موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (12-15)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غريب الكلمات:

الرَّسِّ: الرَّسُّ: كُلُّ مَحفورٍ؛ مِثلُ البِئرِ، والقَبرِ، ونَحوِ ذلك. قيل: هي بِئرٌ كانوا عليها نُزولًا، وقيل: قريةٌ مِن قرَى اليَمامةِ، وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (رسس): يدُلُّ على ثَباتٍ .
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: أي: قَومُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ، والأيْكَةُ: الشَّجَرُ المُلتَفُّ المُجتَمِعُ، وأصلُ (أيك): يدُلُّ على اجتِماعِ شَجَرٍ .
أَفَعَيِينَا: أي: أفعَجَزْنا، يُقالُ لكُلِّ مَن عَجَز عن شَيءٍ: عَيِيَ به: إذا لم يَهتَدِ لِوَجهِه، ولم يَقدِرْ على مَعرِفتِه وتَحصيلِه .
لَبْسٍ: أي: شَكٍّ وحَيرةٍ، وأصلُ (لبس): يدُلُّ على مُخالَطةٍ ومُداخَلةٍ .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن أحوالِ المكذِّبينَ للرُّسلِ مِن الأُممِ السَّابقةِ تسليةً لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: كذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ قَومُ نوحٍ، وأصحابُ الرَّسِّ، وثمودُ قَومُ صالِحٍ، وعادٌ قَومُ هُودٍ، وفِرعَونُ الَّذي كذَّب موسى، وقَومُ لُوطٍ، وأصحابُ الشَّجَرِ المُلتَفِّ قَومُ شُعَيبٍ، وقَومُ تُبَّعٍ. كُلُّ أولئك كذَّبوا الرُّسُلَ، فوَجَب عليهم عَذابُ الله.
ثمَّ يقرِّرُ الله تعالى أنَّ البعثَ حقٌّ، فيقولُ: أفعَجَزْنا عن ابتِداءِ الخَلقِ أوَّلَ مَرَّةٍ؟! بل أولئك الكُفَّارُ في حَيرةٍ وشَكٍّ مِن قُدرةِ اللهِ على البَعثِ!

تفسير الآيات:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى قَولَه: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [ق: 5] ؛ ذكَرَ مَن كَذَّب الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ تَسليةً لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فقال:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12).
أي: كذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ -الَّذين كذَّبوا مُحمَّدًا- قَومُ نوحٍ الَّذين كَذَّبوا نُوحًا، وأصحابُ الرَّسِّ ، وثمودُ الَّذين كذَّبوا رَسولَهم صالِحًا .
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13).
أي: وكذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ عادٌ الَّذين كذَّبوا هُودًا، وفِرعَونُ الَّذي كذَّب موسَى، وقَومُ لُوطٍ الَّذين كذَّبوا لُوطًا .
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14).
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ.
أي: وكذَّبَ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ أصحابُ الشَّجَرِ المُلتَفِّ المُجتَمِعِ، فكذَّبوا رَسولَهم شُعَيبًا، وكذَّب قَومُ المَلِكِ تُبَّعٍ .
قال الله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان: 37] .
وعن عائشةَ رَضيَ الله عنها أنَّها قالت: (كان تُبَّعٌ رجُلًا صالحًا، ألَا ترَى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذمَّ قَومَه، ولم يَذُمَّه؟) .
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.
أي: كُلُّ أولئك الأُمَمِ الماضيةِ كذَّبوا الرُّسُلَ الَّذين أرسَلَهم اللهُ تعالى إليهم، فوَجَب وثَبَت عليهم عَذابُ اللهِ، الَّذي توعَّدَهم به على كُفرِهم به، وتَكذيبِهم رُسُلَه .
كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 42 - 44] .
وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39] .
وقال الله تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص: 12 - 14] .
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15).
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ.
أي: أفعَجَزْنا عن ابتِداءِ الخَلقِ أوَّلَ مَرَّةٍ، فلم نكُنْ عالِمينَ بما نَصنَعُ فيه، ولا قادِرينَ عليه ؟!
كما قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كذَّبَني ابنُ آدَمَ، ولم يكُنْ له ذلك، يقولُ: لن يُعيدَني كما بدأني! وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهْوَنَ علَيَّ مِن إعادتِه !)) .
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.
أي: ليس الأمرُ كذلك، فلم نَعْيَ بالخَلقِ الأوَّلِ، ولا هم يَشُكُّون في ذلك، وإنَّما هم في شَكٍّ وتردُّدٍ وحَيرةٍ مِن قُدرةِ اللهِ على البَعثِ؛ فالتَبَس عليهم إعادةُ اللهِ الأمواتَ خَلقًا جَديدًا، مع أنَّه لا محلَّ للَّبسِ فيه؛ فالإعادةُ أهوَنُ مِنَ الابتداءِ !
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 10، 11].
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أخبرَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن هؤلاء المذكورينَ: فِرعَونَ وغَيرَه، كَذَّب الرُّسُلَ كُلَّهم؛ إذ لم يُؤمِنوا ببَعضٍ ويَكفُروا ببَعضٍ، كاليَهودِ والنَّصارى، بل كَذَّبوا الجَميعَ، وهذا أعظَمُ أنواعِ الكُفرِ؛ فكُلُّ مَن كَذَّب رَسولًا فقد كَفَر، ومَن لم يُصَدِّقْه ولم يُكَذِّبْه فقد كَفَر؛ فكُلُّ مُكَذِّبٍ للرَّسولِ كافِرٌ به، وليس كُلُّ كافرٍ مُكَذِّبًا به؛ إذ قد يكونُ شاكًّا في رسالتِه، أو عالِمًا بصِدقِه لكِنَّه يَحمِلُه الحَسَدُ أو الكِبرُ على ألَّا يُصَدِّقَه، وقد يكونُ مُشتَغِلًا بهَواه عن استِماعِ رِسالتِه والإصغاءِ إليه .
2- قال الله تعالى: وَفِرْعَوْنُ، ولم يقُلْ: (قومُ فِرعَونَ) لأنَّه ليس في قادةِ هذه الفِرَقِ كافِرٌ غَيرُه، والنَّصُّ عليه يُفهِمُ عَظَمتَه، وأنَّه استخَفَّ قَومَه فأطاعوه .
3- قال الله تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي: كُلٌّ مِن هذه الأُمَمِ وهؤلاء القُرونِ كَذَّب رَسولَه، ومَن كَذَّب رَسولًا فكأنَّما كَذَّب جميعَ الرُّسُلِ، كقَولِه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، وإنَّما جاءهم رَسولٌ واحِدٌ، فهم في نفْسِ الأمرِ لو جاءهم جميعُ الرُّسُلِ كَذَّبوهم .
4- التَّحذيرُ لِمُكَذِّبي الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا قال في آخِرِ ما ذَكَرَ: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ، فحَقَّ عليهم وعيدُ اللهِ بالعَذابِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ يدُلُّ على أنَّ مَن كَذَّب الرُّسُلَ يَحِقُّ عليه العَذابُ، أي: يتحَتَّمُ ويَثبُتُ في حَقِّه ثُبوتًا لا يَصِحُّ معه تخَلُّفُه عنه، وهو دليلٌ واضِحٌ على أنَّ ما قاله بَعضُ أهلِ العِلمِ مِن أنَّ اللهَ يَصِحُّ أن يُخلِفَ وَعيدَه -لأنَّه قال: إنَّه لا يُخلِفُ وَعْدَه، ولم يَقُلْ: إنَّه لا يُخلِفُ وَعيدَه، وأنَّ إخلافَ الوَعيدِ حَسَنٌ لا قبيحٌ، وإنَّما القَبيحُ هو إخلافُ الوَعدِ- لا يَصِحُّ بحالٍ؛ لأنَّ وَعيدَه تعالى للكُفَّارِ حَقٌّ، ووجَب عليهم بتَكذيبِهم للرُّسُلِ، كما دَلَّ عليه قَولُه هنا: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ، وقد تقَرَّر في الأُصولِ أنَّ الفاءَ مِن حُروفِ العِلَّةِ، كقَولِه: (سها فسَجَد)، أي: لعِلَّةِ سَهوِه، و(سَرَق فقُطِعَت يَدُه)، أي: لعِلَّةِ سَرِقتِه، ومنه قَولُه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ؛ فتَكذيبُهم الرُّسُلَ عِلَّةٌ صَحيحةٌ لِكَونِ الوَعيدِ بالعَذابِ حَقًّا ووَجَب عليهم، فدعوى جَوازِ تخلُّفِه باطِلةٌ بلا شَكٍّ، أمَّا الوعيدُ الَّذي لا يمتنِعُ إخلافُه فهو وعيدُ عصاةِ المسلمينَ بتعذيبِهم على كبائرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ الله تعالى أوضَح ذلك في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وهذا في الحقيقةِ تجاوُزٌ مِن الله عن ذُنوبِ عبادِه المؤمنينَ العاصينَ، ولا إشكالَ في ذلك .
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن براهينِ البَعثِ؛ لأنَّ مَن لم يَعْيَ بخَلقِ النَّاسِ، ولم يَعجِزْ عن إيجادِهم الأوَّلِ: لا شَكَّ  في قُدرتِه على إعادتِهم، وخَلْقِهم مرَّةً أُخرى؛ لأنَّ الإعادةَ لا يُمكِنُ أن تكونَ أصعَبَ مِن البَدءِ .
7- قَولُه تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فهذا الخَلقُ الجَديدُ قد سمَّاه الله سُبحانَه وتعالى إعادةً، والمَعادُ مِثلُ المَبدَأِ، وسَمَّاه نَشأةً أُخرى، وهي مِثلُ الأُولى، وسَمَّاه خَلقًا جَديدًا، وهو مِثلُ الخَلقِ الأوَّلِ، كما قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وسَمَّاه أمثالًا، وهم هم؛ فتَطابَقَت ألفاظُ القُرآنِ، وصَدَّق بَعضُها بَعضًا، وبَيَّن بَعضُها بَعضًا؛ ولهذا تزولُ إشكالاتٌ أورَدَها مَن لم يَفهَمِ المَعادَ الَّذي أخبَرَت به الرُّسُلُ عن اللهِ تعالى؛ ولا يُفهَمُ مِن هذا القَولِ ما قاله بَعضُ المتأخِّرينَ: إنَّهم غَيرُهم مِن كُلِّ وَجهٍ؛ فهذا خَطأٌ قَطعًا، مَعاذَ اللهِ مِن اعتِقادِه! بل هم أمثالُهم وهم أعيانُهم .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ لبَيانِ حَقيقةٍ راهنةٍ عن البعثِ، واتِّفاقِ جميعِ الرُّسُلِ عليه، وتعذيبِ مُنكريه، وهو ناشئٌ عن قولِه: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [ق: 5] ، فعُقِّبَ بأنَّهم لَيسوا ببِدْعٍ في الضَّلالِ؛ فقد كذَّبَت قبْلَهم أُمَمٌ .
- وذَكَر مِن الرُّسلِ أشهَرَهم في العالَمِ وأشْهَرَهم بيْنَ العرَبِ؛ فقومُ نُوحٍ أوَّلُ قَومٍ كذَّبوا رَسولَهم، وفِرعونُ كذَّبَ موسى، وقومُ لُوطٍ كذَّبوه، وهؤلاء مَعروفونَ عندَ أهلِ الكِتابِ، وأمَّا أصحابُ الرَّسِّ وعادٌ وثَمودُ وأصحابُ الأَيْكةِ وقَومُ تُبَّعٍ، فهُمْ من العرَبِ، وذُكِروا هنا عقِبَ قومِ نوحٍ؛ للجامعِ الخَياليِّ بيْن القومَينِ، وهو جامعُ التَّضادِّ؛ لأنَّ عَذابَهم كان ضِدَّ عذابِ قَومِ نوحٍ؛ إذ كان عَذابُهم بالخَسفِ، وعذابُ قومِ نوحٍ بالغَرَقِ، ثمَّ ذكَرَ ثَمودَ؛ لشَبَهِ عَذابِهم بعذابِ أصحابِ الرَّسِّ؛ إذْ كانَ عَذابُهم برَجفةِ الأرضِ وصَواعقِ السَّماءِ، ولأنَّ أصحابَ الرَّسِّ مِن بَقايا ثَمودَ -على أحدِ الأقوالِ-، ثمَّ ذُكِرَت عادٌ؛ لأنَّ عذابَها كان بحادثٍ في الجوِّ، وهو الرِّيحُ، ثم ذُكِرَ فِرعونُ وقومُه؛ لأنَّهم كذَّبوا أشهَرَ الرُّسُلِ قبْلَ الإسلامِ، وأصحابُ الأيْكةِ هم قومُ شُعَيبٍ، وهم مِن خُلَطاءِ بني إسرائيلَ .
- قَولُه: وَإِخْوَانُ لُوطٍ عبَّرَ بالأُخوَّةِ؛ مع أنه لم يكُنْ مِن نسَبِهم، وإنَّما كان نزيلًا فيهم؛ لاستِوطانِه بلادَهم، واختيارِه لِمُجاوَرتِهم، ومُصاهَرتِهم، وإقامتِه بيْنَهم في مدينتِهم مُدَّةً مَديدةً، وسِنينَ عديدةً، فالمرادُ بـ (إِخْوَانُ) هنا أنَّهم مُلازِمونَ، وهذا مِن إطلاقِ الأُخُوَّةِ على مُلازَمةِ الشَّيءِ ومُمارَستِه .
- والمقصودُ بذِكرِ هذِه الأُمَمِ الَّتي أصابَها عذابٌ شَديدٌ في الدُّنيا عِقابًا على تَكذيبِهم الرُّسلَ: تسليةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّعريضُ بالتَّهديدِ لقَومِه المكذِّبينَ أنْ يحُلَّ بهم ما حلَّ بأولئك .
- وجُملةُ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤكِّدةٌ لجُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخرِها؛ فلذلك فُصِلَتْ ولم تُعطَفْ، وليُبْنَى عليه قولُه: فَحَقَّ وَعِيدِ؛ فيَكونَ تَهديدًا بأنْ يحِقَّ عليهم الوعيدُ كما حَقَّ على أولئك مُرتَّبًا بالفاءِ على تَكذيبِهم الرُّسلَ؛ فيكونَ في ذلك تَشْريفٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللرُّسلِ السَّابقينَ .
- قولُه: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ تنْوينُ كُلٌّ تَنوينُ عِوَضٍ عن المُضافِ إليه، أي: كلُّ أولئك . وإفرادُ الضَّميرِ في قَولِه: كَذَّبَ باعتِبارِ لَفظِ الكُلِّ، أوْ كُلُّ واحدٍ منهم كذَّبَ جمْعَ الرُّسلِ؛ لاتِّفاقِهم على الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ والإنذارِ بالبعثِ والحَشْرِ؛ فتَكذيبُ واحدٍ منهم تكذيبٌ للكلِّ، وهذا على تقْديرِ رِسالةِ تُبَّعٍ ظاهرٌ، وأمَّا على تَقديرِ عدَمِها -وهُو الأظهرُ- فمعنى تَكذيبِ قَومِه الرُّسلَ تكذيبُهم بمنْ قَبْلَهم مِن الرُّسلِ المُجمِعينِ على التَّوحيدِ والبعثِ، وإلى ذلكَ كان يَدْعُوهم تُبَّعٌ .
- قولُه: فَحَقَّ وَعِيدِ الوعيدُ: الإنذارُ بالعُقوبةِ، واقتَضى الإخبارُ عنه بـ (حَقَّ) أنَّ اللهَ تَوعَّدَهم به، فلمْ يَعبؤوا وكذَّبوا وُقوعَه؛ فحَقَّ وصدَقَ. وحُذِفَت ياءُ المتكلِّمِ الَّتي أُضيفَ إليها وَعِيدِ؛ للرَّعْيِ على الفاصلةِ .
2- قولُه تعالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ استِئنافٌ مقرِّرٌ لصحَّةِ البَعثِ الَّذي حُكِيَت أحوالُ المنكِرينَ له مِن الأممِ المُهلَكةِ. والفاءُ في أَفَعَيِينَا عاطفةٌ على مَحذوفٍ، تقديرُه: أقصَدْنا الخلْقَ فعَجَزْنا عنه حتَّى يتوهَّمَ أحَدٌ عَجْزَنا عن إعادتِه ؟!
- وأيضًا تُشيرُ فاءُ التَّفريعِ إلى أنَّ هذا الكلامَ مُفرَّعٌ على ما قبْلَه، وهو جُملةُ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق: 6] ، وقولُه: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى [ق: 8] المُعرِّضُ بأنَّهم لم يَتبصَّروا به ولم يَتذكَّروا. وقولُه: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] ، وقولُه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] . ويجوزُ أنْ يُجعَلَ تَفريعًا على قولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ .
- والهَمزةُ في أَفَعَيِينَا استِفهامُ إنكارٍ وتَغليطٍ؛ لأنَّهم لا يَسَعُهم إلَّا الاعتِرافُ بأنَّ اللهَ لم يَعْيَ بالخَلقِ الأوَّلِ؛ إذ لا يُنكِرُ عاقلٌ كَمالَ قُدرةِ الخالِقِ، وعدمَ عَجزِه .
- وفي قَولِه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عُرِّفَ الخلْقُ الأوَّلُ، ونُكِّرَ اللَّبْسُ والخلْقُ الجديدُ؛ وذلك لأنَّه عُرِّفَ الخلْقُ الأوَّلُ لتَفخيمِه وتَعظيمِه؛ لأنَّ الغرَضَ جَعْلُه دَليلًا على إمكانِ الخلْقِ الثَّاني بطَريقِ الأَولى، أي: إذا لم يَعْيَ تعالى بالخلْقِ الأوَّلِ -على عَظَمتِه- فالخلْقُ الآخرُ أَولى ألَّا يَعيا به. وأمَّا تَنكيرُ اللَّبْسِ فللتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، كأنَّه قال: في لَبْسٍ أيَّ لَبْسٍ، وتَنكيرُ الخلْقِ الجديدِ للتَّقليلِ منه، والتَّهوينِ لأمْرِه بالنِّسبةِ إلى الخلْقِ الأوَّلِ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ للتَّفخيمِ، كأنَّه أمْرٌ أعظَمُ مِن أنْ يَرضى الإنسانُ بكَونِه مُلتبسًا عليه، مع أنَّه أوَّلُ ما تُبصَرُ فيه صِحَّتُه ، أو نكَّره لتعظيمِ شأنِه، والإشعارِ بأنَّه على وجهٍ غيرِ مُتعارَفٍ ولا مُعتادٍ . أو تَنكيرُ لَبْسٍ للنَّوعيةِ، وتَنكيرُ خَلْقٍ جَدِيدٍ كذلك، أي: ما هو إلَّا خلْقٌ مِن جُملةِ ما يقَعُ مِن خلْقِ اللهِ الأشياءَ ممَّا وُجِّهَ إحالتُه، ولتَنكيرِه أُجْرِيَت عليه الصِّفةُ بـ جَدِيدٍ . وقيل: نَكَّر الخَلقَ الجَديدَ؛ لأنَّه كان غيرَ مَعروفٍ عندَ الكُفَّارِ المُخاطَبينَ، وعَرَّف الخَلْقَ الأوَّلَ؛ لأنَّه مَعروفٌ مَعهودٌ .
- قولُه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ حرْفُ (بل) أفادَ الإضرابَ الإبطاليَّ عن المُستفهَمِ عنه، أي: بلْ ما عَيِينا بالخلْقِ الأوَّلِ، أي: وهم يَعلَمون ذلك، ويَعلَمون أنَّ الخلْقَ الأوَّلَ للأشياءِ أَعظَمُ مِن إعادةِ خلْقِ الأمواتِ، ولكنَّهم تَمكَّنَ منهم اللَّبسُ الشَّديدُ، فأغْشَى إدراكَهم عن دَلائلِ الإمكانِ فأحالُوه؛ فالإضرابُ على أصلِه مِن الإبطالِ .
- وأيضًا (بل) عطفٌ على مُقدَّرٍ مُستأنَفٍ مَسوقٍ لبيانِ شُبهتِهم وفضْحِ سَفْسطتِهم، والتَّقديرُ: هم غيرُ مُنكِرين لقدرتِنا، بلْ هم في خَلطٍ وشُبهةٍ .
- وجيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ مِن قولِه: هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ هذا الحُكمِ لهم، وأنَّه مُتمكِّنٌ مِن نُفوسِهم، لا يُفارِقُهم البتَّةَ، ولِيَتأتَّى اجتِلابُ حرْفِ الظَّرفيَّةِ في الخبَرِ؛ فيَدُلَّ على انغِماسِهم في هذا اللَّبْسِ، وإحاطتِه بهم إحاطةَ الظَّرفِ بالمَظروفِ .
- قولُه: جَدِيدٍ في هذا الوصفِ تَحميقٌ لهم مِن إحالتِهم البَعثَ، أي: اجْعَلوه خلْقًا جديدًا كالخَلقِ الأوَّلِ، وأيُّ فارقٍ بيْنَهما ؟!