موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (34-39)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مُتْرَفُوهَا: أي: المُنَعَّمونَ فيها، الَّذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، وأصلُ (ترف): يدُلُّ على التَّوسُّعِ في النِّعمةِ [575] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/345)، ((المفردات)) للراغب (ص: 166)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 308)، ((تفسير القرطبي)) (14/305). .
يَبْسُطُ: أي: يُوَسِّعُ ويُكَثِّرُ، وأصلُ (بسط): يدُلُّ على امتِدادِ شَيءٍ [576] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247)، ((المفردات)) للراغب (ص: 123). .
وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، ويُقَتِّرُ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه، كأنَّما جُعِل رِزقُه بقَدْرٍ يَسيرٍ [577] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((تفسير ابن كثير)) (7/194)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 297). .
زُلْفَى: أي: قُرْبى ومَنزِلةً، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على اندفاعٍ وتقدُّمٍ في قُرْبٍ إلى شَيءٍ [578] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 357)، ((تفسير ابن جرير)) (19/295)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 308)، ((تفسير القرطبي)) (14/305). .
الضِّعْفِ: أي: التَّضعيفِ والزِّيادةِ، وأصلُ (ضعف): يدُلُّ على أن يُزادَ الشَّيءُ مِثلَه [579] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 357، 358)، ((تفسير ابن جرير)) (19/297)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/362)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/501). .
الْغُرُفَاتِ: أي: المنازلِ الرَّفيعةِ والعاليةِ في الجنَّةِ، والغَرْفُ: رفْعُ الشَّيءِ وتَناوُلُه [580] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/418)، ((المفردات)) للراغب (ص: 605)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 344). .
يُخْلِفُهُ: أي: يُعطيكم خلَفَه وبدَلَه، وأصلُه: مجيءُ شَيءٍ بعدَ شَيءٍ يقومُ مَقامَه [581] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 294)، ((تفسير القرطبي)) (14/307). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى موقفَ المُترَفينَ مِن رُسلِ الله، وما كانوا يَتذَرَّعونَ به للبقاءِ على كفرِهم، فيقولُ: وما أرسَلْنا في قَريةٍ مِن رَسولٍ يُنذِرُ أهلَها عذابَ اللهِ إلَّا قال المُترَفونَ منهم: إنَّا كافِرونَ بما أرسَلَكم اللهُ به، وقالوا: نحن أكثَرُ منكم أموالًا وأولادًا، ولن يُعَذِّبَنا اللهُ!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه أنْ يرُدَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك الكافِرينَ: إنَّ رَبِّي يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ منهم، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ، وما أموالُكم ولا أولادُكم هي الَّتي تُدنيكم مِنَّا قُربةً ومَنزِلةً إلَّا مَن آمَن وعَمِل صالِحًا، فيُضاعِفُ اللهُ لهم جَزاءَه، وهم مُقيمونَ في غُرُفاتِ الجنَّةِ آمِنونَ.
والَّذين يَجتَهِدونَ في إبطالِ آياتِ اللهِ تعالى وصَدِّ النَّاسِ عنها: أولئك مُحضَرونَ في العَذابِ.
قل -يا مُحمَّدُ-: إنَّ رَبِّي يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ منهم، وما أنفَقْتُم مِن شَيءٍ فإنَّ اللهَ يُخلِفُ عليكم، واللهُ هو خَيرُ الرَّازِقينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَرَ قَولَ المُشرِكينَ لِرَسولِه: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] بعدَ أنْ طال به الأمَدُ في دعوتِهم حتَّى لَحِقَه مِن ذلك الغَمُّ الكثيرُ- سَلَّاه على ما ابتُليَ به مِن مُخالَفةِ مُترَفي قَومِه له، وعداوتِهم إيَّاه: بالتَّأسِّي بمَن قَبْلَه مِن الرُّسُلِ؛ فهو ليس بِدْعًا مِن بيْنِهم؛ فما مِن نبيٍّ بُعِث في قريةٍ إلَّا كذَّبَه مُترَفُوها، واتَّبَعه ضُعَفاؤُها [582] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (22/87). .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34).
أي: وما أرسَلْنا في قَريةٍ مِن رَسولٍ يُنذِرُ أهلَها عذابَ اللهِ إلَّا قال الأغنياءُ المترَفونَ منهم: إنَّا كافِرونَ بما أرسَلَكم اللهُ به [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/293)، ((تفسير ابن كثير)) (6/520، 521)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681). !
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35).
أي: وقالوا أيضًا: نحن أكثَرُ منكم أموالًا وأولادًا، ولن يُعَذِّبَنا اللهُ؛ فلو لم يكُنْ راضيًا عنَّا وعن دينِنا وأعمالِنا، لَما أحسَنَ إلينا وبسَطَ لنا الرِّزقَ [584] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/294)، ((تفسير القرطبي)) (14/305)، ((تفسير ابن كثير)) (6/521)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681). !
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لأولئك الكافِرينَ: إنَّ رَبِّي يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ منهم؛ فهو المتصَرِّفُ في تدبيرِ خَلقِه بحَسَبِ مَشيئتِه وحِكمتِه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ [585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/294)، ((تفسير القرطبي)) (14/305)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/213، 214). قيل: معنى قولِه تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ: لا يَعلَمون بأنَّ اللهَ يوسِّعُ الرِّزقَ ويُضَيِّقُه بحسَبِ مشيئتِه وحِكمتِه؛ فبَسْطُه لا يدُلُّ على محبَّةِ الله لعبدِه، ولا تضييقُه دالٌّ على بُغضِه له. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جريرٍ، والرَّازيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/294)، ((تفسير الرازي)) (25/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/214). .
ثمَّ صرَّح بإبطالِ ما قالوه، وأكْذَبهم فيه [586] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/249). ، فقال:
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37).
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى.
أي: وليستْ أموالُكم ولا أولادُكم بالَّتي تُقرِّبُ إلى الله قُرْبَى، ولا تَزيدُكم عِندَنا رِفعةً ودَرَجةً؛ فليست بدَليلٍ على محبَّتِنا لكم، واعتِنائِنا بكم [587] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 357)، ((تفسير ابن جرير)) (19/295)، ((تفسير القرطبي)) (14/305)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681). قال القرطبي: (زُلْفَى قال مجاهدٌ: أي: قُربَى. والزُّلْفَةُ: القربةُ. وقال الأخفشُ: أي: إزلافًا، وهو اسمُ المصدرِ، فيكونُ موضعُ «قُرْبَى» نصبًا، كأنَّه قال: بالَّتي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تقريبًا). ((تفسير القرطبي)) (14/305). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولكِنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم وأعمالِكم )) [588] رواه مسلم (2564). .
إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا.
أي: لكنِ المؤمِنونَ الَّذين عَمِلوا الصَّالحاتِ يُقَرِّبُهم عِندَنا إيمانُهم وعمَلُهم الصَّالحُ؛ فيُضاعِفُ اللهُ لهم جزاءَهم [589] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/306)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/71، 72)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681). ممَّن قال بأنَّ الاستثناءَ هنا منقطِعٌ: القرطبيُّ، وابنُ القيِّم، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن اختار أنَّ الاستثناءَ هنا مُتَّصِلٌ: البِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/515)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/217). قال السمعاني: (وقولُه: إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فيه قولان: أحدهما: أنَّ هذا استثناءٌ مُنقطِعٌ، ومعناه: لَكِن [مَن] آمَن وعمِل صالحًا. والقولُ الثَّاني: أنَّ معنى الآيةِ إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فأولئك تُقَرِّبُهم أموالُهم وأولادُهم إلى طاعةِ الله. وهذا أظهرُ القولينِ). ((تفسير السمعاني)) (4/336). .
وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ.
أي: وهم مُقيمونَ في غُرُفاتِ الجنَّةِ، آمِنونَ مِن كُلِّ شَرٍّ وأذًى [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير القرطبي)) (14/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681). قال ابن عثيمين: (مَن دخَل الجنَّةَ فهو آمِنٌ مِن كُلِّ مَخوفٍ: آمِنٌ مِن الموتِ، ومِن المرضِ، ومِن انقِطاعِ النَّعيمِ، ومِن فسادِ الثِّمارِ، ومِن كُلِّ شَيءٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 224). .
كما قال تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان: 75].
وقال سُبحانَه: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [الزمر: 20] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ لَيَتراءَونَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهم كما تتراءَونَ الكوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ [591] الكوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ: أي: الكوكَبَ الشَّديدَ الإضاءةِ، الباقيَ في الأُفقِ بعدَ انتشارِ ضَوءِ الفَجرِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (5/285). مِن الأُفُقِ مِنَ المَشرِقِ أو المَغرِبِ؛ لِتَفاضُلِ ما بيْنَهم، قالوا: يا رسولَ اللهِ، تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يَبلُغُها غَيرُهم؟! قال بلى والَّذي نفْسي بيَدِه، رِجالٌ آمَنوا باللهِ، وصَدَّقوا المُرسَلينَ )) [592] رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831) واللَّفظُ له. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ غُرفةً يُرى ظاهِرُها مِن باطنِها، وباطِنُها مِن ظاهِرِها! فقال أبو موسى الأشعريُّ: لِمَن هي يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لِمَن ألانَ الكلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وبات لله قائِمًا والنَّاسُ نيامٌ )) [593] أخرجه أحمد (6615) واللفظ له، والطبراني (14/80) (14687)، والحاكم (270). صحَّحه على شرط الشيخينِ الحاكِمُ، وحَسَّن إسنادَه المُنْذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/289)، والهَيْثَميُّ في ((مجمع الزوائد)) (2/257)، والبُوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/232) وقال: (وله شاهِدٌ)، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (617): (حسَنٌ صحيحٌ). .
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى جَزاءَ مَن آمَن؛ ذكَرَ عِقابَ مَن كَفَر؛ لِيَظهَرَ تَبايُنُ الجَزاءَينِ [594] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/555). قال ابنُ عاشورٍ: (جرَى الكلامُ على عادةِ القرآنِ في تعقيبِ التَّرغيبِ بالتَّرهيبِ وعكسِه...). ((تفسير ابن عاشور)) (22/218). .
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38).
أي: والَّذين يَجتَهِدونَ في إبطالِ آياتِ اللهِ تعالى وصَدِّ النَّاسِ عنها يَحسَبونَ أنَّهم يَفوتونَنا بأنفُسِهم ويُعجِزونَنا [595] قيل: معنى مُعَاجِزِينَ: أنَّهم يَحسَبونَ أنَّهم يَفوتونَنا بأنفُسِهم ويُعجِزونَنا فلا نَقدِرُ على مُعاقَبَتِهم. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والخازنُ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير القرطبي)) (14/307)، ((تفسير الخازن)) (3/449)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 237). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/383). قال ابن عاشور: (ومُعَاجِزِينَ مُغالِبينَ طَالِبينَ العَجْزَ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/218). وقال البِقاعي: (مُعَاجِزِينَ أي: طالبينَ تعجيزَها، أي: تعجيزَ الآتِينَ بها عن إنفاذِ مُراداتِهم بها، بما يُلقونَه مِن الشُّبَهِ، فيُضِلُّونَ غيرَهم بما أوسَعْنا عليهم وأعزَزْناهم به مِن الأموالِ والأولادِ). ((نظم الدرر)) (15/516). : أولئك سيُحضَرونَ العذابَ في جهنَّمَ، ويُعذَّبونَ فيها [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير القرطبي)) (14/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/218)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 235-238). ممَّن نصَّ على أنَّ المرادَ بالعذابِ: عذابُ جهنَّمَ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير القرطبي)) (14/307)، ((تفسير الشوكاني)) (4/379)، ((تفسير القاسمي)) (8/152). وقال ابن عثيمين: (رُبَّما يقولُ قائِلٌ: إنَّهم في العذابِ مُحضَرون حتَّى في الدُّنيا، ويكونُ المرادُ بالعذابِ هنا العذابَ القَلبيَّ؛ لأنَّ الكافِرَ مهما نُعِّم في الدُّنيا فإنَّه في ألمٍ وعذابٍ في قَلبِه؛ لأنَّ الكافِرَ لا يَشبَعُ مِن الدُّنيا، فهو في حُزنٍ خَوفًا مِن ذَهابِ الموجودِ، وفي همٍّ طلبًا لوجودِ المفقودِ؛ لأنَّه يريدُ أن تنموَ له الدُّنيا وتَزدهِرَ، ويخشى أيضًا مِن أن تفوتَ، بخِلافِ المؤمنِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 238). وقال السمعاني: (مُحْضَرُونَ أي: مُدْخَلونَ). ((تفسير السمعاني)) (4/337). .
كما قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحج: 51] .
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 16] .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان افتِخارُ الكافِرينَ بكَثرةِ الأموالِ والأولادِ؛ أُخبِروا أنَّ ذلك جارٍ على ما شاء اللهُ، لا أنَّه على حَسَبِ الاستحقاقِ ولا التَّكرِمةِ ولا الهَوانِ [597] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/555). .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: إنَّ رَبِّي يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه [598] قيل: المرادُ بقولِه: عِبَادِهِ هنا: عمومُ النَّاسِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 239، 240). وذكر ابنُ عثيمين أنَّ العبوديَّةَ هنا هي العبوديَّةُ العامَّةُ؛ لأنَّه يُشاهَدُ أنَّ المؤمنينَ والكافرينَ على السَّواءِ في ذلك؛ فمِنهم مَن يَبسُطُ الله له الرِّزقَ، ومِنهم مَن يُضيِّقُه له. وقيل: المرادُ بهم: المؤمنون. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عطيَّة، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/423)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/219، 220). ، ويُضَيِّقُه على مَن يشاءُ مِنهم؛ بحَسَبِ مَشيئتِه وحِكمتِه [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/219). .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
أي: وما أنفَقْتُم مِن نَفَقةٍ في الخَيرِ والبِرِّ فإنَّ اللهَ يُخلِفُ عليكم ما أنفَقْتُم، فيُعَوِّضُكم بدَلَه [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/298)، ((الوسيط)) للواحدي (3/497)، ((تفسير القرطبي)) (14/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/523)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 241-243). قال ابنُ عاشور: (ظاهِرُ الآيةِ أنَّ إخلافَ الرِّزقِ يقعُ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/220). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/523). قال ابن عثيمين: (اللهُ عزَّ وجَلَّ يُعطيك بدلًا عنه بالكَمِّيَّةِ؛ إذا أنفَقْتَ عَشَرةً أعطاك عشَرةً، أو بالكيفيَّةِ؛ بمعنى: أنَّ الباقيَ يُنزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى به البَرَكةَ حتَّى يكونَ مقابِلًا لِما أنفَقْتَ مَضمومًا إليه. والظَّاهرُ أنَّه يَشملُ الأمْرَينِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 242). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أنفِقْ أُنفِقْ عليك )) [601] رواه البخاري (4684)، ومسلم (993). .
وعنه أيضًا رَضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما نقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ )) [602] رواه مسلم (2588). .
وعنه أيضًا رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن يومٍ يُصبِحُ العِبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنزِلانِ، فيقولُ أحَدُهما: اللَّهمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أعطِ مُمسِكًا تَلَفًا )) [603] رواه البخاري (1442)، ومسلم (1010). .
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
أي: واللهُ هو خيرُ مَن يَرزُقُ عبادَه، ويُعطيهم مِن خزائِنِه الَّتي لا تَفنى [604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/299)، ((تفسير البغوي)) (3/683)، ((تفسير القرطبي)) (14/308)، ((تفسير ابن كثير)) (6/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 681)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/218). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ التَّحذيرُ مِن التَّرَفِ؛ حيث كان التَّرَفُ سَبَبًا للشَّرِّ والبَلاءِ والكُفرِ، وقد كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يَنهى عن كثرةِ الإرفاهِ [605] الإرفاهُ: الإفراطُ في التَّنَعُّمِ مِن التَّدهينِ والتَّرجيلِ، ومنه أُخِذَت الرَّفاهيةُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2827). ، ويأمُرُ بالاحتِفاءِ أحيانًا [606] يُنظر ما أخرجه أبو داود (4160)، وأحمد (23969) من حديثِ فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ رضي الله عنه. ذكر ثبوتَه الشوكانيُّ في ((نيل الأوطار)) (1/15)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4160)، وجوَّد إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (4/289). ؛ فهو لا يَنهى عن الرَّفاهيةِ مُطلقًا، ولكنْ عن كَثرتِها، ويأمُرُ بالاحتِفاءِ، أي: أنْ نَمشيَ حُفاةً أحيانًا [607] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 223). .
2- قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ فيه أنَّ الرِّزقَ في الدُّنيا لا تدُلُّ سَعَتُه وضِيقُه على حالِ المحِقِّ والمُبطِلِ؛ فكم مِن موسِرٍ شَقيٍّ، ومُعسِرٍ تَقيٍّ؛ فقِلَّةُ الرِّزقِ وضَنكُ العَيشِ، وكَثرةُ المالِ وخِصبُ العَيشِ: بالمشيئةِ مِن غيرِ اختِصاصٍ بالفاسِقِ والصَّالحِ [608] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/209). .
3- في قَولِه تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أنَّ الأرزاقَ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويترتَّبُ على هذا فائدةٌ: وهي أنْ نَطْلُبَ الرِّزقَ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّه هو الَّذي يَبْسُطُ الرِّزقَ ويَقْدِرُ، ويَتَفَرَّعُ على ذلك: ألَّا نَطلُبَ رزقَ اللهِ سُبحانَه وتعالى بمعاصيه؛ لأنَّ طَلَبَ رزقِ اللهِ بمعاصيه مُنافٍ للأدبِ، كيف تَطلُبُ الرِّزقَ ممَّن بيدِه الرِّزقُ بمعصيتِه؟! ولهذا حَذَّرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن ذلك، فقال: ((أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا الله، وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ؛ فإنَّ نفْسًا لن تموتَ حتَّى تَستوفيَ رِزْقَها، وإنْ أبطَأ عنها، فاتَّقوا الله، وأجْمِلوا في الطَّلَبِ )) [609] أخرجه ابن ماجه (2144) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3109)، والحاكم (2135). صحَّحه الحاكمُ على شرطِ مسلمٍ، وحسَّنه ابنُ عبد البرِّ في ((التمهيد)) (24/435)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2144). والحديثُ رُويَ مِن طرقٍ أخرى. ، يعني: اطلُبوا الرِّزقَ طلبًا جميلًا -وهو ما وافقَ الشَّرعَ-، وعلى هذا فطلَبُ الرِّزقِ بالغشِّ والكذِبِ والظُّلْمِ طلَبٌ غيرُ مشروعٍ؛ بل وينافي الأدبَ مع اللهِ عزَّ وجلَّ [610] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 244). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى أنَّ كثرةَ الأموالِ والأولادِ لا تَستلزِمُ القُرْبَ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ مِن النَّاسِ مَن يكونُ كثيرَ المالِ والولدِ وهو مِن أبْعَدِ النَّاسِ عن اللهِ سُبحانَه وتعالى! ومِن النَّاسِ مَن يكونُ قليلَ المالِ والولدِ وهو مِن أقربِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى [611] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 233). ! إنَّما الَّذي يُقرِّبُ مِن الله زُلْفى: الإيمانُ بما جاء به المرسَلونَ، والعملُ الصَّالحُ الَّذي هو مِن لَوازمِ الإيمان؛ لذا قال تعالى: إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ [612] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 681). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ الحَثُّ على الإنفاقِ، فمَن أنفَق في الخيرِ فالخَلَفُ مضمونٌ له [613] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 242، 244). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ دلَّ بإفرادِ النِّذارةِ عن البِشارةِ أنَّ غالِبَ الأُمَمِ الماضيةِ مِن أهلِ النِّذارةِ؛ لِتَظهَرَ مزيَّةُ هذه الأمَّةِ [614] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/512). .
2- في قَولِه تعالى: يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله سُبحانَه [615] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 227). .
3- قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ فأكثَرُ النَّاسِ تَلتبِسُ عليهم الأُمورُ فيَخلِطون بيْنَها، ولا يَضَعون في مَواضعِها زَيْنَها وشَيْنَها، وقد أفاد هذا أنَّ حالَهم غيرُ دالٍّ على رِضا اللهِ عنهم ولا على عَدَمِه، وهذا الإبطالُ هو ما يُسمَّى في عِلمِ المُناظَرةِ نقْضًا إجماليًّا [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/213، 214). والنَّقضُ عندَ الجدَليِّينَ: هو تخلُّفُ الحُكمِ عن الدَّليلِ. ويَنقسِمُ إلى قِسْمَينِ: إجماليٍّ، وتفصيليٍّ؛ فالإجماليُّ: تخلُّفُه للقدحِ في بعضِ مقدِّماتِه لا على التَّعيينِ. والتَّفصيليُّ: للقدحِ في مقدِّمةٍ مُعَيَّنةٍ. يُنظر: ((الغيث الهامع شرح جمع الجوامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 631)، ((الفوائد السنية في شرح الألفية)) للبرماوي (5/137). .
4- في قَولِه تعالى: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا أنَّ الجزاءَ على الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ مُضاعَفٌ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 234). .
5- في قَولِه تعالى: بِمَا عَمِلُوا إثباتُ الأسبابِ؛ فالباءُ في قَولِه: بِمَا باءُ السَّببيَّةِ، أي: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعَل العمَلَ سببَ دُخولِ الجَنَّةِ [618] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 232، 234). .
6- في قَولِه تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ أنَّ مَنازِلَ الجنَّةِ عاليةٌ، فالغُرْفةُ: المنزلُ العالي [619] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 234). .
7- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ تمامُ رُبوبيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وسُلطانِه؛ لكَونِه يَبسُطُ ويَقْدِرُ، ولا أحدَ يُمكِنُ أنْ يَعترِضَ عليه، وحتَّى لو اعتَرَضَ عليه فلا يَنفَعُ هذا الاعتِراضُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى مُدَبِّرٌ لِمَا يَشاءُ [620] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 244). .
8- قَولُه تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ نَعيمَ الآخِرةِ لا يُنافي نِعمةَ الدُّنيا، فالصَّالِحونَ قد يحصُلُ لهم في الدُّنيا النِّعَمُ مع القطْعِ بحصولِ النَّعيمِ لهم في العُقْبَى بِناءً على الوعدِ [621] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/210). .
9- في قَولِه تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ رَدٌّ على الجَبْريَّةِ -وهم الجَهمِيَّةُ- حيث أضاف الفِعلَ إلى العَبدِ، والجَبريَّةُ يقولون: إنَّ الإنسانَ مَسلوبُ القُدرةِ والاختيارِ، وفِعلُه لا يُنسَبُ إليه إلَّا على سبيلِ المَجازِ، وإلَّا فإنَّه لا اختيارَ له في فِعلِه [622] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 245). !
10- قال الله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ في قَولِه عزَّ وجلَّ: فَهُوَ يُخْلِفُهُ أنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ للهِ سُبحانَه وتعالى، وفيها رَدٌّ على القَدَريَّةِ؛ فالعبدُ يأتيه رزقُه كثيرًا مِن كَسْبِه: مِن تجارةٍ أو حَرْثٍ أو عمَلٍ وغيرِ ذلك، ففيه دليلٌ على أنَّ فِعلَ العبدِ مخلوقٌ لله سُبحانَه وتعالى [623] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 245). .
11- قال تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ بصيغةِ التَّفضيلِ؛ نَظرًا إلى أنَّ بَعضَ المخلوقينَ يَرزُقُ بَعضَهم، قال تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] ، وقال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة: 233] ، ولا شَكَّ أنَّ فَضْلَ رَزقِ اللهِ خَلْقَه على رَزقِ بعضِ خَلقِه بعضَهم: كفَضلِ ذاتِه وسائِرِ صفاتِه على ذواتِ خَلقِه وصِفاتِهم [624] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/344). ، وأيضًا فرِزقُ غيرِ اللهِ تعالى هو مِن رزقِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ الَّذي يُعطي إنَّما يُعطي مِن رزقِ اللهِ تعالى الَّذي أعطاه، وأيضًا فإنَّ رِزقَ غيرِ اللهِ سُبحانَه وتعالى رِزقٌ محدودٌ، ليس شاملًا لكلِّ أحَدٍ، وليس شامِلًا لكلِّ زمَنٍ، بخِلافِ رِزقِ اللهِ تعالى؛ فهو رِزقٌ شامِلٌ عامٌّ، كثيرٌ دائِمٌ [625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 245). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ اعتِراضٌ للانتِقالِ إلى تَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا ابتُلِيَ به مِن المُشرِكينَ مِن أهْلِ مكَّةَ، وبخاصَّةٍ ما قابَلَه به سادتُهم وكُبَراؤهم مِن التَّأليبِ عليه، بتَذكيرِه أنَّ تلك سُنَّةُ الرُّسلِ مِن قبْلِه؛ فليس في ذلك غَضاضةٌ عليه، والتَّعريضِ بقَومِه الَّذين عادَوه بتَذكيرِهم عاقبةَ أمثالِهم مِن أهْلِ القُرى الَّتي كذَّبَ أهْلُها برُسلِهم وأغْراهم بذلك زُعماؤُهم [626] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/585)، ((تفسير البيضاوي)) (4/248)، ((تفسير أبي حيان)) (8/553)، ((تفسير أبي السعود)) (7/135)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/211، 212). .
- وتَخصيصُ المُتنعِّمينَ بالتَّكذيبِ في قولِه: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ؛ لأنَّ الدَّاعيَ إليه التَّكبُّرُ والمُفاخَرةُ بزَخارفِ الدُّنيا، والانهماكُ في الشَّهواتِ، والاستهانةُ بمَن لم يَحْظَ منها؛ ولذلك ضَمُّوا التَّهكُّمَ والمُفاخَرةَ إلى التَّكذيبِ فقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [627] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/248)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/566)، ((تفسير أبي حيان)) (8/553)، ((تفسير أبي السعود)) (7/135). .
- وفي بِناءِ قولِه: مُتْرَفُوهَا للمَفعولِ تَعريضٌ بالتَّذكيرِ بنِعمةِ اللهِ عليهم؛ لعلَّهم يَشكُرونَها، ويُقلِعون عن الإشراكِ به [628] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/212). .
2- قَولُه تعالى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ تَقفيةٌ مِن الكافرينَ على صَريحِ كُفْرِهم بالقُرآنِ وغيرِه مِن الشَّرائعِ، بكلامٍ كَنَّوْا به عن إبطالِ حَقِّيَّةِ الإسلامِ بدَليلٍ سُفسطائيٍّ؛ فجَعَلوا كثرةَ أموالِهم وأولادِهم حُجَّةً على أنَّهم أهلُ حَظٍّ عندَ اللهِ تعالى! وهذا مِن تَمويهِ الحَقائقِ بما يَحُفُّ بها مِن العوارضِ، فجَعَلوا ما حَفَّ بحالِهم في كُفرِهم مِن وَفرةِ المالِ والولَدِ حُجَّةً على أنَّهم مَظِنَّةُ العِنايةِ عندَ اللهِ، وأنَّ ما هم عليه هو الحقُّ. وهذا تَعريضٌ منهم بعَكسِ حالِ المسلمينَ؛ بأنَّ حالَ ضَعفِ المُسلمين، وقِلَّةِ عَدَدِهم، وشَظَفِ عَيْشِهم؛ حُجةٌ على أنَّهم غيرُ مَحظوظينَ عندَ اللهِ [629] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/212، 213). !
- ولَمَّا كانت الأموالُ في الأغلَبِ سَبَبًا لكَثرةِ الأولادِ بالاستِكثارِ مِن النِّساءِ الحرائِرِ والإماءِ؛ قدَّمَها، فقال: أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا [630] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/513). .
- وقولُ الكافرينَ: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كالنَّتيجةِ لِقَولِهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وإنَّما جِيءَ فيه بحَرْفِ العطْفِ؛ لِتَرجيحِ جانبِ الفائدةِ المُستقِلَّةِ على جانبِ الاستنتاجِ الَّذي يُومِئُ إليه ما تَقدَّمَه، وهو قولُهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا؛ فحصَلَ مِن هذا النَّظمِ استدلالٌ لِصِحَّةِ دِينِهم، ولإبطالِ ما جاء به الإسلامُ، ثمَّ الافتخارُ بذلك على المسلمينَ والضَّعةِ لجانبِ المسلمينَ، بإشارةٍ إلى قِياسٍ استثنائيٍّ بِناءً على مُلازمةٍ مَوهومةٍ، وكأنَّهم استَدَلُّوا بانتفاءِ التَّعذيبِ على أنَّهم مُقَرَّبونَ عندَ اللهِ، بِناءً على قياسِ مُساواةٍ مَطْويٍّ، فكأنَّهم حَصَروا وسائلَ القُربِ عندَ اللهِ في وَفرةِ الأموالِ والأولادِ [631] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/213). .
3- قَولُه تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خَصَّ هذه السُّورةَ بذِكرِ الرَّبِّ في قولِه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وذلك لأنَّه تَكرَّرَ فيها مرَّاتٍ كثيرةً؛ منها: بَلَى وَرَبِّي [سبأ: 3] ، وبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] ، ورَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ: 19] ، ويَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا [سبأ: 26] ، ومَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [632] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 209)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/384). [سبأ: 31] .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّه لم يَذكُرْ هنا مِنْ عِبَادِهِ، وذكَرَه بعْدَه قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: 39] ؛ لأنَّ المُرادَ بهمْ هنا الكُفَّارُ. وذكَرَهُ مع الثَّاني؛ لأنَّهم المُؤمِنون [633] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 209)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/384). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
4- قَولُه تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ
- جُملةُ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَلامٌ مُستأنَفٌ مِن جِهَتِه عزَّ وعَلا خُوطِبَ به النَّاسُ. ويجوزُ أن تكونَ عطْفًا على جُملةِ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ [سبأ: 36] ؛ فيكون ممَّا أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَقولَه لهم ويُبلِّغَه عن اللهِ تعالى، ويكون في ضَميرِ عِنْدَنَا الْتفاتٌ؛ مُبالَغةً في تَحقيقِ الحقِّ وتَقريرِ ما سبَقَ، وتكون ضمائرُ الخِطابِ عائدةً إلى الَّذين قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] ؛ وهو ارتقاءٌ مِن إبطالِ المُلازَمةِ إلى الاستِدلالِ على أنَّهم لَيسوا بمَحلِّ الرِّضا مِن اللهِ تعالى، على طَريقةِ النَّقضِ التَّفصيليِّ؛ فقد أبطَلَتِ الآيةُ أنْ تكونَ أموالُهم وأولادُهم مُقرِّبةً عندَ اللهِ تعالى، وأنَّه لا يُقرِّبُ إلى اللهِ إلَّا الإيمانُ والعمَلُ الصَّالحُ [634] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/215)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/102). .
- وفي قولِه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا جِيءَ بالجُملةِ المَنفيَّةِ في صِيغةِ حَصرٍ بتَعريفِ المُسنَدِ إليه والمُسنَدِ؛ لأنَّ هذه الجُملةَ أُرِيدَ منها نَفْيُ قولِهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، أي: لا أنتُم؛ فكان كلامُهم في قُوَّةِ حَصْرِ التَّقريبِ إلى اللهِ في كَثرةِ الأموالِ والأولادِ، فنُفِيَ ذلك بأسْرِه. وتَكريرُ (لا) النَّافيةِ بعْدَ العاطفِ في وَلَا أَوْلَادُكُمْ؛ لِتَأكيدِ تَسلُّطِ النَّفيِ على كِلا المَذكورَينِ؛ لِيَكونَ كلُّ واحدٍ مَقصودًا بنَفْيِ كَونِه ممَّا يُقرِّبُ إلى اللهِ، ومُلتَفتًا إليه [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/215). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ جِيءَ باسمِ الإشارةِ في الإخبارِ عمَّن آمَنَ؛ للتَّنويهِ بشَأنِهم، وللإيذانِ بعُلُوِّ رُتبتِهم وبُعدِ مَنزلتِهم في الفضْلِ، والتَّنبيهِ على أنَّهم جَدِيرون بما يَرِدُ بعدَ اسمِ الإشارةِ. وكُنِّيَ عن التَّقريبِ بمُضاعَفةِ الجزاءِ؛ لأنَّ ذلك أمارةُ كَرامةِ المَجزِيِّ عندَ اللهِ، أي: أولئك الَّذين يُقرَّبون زُلْفى، فيُجْزَون جَزاءَ الضِّعفِ على أعمالِهم لا على وَفرةِ أموالِهم وأولادِهم؛ فالاستدراكُ وَرَدَ على جَميعِ ما أفادَهُ كلامُ المشركينَ مِن الدَّعوى الباطلةِ والفَخرِ الكاذبِ؛ لِرَفْعِ تَوهُّمِ أنَّ الأموالَ والأولادَ لا تُقرِّبُ إلى اللهِ بحالٍ؛ فإنَّ مِن أموالِ المؤمنينَ صَدقاتٍ ونَفَقاتٍ، ومِن أولادِهم أعوانًا على البِرِّ، ومُجاهِدينَ، وداعِينَ لآبائِهم بالمَغفرةِ والرَّحمةِ [636] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/217). .
5- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ... تَعقيبٌ للتَّرغيبِ بالتَّرهيبِ؛ فكان بمَنزلةِ الاعتراضِ بيْنَ الثَّناءِ على المؤمنينَ الصَّالحينَ، وبيْنَ إرشادِهم إلى الانتفاعِ بأمْوالِهم للقُرْبِ عندَ اللهِ تعالى بجُملةِ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [سبأ: 39] إلخ [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/218). .
- واسمُ الإشارةِ في قولِه: أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم استَحقُّوا الجَحيمَ لِأجْلِ ما ذُكِرَ قبْلَ اسمِ الإشارةِ. ومُحْضَرُونَ هنا كِنايةٌ عن المُلازَمةِ؛ فهو ارتقاءٌ في المعنى الَّذي دلَّت عليه أداةُ الظَّرفيَّةِ مِن إحاطةِ العذابِ بهم [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/218). .
6- قَولُه تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ هذه الآيةُ تقريرٌ لمعنى قولِه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ [639] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/571). .
- وفي قولِه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أتْبَعَ إبطالَ أنْ تكونَ الأموالُ والأولادُ بذاتِهما وَسيلةَ قُرْبٍ لَدى اللهِ تعالى؛ ردًّا على مَزاعمِ المُشرِكين بما يُشبِهُ مَعنى الاستدراكِ على ذلك الإبطالِ؛ مِن إثباتِ انتفاعٍ بالمالِ للتَّقرُّبِ إلى رِضا اللهِ إنِ استُعْمِلَ في طَلبِ مَرضاةِ اللهِ؛ تَفصيلًا لِمَا أُشِيرَ إليه إجمالًا مِن أنَّ ذلك قد يكونُ فيه قُربةٌ إلى اللهِ بقولِه: إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/219). [سبأ: 37] .
- وفي قولِه: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ تَشريفٌ للمؤمنينَ بإضافتِهم إلى ضَميرِ الجلالةِ، وفي هذا امتنانٌ على الَّذين يُبسَطُ عليهم الرِّزقُ؛ بأنْ جمَعَ اللهُ لهم فضْلَ الإيمانِ وفضْلَ سَعةِ الرِّزقِ، وتَسليةٌ لِلَّذين قُدِرَ عليهم رِزْقُهم؛ بأنَّهم نالوا فضْلَ الإيمانِ وفضْلَ الصَّبرِ على ضِيقِ الحياةِ [641] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/219). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وأيضًا في تَعليقِ لَهُ بـ (يَقْدِرُ) إيماءٌ إلى أنَّ ذلك القَدْرَ لا يَخْلو مِن فائدةٍ للمَقدورِ عليه رِزقُه، وهي فائدةُ الثَّوابِ على الرِّضا بِما قُسِمَ له، والسَّلامةِ مِن الحِسابِ عليه يومَ القِيامةِ، وفي ذلك تَوطئةٌ لقولِه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ؛ حثًّا على الإنفاقِ [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/219، 220). .
- قولُه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَرغيبٌ للأغنياءِ في الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ؛ ولذلك جُعِلَ الوَعدُ بإخلافِ ما يُنفِقُه المرْءُ كِنايةً عن التَّرغيبِ في الإنفاقِ؛ لأنَّ وَعْدَ اللهِ بإخلافِه مع تَأكيدِ الوَعدِ يَقْتضي أنَّه يُحِبُّ ذلك مِن المُنفِقينَ، وأكَّدَ ذلك الوعدَ بصِيغةِ الشَّرطِ، وبجَعْلِ جُملةِ الجوابِ اسميَّةً، وبتَقديمِ المُسنَدِ إليه على الخبَرِ الفِعليِّ بقولِه: فَهُوَ يُخْلِفُهُ؛ ففي هذا الوَعدِ ثلاثةٌ مُؤكِّداتٍ دالَّةٌ على مَزِيدِ العِنايةِ بتَحقيقِه؛ لِيَنتقِلَ مِن ذلك إلى الكِنايةِ عن كَونِه مَرْغوبَه تعالى [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/220). .
- والجارُّ والمَجرورُ مِنْ شَيْءٍ بَيانٌ لِمَا في (ما) مِن العُمومِ [644] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/570)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/220). .
- وجُملةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَذييلٌ للتَّرغيبِ، والوعْدِ بزيادةٍ [645] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/570)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/220). .