بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
- لَمَّا نَهَى المُنافِقونَ عن الإنفاقِ على مَن عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُرِيدَ الحثُّ على الإنفاقِ بقولِه: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون: 10] رغمًا لأنوفِهم، وتحرِّيًا لِمَا هو الأصوَبُ والأصلَحُ؛ جُعِلَ قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ ... تَمهيدًا وتوطِئةً للأمْرِ بالإنفاقِ، وعَمَّ العِلَّةَ والحُكمَ [199] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/441). .
- ونُودِيَ المُخاطَبونَ بطريقِ الموصولِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِنَ التَّهَمُّمِ لامتثالِ النَّهيِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- وصِيغَ الكلامُ في قالَبِ توجيهِ النَّهيِ عن الإلهاءِ عن الذِّكْرِ، إلى الأموالِ والأولادِ، والمرادُ نهْيُ أصحابِها، وهو استِعمالٌ معروفٌ، وقرينتُه هُنا قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وهو مُبالَغةٌ في نهْيِ أصحابِها عن الاشتِغالِ بسببِها عن ذِكْرِ اللهِ؛ فنُزِّلَ سَببُ الإلهاءِ مَنزِلةَ اللَّاهي للمُلابَسةِ بيْنَهما [201] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((تفسير أبي السعود)) (8/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- وخُصَّ الأموالُ والأولادُ بتوجُّهِ النَّهيِ عن الاشتِغالِ بها اشتغالًا يُلْهي عن ذِكْرِ اللهِ؛ لأنَّ الأموالَ ممَّا يكثُرُ إقبالُ النَّاسِ على إنمائِها، والتَّفكيرِ في اكتِسابِها؛ بحيثُ تكونُ أوقاتُ الشُّغلِ بها أكثَرَ مِن أوقاتِ الشُّغلِ بالأولادِ، ولأنَّها كما تَشْغَلُ عن ذِكْرِ اللهِ بصَرْفِ الوقتِ في كَسْبِها ونمائِها، تَشْغَلُ عن ذِكْرِه أيضًا بكَنْزِها؛ بحيثُ يُنسَى ذِكْرُ ما دعا اللهُ إليه مِن إنفاقِها. وأمَّا ذِكْرُ الأولادِ فهو إدماجٌ [202] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لأنَّ الاشتِغالَ بالأولادِ، والشَّفقةَ عليهم، وتدبيرَ شُؤونِهم، وقَضاءَ الأوقاتِ في التَّأنُّسِ بهِم؛ مِن شأنِه أنْ يُنسِيَ عن تذكُّرِ أمْرِ اللهِ ونهيِه في أوقاتٍ كثيرةٍ؛ فالشُّغلُ بهذَيْنِ أكثَرُ مِنَ الشُّغلِ بغَيرِهما. ومتى كان اللَّهوُ عن ذِكْرِ اللَّهِ بالاشتِغالِ بغَيرِ الأموالِ وغَيرِ الأولادِ، كان أَوْلَى بحُكمِ النَّهيِ، والوعيدِ عليهِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251، 252). .
- و(لا) في قولِه: وَلَا أَوْلَادُكُمْ نافيةٌ عاطفةٌ أَوْلَادُكُمْ على أَمْوَالُكُمْ، والمعطوفُ عليه مدخولُ (لا) النَّاهيةِ؛ لأنَّ النَّهيَ يتضمَّنُ النَّفيَ؛ إذْ هو طلَبُ عدمِ الفِعلِ، فـ(لا) النَّاهيةُ أصلُها (لا) النَّافيةُ أُشْرِبَتْ معنى النَّهيِ عِندَ قصدِ النَّهيِ، فجزَمَتِ الفِعلَ حملًا على مُضادَّةِ معنى لامِ الأمْرِ، فأُكِّدَ النَّهيُ عن الاشتغالِ بالأولادِ بحرفِ النَّفيِ؛ ليكونَ للاشتغالِ بالأولادِ حظٌّ مِثلُ حظِّ الأموالِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- قَولُه تعالى: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وكذلك في قَولِه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ [سبأ: 37] وقولِه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28] تقديمُ المالِ على الولدِ؛ وجاء ذِكْرُ البَنينَ مقدَّمًا في غيرِها كما في قَولِه: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا [التوبة: 24] ، وقولِه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14] ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ تقديمَ الأموالِ في تلك المواضعِ الثَّلاثةِ لِأنَّه يَنْتَظِمُها معنًى واحدٌ وهو التَّحذيرُ مِن الاشتغالِ بها، والحرصِ على تحصيلِها حتَّى يَفُوتَه حَظُّه مِن اللهِ والدَّارِ الآخرةِ! فنَهَى في موضعٍ عنِ الالتهاءِ بها، وأخبرَ في موضعٍ أنَّها فِتنةٌ، وأخبرَ في موضعٍ آخَرَ أنَّ الَّذي يُقَرِّبُ عبادَه إليه إيمانُهم وعمَلُهم الصَّالحُ، لا أموالُهم ولا أولادُهم، ففي ضِمْنِ هذا النَّهيُ عن الاشتغالِ بها عمَّا يُقَرِّبُ إليه، ومعلومٌ أنَّ اشتغالَ النَّاسِ بأموالِهم والتَّلاهيَ بها أعظمُ مِنِ اشتغالِهم بأولادِهم، وهذا هو الواقعُ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيستغرقُه اشتغالُه بمالِه عن مصلحةِ وَلَدِه وعن معاشرتِه وقُرْبِه، وأمَّا تقديمُهم على الأموالِ في تَيْنك الآيتَينِ فلِحكمةٍ باهرةٍ؛ وهي أنَّ آيةَ «براءة» متضمِّنةٌ لوعيدِ مَن كانت تلك الأشياءُ المذكورةُ فيها أحَبَّ إليه مِن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، ومعلومٌ أنَّ تَصَوُّرَ المجاهدِ فِرَاقَ أهلِه وأولادِه وآبائه وإخوانِه وعشيرتِه تمنعُه مِن الخروجِ عنهم أكثرَ ممَّا يمنعُه مفارقتُه مالَه؛ فإنْ تَصَوَّرَ معَ هذا أنْ يُقتَلَ فيُفَارِقَهم فِراقَ الدَّهرِ؛ نَفَرَتْ نفْسُه عن هذه أكثرَ وأكثرَ، ولا يكادُ عندَ هذا التَّصوُّرِ يَخْطُرُ له مُفارَقةُ مالِه! بل يغيبُ بمُفارَقةِ الأحبابِ عن مفارقةِ المالِ؛ فكان تقديمُ هذا الجنسِ أَولى مِن تقديمِ المالِ.
وأمَّا آيةُ (آل عمران)؛ فإنَّها لما كانت في سياقِ الإخبارِ بما زُيِّن للنَّاسِ مِن الشَّهواتِ التي آثَروها على ما عندَ الله واستَغْنَوا بها، قدَّم ما تَعَلُّقُ الشَّهوةِ به أقوَى، وهو النِّساءُ، التي فتنتُهنَّ أعظمُ فِتنِ الدُّنيا، ثمَّ ذكَر البنينَ المتولِّدينَ منهنَّ، فالإنسانُ يشتهي المرأةَ للَّذةِ والولدِ، وكلاهما مقصودٌ له لذاتِه، ثمَّ ذكَر شهوةَ الأموالِ؛ لأنَّها تُقْصَدُ لغيرِها، فشهوتُها شهوةُ الوسائلِ [205] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/74). .
وقيل: قدَّمَ ذِكْرَ الأموالِ على ذِكْرِ الأولادِ هنا؛ لأنَّها أهمُّ بحسَبِ السِّياقِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ في تَخصيصِ ذِكرِ الْخَاسِرُونَ إيماءٌ إلى أنَّ ذلك الإيثارَ في معْنى الاستِبدالِ، الَّذي هو بمَنزلةِ البيعِ والشِّراءِ. وفي التَّعريفِ الجنسيِّ في الْخَاسِرُونَ، وتَوسيطِ ضَميرِ الفصلِ بيْنَه وبيْنَ المبتدأِ؛ إشعارٌ بأنَّ الكاملينَ في الخسارةِ هؤلاء، وأنَّ خَسارَهم فوقَ كلِّ خُسرانٍ؛ حيثُ باعوا العظيمَ الباقيَ بالحقيرِ الفاني، وإنْ رَبِحوا في تجارتِهمُ الظَّاهرةِ، ودخَلَ في هذا العمومِ وعيدُ كلِّ مَن ذَهَلَ عن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وشُغِلَ عن الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وعن طلَبِ العِلمِ، وعن النَّصيحةِ للمُسلِمينَ؛ بسببِ مُراعاةِ شأنِ الأموالِ والأولادِ [207] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/441). .
- وأفاد ضميرُ الفَصلِ (هم) في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قَصْرَ صفةِ الخاسرِ على الَّذينَ يَفعلونَ الَّذي نُهُوا عنه، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [208] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). للمُبالَغةِ في اتِّصافِهِم بالخُسرانِ، كأنَّ خُسرانَ غَيرِهم لا يُعَدُّ خُسرانًا بالنِّسبةِ إلى خُسرانِهم [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
- والإشارةُ إليهم بقولِه: فَأُولَئِكَ للتَّنبيهِ على أنَّهُمُ اسْتحَقُّوا ما بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ بسببِ ما ذُكِرَ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، أَعْني: اللَّهوَ عن ذِكْرِ اللهِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ هذا إبطالٌ ونقضٌ لكَيدِ المُنافِقينَ حِينَ قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] ، وهو يَعُمُّ الإنفاقَ على المُلتفِّينَ حولَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإنفاقَ على غَيرِهِم؛ فكانت الجملةُ كالتَّذييلِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
- و(مِن) للتَّبعيضِ، أي: وأنفِقوا بعضَ ما رزَقْناكم، وهذه تَوسعةٌ مِنَ اللهِ على عبادِه [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- قولُه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فيه تقديمُ المفعولِ أَحَدَكُمُ على الفاعلِ الْمَوْتُ؛ لِلاهتمامِ بما قُدِّمَ، والتَّشويقِ إلى ما أُخِّرَ [213] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/254). .
- قولُه: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (لولا) حرفُ تَحضيضٍ، والتَّحضيضُ الطَّلَبُ الحَثِيثُ المُضْطَرُّ إليه [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- وحقُّ الفِعلِ بعدَ (لولا) أنْ يكونَ مُضارِعًا، وإنَّما جاء ماضيًا هنا أَخَّرْتَنِي؛ لتأكيدِ إيقاعِه في دُعاءِ الدَّاعي حتَّى كأنَّه قد تحقَّقَ، وقرينةُ ذلك ترتيبُ فِعْلَيْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عليهِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- ووصْفُ الأجَلِ بـ قَرِيبٍ تَمهيدٌ لتحصيلِ الاستجابةِ، بِناءً على مُتعارَفِ النَّاسِ أنَّ الأمرَ اليسيرَ أرْجَى لِأنْ يَستجيبَه المسؤولُ، فيغلِبَ ذلك على شعورِهم حِينَ يَسألونَ اللهَ فتَنساقُ بذلك نفوسُهم إلى ما عرَفوا [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- قولُه: وَأَكُنْ مَجزومٌ بسكونِ آخِرِه، على اعتبارِه جوابًا للطَّلَبِ مُباشَرةً؛ لعدمِ وجودِ فاءِ السَّببيَّةِ فيه، واعتبارِ الواوِ عاطفةً جملةً على جملةٍ، وليستْ عاطفةً مفردًا على مفردٍ؛ وذلك لقَصْدِ تَضمينِ الكلامِ معنى الشَّرطِ زِيادةً على معنى التَّسبُّبِ، فيُغْنِي الجزمُ عن فِعلِ شرطٍ، فتقديرُهُ: إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ؛ جمعًا بيْنَ التَّسبُّبِ المُفادِ بالفاءِ، والتَّعليقِ الشَّرطيِّ المُفادِ بجزمِ الفِعلِ. وإذْ قد كان الفِعلُ الأوَّلُ هو المُؤثِّرَ في الفِعلَيْنِ الواقِعِ أحَدُهُما بعْدَ فاءِ السَّببيَّةِ، والآخَرُ بعدَ الواوِ العاطفةِ عليهِ؛ فقَدْ أفاد الكلامُ التَّسبُّبَ والتَّعليقَ في كِلا الفِعلَينِ، وذلك يرجِعُ إلى مُحسِّنِ الاحتباكِ [217] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِر إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، فكأنَّه قيل: لولا أخَّرْتني إلى أجَلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكونَ مِن الصَّالحينَ، إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أصَّدَّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ. ومِن لطائفِ هذا الاستعمالِ أنَّ هذا السَّائلَ بعْدَ أنْ بثَّ سؤالَه أعقَبَه بأنَّ الأمْرَ مُمكِنٌ، فقال: إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أصَّدَّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ، وهو مِن بَدائعِ الاستِعمالِ القرآنيِّ لقَصْدِ الإيجازِ وتوفيرِ المعاني [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/254). .
3- قولُه تعالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
- قولُه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا اعتِراضٌ في آخِرِ الكلامِ؛ فالواوُ اعتراضيَّةٌ تذكيرًا للمُؤمِنينَ بالأجَلِ لكلِّ رُوحٍ عندَ حُلولِها في جسدِها حينَ يُؤمَرُ المَلَكُ الَّذي يَنفُخُ الرُّوحَ بكَتْبِ أجَلِه وعمَلِه ورِزقِه، وشقِيٌّ أو سعيدٌ؛ فالأجَلُ هو المُدَّةُ المُعيَّنةُ لحياتِه، لا يُؤَخَّرُ عن أمَدِه، فإذا حضَرَ الموتُ كان دعاءُ المُؤمِنِ اللهَ بتأخيرِ أجَلِه مِنَ الدُّعاءِ الَّذي لا يُستجابُ؛ لأنَّ اللهَ قدَّرَ الآجالَ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .
- وَلَنْ لتأكيدِ نفيِ التَّأخيرِ. وعمومُ نَفْسًا في سِياقِ النَّفيِ يَعُمُّ نفوسَ المُؤمِنينَ وغَيرِهم [220] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/544)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/255). .
- قولُه: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَطْفٌ على جُملةِ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ [المنافقون: 9] ، أو تذييلٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، ويُفيدُ بِناءُ الخبرِ على الجملةِ الاسميَّةِ تحقيقَ عِلمِ اللهِ بما يعمَلُه المُؤمِنونَ. ولَمَّا كان المُؤمِنونَ لا يُخامِرُهم شكٌّ في ذلك، كان التَّحقيقُ والتَّقَوِّي راجعًا إلى لازمِ الخبرِ، وهو الوعدُ والوعيدُ، والمقامُ هُنا مقامُهما؛ لأنَّ الإنفاقَ المأمورَ به مِنه الواجبُ والمندوبُ، وفِعلُهما يَستحِقُّ الوعْدَ، وترْكُ أوَّلِهما يَستحِقُّ الوعيدَ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .
- وأيضًا في قولِه: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ إيثارُ وصْفِ خَبِيرٌ دونَ (عليمٍ)؛ لِمَا تُؤْذِنُ به مادَّةُ خَبيرٍ مِنَ العِلمِ بالأمورِ الخفيَّةِ؛ ليُفِيدَ أنَّه تعالَى عليمٌ بما ظهَرَ مِنَ الأعمالِ وما بَطَنَ؛ مِثلَ أعمالِ القلبِ الَّتي هي العزائمُ والنِّيَّاتُ، وإيقاعُ هذه الجملةِ بعْدَ ذِكْرِ ما يقطَعُه الموتُ مِنِ ازْديادِ الأعمالِ الصَّالحةِ إيماءٌ إلى أنَّ ما عسى أنْ يقطَعَه الموتُ مِنَ العزمِ على العملِ إذا كان وقتُه المُعيَّنُ له شرعًا مُمْتَدًّا، كالعُمرِ للحجِّ على المُستطيعِ لِمَن لم يتوقَّعْ طُرُوَّ مانِعٍ، وكالوقتِ المختارِ للصَّلواتِ؛ أنَّ حَيلولةَ الموتِ دونَ إتْمامِه لا يُرزِئُ المؤمنَ ثَوابَه؛ لأنَّ المؤمنَ إذا اعتادَ حِزبًا، أو عزَمَ على عملٍ صالحٍ، ثمَّ عرَضَ له ما مَنَعَه منه؛ أنَّ اللهَ يُعطِيه أجْرَه [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .