موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (20-27)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَقْصَى: أي: آخِرِ، وأصلُ (قصي): يدُلُّ على البُعدِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/200)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 673). .
 فَطَرَنِي: أي: خَلَقَني، وأصلُ الفَطرِ: الشَّقُّ، فكُلُّ مَن أظهَرَ أمرًا اختَرَعه على غيرِ مِثالٍ يُقالُ: قد فطَرَه، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتْحِ شَيءٍ وإبرازِه [183] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((البسيط)) للواحدي (12/255)، ((المفردات)) للراغب (ص: 382)، ((تفسير البغوي)) (4/182). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: وجاء رجُلٌ مُؤمِنٌ مِن أبعَدِ مَوضِعٍ في المدينةِ مُسرِعًا إلى القَومِ الَّذين كذَّبوا الرُّسُلَ الثَّلاثةَ، قال: يا قَومِ اتَّبِعوا هؤلاء الرُّسُلَ؛ اتَّبِعوا مَن لا يَسألُكم أجرًا على البلاغِ، وهم على الحَقِّ مُهتَدونَ.
ثمَّ بيَّن الأسبابَ الَّتي حمَلَتْه على الإيمانِ، فقال: وما لي ألَّا أعبُدَ اللهَ الَّذي خلَقَني مِن العدَمِ، والَّذي إليه وَحْدَه تُرجَعونَ؟! أأتَّخِذُ مِن دونِ اللهِ آلِهةً لا تَدفَعُ عنِّي ضُرًّا إن أراده بي الرَّحمنُ، ولا يُخلِّصونَني مِن هذا الضُّرِّ؟! إنِّي إن فعَلْتُ ذلك لَفي ضلالٍ مُبينٍ.
ثمَّ أعلَن إيمانَه بكلِّ صراحةٍ وقوَّةٍ، فقال: إنِّي آمَنتُ برَبِّكم فاسمَعوا قَولي.
قيل لهذا الرَّجُلِ المؤمِنِ حينَ قتَلَه قومُه: ادخُلِ الجنَّةَ. قال: يا لَيْتَ قَومي يَعلَمونَ بمَغفْرةِ رَبِّي لي، وجَعْلِه لي مِن المُكرَمينَ بدُخولِ جنَّتِه!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20).
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى.
أي: وجاء رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِن طَرَفِ المدينةِ؛ مِن أبعَدِ مَوضِعٍ فيها، مُسرِعًا إلى القَومِ الَّذين كَذَّبوا الرُّسُلَ الثَّلاثةَ [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/419)، ((الوسيط)) للواحدي (3/512)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/109)، ((تفسير العليمي)) (5/475)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 71، 72). قال ابن جرير: (ذلك أنَّ أهلَ مَدينتِه هذه عزَموا واجتمَعَت آراؤُهم على قَتلِ هؤلاء الرُّسُلِ الثَّلاثةِ، فيما ذُكِرَ، فبلَغ ذلك هذا الرَّجُلَ). ((تفسير ابن جرير)) (19/419). .
قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
أي: قال: يا قَومِ اتَّبِعوا هؤلاءِ الرُّسُلَ الَّذين أرسَلَهم اللهُ إليكم [185] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/577)، ((تفسير ابن جرير)) (19/421)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570). .
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21).
أي: اتَّبِعوا مَن لا يَسألُكم على تبليغِ رِسالةِ اللهِ أيَّ أجرٍ دُنيويٍّ، وهم مُتَّصِفونَ بأنَّهم ثابِتونَ ومُستَقيمونَ على الحَقِّ الَّذي يَدْعونَكم إليه؛ فاتَّبِعوهم تهتَدوا [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/421، 422)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/367). قال ابن عثيمين: (قَولُه: وَهُمْ مُهْتَدُونَ يحتمِلُ أن تكونَ الواوُ للاستئنافِ، وهو الأقرَبُ؛ لبيانِ حالِ هؤلاء الدُّعاةِ أنَّهم على هدًى، ويحتمِلُ أن تكونَ للحالِ، أي: لا يَسألونَكم أجرًا مع كَونِهم مُهتدينَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 74). .
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22).
أي: وما الَّذي يَمنَعُني مِن عبادةِ اللهِ الَّذي خلَقَني مِن العَدَمِ، والَّذي إليه وَحْدَه تُرجَعونَ، فيُجازيكم على أعمالِكم [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/422)، ((تفسير القرطبي)) (15/18)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570). ؟!
كما قال تعالى حكايةً عن قَولِ هودٍ عليه السَّلامُ لِقَومِه: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [هود: 51] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 26، 27].
وقال تعالى حِكايةً عن قَولِ سَحَرةِ فِرعَونَ: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه: 72].
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23).
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا.
أي: أأتَّخِذُ مِن دونِ اللهِ مَعبودًا سِواه؟! كلَّا؛ فإنَّ الرَّحمنَ إنْ أراد إصابَتي بضُرٍّ، فلا تمنَعُ هذه الآلِهةُ عنِّي أيَّ ضَرَرٍ [188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/422)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/294)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 80، 81). .
وَلَا يُنْقِذُونِ.
أي: ولا تَقدِرُ أن تخلِّصَني مِن الضَّرَرِ إن وقَعَ علَيَّ [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/422)، ((تفسير ابن كثير)) (6/571)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/294). .
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24).
أي: إنِّي إنِ اتَّخذتُ آلهةً هذه صِفتُها فإنِّي إذَنْ لَفي ضلالٍ مُبينٍ [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/422)، ((تفسير القرطبي)) (15/18)، ((تفسير ابن كثير)) (6/571). قيل: مُبِينٍ بمعنى: ظاهرٍ بيِّنٍ واضحٍ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/577)، ((تفسير السمرقندي)) (3/121)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6021)، ((تفسير القرطبي)) (15/18)، ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((تفسير النسفي)) (3/101)، ((تفسير الشوكاني)) (4/419). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (19/423). وقيل: مُبِينٍ بمعنى: واضِحٍ في نَفْسِه لمن لم يكُنْ مظروفًا له، ومُوضِّحٍ لكُلِّ ناظرٍ ما هو فيه مِن الظَّلامِ. قاله البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/112). .
إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25).
أي: إنِّي آمَنتُ برَبِّكم فاسمَعوا قَولي [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/423)، ((تفسير ابن عطية)) (4/451)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/112)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 90). قال الرازي: (في المخاطَبِ بقولِه: بِرَبِّكُمْ وُجوهٌ؛ أحَدُها: هُم المرسلُونَ، قال المفَسِّرونَ: أقْبَل القومُ عليه يُريدونَ قَتْلَه، فأَقْبَل هو على المرسَلينَ، وقال: إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكم فاسْمَعوا قولي، واشْهَدوا لي. وثانيها: هم الكفَّارُ، كأنَّه لَمَّا نَصَحَهم وما نَفَعَهم، قال: فأنا آمَنْتُ فاسمَعونِ. وثالثُها: بِرَبِّكم أيُّها السَّامِعونَ فاسْمَعونِ. على العُمومِ، كما قُلْنا في قولِ الواعظِ حيثُ يقولُ: يا مسكينُ، ما أكثَرَ أمَلَك! وما أنزَلَ عَمَلَك! يُريدُ به كُلَّ سامِعٍ يَسْمَعُه). ((تفسير الرازي)) (26/267). .
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26).
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ.
أي: قيل لهذا الرَّجُلِ المؤمِنِ حينَ قتَلَه قَومُه: ادخُلِ الجنَّةَ [192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/424)، ((تفسير القرطبي)) (15/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/113، 114)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/370)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 90). قال ابنُ جُزي: (واختُلِفَ: هل دخَلَها حينَ مَوتِه كالشُّهداءِ؟ أو هل ذلك بمعنى البِشارةِ بالجنَّةِ ورُؤيتِه لِمَقعدِه منها؟). ((تفسير ابن جزي)) (2/181). وممَّن اختار الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابنُ الجوزي، والقرطبي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/577)، ((تفسير ابن جرير)) (19/424)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/522)، ((تفسير القرطبي)) (15/20)، ((تفسير الشوكاني)) (4/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/370). قال الشوكاني: (قيلَ له ذلك؛ تكريمًا له بدُخولِها بعدَ قَتلِه، كما هي سُنَّةُ اللهِ في شُهَداءِ عبادِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/419). .
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27).
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الطَّبعُ البَشَريُّ داعيًا إلى محبَّةِ الانتقامِ ممَّن وقَعَ منه الأذَى؛ بيَّن سُبحانَه أنَّ الأصفياءَ على غيرِ ذلك الحالِ، فقال مُستأنِفًا [193] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/114). :
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27).
أي: قال: يا لَيْتَ قَومي يَعلَمونَ بمَغفِرةِ رَبِّي لِذُنوبي، وجَعْلِه لي مِنَ الَّذين أكرَمَهم بدُخولِ جنَّتِه؛ وذلك بسَبَبِ إيماني باللهِ ورُسُلِه [194] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/512)، ((تفسير أبي حيان)) (9/58)، ((تفسير ابن كثير)) (6/572)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/114)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/371)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 91-93). قال ابنُ كثير: (مَقصودُه أنَّهم لو اطَّلعوا على ما حَصَل مِن هذا الثَّوابِ والجزاءِ والنَّعيمِ المقيمِ، لَقادهم ذلك إلى اتِّباعِ الرُّسُلِ، فرحِمَه اللهُ ورَضِيَ عنه؛ فلقد كان حريصًا على هدايةِ قَومِه). ((تفسير ابن كثير)) (6/572). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله عزَّ وجَلَّ: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ في قَولِه تعالى: يَسْعَى تَبصِرةٌ للمُؤمِنينَ وهدايةٌ لهم؛ ليَكونوا في النُّصحِ باذِلينَ جُهدَهم [195] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/263). ، فوَصْفُ الرَّجُلِ بالسَّعيِ يُفيدُ أنَّه جاء مُسرِعًا، وأنَّه بلَغَه هَمُّ أهلِ المدينةِ برَجمِ الرُّسُلِ أو تعذيبِهم، فأراد أن يَنصَحَهم؛ خشيةً عليهم وعلى الرُّسُلِ. وهذا ثَناءٌ على هذا الرَّجُلِ يُفيدُ أنَّه ممَّن يُقتدَى به في الإسراعِ إلى تغييرِ المُنكَرِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/366). ، فيَنْبغي للإنسانِ أن يَنتهِزَ الفُرَصَ في إنذارِ قومِه ومُناصَحتِهم، وألَّا يَتَوَانَى، بل يُبادِرُ بالنَّصيحةِ والموعظةِ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 77). .
2- قال الله عزَّ وجلَّ: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ في قَولِه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ معنًى لطيفٌ؛ فإنَّه يُنبئُ عن إشفاقٍ عليهم وشَفَقةٍ؛ فإنَّ إضافتَهم إلى نفْسِه بقَولِه: يَا قَوْمِ يُفيدُ أنَّه لا يريدُ بهم إلَّا خيرًا [198] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/263). ، فيَنبغي التَّلطُّفُ بالقَولِ في دعوةِ الغَيرِ؛ فإنَّ هذا يَستوجِبُ اتِّباعَه، وقَبولَ نُصْحِه [199] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 77). .
3- في قَولِه تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ دَليلٌ على نَقصِ مَن يأخُذُ أجرًا على شَيءٍ مِن أفعالِ الشَّرعِ الَّتي هي لازِمةٌ له؛ كالصَّلاةِ [200] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/56). .
4- قال تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ فيَنبغي للدَّاعيةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يَترفَّعَ عن أخْذِ ما في أيدي النَّاسِ مِن الأموالِ -حتَّى وإنْ أَعْطَوه-؛ لأنَّه رُبَّما تَنْقُصُ مَنزِلتُه إذا قَبِلَ ما يُعْطَى مِن أجْلِ دعوتِه وموعظتِه [201] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 77). ولا يُستفادُ مِن الآيةِ عدَمُ جوازِ أخْذِ رزقٍ مِن بيتِ المالِ للدَّعوةِ والإرشادِ، وإن كان التَّنزُّهُ عن ذلك أَوْلى. يُنظر: ((المصدر السابق)) (ص: 78). .
5- في قَولِه تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ أنَّه يجِبُ على مَن دعا إلى اللهِ أن يكونَ على بَصيرةٍ وعلى عِلمٍ؛ لأنَّ هذا هو وَصْفُ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهم يَدْعونَ إلى اللهِ على هُدًى منه، وأمَّا مَن يدعو على غيرِ هدًى فإنَّه قد يُفسِدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ؛ لأنَّ الَّذي يدعو على غيرِ عِلمٍ رُبَّما يَجعَلُ الشَّيءَ الحرامَ حلالًا والحلالَ حرامًا وهو لا يدري، فيَحصُلُ بذلك فَسادٌ في الدِّينِ والعَقيدةِ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 79). !
6- في قَولِه تعالى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى قَولِه سُبحانَه: إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ إذا دعا إلى الحقِّ أن يَذكُرَ ما في لُزومِه مِن الفَضائلِ، وأنْ يَذكُرَ ما في مُخالَفتِه مِن الضَّلالِ والسُّوءِ؛ حتى يَجمَعَ بيْنَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 94). .
7- في قَولِه تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا أنَّ عابدي الأصنامِ يُمَوِّهُونَ على النَّاسِ بعبادتِهم؛ فيَدَّعُون أنَّهم يَعبُدونَها لِتَكونَ شفيعًا لهم عندَ اللهِ! وهذا عندَما يَسْمَعُه السَّامعُ يَظُنُّ أنَّهم يَجعلون الآلهةَ في مَرتبةٍ دونَ اللهِ -لأنَّ مرتبةَ الشَّافعِ دونَ مرتبةِ المَشفوعِ إليه-؛ فيَقولون: «إنَّهم شُفعاءُ لنا إلى اللهِ»، والحقيقةُ أنَّهم لم يَجعلوهم شُفعاءَ، بل جعَلوهم شُركاءَ للهِ؛ لأنَّهم يَعبُدونَهم كما يَعبُدونَ اللهَ. فيُستفادُ منه الحذَرُ مِن التَّلبيسِ في الأسماءِ أو بالتَّسميةِ، وأنَّ صاحبَ الباطلِ قد يُسمِّي نفْسَه بما يقتضي أنْ يكونَ على حقٍّ، وليس كذلك [204] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 85). !
8- قال تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ في هذه الآياتِ تَنبيهٌ عَظيمُ، ودَلالةٌ على وُجوبِ كَظمِ الغَيظِ، والحِلمِ عن أهلِ الجَهلِ، والتَّرَؤُّفِ على مَن أدخَلَ نفْسَه في غِمارِ الأشرارِ وأهلِ البَغيِ، والتَّشَمُّرِ في تخليصِه، والتَّلَطُّفِ في افتِدائِه، والاشتِغالِ بذلك عن الشَّماتةِ به والدُّعاءِ عليه. ألَا ترى كيف تمنَّى الخيرَ لقَتَلتِه، والباغينَ له الغوائِلَ، وهم كفَرةٌ عبَدةُ أصنامٍ [205] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/20). ؟!
9- قال قَتادةُ: (لا تَلْقَى المؤمِنَ إلَّا ناصِحًا، لا تَلْقاه غاشًّا؛ لَمَّا عايَنَ ما عايَنَ مِن كرامةِ الله: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ، تمنَّى على اللهِ أن يَعلَمَ قَومُه ما عايَنَ مِن كرامةِ اللهِ له، وما هجَمَ عليه!) [206] أخرجه ابنُ جريرٍ في ((تفسيره)) (19/425). قال ابنُ عثيمين: (هذا الرَّجُلُ ناصِحٌ في حياتِه وبعدَ مماتِه؛ في حياتِه دعا قَومَه إلى توحيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأن يُؤمِنوا ويَتَّبِعوا الرُّسُلَ، وبعدَ مماتِه تمنَّى أنَّ قَومَه يَعلَمونَ بغُفرانِ اللهِ له؛ مِن أجْلِ أن يُؤمِنوا ويَتَّبِعوا الرُّسُلَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 96). .
10- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أنَّ إكرامَ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يَختَصُّ بهذا الرَّجُلِ، بل هناك عالَمٌ يُكرِمُهم اللهُ تعالى؛ ففيه حَثٌّ على أنْ يَفعَلَ الإنسانُ كفِعلِه؛ لِيَنالَ ما ناله؛ فالإكرامُ مَوجودٌ لكُلِّ مَن قام بعَمَلٍ كعَمَلِه [207] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 98). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ مع قَولِه سُبحانَه في أوَّلِ السُّورةِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] : دَلالةٌ على أنَّ القَريةَ تُسمَّى مدينةً، والمدينةَ أيضًا تُسمَّى قريةً؛ فمكَّةُ سمَّاها اللهُ تعالى قريةً، وهي أمُّ القُرَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ [محمد: 13] ، فالقريةُ ليست هي البلدَ الصَّغيرَ -كما يَظُنُّ كثيرٌ مِن النَّاسِ- بلِ القريةُ تكونُ مدينةً؛ وذلك لأنَّ أصلَ القريةِ معناه مأخوذٌ مِن القَرْيِ، وهو التَّجمُّعُ؛ فإنَّ النَّاسَ يَجتمِعونَ فيها، فإنْ كانت بلدةً كبيرةً سُمِّيت في عُرفِ النَّاسِ مدينةً، وإنْ كانت دونَ ذلك سُمِّيتْ في عُرفِ النَّاسِ قَريةً؛ فالتَّفريقُ بيْنَ القريةِ والمدينةِ ما هو إلَّا اصطلاحٌ عُرفيٌّ فقط [208] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 72). .
2- في قَولِه تعالى: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ بَلاغةٌ باهِرةٌ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا جاء مِن أقصَى المدينةِ رجُلٌ -وهو قد آمَنَ- دَلَّ على أنَّ إنذارَهم وإبلاغَهم بلَغَ إلى أقصى المدينةِ [209] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/262). .
3- في قَولِه تعالى -عن صاحبِ ياسينَ على سبيلِ الرِّضا بهذه المقالةِ، والثَّناءِ على قائلِها، والإقرارِ له عليها-: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ دَلالةٌ على وُجوبِ اتِّباعِ الصَّحابةِ رَضِي اللهُ عنهم؛ ووجْهُه: أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الصَّحابةِ لم يَسألْنا أجرًا، وهم مُهتَدونَ؛ بدليلِ قَولِه تعالى -خِطابًا لهم-: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] ، و«لَعَلَّ» مِن اللهِ واجِبةٌ [210] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/99). .
4- إنَّ اللهَ سُبحانَه يَحتَجُّ على فَسادِ مَذهَبِ مَن عَبَد غيرَه بالأدلَّةِ العَقليَّةِ الَّتي تَقْبَلُها الفِطَرُ والعُقولُ، ويَجعلُ ما رَكَّبه في العُقولِ مِن حُسنِ عبادةِ الخالقِ وَحْدَه، وقُبحِ عبادةِ غيرِه؛ مِن أعظَمِ الأدلَّةِ على ذلك؛ فتأمَّلْ هذا الخطابَ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كيف تَجِدُ تحتَه أشرَفَ مَعنًى وأجَلَّه، وهو أنَّ كَوْنَه سُبحانَه فاطِرًا لعِبادِه يقتَضي عبادتَهم له، وأنَّ مَن كان مَفطورًا مخلوقًا فحَقيقٌ به أنْ يَعبُدَ فاطِرَه وخالِقَه، ولا سيَّما إذا كان مَرَدُّه إليه؛ فمَبدَؤُه منه ومَصيرُه إليه، وهذا يُوجِبُ عليه التَّفرُّغَ لعبادتِه، ثمَّ احتَجَّ عليهم بما تُقِرُّ به عقولهُم وفِطَرُهم مِن قُبحِ عبادةِ غيرِه، وأنَّها أقبَحُ شَيءٍ في العَقلِ وأنكَرُه، فقال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أفلا تَراه كيف لم يَحتَجَّ عليهم بمُجرَّدِ الأمرِ، بل احتَجَّ عليهم بالعَقلِ الصَّحيحِ، ومُقتضَى الفِطرةِ [211] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/8). ؟!
5- في قَولِه تعالى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الإرشادُ إلى وُجوبِ الإخلاصِ في العبادِة؛ لقولِه: الَّذِي فَطَرَنِي؛ فإنَّ اللهَ تعالى مُنْفَرِدٌ بفَطْرِ الخَلْقِ؛ فيَجبُ أنْ يُفْرَدَ بالعبادةِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 79). .
6- في قَولِه تعالى: الَّذِي فَطَرَنِي أنَّ مِن كَمالِ الدَّعوةِ والتَّعليمِ قَرْنَ الحُكْمِ بدَليلِه أو عِلَّتِه؛ فإنَّ هذا كالتَّعليلِ لِقَولِه: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ؛ ولهذا عَدَلَ عن قَولِه: «ما ليَ لا أعبُدُ اللهَ» إلى قَولِه: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي؛ لِيَكونَ هذا كالدَّليلِ والتَّعليلِ لوُجوبِ إفرادِه سُبحانَه بالعبادةِ، وهذا في القُرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ كثيرٌ [213] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 79). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تنبيهٌ لهم على مُوجِبِ الشُّكرِ، وتهديدٌ على ارتِكابِ الكُفرِ [214] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/111). .
8- في قَولِه تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارةٌ إلى الخَوفِ والرَّجاءِ، كما قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 56] ؛ وذلك لأنَّ مَن يكونُ إليه المرجعُ يُخافُ منه، ويُرجَى [215] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/264). .
9- في قَولِه تعالى: إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ فضيلةُ هذا الرَّجُلِ بإعلانِه الإيمانَ باللهِ عزَّ وجلَّ، قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33] ؛ فقد أعْلَن أنَّه مِن المسلمِينَ، ولم يَخَفْ أحدًا سوَى اللهِ تعالى [216] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 94). .
10- الرُّبوبيَّةُ نَوعانِ: ربوبيَّةٌ عامَّةٌ، وربوبيَّةٌ خاصَّةٌ؛ ففي قولِه: بِرَبِّكُمْ -مع كَونِهم مشركينَ كفَّارًا- بيانُ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى العامَّةِ، وفي قَولِه: بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي إثباتُ الرُّبوبيَّةِ الخاصَّةِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 92، 95، 98). .
11- في قَولِه تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فيه دليلٌ على أنَّ الجنَّةَ مخلوقةٌ الآنَ [218] يُنظر: ((تفسير القنوجي)) (11/284). ، وقد دلَّ على ذلك آياتٌ وأحاديثُ كثيرةٌ؛ مِثلُ قولِه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، والإعدادُ بمعنى التَّهيئةِ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 96). .
12- إثباتُ نعيمِ القبرِ؛ لقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، مع أنَّ السَّاعةَ لم تَقُمْ بَعْدُ، ولم يَدْخُلِ النَّاسُ الجنَّةَ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 95). .
13- قَولُه تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ استُدِلَّ به على أنَّ أرواحَ المؤمِنينَ تَدخُلُ الجنَّةَ مِن حينِ المَوتِ، وإنَّما قال هذا بعدَما قتَلوه، ورأَى ما أعدَّ الله له [221] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/709)، ((أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور)) لابن رجب (ص: 112). .
14- قَولُه تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ فيه أنَّه لا يَدخُلُ أحدٌ الجنَّةَ إلَّا برَحمةِ اللهِ، وإن كان مُحسِنًا [222] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/114). .
15- أنَّ التَّخليةَ قبْلَ التَّحليةِ؛ لِقَولِه: بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وهذا تخليةٌ وإزالةٌ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ هذا تحليةٌ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 98). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ هذا عَطْفٌ على قِصَّةِ التَّحاوُرِ الجاري بيْنَ أصحابِ القريةِ والرُّسلِ الثَّلاثةِ؛ لِبَيانِ البَونِ بيْنَ حالِ المعانِدينَ مِن أهلِ القريةِ وحالِ الرَّجُلِ المؤمنِ منهم الَّذي وَعَظَهم بمَوعظةٍ بالغةٍ، وهو مِن نفَرٍ قليلٍ مِن أهْلِ القريةِ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/365). .
- قولُه: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى المرادُ بالمدينةِ هنا نفْسُ القريةِ المذكورةِ في قولِه: أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] ، وعُبِّرَ عنها هنا بـ (المدينةِ) تَفنُّنًا [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/365). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، وقال في سُورةِ (القَصصِ) في قِصَّةٍ أُخرى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص: 20] ؛ فقدَّمَ قولَه: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ على رَجُلٌ -الَّذي هو الفاعلُ- في سُورةِ (يس)، وأخَّرَه في سُورةِ (القَصَصِ)؛ ووَجْهُه: أنَّ ذِكْرَ الأوصافِ قبْلَ ذِكْرِ الموصوفِ أبلَغُ في المدحِ مِن تقديمِ ذِكْرِه على وصْفِه، فإنَّ النَّاسَ يقولون: «الرئيسُ الأجَلُّ فُلانٌ»، فالَّذي زِيدَ في مَدْحِه -وهو صاحبُ يس- أمَرَ بالمعروفِ، وأعانَ الرُّسلَ، وصبرَ على القتلِ؛ والآخَرُ إنَّما حَذَّرَ موسى مِن القتلِ، فسَلِمَ موسى بقَبُوله مَشورتَه؛ فالأوَّلُ هو الآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهي عن المنكَرِ، والثَّاني هو ناصحُ الآمرِ بالمعروفِ؛ فاستحقَّ الأوَّلُ الزيادةَ [226] والمناسبةُ المذكورةُ لابنِ هبيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/149). .
وجْهٌ آخَرُ: أنْ يُقالَ: إنَّ الفاعلَ في المَوضعَينِ لَمَّا كان نَكِرةً فالمعنى: جاءَ جاءٍ، وقد دلَّ الفِعلُ على (جاءٍ)، ولا يكونُ الجائي مِن أقصى المدينةِ في الأعمِّ الأغلبِ إلَّا رجُلًا، وكان الَّذي يُفادُ المخاطَبُ أنْ يَعلَمَ أنَّه جاء مِن مَكانٍ بَعيدٍ إلى مُجتمعِ النَّاسِ في القريةِ، وحيث لا يَقرُبُ مِن مَجاري القصَّةِ، ولا يَحضُرُ مَوضعَ الدَّعوةِ ومَشهدَ المعجزةِ؛ فقُدِّمَ ما تَبْكيتُ القومِ به أعظَمُ، والتَّعجُّبُ منه أكثَرُ، فقال: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَنصَحُ لهم ما لا يَنصَحون مِثلَه لأنفُسِهم، ولا يَنصَحُ لهم أقْربوهم، مع أنَّه لم يَحضُرْ جميعَ ما يَحضُرونه، ولم يُشاهِدْ مِن كلامِ الأنبياءِ ما يُشاهِدونَه! فحَثَّهم على اتِّباعِ الرُّسلِ المبعوثينَ إليهم، وقَبولِ ما يأْتون به مِن عندِ مُرسِلِهم. وأمَّا الآيةُ في سُورةِ (القصصِ) فإنَّ المرادَ: جاء مَن لا يَعرِفُه مُوسى مِن مكانٍ لم يكُنْ مُجاورًا لمكانِه، فأعلَمَه ما فيه الكفَّارُ مِنِ ائتِمارِهم به، فاستوى حُكمُ الفاعلِ والمكانِ الَّذي جاء منه؛ فقُدِّمَ ما أصْلُه التَّقديمُ -وهو الفاعلُ-؛ إذ لم يكُنْ هنا تَبكيتٌ للقومِ بكَونِه مِن أقصى المدينةِ كما كان ذلك في آيةِ سُورةِ (يس) [227] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (1/1083). .
وجْهٌ آخَرُ: أنَّ تقَديمَ المجرورِ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ مُشيرٌ إلى إحرازِ معنًى جليلٍ مُطلِعٍ على حُكمِ السَّوابقِ مِن إيمانِ مَن بَعُدَ مَسافةً عن داعيةٍ إلى الهدايةِ، فلمْ يَضُرَّه بُعْدُ الدَّارِ، وكُفرِ مَن باشَرَ الرُّسلَ وشافَهَهم، فلمْ يَنتفِعْ بقُرْبِ الدَّارِ، وحاصلُ الإخبارِ مِن هذه الآياتِ مِثالٌ لحالِ كُفَّارِ قُريشٍ مِن أهلِ مكَّةَ، وحالِ الأنصارِ مِن أهلِ المدينةِ، حينَ جاء هؤلاء وآمَنوا به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع بُعدِ دارِهم، وعانَدَ عُتاةُ قُريشٍ فكَفَروا مع الالتحامِ في النَّسبِ واتِّحادِ الدَّارِ، ويُوضِّحُ هذا أنَّ السُّورةَ مكِّيَّةٌ، وإنَّما افتُتِحَت بذِكرِ قُريشٍ، وهم المَعْنِيُّون بقولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس: 6] إلى ما بَعْدُ مِن الآياتِ، فمَجِيءُ الرَّجُلِ مِن أقْصَى المدينةِ مِثالٌ لِمَن بَعُدَ فلمْ يَضُرَّه بُعْدُه، وذِكرُه المُراجِعينَ للرُّسلِ مِن أصحابِ القَريةِ مِثالٌ لِمَن قَرُبَ، وطالَت مُباشَرتُه، وشاهَدَ الآياتِ، فلمْ يَنفَعْه قُرْبُه [228] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/383، 384). .
- وجْهٌ آخَرُ: أنَّ وَجْهَ تَقديمِ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ على رَجُلٌ؛ للاهتمامِ بالثَّناءِ على أهْلِ أقْصى المدينةِ، وأنَّه قد يُوجَدُ الخَيرُ في الأطرافِ ما لا يُوجَدُ في الوسَطِ، وأنَّ الإيمانَ يَسبِقُ إليه الضُّعفاءُ؛ لأنَّهم لا يَصُدُّهم عن الحقِّ ما فيه أهلُ السِّيادةِ مِن تَرَفٍ وعَظَمةٍ؛ إذ المُعتادُ أنَّهم يَسكُنون وسَطَ المدينةِ، وأمَّا قولُه تعالى في سُورةِ (القَصَصِ) [20]: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى فجاء النَّظمُ على التَّرتيبِ الأصليِّ؛ إذ لا داعيَ إلى التَّقديمِ؛ إذ كان ذلك الرَّجُلُ ناصحًا، ولم يكُنْ داعيًا للإيمانِ [229] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) (22/365، 366). . وقيل: تَقدَّمَ قولُه: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وتأخَّرَ في (القَصَصِ)؛ تَفنُّنًا في البلاغةِ [230] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/55). .
- قولُه: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ افتتاحُ خِطابِ الرَّجلِ إيَّاهم بنِدائِهم بوَصفِ القَوميَّةِ له، قَصَدَ منه أنَّ في كلامِه الإيماءَ إلى أنَّ ما سيُخاطِبُهم به هو مَحْضُ نَصيحةٍ؛ لأنَّه يُحِبُّ لِقَومِه ما يُحِبُّ لِنَفْسِه؛ ففيه تأْليفٌ لِقُلوبِهم واستِمالتُها [231] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/163)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/366). .
- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ رِسالةِ المرسَلينَ حَثٌّ لهمْ على اتِّباعِهم [232] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/163). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال الرَّجُلُ هنا: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، وقال مُؤمِنُ آلِ فِرعونَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 38] ؛ والفرْقُ بيْنَهما: أنَّ هذا الرَّجُلَ جاءَهم، وفي أوَّلِ مَجيئِه نَصَحَهم، وما رأَوا سِيرتَه، فقال: اتَّبِعوا هؤلاء الَّذين أظْهَروا لكم الدَّليلَ، وأوضَحُوا لكمُ السَّبيلَ، وأمَّا مُؤمِنُ آلِ فِرعونَ فكان فيهم، واتَّبَعَ مُوسى، ونصَحَهم مِرارًا، فقال: اتَّبِعوني في الإيمانِ بمُوسى وهارونَ عليهما السَّلامُ، واعْلَموا أنَّه لو لم يكُنْ خيرًا لَمَا اختَرْتُه لِنَفْسي -وأنتم تَعلَمون أنِّي اختَرْتُه-، ولم يكُنْ للرَّجُلِ الَّذي جاء مِن أقْصى المدينةِ أنْ يقولَ: أنتُم تَعلَمون اتِّباعي لهم [233] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/263). .
2- قَولُه تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ
- جُملةُ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا مُؤكِّدةٌ لِجُملةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وتَتميمٌ لها، مع زِيادةِ الإيماءِ إلى عِلَّةِ اتِّباعِهم بلَوائحِ عَلاماتِ الصِّدقِ والنُّصحِ على رِسالتِهم؛ إذ همْ يَدْعون إلى هُدًى، ولا نفْعَ يَنجَرُّ لهم مِن ذلك، فتَمحَّضَتْ دَعوتُهم لِقَصدِ هِدايةِ المرسَلِ إليهم. أي: اتَّبِعوا مَن لا تَخسَرون معهم شيئًا مِن دُنياكم، وتَربَحون صِحَّةَ دِينِكم [234] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/10)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/26)، ((تفسير أبي السعود)) (7/163)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/367). .
- وقدَّم بقولِه: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ؛ لأنَّ الرِّسالةَ وَصْفٌ يَقتضي وُجوبَ قَبولِ المُرسَلِ؛ ثمَّ قال: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا فهذا مِن بابِ الكمالِ، وينبغي أنْ يُقَدَّمَ الوَصْفُ الموجِبُ للقَبولِ قبْلَ الوصفِ المُفَضِّلِ للقَبولِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 77). .
- قولُه: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ قُدِّمَ في الصِّلةِ عدَمُ سؤالِ الأجرِ على الاهتِداءِ؛ لأنَّ القَومَ كانوا في شَكٍّ مِن صِدقِ المرسَلينَ، وكان مِن دَواعي تَكذيبِهم اتِّهامُهم بأنَّهم يَجُرُّون لأنفُسِهم نفْعًا مِن ذلك؛ لأنَّ القومَ لَمَّا غلَبَ عليهم التَّعلُّقُ بحُبِّ المالِ، وصاروا بُعَداءَ عن إدراكِ المقاصِدِ السَّاميةِ؛ كانوا يَعُدُّون كلَّ سَعيٍ يَلُوحُ على امْرِئٍ إنَّما يَسْعى به إلى نَفْعِه؛ فقُدِّمَ ما يُزِيلُ عنهم هذه الاستِرابةَ، ولِيَتهَيَّؤوا إلى التَّأمُّلِ فيما يَدْعُونهم إليه، ولأنَّ هذا مِن قَبِيلِ التَّخليةِ بالنِّسبةِ للمُرسَلينَ والمرسَلِ إليهم، والتَّخليةُ تُقدَّمُ على التَّحليةِ؛ فكانتُ جُملةُ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا أهَمَّ في صِلةِ الموصولِ [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/367). .
- والأجْرُ يَصدُقُ بكلِّ نفْعٍ دُنيويٍّ يَحصُلُ لأحدٍ مِن عمَلِه؛ فيَشملُ المالَ والجاهَ والرِّئاسةَ، فلمَّا نُفِيَ عنهم أنْ يَسألوا أجْرًا فقدْ نُفِيَ عنهم أنْ يَكونوا يَرْمون مِن دَعوتِهم إلى نفْعٍ دُنيويٍّ يَحصُلُ لهم. وبعدَ ذلك تَهيَّأَ الموقعُ لِجُملةِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أي: وهمْ مُتَّصِفون بالاهتداءِ إلى ما يأْتي بالسَّعادةِ الأبَديَّةِ، وهمْ إنَّما يَدْعُونكم إلى أنْ تَسِيروا سِيرتَهم، فإذا كانوا همْ مُهتدينَ، فإنَّ ما يَدْعونكم إليه مِن الاقتِداءِ بهم دَعوةٌ إلى الهُدى؛ فتَضمَّنَت هذه الجُملةُ بمَوقعِها بعْدَ الَّتي قبْلَها ثَناءً على المرسَلينَ وعلى ما يَدْعون إليه، وتَرغيبًا في مُتابَعتِهم [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/367). .
- وجاءتِ الجُملةُ الأُولى مِن الصِّلةِ فِعليَّةً مَنْفيَّةً لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا؛ لأنَّ المقصودَ نَفْيُ أنْ يَحدُثَ منهم سؤالُ أجرٍ فضْلًا عن دَوامِه وثَباتِه، وجاءتِ الجُملةُ الثَّانيةُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ اسميَّةً؛ لإفادةِ إثباتِ اهتدائِهم ودَوامِه، بحيث لا يَخْشَى مَن يتَّبِعُهم أنْ يكونَ في وَقتٍ مِن الأوقاتِ غيرَ مُهتَدٍ [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/368). .
- وخِتامُ هذه الآيةِ بقولِه: وَهُمْ مُهْتَدُونَ لم يكُنْ مُجرَّدَ زِيادةٍ، بل كان لتَوقُّفِ المَوعظةِ عليها، وكان قولُه: مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا كالتَّوطئةِ له [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/367). .
3- قَولُه تعالى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- قولُه: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ على جُملةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ؛ لِقَصْدِ إشعارِهم بأنَّه اتَّبَعَ المرسَلينَ، وخلَعَ عِبادةَ الأوثانِ. وأبرَزَ الكلامَ في صُورةِ استِفهامٍ إنكاريٍّ، وبصِيغةِ: (ما ليَ لا أفعَلُ)، الَّتي شأْنُها أنْ يُورِدَها المتكلِّمُ في رَدٍّ على مَن أنكَرَ عليه فِعلًا، أو ملَكَه العجَبُ مِن فِعلِه، أو يُورِدَها مَن يُقدِّرُ ذلك في قلْبِه؛ ففيه إشعارٌ بأنَّهم كانوا مُنكِرينَ عليه الدَّعوةَ إلى تَصديقِ الرُّسلِ الَّذين جاؤوا بتَوحيدِ اللهِ؛ فإنَّ ذلك يَقْتضِي أنَّه سبَقَهم بما أمَرَهم به [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/368). .
- وهذا الخبَرُ أيضًا وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بهم، كأنَّه يقولُ: وما ليَ لا أعبُدُ، وما لَكمْ لا تَعبُدون الَّذي فطَرَكم؟! بقَرينةِ قولِه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ إذ جعَلَ الإسنادَ إلى ضَميرِهم تَقويةً لمعنى التَّعريضِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/368). .
- وإنَّما ابتدَأَ في قولِه: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بإسنادِ الخبَرِ إلى نفْسِه؛ لإبرازِه في مَعرِضِ المُناصَحةِ لِنفْسِه، وهو مُرِيدٌ مُناصَحتَهم؛ لِيَتلطَّفَ بهم، ويُدارِئَهم فيُسمِعَهم الحقَّ على وَجهٍ لا يُثِيرُ غضَبَهم، ويكونَ أعْوَنَ على قَبولِهم إيَّاه حينَ يَرَون أنَّه لا يُرِيدُ لهم إلَّا ما يُرِيدُ لِنَفْسِه، والمرادُ: تقريعُهم على تَرْكهِم عِبادةَ خالقِهم إلى عِبادةِ غَيرِه؛ ولذلك قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مُبالَغةً في التَّهديدِ [242] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/10)، ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/29)، ((تفسير أبي حيان)) (9/56)، ((تفسير أبي السعود)) (7/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/368)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/190). .
- قولُه: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قالَهُ الجائي مِن المدينةِ، وأضافَ الفِطرةَ إلى نفْسِه، والرُّجوعَ -الَّذي هو البعثُ- إليهم، مع عِلمِه بأنَّ اللهَ فَطَرَهم وإيَّاه، وإليه يَرجِعُ هو وهمْ، فلَمْ يَقُلْ: (الَّذي فطَرَنا وإليه نَرجِعُ)، أو (فطَرَكم وإليه تُرجَعون)؛ لأنَّ الخَلْقَ والإيجادَ نِعمةٌ مِن اللهِ تعالى تُوجِبُ الشُّكرَ، والبعثَ بعدَ الموتِ للجزاءِ وَعيدٌ مِن اللهِ يُوجِبُ الزَّجرَ، فأضاف ما يَقْتضي الشُّكرَ لِنفْسِه؛ لأنَّه ألْيَقُ بإيمانِه، وما يَقْتَضي الزَّجرَ إليهم؛ لأنَّه ألْيَقُ بكُفْرِهم [243] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 471، 472). .
وقيل: في قَولِه تعالى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ احتِباكٌ [244] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، حَذَف «وإليه أَرجِعُ» أوَّلًا لَمَّا دَلَّ عليه ثانيًا، وإنكارَه عليهم ثانيًا بما دَلَّ عليه أوَّلًا مِن إنكارِه على نَفْسِه؛ استِجلابًا لهم بإظهارِ الإنصافِ، والبُعدِ عن التَّصريحِ بالخِلافِ [245] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/111). .
4- قَولُه تعالى: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ
- جُملةُ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً رُجوعٌ إلى طَريقةِ التَّعريضِ، وهي استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لاستِشعارِ سُؤالٍ عن وُقوعِ الانتفاعِ بشَفاعةِ تلك الآلهةِ عندَ الَّذي فطَرَه. والاستِفهامُ إنكاريٌّ، أي: أُنكِرُ على نَفْسي أنْ أتَّخِذَ مِن دُونِه آلهةً، أي: لا أتَّخِذُ آلهةً، والاتِّخاذُ: افتِعالٌ مِن الأخْذِ، وهو التَّناوُلُ، والتَّناوُلُ يُشعِرُ بتَحصيلِ ما لم يكُنْ قبْلُ، فالاتِّخاذُ مُشعِرٌ بأنَّه صُنِع، وذلك مِن تَمامِ التَّعريضِ بالمخاطَبينَ؛ أنَّهم جَعَلوا الأوثانَ آلهةً وليست بآلهةٍ؛ لأنَّ الإلهَ الحقَّ لا يُجعَلُ جَعْلًا، ولكنَّه مُستحِقٌّ الإلهيَّةَ بالذَّاتِ [246] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/368)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/188). .
- قولُه: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ أي: يُرِدْنِ اللهُ عزَّ وجلَّ، والتَّعبيرُ بوَصْفِ الرَّحْمَنُ دونَ اسمِ الجلالةِ؛ لأنَّ المشركينَ كانوا يُنكِرون اسمَ الرَّحمنِ، كما قال تعالى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] . وللإشارةِ كذلك إلى أنَّ رَحمتَه لا تَقْتضي عدَمَ خَشيتِه؛ فالمؤمنُ يَخْشى اللهَ مع عِلمِه برَحمتِه، فهو يَرْجو الرَّحمةَ. وأيضًا ذكَرَ الرَّحْمَنُ؛ لأنَّه اسمٌ يدُلُّ على الرَّحمةِ، ولَمَّا كان الضُّرُّ قد يَفهَمُ منه مَن يَفهَمُ مِن النَّاسِ انتفاءَ الرَّحمةِ عن المُريدِ؛ ذكَرَ ذلك باسمِ (الرَّحمن) لئلَّا يَظُنَّ ظانٌّ أو يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ هذا الوهمَ: أنَّ إرادةَ اللهِ الضُّرَّ للإنسانِ تُنافي الرَّحمةَ؛ لأنَّ إرادةَ الضُّرِّ بالإنسانِ قد يكونُ مِن رَحمةِ اللهِ بالإنسانِ؛ قال اللهُ تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] ، فما يُصِيبُ الإنسانَ مِن الضُّرِّ له نتائجُ حَميدةٌ، وهي الرُّجوعُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، والاعتبارُ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/354، 369)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 81). .
- وجاءَ وصْفُ الآلهةِ المزعومةِ المفروضةِ الاتِّخاذِ بجُملةِ الشَّرطِ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ، والمقصودُ به التَّعريضُ بالمخاطَبينَ في اتِّخاذِهم تلك الآلهةَ بعِلَّةِ أنَّها تَشفَعُ لهم عندَ اللهِ، وتُقرِّبُهم إليه زُلْفى [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/369). .
- وقد عُلِمَ مِنِ انتفاءِ دَفْعِهم الضُّرَّ أنَّهم عاجِزونَ عن جَلْبِ نَفْعٍ؛ لأنَّ دَواعيَ دَفعِ الضُّرِّ عن المولى أقْوَى وأهَمُّ، ولِحاقَ العارِ بالوليِّ في عَجْزِه عنه أشَدُّ، وإذ قد نُفِيَ عن شَفاعتِهم النَّفْعُ للمَشفوعِ فيه، فقد نُفِيَ عنهم أنْ يَشفَعوا بطَريقِ الالتِزامِ؛ لأنَّ مَن يَعلَمُ أنَّه لا يُشَفَّعُ لا يَشفَعُ، فكأنَّه قال: أأتَّخِذُ مِن دُونِه آلهةً لا شَفاعةَ لهم عندَ اللهِ؟! لإبطالِ اعتِقادِهم أنَّهم شُفعاءُ مَقبولو الشَّفاعةِ. وإذ كانت شَفاعتُهم لا تَنفَعُ -لِعَجزِهم، وعدَمِ مُساواتِهم للهِ الَّذي يَضُرُّ ويَنفَعُ في صِفاتِ الإلهيَّةِ-؛ كان انتفاءُ أنْ يُنقِذوا أَولَى. وإنَّما ذُكِرَ العُدولُ عن دَلالةِ الفَحوى [249] دَلالة الفَحوى أو فحوى الخطابِ: هو إثباتُ حكمِ المنطوقِ به للمسكوتِ عنه بطريقِ الأولَى، وهو نوعانِ: تنبيهٌ بالأقلِّ على الأكثرِ؛ كقولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ؛ فإنَّه نبَّه بالنهيِ عن قولِ (أفٍّ) على النهيِ عن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك. وتنبيهٌ بالأكثرِ على الأقلِّ؛ كقولِه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] . يُنظر: ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). إلى دَلالةِ المنطوقِ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ تَصريحٍ؛ لِتَعلُّقِه بالإيمانِ، وهو أساسُ الصَّلاحِ [250] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/369). .
5- قولُه تعالى: إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جوابٌ للاستِفهامِ الإنكاريِّ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً؛ فحرْفُ (إذًا) جزاءٌ للمَنفيِّ لا للنَّفْي، أي: إنِ اتَّخَذْتُ مِن دونِ اللهِ آلهةً أكُنْ في ضلالٍ مُبينٍ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/369). .
- وأُكِّدَت الجملةُ بمؤكِّدَينِ: «إنَّ» و«اللامِ»؛ لأنَّ المُخاطَبَ منكِرٌ، فهو يُخاطِبُ قومَه الَّذين اتَّخَذوا مع اللهِ آلهةً [252] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 94). .
6- قولُه تعالى: إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ
- قولُه: إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ خِطابٌ مِن الرَّجُلِ المؤمنِ للرُّسلِ -على قولٍ في التَّفسيرِ- بطَريقِ التَّلوينِ، وإنَّما أكَّدَه بـ (إنَّ)؛ لإظهارِ صُدورِه عنه بكَمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ، وأضافَ الرَّبَّ إلى ضَميرِهم؛ رَوْمًا لِزِيادةِ التَّقريرِ، وإظهارًا للاختِصاصِ والاقتداءِ بهم، كأنَّه قال: بربِّكم الَّذي أرْسَلَكم، أو الَّذي تَدْعُونَنا إلى الإيمانِ به. وقِيل: الخِطابُ للكَفَرةِ؛ شافَهَهَم بذلك إظهارًا للتَّصَلُّبِ في الدِّينِ، وعدَمِ المُبالاةِ بالقتلِ، وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضَميرِهم؛ لِتَحقيقِ الحقِّ، والتَّنبيهِ على بُطلانِ ما همْ عليه مِن اتِّخاذِ الأصنامِ أربابًا [253] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/164). .
- وأيضًا هذه الجُملةُ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ واقعةٌ مَوقعَ الغايةِ مِن الخِطابِ، والنَّتيجةِ مِن الدَّليلِ. وهذا إعلانٌ لإيمانِه، وتَسجيلٌ عليهم بأنَّ اللهَ هو ربُّهم، لا تلك الأصنامُ. وأكَّدَ الإعلانَ بتَفريعِ فَاسْمَعُونِ؛ استِدعاءً لِتَحقيقِ أسماعِهم إنْ كانوا في غَفلةٍ؛ فالأمْرُ على جِهةِ المبالَغةِ والتَّنبيهِ [254] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/369). .
7- قَولُه تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
- قولُه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ استِئنافٌ بَيانيٌّ لِمَا يَنتظِرُه سامعُ القِصَّةِ مِن مَعرفةِ ما لَقِيَه مِن قَومِه بعْدَ أنْ واجَهَهم بذلك الخِطاب الجَزلِ، وهلْ اهتَدَوا بهَدْيِه، أو أعْرَضُوا عنه وتَرَكوه، أو آذَوْه كما يُؤذَى أمثالُه مِن الدَّاعينَ إلى الحقِّ، المُخالِفينَ هَوى الدَّهْماءِ؛ فيُجابُ بما دَلَّ عليه قولُه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وهو الأهمُّ عندَ المسلمينَ، وهمْ مِن المقصودينَ بمَعرفةِ مِثلِ هذا؛ لِيَزْدادوا يَقينًا وثَباتًا في إيمانِهم، وأمَّا المشرِكون فحَظُّهم مِن المثَلِ ما تَقدَّمَ وما يأْتي مِن قولِه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [255] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/11)، ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/370). [يس: 29] .
- وفي قولِه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كِنايةٌ عن قتْلِه شَهيدًا في إعلاءِ كَلمةِ اللهِ؛ لأنَّ تَعقيبَ مَوعظتِه بأمْرِه بدُخولِ الجنَّةِ دَفْعةً بلا انتِقالٍ يُفِيدُ بدَلالةِ الاقتضاءِ أنَّه مات، وأنَّهم قَتَلوه لِمُخالَفتِه دِينَهم، وأنَّ هذا الرَّجُلَ المؤمنَ قد أُدخِلَ الجنَّةَ عقِبَ مَوتهِ؛ لأنَّه كان مِن الشُّهداءِ [256] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((تفسير أبي السعود)) (7/164)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/370). .
- والقائِلُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ هو اللهُ تعالى -على قَولٍ-، والمَقولُ له هو الرَّجُلُ الَّذي جاء مِن أقْصَى المدينةِ، قيل: وإنَّما لم يُذكَرْ ضَميرُ المَقولِ له مَجرورًا باللَّامِ؛ لأنَّ القولَ المذكورَ هنا قولٌ تَكوينيٌّ لا يُقصَدُ منه المُخاطَبُ به، بل يُقصَدُ حِكايةُ حُصولِه؛ لأنَّه إذا حصَلَ حصَلَ أثَرُه، كقولِه تعالى: أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/370). . أو لم يأْتِ التَّركيبِ: (قِيلَ له)؛ لانصبابِ الغرَضِ إلى المَقولِ وعِظَمِه، لا إلى المَقولِ له، مع كَونِه معلومًا [258] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/11)، ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((تفسير أبي حيان)) (9/58). .
- وإذ لمْ يُقَصَّ في المثَلِ أنَّه غادَرَ مَقامَه الَّذي قام فيه بالموعظةِ، كان ذلك إشارةً إلى أنَّه مات في مَقامِه ذلك، ويُفهَمُ منه أنَّه مات قتيلًا في ذلك الوقتِ أو بإثْرِه. وإنَّما سُلِكَ في هذا المعنى طَريقُ الكِنايةِ، ولم يُصرَّحْ بأنَّهم قَتَلوه؛ إغماضًا لهذا المعنى عن المشركينَ؛ كَيْلا يَسُرَّهم أنَّ قَومَه قَتَلوه، فيَجْعَلوه مِن جُملةِ ما ضُرِبَ به المثَلُ لهم وللرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَطْمَعوا فيه أنَّهم يَقتُلون الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهذه الكِنايةُ لا يَفهَمُها إلَّا أهلُ الإسلامِ الَّذين تَقرَّرَ عندَهم التَّلازُمُ بيْنَ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ ودُخولِ الجنَّةِ، أمَّا المشرِكون فيَحسَبون أنَّ ذلك في الآخرةِ. وقد تكونُ في الكلامِ البليغِ خَصائصُ يَختَصُّ بنَفْعِها بعضُ السَّامِعينَ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/370، 371). .
- وفي قولِه: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بائتلافِ الفاصلةِ [260] ائتلافُ الفاصلةِ أو التمكينُ: هو أن يُمَهَّدَ قبلَ الفاصلةِ تمهيدٌ تأتي به الفاصلةُ مُمَكَّنةً في مكانها، مُستقرَّةً في قرارِها، مُطمئِنَّةً في موضعها، غيرَ نافرةٍ ولا قَلِقةٍ، مُتعلِّقًا معناها بمعنى الكلامِ كلِّه تَعلُّقًا تامًّا، بحيثُ لو طُرِحتْ لاختلَّ المعنى، واضطرَب الفَهمُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (1/79)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/18). مع ما يدُلُّ عليه سائرُ الكلامِ؛ فإنَّ ذِكرَ الجنَّةِ مهَّدَ لِفاصِلَتِها، وهو جُملةٌ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ السَّامعَ يَترقَّبُ ماذا قال حينَ غَمَره الفرَحُ بدُخولِ الجنَّةِ، والمعنى: أنَّه لم يُلْهِه دُخولُه الجنَّةَ عن حالِ قَومِه؛ فتَمنَّى أنْ يَعلَموا ماذا لَقِيَ مِن ربِّه؛ لِيَعلَموا فَضيلةَ الإيمانِ فيُؤمِنوا، وما تَمنَّى هَلاكَهم ولا الشَّماتةَ بهم؛ فكان مُتَّسِمًا بكَظمِ الغَيظِ، وبالحِلمِ على أهْلِ الجهلِ [261] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/11)، ((تفسير البيضاوي)) (4/266)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/371)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/190). .
8- قَولُه تعالى: بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
- قولُه: بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي أي: بأيِّ شَيءٍ غَفَرَ لي ربِّي، يُرِيدُ به تَفخيمَ شأنِ المُهاجَرةِ عن دِينِهم، والمُصابَرةِ على أذيَّتِهم [262] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/165). .
- وأيضًا في قولِه: بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي أُدخِلَت الباءُ على مَفعولِ يَعْلَمُونَ السَّابقِ؛ لِتَضمينِه معنى: (يُخبَرون)؛ لأنَّه لا مَطمَعَ في أنْ يَحصُلَ لهم عِلمُ ذلك بالنَّظرِ والاستِدلالِ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/371). .