَستحضِرُها مَن يَعلمُ تَفصيلَ القِصَّةِ، ولتَهويلِ الحادثةِ، والإيذانِ بوُقوعِها على كَيفيَّةٍ هائلةٍ، وهَيئةٍ عَجيبةٍ دالَّةٍ على عِظَمِ قُدرةِ اللهِ تعالَى، وكَمالِ عِلمِه وحِكمتِه، وعِزَّةِ بَيتِه، وشَرَفِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ ذلك مِن الإرهاصاتِ؛ إذ رُوِيَ أنَّها وَقَعَت في السَّنةِ الَّتي وُلِدَ فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [25] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/339)، ((تفسير أبي السعود)) (9/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/545). .
- وأيضًا أُوثِرَ لَفظُ فَعَلَ رَبُّكَ دونَ غيرِه؛ لأنَّ مَدلولَ هذا الفِعلِ يعُمُّ أعمالًا كَثيرةً لا يدُلُّ عليها غيرُه [26] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/545). .
- وجِيءَ في تَعريفِ اللهِ سُبحانَه بوَصْفِ (ربّ) مُضافًا إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إيماءً إلى أنَّ المَقصودَ مِن التَّذكيرِ بهذه القصَّةِ تَكريمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَشريفُه وإشادةٌ مِن ذِكْرِه، إرْهاصًا لنُبوَّتِه؛ إذ كان ذلك عامَ مَولِدِه، كأنَّه قال: ربُّك مَعبودُك هو الَّذي فعَلَ ذلك، لا أصنامُ قُرَيشٍ؛ إسافٌ، ونائلةُ، وغيرُهما [27] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/544)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/545، 546). .
2- قولُه: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ بَيانٌ إجْماليٌّ لِمَا فعَلَه الله تعالَى بهمْ، والهمْزةُ للتَّقريرِ؛ ولذلكَ عُطِفَ على الجملةِ الاستفهاميَّةِ ما بَعْدَها [28] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/548)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/586). .
- وسمَّى حَرْبَهم كَيدًا؛ لأنَّه عمَلٌ ظاهرُه الغضَبُ مِن فِعلِ الكِنانيِّ الَّذي قَعَدَ في القُلَّيسِ [29] القُلَّيس: بِيعةٌ كانت بصنعاءَ اليَمينِ للحبشةِ، بناها أبرهةُ وهدمَتْها حِمْيَرُ. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (3/966)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (16/392). ، وإنَّما هو تَعِلَّةٌ تَعلَّلوا بها لإيجادِ سَببٍ لحرْبِ أهلِ مكَّةَ وهدْمِ الكَعبةِ؛ ليَنصرِفَ العرَبُ إلى حَجِّ القُلَّيسِ في صَنعاءَ فَيَتنصَّروا. أو أُريدَ بكَيدِهم بناؤُهم القُلَّيسَ مُظهِرينَ أنَّهم بَنَوْا كَنيسةً وهم يريدون أنْ يُبطِلوا الحجَّ إلى الكَعبةِ، ويَصرِفوا العربَ إلى صَنعاءَ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/548). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (32/291). .
- والتَّضليلُ: جَعْلُ الغيرِ ضالًّا، أي: لا يَهتدي لمُرادِه، وهو هنا تَعبيرٌ عن الإبطالِ، وعدَمِ نَوالِ المَقصودِ؛ لأنَّ ضَلالَ الطَّريقِ عدَمُ وُصولِ السَّائرِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/548). .
- وعُبِّرَ بحَرْفِ الظَّرفيَّةِ عن معْنى المُصاحَبةِ الشَّديدةِ، أي: أبطَلَ كَيدَهم بتَضليلٍ، أي: مُصاحِبًا للتَّضليلِ لا يُفارِقُه [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/548، 549). .
3- قولُه: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ يَجوزُ أنْ يُجعَلَ مَعطوفًا على جُملةِ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل: 1] ، أي: وكيف أرسَلَ عليهم طَيرًا مِن صِفتِها كَيْتَ وكَيتَ؛ فبَعْدَ أنْ وَقَعَ التَّقريرُ على ما فَعَلَ اللهُ بهم مِن تَضليلِ كَيدِهم، عُطِفَ عليه تَقريرٌ بعِلمِ ما سُلِّطَ عليهم مِن العِقابِ على كَيدِهم؛ تَذكيرًا بما حلَّ بهم مِن نِقمةِ اللهِ تعالَى لقَصْدِهم تَخريبَ الكَعبةِ، فذلك مِن عِنايةِ اللهِ ببَيتِه؛ لإظْهارِ تَوطئتِه لبَعثةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدِينِه في ذلك البلَدِ، إجابةً لدَعوةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فكما كان إرسالُ الطَّيرِ عليهم مِن أسبابِ تَضليلِ كَيدِهم، كان فيه جَزاءٌ لهم؛ ليَعلَموا أنَّ اللهَ مانِعٌ بَيتَه، وتكونَ جُملةُ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ مُعترِضةً بيْنَ الجُملتَينِ المُتعاطِفتَينِ. ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ عطْفًا على جُملةِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، فيكونَ داخلًا في حيِّزِ التَّقريرِ الثَّاني بأنَّ اللهَ جَعَل كَيدَهم في تَضليلٍ، وخُصَّ ذلك بالذِّكرِ؛ لجمْعِه بيْنَ كونهِ مُبطِلًا لكَيدِهم، وكَونِه عُقوبةً لهم. ومِجيءُ وَأَرْسَلَ بلَفظِ الماضي باعتِبارِ أنَّ المضارِعَ في قولِه: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قُلِبَ زَمانُه إلى المُضِيِّ؛ لدُخولِ حرْفِ (لمْ)، فكأنَّه قيل: أليسَ جَعَل كَيدَهم في تَضليلٍ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/549). ؟
- وقال: طَيْرًا على التَّنكيرِ: إمَّا للتَّحقيرِ؛ فإنَّه مهما كان أحقَرَ كان صُنعُ اللهِ أعجَبَ وأكبَرَ، أو للتَّفخيمِ، كأنَّه يقولُ: طَيرًا وأيُّ طيرٍ؟ تَرمي بحجارةٍ صغيرةٍ فلا تُخطِئُ المَقتَلَ [34] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/291). !
- وأَبَابِيلَ، أيْ: طوائفَ وجَماعاتٍ، جمْعُ إبَّالةٍ -على قولٍ-، وهيَ الحُزمةُ الكبيرةُ مِن الحطَبِ، شُبِّهَتْ بها الجَماعةُ مِن الطَّيرِ في تَضامِّها، فوَصْفُ الطَّيرِ بـ أَبَابِيلَ على وَجْهِ التَّشبيهِ البَليغِ [35] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/799)، ((تفسير البيضاوي)) (5/339)، ((تفسير أبي السعود)) (9/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/549، 550). .
4- قولُه: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ حالٌ مِن طَيْرًا، وجِيءَ بصِيغةِ المُضارعِ؛ لاستحضارِ الحالةِ، بحيث تُخيَّلُ للسَّامعِ كالحادثةِ في زمَنِ الحالِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/550). .
5- قولُه: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ العصْفُ: وَرَقُ الزَّرعِ، وهو جمْعُ عَصْفةٍ. والعصْفُ إذا دَخَلَتْه البهائمُ فأكَلَتْه داسَتْه بأرجُلِها وأكَلَت أطرافَه، وطَرَحَتْه على الأرضِ بعدَ أنْ كان أخضَرَ يانعًا، أو شُبِّهوا بتِبْنٍ أكَلَتْه الدَّوابُّ وَراثَتْه، ولكنَّه جاء على ما عليه آدابُ القرآنِ، كقولِه: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] ، أو شُبِّهوا بورَقِ الزَّرعِ إذا أُكِل، أي: وقَعَ فيه الأُكالُ، وهو أنْ يَأكُلَه الدُّودُ، أو أُرِيدَ: الَّذي أُكِلَ حَبُّه، فبَقِيَ فارغًا. وهذا تَمثيلٌ لحالِ أصحابِ الفيلِ بعْدَ تلك النَّضْرةِ والقُوَّةِ، كيف صاروا مُتساقِطينَ على الأرضِ هالِكينَ [37] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/800)، ((تفسير البيضاوي)) (5/339)، ((تفسير أبي حيان)) (10/545)، ((تفسير أبي السعود)) (9/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/551). !