موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (28-32)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غَريبُ الكَلِماتِ:

خَامِدُونَ: أي: مَيِّتونَ هالِكونَ، وأصلُ (خمد): يدُلُّ على سُكونِ الحَركةِ، والسُّقوطِ .
يَا حَسْرَةً: الحسرةُ: التَّلهُّفُ والاغتِمامُ على ما فاتَ ولا يمكِنُ ارتجاعُه، وهي أشدُّ النَّدامةِ، وأصلُ (حسر): كشْفُ الشَّيءِ، فالحسرةُ انكشافٌ عن حالِ النَّدامةِ .
الْقُرُونِ: جمعُ قَرْنٍ، والقَرنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المَقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غير مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّةُ القرنِ مِئةُ سَنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شَيئَينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
(كم) هنا خَبَريَّةٌ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ بـ أَهْلَكْنَا، والتَّقديرُ: كثيرًا مِن القرونِ أهلَكْنا. وهي مُعَلِّقَةٌ لـ يَرَوْا عن العمَلِ ذَهابًا بالخَبريَّةِ مذهَبَ الاستِفهاميَّةِ. وقيل: (كم) استفهاميَّةٌ، وعلى كُلٍّ فالجُملةُ كَمْ أَهْلَكْنَا سَدَّت مَسَدَّ مَفعولَي يَرَوْا؛ لأنَّ الرُّؤيةَ عِلميَّةٌ، وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مَصدَرٌ مُؤوَّلٌ في موضعِ نَصبٍ، بَدَلٌ مِن محلِّ كَمْ أَهْلَكْنَا على تقديرِ: ألم يَرَوا أنَّ القُرونَ الَّذين أهلَكْناهم أنَّهم إليهم لا يَرجِعونَ. وقيل: المصدرُ المؤوَّلُ في محلِّ نَصبٍ على نزعِ الخافِضِ متعلق بـ أَهْلَكْنَا، أي: بأنَّهم، وكأنَّه قيل: أهلَكْناهم بأنَّهم لا يَرجِعونَ، أي: بهذا الضَّربِ مِن الهلاكِ. وقيل: المصدَرُ المؤوَّلُ مَعمولٌ لفِعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ، والمعنى: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنَّهم لا يَرجِعونَ .
قَولُه تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
(إِنْ) نافيةٌ، و كُلٌّ مُبتدأٌ وتنوينُه عِوَضٌ عن المضافِ إليه، ولَمَّا بمعنى (إلَّا) الاستِثنائيَّةِ، وجَمِيعٌ خبَرُ المبتدأِ كُلٌّ، ولَدَيْنَا ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بـ جَمِيعٌ؛ لأنَّه بمعنى مَفعولٍ، أي: مجموعونَ، أو مُتعَلِّقٌ بـ (مُحضَرون)، و (مُحْضَرُونَ) خبَرٌ ثانٍ لـ (كُلٌّ)، أو نعتٌ لـ جَمِيعٌ وجُمِعَ على المعنى، والمعنى: ما كُلُّهم إلَّا مجموعونَ لدينا، مُحضَرون للحِسابِ والجزاءِ. وقُرِئَ لَمَا بالتَّخفيفِ ؛ وعليه فـ (إنْ) مُخفَّفةٌ مِن الثَّقيلةِ، واللَّامُ في لَمَا فارقةٌ، و(ما) مَزيدةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: وإنَّ الشَّأنَ كُلٌّ لَجميعٌ لدينا مُحضَرونَ، وهذا مَذهَبُ البصريِّينَ، وذهب الكوفيُّونَ إلى أنَّ (إنْ) نافيةٌ، واللَّامُ في لَمَا بمَعنى (إلَّا)، و (ما) مزيدةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى كما في قِراءةِ التَّشديدِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا ما نزَل بأصحابِ القريةِ مِن عذابٍ أهلَكهم: وما أنزَلْنا على قَومِ ذلك الرَّجُلِ المؤمِنِ -بعدَ أن قتَلوه- ملائِكةً مِن السَّماءِ لإهلاكِهم، وما كُنَّا مُنزِلينَ؛ فما كانت عُقوبتُهم إلَّا صَيحةً واحِدةً، فإذا هم ميِّتون هامِدونَ! يا حَسرةً على العِبادِ؛ فما يأتيهم في الدُّنيا مِن رَسولٍ إلَّا استَهزؤوا به!
ألم يَرَوْا أنَّنا أهلَكْنا كثيرًا مِن الأُمَمِ السَّابقةِ عليهم؛ بسَبَبِ إصرارِهم على كُفرِهم، واستِهزائِهم برُسُلِهم، وأنَّ هؤلاء المُهلَكينَ لا يَرجِعون إليهم؟! وما مِن أمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا وستُحضَرُ إلينا يومَ القيامةِ؛ لِنُحاسِبَها على أعمالِها.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن بيَّن تعالى حالَ النَّاصحِ الشَّهيدِ، ودُخولَه الجنَّةَ- أردَف ذلك ذِكرَ حالِ المتخَلِّفينَ المُخالِفينَ له .
وأيضًا فهو رُجوعٌ إلى قِصَّةِ أصحابِ القريةِ بعدَ أن انقَطَعَ الحديثُ عنهم بذِكْرِ الرَّجُلِ المؤمنِ الَّذي جاءَ مِن أقصَى المدينةِ ناصحًا لهم، وكان هذا الرُّجوعُ بمُناسَبةِ أنَّ القومَ قومُ ذلك الرَّجُلِ .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28).
أي: وما أنزَلْنا على قَومِ الرَّجُلِ المؤمِنِ -مِن بَعدِ قَتلِهم له- مَلائِكةً مِنَ السَّماءِ لإهلاكِهم، وما كُنَّا مُنزِلينَ لهم .
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29).
أي: ما كانت عُقوبةُ أصحابِ القَريةِ إلَّا صَيحةً واحِدةً بلا تَكرارٍ؛ فإذا هم مَيِّتونَ هامِدونَ .
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30).
أي: يا حَسرةً على العِبادِ ؛ فإنَّهم لا يأتيهم في الدُّنيا رَسولٌ مِن رُسُلِ اللهِ إلَّا وَقَعوا في الاستِهزاءِ به !
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله سبحانَه حالَ الأوَّلينَ؛ نبَّه الحاضِرينَ ، فقال تعالى:
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31).
أي: ألم يَرَوُا الأُمَمَ الماضيةَ الكثيرةَ الَّتي أهلَكْناها؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم، أو استِهزائِهم برُسُلِ اللهِ: كيف لم تكُنْ لهم رَجعةٌ إليهم ؟
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان كثيرٌ مِن أهلِ الجَهلِ وذَوي الحَمِيَّةِ والأنَفةِ لا يُبالون بالهَلاكِ في مُتابعةِ الهوى؛ اعتمادًا على أنَّ مَوتةً واحِدةً في لحظةٍ يَسيرةٍ أهْوَنُ مِن حَملِ النَّفْسِ على ما لا تُريدُ، فيكونُ لهم في كُلِّ حينٍ مَوتاتٌ- أخبَرَ تعالى أنَّ الأمرَ غيرُ مُنقَضٍ بالهلاكِ الدُّنيويِّ، بل هناك مِن الخِزيِ والذُّلِّ والهَوانِ والعُقوبةِ والإيلامِ ما لا يَنقضي أبدًا، فقال :
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32).
أي: إنَّ كُلَّ الأممِ ستُحضَرُ يومَ القيامةِ عندَ اللهِ مُجتَمِعينَ للحِسابِ والجَزاءِ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أنْ يَنظُرَ ويَعتبِرَ؛ بحيثُ إذا نَظَرَ في عواقبِ النَّاسِ اتَّخَذَ مِن ذلك عِبرةً؛ لأنَّ الاستِفهامَ هنا -مع كَونِه للتَّقريرِ- مُفيدٌ للتَّوبيخِ؛ لأنَّ الواجِبَ على مَن نَظَر في عاقبةِ المكذِّبِينَ أن يَرتدِعَ عن الكَذِبِ .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ وُجوبُ الاستِعدادِ لهذا اليومِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يُخبِرْنا به لمجرَّدِ الاطِّلاعِ، ولكِنَّه أخبَرَنا به مِن أجْلِ أن نستعِدَّ له حتَّى نكونَ على أُهْبةٍ لِمَا سنُحاسَبُ عليه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: مِنَ السَّمَاءِ أنَّ الملائكةَ مَحَلُّهُم السَّمَواتُ -وهذا هو الأصلُ-، لكنَّهم قد يَنْزِلُون إلى الأرضِ، كما في قولِه تعالى في لَيلةِ القَدْرِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر: 4] ، وكالملائكةِ الَّذين يَحفظون بني آدمَ، والَّذين يَكتُبون أعمالَهم، والَّذين يَكتُبون المُتَقَدِّمِينَ إلى الجُمُعةِ -على أبوابِ المساجِدِ-، وما أشْبَهَ ذلك .
2- قولُه تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا، وقولُه: وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ إنزالَ الجُنودِ مِن عَظائمِ الأمورِ الَّتي لا يُؤهَّلُ لها إلَّا مِثلُ النَّبيِّ محمَّدٍ الَّذي أُنزِلَت له الملائكةُ يومَ بَدْرٍ والأحزابِ، وهذا إشارةٌ إلى تَفضيلِ اللهِ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بكلِّ شَيءٍ على كِبارِ الأنبياءِ وأُولي العَزْمِ مِن الرُّسلِ، فَضلًا عن غَيرِهم .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً بيانُ ذُلِّ كُلِّ شيءٍ لِعَظَمتِه سُبحانَه؛ بحيثُ لا يُكرِّرُ ولا يُعيدُ ما أرادَه؛ لهذا أكَّدَها بـ وَاحِدَةً؛ لبيانِ أنَّهم لم يَحتاجوا إلى إعادةِ الصَّيحةِ مرَّةً ثانيةً، وهكذا جميعُ ما أمَرَ اللهُ تعالى به كَوْنًا؛ فإنَّه لا يَحتاجُ إلى إعادةٍ؛ لِقَولِه تعالى في سورةِ (القمرِ): وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].
4- في قَولِه تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ نَصٌّ صريحٌ في تكذيبِ الأُمَمِ لجَميعِ الرُّسُلِ؛ لِما تقَرَّر في الأصولِ مِن أنَّ النَّكِرةَ في سياقِ النَّفيِ إذا زِيدَتْ قبْلَها «مِن» فهي نَصٌّ صريحٌ في عُمومِ النَّفيِ .
5- في قَولِه تعالى: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ردٌّ على القائِلينَ بالرَّجْعةِ !

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ
- قولُه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يَتشوَّفُ إلى مَعرفةِ ما كان مِن هذا الرَّجُلِ المؤمنِ الَّذي جاء مِن أقْصى المدينةِ ناصحًا لِأهْلِها، ومِن أمْرِ قَومِه الَّذين نَصَحهم فلمْ يَنتصِحوا؛ فلمَّا بُيِّن للسَّامعِ ما كان مِن أمْرِه، عُطِفَ عليه بَيانُ ما كان مِن أمْرِ القومِ بعْدَه، وافتتاحُ قِصَّةِ عِقابِهم في الدُّنيا بنَفْيِ صُورةٍ مِن صُوَرِ الانتقامِ، تَمهيدٌ للمَقصودِ مِن أنَّهم ما حلَّ بهم إلَّا مِثلُ ما حلَّ بأمثالِهم مِن عَذابِ الاستئصالِ . أو كلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لاحتقارِ أمْرِهم، أي: لا حاجةَ إلى إرسالِ جُنودٍ لهم؛ فأقَلُّ شَيءٍ كافٍ لإبادتِهم، واستِئصالِ شأْفَتِهم .
- وأسنَد الفعلَ أَنْزَلْنَا إلى نفْسِه بلفظِ التَّعظيمِ؛ لأنَّ العذابَ هو مِن بابِ الهَيبةِ .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِهِ صِلةٌ في الظَّرفِ؛ لِتَأكيدِ اتِّصالِ المظروفِ بالظَّرفِ، و(مِن) في قولِه: مِنْ جُنْدٍ مُؤكِّدةٌ لِعُمومِ جُنْدٍ في سِياقِ النَّفيِ، و(مِن) في قولِه: مِنَ السَّمَاءِ ابتدائيَّةٌ، وفي الإتيانِ بحَرْفِ (مِن) ثلاثَ مرَّاتٍ مع اختلافِ المعنى مُحسِّنُ الجِناسِ .
- وفي هذا تَعريضٌ بالمشركينَ مِن أهلِ مكَّةَ؛ إذ قالوا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] ، أي: تأْتيَ باللهِ الَّذي تَدَّعِي أنَّه أرسَلَك ومعه جُندُه مِن الملائكةِ؛ لِيَثأرَ لك، فجُملةُ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ مُعترِضةٌ بيْنَ نَوعَيِ العِقابِ المنفيِّ والمُثبَتِ؛ لِقَصدِ الرَّدِّ على المشركينَ بأنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى لم تَجْرِ بإنزالِ الجُنودِ على المكذِّبينَ، وشأْنُ العاصينَ أدْوَنُ مِن هذا الاهتِمامِ .
2- قولُه تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
- قولُه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ الصَّيحةُ: المرَّةُ مِن الصِّياحِ، بوَزنِ فَعلةٍ؛ فوَصْفُها بـ وَاحِدَةً تأْكيدٌ لِمَعنى الوَحدةِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المُرادَ الجِنسُ المفرَدُ مِن بيْنِ الأجناسِ .
- وأكَّدَ أمْرَ الصَّيحةِ، وحقَّقَ وَحْدتَها بقولِه: وَاحِدَةً، أي: لِحَقارةِ أمْرِهم عِندَنا، ثمَّ زادَ في تَحقيرِهم ببَيانِ الإسراعِ في الإهلاكِ بقولِه: فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، أي: ثابتٌ لهم الخُمودُ، كأنَّهم ما كانتْ لهم حَركةٌ يومًا مِن الدَّهرِ .
- قولُه: فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ مَجِيءُ (إذا) الفُجائيَّةِ في الجُمْلةِ المُفرَّعةِ على إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً؛ لإفادةِ سُرعةِ الخُمودِ إليهم بتلك الصَّيحةِ، وفيه إيجازٌ بَديعٌ يُشيرُ إلى حَدَثٍ عظيمٍ حدَثَ بأهْلِ تلك القريةِ عَقِبَ دَعوةِ المرسَلينَ .
- وفي قولِه: فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ تَشبيهٌ بَليغٌ؛ شبَّهَهم بالنَّارِ الخامدةِ الَّتي صارتْ رَمادًا؛ رَمْزًا إلى أنَّ الحيَّ كالنَّارِ السَّاطعةِ في الحَرَكةِ والالتهابِ، والمَيتَ كالرَّمادِ . وفي ذلك تَوعُّدٌ لِقُريشٍ أنْ يُصِيبَهم ما أصابَهم؛ إذ همُ المَضروبُ لهم المثَلُ .
- وذُكِرَت الصَّيحةُ مرَّتينِ؛ في قولِه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، وقولِه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 53] ، وليس بتَكرارٍ؛ لأنَّ الأُولى هي عقوبةُ أهلِ القريةِ، والثَّانيةَ هي النَّفخةُ الَّتي يَحْيا بها الخلْقُ .
3- قولُه تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ تَذْييلٌ، وهو مِن كَلامِ اللهِ تَعالى -على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ- واقِعٌ مَوقِعَ الرِّثاءِ للأُمَمِ المُكذِّبةِ الرُّسُلَ، شامِلٌ للأُمَّةِ المقصودةِ بِسَوْقِ الأمثالِ السَّابقةِ مِن قَولِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ، واطِّرادِ هذا السَّنَنِ القَبيحِ فيهم؛ فالتَّعريفُ في العِبادِ تَعريفُ الجِنسِ المُستعمَلِ في الاستِغراقِ، وهو استِغراقٌ ادِّعائيٌّ رُوعِيَ فيه حالُ الأغلَبِ على الأُمَمِ الَّتي يَأتيها رسولٌ؛ لعَدَمِ الاعتدادِ في هذا المَقامِ بقِلَّةِ الَّذين صدَّقوا الرُّسُلَ ونَصَروهم، فكأنَّهم كُلَّهم قد كذَّبوا .
- قَولُه: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ... حرْفُ النِّداءِ للتَّنبيهِ على خَطَرِ ما بعْدَه؛ لِيُصْغيَ إليه السَّامِعُ، وهو أَوْكَدُ وأبلَغُ لِتَنبيهِ المُخاطَبِ بالنِّداءِ على المَطْلوبِ .
- والتَّنكيرُ في قَولِه: يَا حَسْرَةً دلَّ على شِدَّةِ تَحَسُّرِ العِبادِ المُكَذِّبينَ للرُّسُلِ -وذلك على قولٍ-؛ وأنَّها حَسرةٌ عَظيمةٌ؛ لأنَّ التَّنكيرَ يُفيدُ أحيانًا التَّعظيمَ والشِّدَّةَ .
- وجُملةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ... كَلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لِتَعليلِ التَّحسُّرِ عليهم؛ لأنَّ قَولَه: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ وإنْ كان قد وَقَعَ بعدَ ذِكْرِ أهْلِ القَريةِ؛ فإنَّه لَمَّا عُمِّمَ على جَميعِ العِبادِ حدَثَ إيهامٌ في وَجهِ العُمومِ، فوَقَعَ بيانُه بأنَّ جميعَ العِبادِ -على أحد الأقوالِ- مُساوونَ لِمَن ضُرِبَ بهم المَثَلُ ومَن ضُرِبَ لهم في تلك الحالةِ المُمثَّلِ بها، ولم تَنفَعْهم المَواعظُ والنُّذُرُ البالِغةُ إليهم مِن الرَّسولِ المُرسَلِ إلى كُلِّ أُمَّةٍ منهم، فهَلَكوا؛ فعُلِمَ وَجْهُ الحَسْرةِ عليهم إجْمالًا مِن هذه الآيةِ، ثمَّ تَفصيلًا مِن قَولِه بعدُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا [يس:31] إلخ .
- وقيلَ: قَولُه: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ تَمثيلٌ لِقُريشٍ، وهُم الَّذين عاد عليهم الضَّميرُ في قَولِه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا .
- وتَقديمُ المجرورِ مِنْ رَسُولٍ على يَسْتَهْزِئُونَ؛ للاهتِمامِ بالرَّسولِ المُشعِرِ باستِفظاعِ الاستِهزاءِ به مع تأتِّي الفاصلةِ بهذا التَّقديمِ، فحَصَلَ منه غَرَضانِ: مِن علمِ المعاني، ومِن علمِ البَديعِ ؛ فالتَّقديمُ والتَّأخيرُ مِن المعاني، والرِّعايةُ على الفاصلةِ مِن البديعِ.
4- قولُه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ
- قَولُه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ بَيانٌ لِجُملةِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30] ؛ لِما فيها مِن تَفْصيلِ الإجمالِ المُسْتفادِ منه؛ فإنَّ عاقِبةَ ذلك الاستِهزاءِ بالرَّسولِ كانت هَلاكَ المُستَهزِئينَ، فعَدَمُ اعتبارِ كُلِّ أُمَّةٍ كذَّبتْ رسولَها بعاقِبةِ المُكذِّبينَ قَبْلَها يُثيرُ الحَسْرةَ عليها وعلى نُظَرائِها كما أثارَها استِهزاؤُهم بالرَّسولِ، وقِلَّةُ التَّبصُّرِ في دَعْوتِه ونِذارتِه ودَلائِلِ صِدقِه .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يجوزُ أنْ يكونَ إنكاريًّا، ونُزِّلتْ غَفلَتُهم عن إهْلاكِ القُرونِ مَنزلةَ عَدَمِ العِلمِ، فأُنكِرَ عليهم عَدَمُ العِلمِ بذلك، وهو أمْرٌ مَعلومٌ مَشهورٌ. ويجوزُ كَونُ الاستِفهامِ تَقريريًّا، بُنِيَ التَّقريرُ على نَفيِ العِلمِ بإهلاكِ القرونِ؛ استِقصاءً لِمَعذِرَتِهم حتَّى لا يَسَعَهم إلَّا الإقرارُ بأنَّهم عالِمونَ، فيَكونَ إقرارُهم أشَدَّ لُزومًا لهم؛ لأنَّهم استُفْهِموا على النَّفيِ، فكان يَسَعُهم أنْ يَنفُوا ذلك .
- قَولُه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ (كَمْ) مُفادُها كَثرةٌ مُبهَمةٌ فُسِّرتْ بقَولِه: مِنَ الْقُرُونِ، وقَولُه: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ قيل: بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُمْلةِ أَهْلَكْنَا، وفائِدةُ هذا البَدَلِ تَقريرُ تَصْويرِ الإهْلاكِ؛ لزِيادةِ التَّخويفِ، ولاستِحضارِ تلك الصُّورةِ في الإهْلاكِ، أي: إهْلاكًا لا طماعيةَ معه لِرُجوعٍ إلى الدُّنيا؛ فإنَّ ما يَشتمِلُ عليه الإهلاكُ مِن عَدَمِ الرُّجوعِ إلى الأهْلِ والأحبابِ ممَّا يَزيدُ الحَسْرةَ اتِّضاحًا .
- قولُه: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ مُتعلِّقٌ بـ يَرْجِعُونَ، وقُدِّم على مُتعلَّقِه؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ .
5- قولُه تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ بَيانٌ لرُجوعِ الكُلِّ إلى المَحْشرِ، بعدَ بَيانِ عَدَمِ الرُّجوعِ إلى الدُّنيا .
- وهو مَعطوفٌ على جُمْلةِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ [يس: 31] ، واقِعٌ مَوقِعَ الاحتِراسِ مِن توهُّمِ المُخاطَبينَ بالقُرآنِ أنَّ قَولَه: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مُؤيِّدٌ اعتِقادَهم انتِفاءَ البَعْثِ .
- وجاءتْ هذه الجُملةُ بعدَ ذِكرِ الإهْلاكِ تَبْيينًا أنَّه تَعالى ليس مَن أهْلَكَه يُتْرَكُ، بل بعدَ إهْلاكِهم جَمْعٌ وحِسابٌ، وثَوابٌ وعِقابٌ؛ ولذلك أُعقِبَ هذا بما يدُلُّ على الحَشرِ مِن قَولِه: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وما بعدَه مِن الآياتِ .
- قَولُه: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ أي: كُلُّ القُرونِ مُحضَرونَ لدينا مُجتَمِعينَ، أي: ليس إحضارُهم في أوْقاتٍ مُختلِفةٍ، ولا في أمْكنةٍ مُتعدِّدةٍ؛ فكلمةُ (كُلٌّ) أفادتْ أنَّ الإحضارَ مُحيطٌ بهم بحيث لا يَنفلِتُ فريقٌ منهم، وكلمةُ جَمِيعٌ أفادتْ أنَّهم مُحضَرونَ مُجتمِعينَ، فليست إحدى الكلمتَينِ بمُغْنيةٍ عن ذِكرِ الأُخرَى، ألَا ترى أنَّه لو قيلَ: وإنَّ أكثَرَهم لَمَّا جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرونَ، لَمَا كان تَنافٍ بيْنَ أكثَرِهم وبيْنَ (جَميعِهم)، أي: أكثَرُهم يَحضُرُ مُجتمِعينَ، فارتَفَعَ جَمِيعٌ على الخَبَريَّةِ .
- وتَقديمُ الظَّرفِ لَدَيْنَا على مُحْضَرُونَ؛ لمُراعاةِ الفَواصِلِ .