موسوعة التفسير

سورةُ لُقمانَ
الآيتان (10-11)

ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غَريبُ الكَلِماتِ:

رَوَاسِيَ: أي: جِبالًا ثوابِتَ، وأصلُ (رسي): يدُلُّ على ثَباتٍ .
تَمِيدَ: أي: تَميلَ وتَضطَرِبَ، والمَيْدُ: الحَركةُ والمَيلُ، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَركةٍ .
وَبَثّ: أي: فرَّق ونشَرَ، وأصلُ (بثث): يدُلُّ على تفريقِ الشَّيءِ .
زَوْجٍ: أي: لَونٍ وصِنفٍ، يُقالُ لِكُلِّ ما يَقترِنُ بآخَرَ مُماثِلًا له أو مُضادًّا: زَوجٌ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يخبِرُ الله تعالى عبادَه عن بعضِ آثارِ قدرتِه، وبدائعِ حكمتِه، ونِعَمِه الَّتي هي مِن آثارِ رحمتِه، فيقولُ: خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ مَرفوعةً بغيرِ أعمِدةٍ كما تَرَونَها، وجعَلَ في الأرضِ جِبالًا ثابتةً؛ لئَلَّا تَميلَ الأرضُ وتَضطَرِبَ بكم، ونشَرَ في الأرضِ مِن كُلِّ الدَّوابِّ، وأنزَل اللهُ مِن السَّماءِ مَطَرًا، فأنبَتَ بسَبَبِه مِن كُلِّ أصنافِ النَّباتاتِ الكثيرةِ المنافعِ، الحَسَنةِ المنظَرِ.
 هذا خَلْقُ اللهِ وَحْدَه؛ فأرُوني -أيُّها المُشرِكونَ- ماذا خلَقَ الَّذين تَعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ، بل المُشرِكونَ في ضَلالٍ واضحٍ ظاهرٍ بِتَركِهم عِبادةَ رَبِّهم، وعبادتِهم سِواه.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا خَتَم الله تعالى الآيةَ السَّابقةَ بصِفتَيِ العِزَّةِ -وهي غايةُ القُدرةِ- والحِكمةِ -وهي ثمرةُ العِلمِ-: دلَّ عليها بإتقانِ أفعالِه وإحكامِها، فقال :
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.
أي: خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ السَّبْعَ مَرفوعةً بلا أعمِدةٍ، كما تَرَونَها .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] .
وقال سُبحانَه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: 65] .
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.
أي: وجعَلَ اللهُ في الأرضِ جِبالًا ثابتةً؛ لِئَلَّا تَتمايَلَ الأرضُ، وتَضطَرِبَ بكم .
كما قال تعالى: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ: 7] .
  وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
أي: وفرَّق اللهُ في الأرضِ ونشَرَ مِن كُلِّ أنواعِ الدَّوابِّ .
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.
أي: وأنزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَطرًا، فأنبَتْنا بسَبَبِه مِن كُلِّ أصنافِ النَّباتاتِ الحَسَنةِ المنظَرِ، الكثيرةِ المنافِعِ .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه: 53] .
وقال سُبحانَه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [ق: 9 - 11] .
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثبَتَ بهذا الخَلقِ العظيمِ على هذا الوَجهِ المُحكَمِ: عِزَّتُه تعالى وحِكمتُه؛ ثَبَتتْ ألوهيَّتُه، فألزَمَ الكافِرينَ وُجوبَ تَوحيدِه في العبادةِ كما تَوحَّدَ بالخَلقِ؛ لأنَّ ذلك عَينُ الحِكمةِ، كما كان خَلقُه لهذا الخَلقِ على هذا النِّظامِ -لِيَدُلَّ عليه سُبحانَه- سِرَّ الحِكمةِ .
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
أي: هذا الَّذي تقَدَّمَ ذِكرُه مِن خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما هو خَلْقُ اللهِ وَحْدَه؛ فأرُوني -أيُّها المُشرِكونَ- أيَّ شَيءٍ خَلَق الَّذين تَعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ حتَّى استحَقُّوا تلك العبادةَ منكم ؟!
كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] .
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: بل المُشرِكونَ في ذَهابٍ عن الحَقِّ واضِحٍ ظاهِرٍ؛ حيثُ عَبَدوا ما لا يَخلُقُ شَيئًا، وتَرَكوا عِبادةَ الخالِقِ وحْدَه سُبحانَه !
كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ بيانُ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ ببَثِّ هذه الدَّوابِّ في الأرضِ، ووجهُ دَلالتِها على القُدرةِ اختِلافُ هذه الدَّوابِّ في أجناسِها وأنواعِها، وأشكالِها وأحوالِها .
2- قَولُ الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إنزالُ الماءِ نِعمةٌ ظاهِرةٌ مُتكرِّرةٌ في كُلِّ زمانٍ، مُتكَثِّرةٌ في كُلِّ مكانٍ؛ فأسندَه تعالى إلى نَفْسِه صَريحًا؛ ليَتنَبَّهَ الإنسانُ لِشُكرِ نِعمتِه، فيَزيدَ له مِن رحمتِه .
3- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً دَليلٌ على الرَّحمةِ؛ حيث كان نُزولُه مِن العُلوِّ لأجْلِ أنْ يَشملَ المرتَفِعَ والمنخَفِضَ .
4- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا إثباتُ الأسبابِ، ويُؤخَذُ إثباتُ الأسبابِ مِن فاءِ السَّببيَّةِ فَأَنْبَتْنَا، وإثباتُ الأسبابِ مِن حِكمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ فالمنكِرُ للأسبابِ طاعِنٌ في حِكمةِ اللهِ تعالى لا شَكَّ .
5- في قَولِه تعالى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ بيانُ قدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ على تصنيفِ هذا النَّباتِ، مع أنَّ أرضَه واحِدةٌ وماءَه واحدٌ؛ لِقَولِه سُبحانَه وتعالى: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ، أي: مِن كُلِّ صِنفٍ، فتَرى هذه الشَّجرةَ كبيرةً وهذه صَغيرةً، وهذه خَضراءَ وهذه بُنِّيَّةً؛ هذه زهرتُها بَيضاءُ، وهذه صَفراءُ، وهذه بِلَونٍ آخَرَ؛ ألوانٌ مختلِفةٌ مع أنَّ الماءَ واحدٌ والأرضَ واحدةٌ! وهذا دليلٌ على كَمال قدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
6- في قَولِه تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاستِدلالُ بتوحيدِ الرُّبوبيةِ على توحيدِ الألوهيَّةِ؛ فالمُشرِكونَ يُقِرُّونَ بأنَّه خَلْقُ اللهِ تعالى، فإذا أقَرُّوا به يَلزَمُهم الإقرارُ بتَوحيدِ الألوهيَّةِ ، فتَوحيدُ الرُّبوبيَّةِ أعظَمُ دليلٍ على توحيدِ الإلهيَّةِ؛ ولذلك وقَع الاحتِجاجُ به فى القرآنِ أكثَرَ ممَّا وقَع بغيرِه؛ لصِحَّةِ دَلالتِه، وظُهورِها، وقَبولِ العُقولِ والفِطَرِ لها، ولاعتِرافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وكذلك كان عُبَّادُ الأصنامِ يُقِرُّون به، ويُنكِرونَ توحيدَ الإلهيَّةِ، ويقولون: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] ، مع اعتِرافِهم بأنَّ اللهَ وحْدَه هو الخالقُ لهم ولِلسَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، وأنَّه المُنفرِدُ بملْكِ ذلك كلِّه، فأرسَل اللهُ تعالى الرُّسلَ تُذَكِّرُهم بما فى فِطَرِهم الإقرارُ به مِن تَوحيدِه وحْدَه لا شريكَ له، وأنَّهم لو رجَعوا إلى فِطَرِهم وعُقولِهم لَدَلَّتْهم على امتناعِ إلهٍ آخَرَ معه، واستِحالتِه وبُطلانِه .
7- قَولُه تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فلِلَّهِ ما أحلَى هذا اللَّفْظَ وأوجَزَه، وأدَلَّه على بُطلانِ الشِّركِ! فإنَّهم إن زعَموا أنَّ آلهتَهم خَلَقت شيئًا مع اللهِ طُولِبوا بأنْ يُرُوه إيَّاه، وإن اعتَرَفوا بأنَّها أعجَزُ وأضعَفُ وأقَلُّ مِن ذلك كانت إلهيَّتُها باطِلًا ومُحالًا !
8- في قَولِه تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاستِدلالُ بالأظهَرِ على ما يُنكِرُه الخَصمُ؛ فإنَّ هذا استِدلالٌ بأمرٍ ظاهرٍ واضِحٍ على أمرٍ يُنكِرُه الخَصمُ، وهو إنكارُ انفرادِ اللهِ تعالى بالأُلوهيَّةِ .
9- في قَولِه تعالى: فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ استِعمالُ التَّحدِّي في المُناظَرةِ .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئنافٌ للاستِدلالِ على الَّذين دأْبُهم الإعراضُ عن آياتِ اللهِ بأنَّ اللهَ هو خالِقُ المخلوقاتِ، فلا يَستحِقُّ غيرُه أنْ تُثْبَتَ له الإلهيَّةُ؛ فكان ادِّعاءُ الإلهيَّةِ لغيرِ اللهِ هو العِلَّةَ للإعراضِ عن آياتِ الكتابِ الحكيمِ؛ فهمْ لَمَّا أثْبَتوا الإلهيَّةَ لِمَا لا يَخلُقُ شيئًا، كانوا كمَن يَزعُمُ أنَّ الأصنامَ مُماثِلةٌ لله تعالى في أوصافِه؛ فذلك يَقْتضي انتِفاءَ وصْفِ الحِكمةِ عنه، كما هو مُنتَفٍ عنها؛ ولذا فإنَّ مَوقِعَ هذه الآياتِ مَوقعُ دَليلِ الدَّليلِ، وهو المقامُ المُعبَّرُ عنه في عِلمِ الاستِدلالِ بالتَّدقيقِ؛ وهو ذِكْرُ الشَّيءِ بدَليلِه ودَليلِ دَليلِه .
- وأدمَجَ في أثناءِ دَلائلِ صِفَةِ الحِكمةِ الامتِنانَ بما في ذلك مِن منافِعَ للخَلْقِ بقولِه: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ؛ فإنَّ مِن الدَّوابِّ المَبثوثةِ ما يَنتفِعُ به النَّاسُ؛ مِن أكْلِ لُحومِ أوانسِها ووُحوشِها، والانتِفاعِ بألْبانِها وأصوافِها، وجُلودِها وقُرونِها وأسنانِها، والحمْلِ عليها، والتَّجمُّلِ بها في مَرابطِها، وغُدوِّها ورَواحِها، ثمَّ مِن نِعمةِ مَنافعِ النَّباتِ؛ مِن الحَبِّ والثَّمرِ، والكلَأِ والكَمْأَةِ. وإذ كانتِ البحارُ مِن جُملةِ الأرضِ، فقد شمِلَ الانتِفاعَ بدَوابِّ البحرِ؛ فاللهُ كما أبدَعَ الصُّنعَ أسبَغَ النِّعمةَ، فأَرانا آثارَ الحِكمةِ والرَّحمةِ .
- وقولُه: تَرَوْنَهَا استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستِشهادِ على ما ذُكِرَ مِن خَلْقِه تعالى لها غيرَ مَعهودةٍ بمُشاهَدتِهم لها كذلك. أو صِفَةٌ لـ عَمَدٍ، أي: خلَقَها بغيرِ عمَدٍ مَرئيَّةٍ .
- قولُه: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا، في قولِه: وَبَثَّ التِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ في الفِعلينِ (أَنْزَلْنَا) وفَأَنْبَتْنَا؛ للاهتِمامِ بهذه النِّعمةِ الَّتي هي أكثَرُ دوَرانًا عندَ النَّاسِ .
2- قوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جُملةُ هَذَا خَلْقُ اللَّه إلى آخِرِها، نتيجةُ الاستِدلالِ بخلْقِ السَّماءِ والأرضِ، والجبالِ والدَّوابِّ، وإنزالِ المطَرِ. وهَذَا إشارةٌ إلى ما تَضمَّنَه قولُه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ إلى قولِه: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، والإتيانُ به مُفردًا بتأْويلِ: (المذكور) .
- وفي قولِه: هَذَا خَلْقُ اللَّه ... بكَّتَهم بأنَّ هذه الأشياءَ العظيمةَ ممَّا خلَقَه اللهُ وأنشَأَه؛ ففيه توبيخٌ للكفَّارِ، وإظهارٌ للحُجَّةِ عليهم .
- والانتِقالُ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ في قولِه: خَلْقُ اللَّه الْتِفاتًا؛ لزِيادةِ التَّصريحِ بأنَّ الخِطابَ واردٌ مِن جانبِ اللهِ؛ بقَرينةِ قولهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّه، وكذلك يكونُ الانتقالُ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ في قولِه: مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْتفاتًا؛ لمُراعاةِ العَودِ إلى الغَيبةِ في قولِه: خَلْقُ اللَّه .
- ويجوزُ أنْ تكونَ الرُّؤيةُ مِن قولِه: فَأَرُونِي عِلْميَّةً، أي: فأَنْبِئوني، والفِعلُ مُعلَّقًا عن العمَلِ بالاستفهامِ بـ (ماذا)؛ فيتعيَّنُ أنْ يكونَ فَأَرُونِي تهكُّمًا؛ لأنَّهم لا يُمكِنُ لهم أنْ يُكافِحوا اللهَ، زِيادةً على كَونِ الأمرِ مُستعمَلًا في التَّعجيزِ، لكنَّ التَّهكُّمَ أسبَقُ؛ للقطْعِ بأنَّهم لا يَتمكَّنون مِن مُكافَحةِ اللهِ قبْلَ أنْ يَقطَعوا بعَجْزِهم عن تعْيينِ مَخلوقٍ خلَقَه مَن دونَ اللهِ قطْعًا نظَريًّا، وصَوْغُ أمْرِ التَّعجيزِ مِن مادَّةِ الرُّؤيةِ البصَريَّةِ أشدُّ في التَّعجيزِ؛ لاقتِضائِها الاقتناعَ منهم بأنْ يُحضِروا شيئًا يَدَّعون أنَّ آلهتَهم خلَقَتْه .
- قولُه: الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فيه إجراءُ اسمِ مَوصولِ العُقلاءِ (الَّذين) على الأصنامِ؛ مُجاراةً للمُشرِكين؛ إذ يَعُدُّونهم عُقلاءَ .
- وفي قولِه: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إضرابٌ عن تَبْكيتِهم إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ الَّذي لا يَخْفَى على ناظرٍ، المُستدعي للإعراضِ عن مُخاطَبتِهم بالمُقدِّماتِ المَعقولةِ الحقَّةِ؛ لاستِحالةِ أنْ يَفْهَموا منها شيئًا، فيَهْتدوا به إلى العِلمِ ببُطلانِ ما هُم عليه، أو يَتأثَّروا مِن الإلزامِ والتَّبكيتِ، فيَنزجِرُوا عنه، وهذا يدُلُّ على أنَّهم في حَيْرةٍ واضحةٍ لمَن يَتدبَّرُ؛ لأنَّ مَن عبَدَ صَنمًا وترَكَ خالِقَه جديرٌ بأنْ يكونَ في حَيرةٍ وتِيهٍ لا يُقلِعُ عنه .
- وفي قولِه: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ ضَميرِهم -حيثُ لم يقُلْ: (بل هم)-؛ للدَّلالةِ على أنَّهم بإشراكِهم واضِعونَ للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه، ومُتعَدُّون عن الحُدودِ، وظالِمون لأنفُسِهم بتَعريضِها للعذابِ الخالِدِ .
- وجِيءَ بحرْفِ الظَّرفيةِ (فِي)؛ لإفادةِ اكتِنافِ الضَّلالِ بهم في سائرِ أحوالِهم، أي: شدَّةِ مُلابسَتِه إيَّاهم .