موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (12-15)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غريب الكلمات:

الرَّسِّ: الرَّسُّ: كُلُّ مَحفورٍ؛ مِثلُ البِئرِ، والقَبرِ، ونَحوِ ذلك. قيل: هي بِئرٌ كانوا عليها نُزولًا، وقيل: قريةٌ مِن قرَى اليَمامةِ، وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (رسس): يدُلُّ على ثَباتٍ [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/452)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 240)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/372)، ((البسيط)) للواحدي (16/504)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/321). .
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: أي: قَومُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ، والأيْكَةُ: الشَّجَرُ المُلتَفُّ المُجتَمِعُ، وأصلُ (أيك): يدُلُّ على اجتِماعِ شَجَرٍ [152] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 72)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/165)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225). .
أَفَعَيِينَا: أي: أفعَجَزْنا، يُقالُ لكُلِّ مَن عَجَز عن شَيءٍ: عَيِيَ به: إذا لم يَهتَدِ لِوَجهِه، ولم يَقدِرْ على مَعرِفتِه وتَحصيلِه [153] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 600)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 8، 9)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
لَبْسٍ: أي: شَكٍّ وحَيرةٍ، وأصلُ (لبس): يدُلُّ على مُخالَطةٍ ومُداخَلةٍ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/421)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/230)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 801). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن أحوالِ المكذِّبينَ للرُّسلِ مِن الأُممِ السَّابقةِ تسليةً لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: كذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ قَومُ نوحٍ، وأصحابُ الرَّسِّ، وثمودُ قَومُ صالِحٍ، وعادٌ قَومُ هُودٍ، وفِرعَونُ الَّذي كذَّب موسى، وقَومُ لُوطٍ، وأصحابُ الشَّجَرِ المُلتَفِّ قَومُ شُعَيبٍ، وقَومُ تُبَّعٍ. كُلُّ أولئك كذَّبوا الرُّسُلَ، فوَجَب عليهم عَذابُ الله.
ثمَّ يقرِّرُ الله تعالى أنَّ البعثَ حقٌّ، فيقولُ: أفعَجَزْنا عن ابتِداءِ الخَلقِ أوَّلَ مَرَّةٍ؟! بل أولئك الكُفَّارُ في حَيرةٍ وشَكٍّ مِن قُدرةِ اللهِ على البَعثِ!

تفسير الآيات:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى قَولَه: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [ق: 5] ؛ ذكَرَ مَن كَذَّب الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ تَسليةً لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [155] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/532). ، فقال:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12).
أي: كذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ -الَّذين كذَّبوا مُحمَّدًا- قَومُ نوحٍ الَّذين كَذَّبوا نُوحًا، وأصحابُ الرَّسِّ [156] قال الماوَرْدي: (في الرَّسِّ وجهانِ: أحدُهما: أنَّه كلُّ حفرةٍ في الأرضِ مِن بئرٍ وقبرٍ. الثَّاني: أنَّها البئرُ الَّتي لم تُطْوَ بحجرٍ ولا غيرِه. وأمَّا أصحابُ الرَّسِّ ففيهم أربعةُ أقاويلَ: أحدُها: أنَّها بئرٌ قُتِل فيها صاحِبُ ياسينَ ورَسُّوه، قاله الضَّحَّاكُ. الثَّاني: أنَّهم أهلُ بِئرٍ بأَذْرَبِيجانَ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّالثُ: أنَّهم قومٌ باليَمامةِ كان لهم آبارٌ، قاله قَتادةُ... الرَّابعُ: أنَّهم أصحابُ الأُخدودِ). ((تفسير الماوردي)) (5/344). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/321). قال ابن جرير: (واختلَف أهلُ التَّأويلِ في أصحابِ الرَّسِّ؛ فقال بعضُهم: أصحابُ الرَّسِّ مِن ثَمودَ... وقال آخَرونَ: هم قَومٌ رَسُّوا نبيَّهم في بئرٍ... وقال آخَرونَ: هي بئرٌ كانت تُسَمَّى الرَّسَّ... والصَّوابُ مِن القولِ في ذلك قولُ مَن قال: هم قَومٌ كانوا على بئرٍ). ثمَّ ذكَر احتِمالَينِ: إمَّا أن يَكونوا أصحابَ الأُخدودِ، وإمَّا أنَّهم قَومٌ رَسُّوا نبيَّهم في حُفرةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 451-453). وقال ابن عاشور: (الرَّسُّ: يُطلَقُ اسمًا للبئرِ غيرِ المَطْويَّةِ، ويُطلَقُ مصدرًا لِلدَّفنِ والدَّسِّ. واختلَف المفسِّرون في المرادِ به هنا. وأصحابُ الرَّسِّ قومٌ عُرِفوا بالإضافةِ إلى الرَّسِّ، فيحتملُ أنَّ إضافتَهم إلى الرَّسِّ مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى مَوطِنِه؛ مِثلُ «أصحابِ الأَيْكَةِ»، و«أصحابِ الحِجْرِ»، و«أصحابِ القريةِ». ويجوزُ أن تكونَ إضافةً إلى حَدَثٍ حلَّ بهم، مِثلُ «أصحابِ الأخدودِ». وفي تعيينِ أصحابِ الرَّسِّ أقوالٌ ثمانيةٌ أو تسعةٌ، وبعضُها مُتداخِلٌ... والأظهَرُ أنَّ إضافةَ «أصحاب» إلى الرَّسِّ مِن إضافةِ اسمٍ إلى حدَثٍ حدَثَ فيه؛ فقد قيل: إنَّ أصحابَ الرَّسِّ عُوقِبوا بخَسْفٍ في الأرضِ، فوقَعوا في مِثلِ البئرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/296). ، وثمودُ الَّذين كذَّبوا رَسولَهم صالِحًا [157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/415)، ((تفسير ابن كثير)) (7/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 804)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 83). .
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13).
أي: وكذَّبتْ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ عادٌ الَّذين كذَّبوا هُودًا، وفِرعَونُ الَّذي كذَّب موسَى، وقَومُ لُوطٍ الَّذين كذَّبوا لُوطًا [158] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 804)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 83، 86). .
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14).
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ.
أي: وكذَّبَ قبْلَ مُشرِكي قُرَيشٍ أصحابُ الشَّجَرِ المُلتَفِّ المُجتَمِعِ، فكذَّبوا رَسولَهم شُعَيبًا، وكذَّب قَومُ المَلِكِ تُبَّعٍ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/416)، ((الوسيط)) للواحدي (4/164)، ((تفسير ابن كثير)) (7/397)، قال ابن عطية: (وَقَوْمُ تُبَّعٍ هم حِمْيَرُ، وتُبَّعٌ اسمُ المَلِكِ فيهم، يذهَبُ تُبَّعٌ ويَجيءُ تُبَّعٌ، كَكِسْرى في الفُرسِ، وقَيصَرَ في الرُّومِ، وكان أسعدُ أبو كَرِبٍ أحَدُ التَّبابِعةِ رَجُلًا صالِحًا، صَحِبَ حَبرَينِ فتعلَّم منهما دينَ موسى عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/158). وقال السعدي: (تُبَّعٌ: كُلُّ مَلِكٍ ملَكَ اليَمَنَ في الزَّمانِ السَّابِقِ قبْلَ الإسلامِ، فقَومُ تُبَّعٍ كذَّبوا الرَّسولَ الَّذي أرسَلَه اللهُ إليهم، ولم يُخبِرْنا اللهُ مَن هو ذلك الرَّسولُ، وأيُّ تُبَّعٍ مِنَ التَّبابِعةِ؛ لأنَّه -والله أعلَمُ- كان مشهورًا عندَ العرَبِ؛ لِكَونِهم مِنَ العَرَبِ العَرْباءِ الَّذين لا تخفَى ماجَرَياتُهم على العَرَبِ، خُصوصًا مِثلَ هذه الحادثةِ العظيمةِ). ((تفسير السعدي)) ص: 804). .
قال الله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان: 37] .
وعن عائشةَ رَضيَ الله عنها أنَّها قالت: (كان تُبَّعٌ رجُلًا صالحًا، ألَا ترَى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذمَّ قَومَه، ولم يَذُمَّه؟) [160] أخرجه عبد الرزَّاق في ((تفسيره)) (2819)، ومن طريقه الحاكم في ((المستدرك)) (2/488) واللَّفظُ له. قال الحاكم: (صحيحٌ على شرطِ الشَّيخينِ). ووافقه الذهبي، وقال الألباني: في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/549): (وهو كما قالا)، وقال شعيبٌ الأرناؤوط في تحقيق ((المسند)) (37/ 520): (رجالُه ثقاتٌ رجالُ الشَّيخينِ). .
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.
أي: كُلُّ أولئك الأُمَمِ الماضيةِ كذَّبوا الرُّسُلَ الَّذين أرسَلَهم اللهُ تعالى إليهم، فوَجَب وثَبَت عليهم عَذابُ اللهِ، الَّذي توعَّدَهم به على كُفرِهم به، وتَكذيبِهم رُسُلَه [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/419)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((تفسير السعدي)) (ص: 804)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/424). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 42 - 44] .
وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39] .
وقال الله تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص: 12 - 14] .
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15).
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ.
أي: أفعَجَزْنا عن ابتِداءِ الخَلقِ أوَّلَ مَرَّةٍ، فلم نكُنْ عالِمينَ بما نَصنَعُ فيه، ولا قادِرينَ عليه [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/419)، ((الوسيط)) للواحدي (4/164)، ((تفسير الزمخشري)) (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/380)، ((تفسير ابن كثير)) (7/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/297). قال ابن تيميَّة: (لم يُرِدِ الإعياءَ الَّذي هو التَّعَبُ، وإنَّما أراد العِيَّ، كما تقولُ العَرَبُ: عَيِيَ بأمْرِه: إذا لم يَهتَدِ لِوَجهِه). ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/383). ويُنظر: ((الفصيح)) لثعلب (ص: 273)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/43)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 8، 9)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 143)، ((تفسير الألوسي)) (13/328). وقال ابن القيِّم: (قوله أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقالُ لكلِّ مَن عجَز عن شَيءٍ: عَيِيَ به، وعَييَ فُلانٌ بهذا الأمرِ ... -ومنه قولُه تعالى: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف: 33] - قال ابنُ عبَّاسٍ: يريدُ: أفعَجَزْنا؟! وكذلك قال مُقاتِلٌ. قلتُ: هذا تفسيرٌ بلازِمِ اللَّفظةِ، وحقيقتُها أعَمُّ مِن ذلك؛ فإنَّ العرَبَ تقولُ: أعْياني أن أعرِفَ كذا، وعَيِيتُ به؛ إذا لم تَهتَدِ لوجْهِه، ولم تَقدِرْ على مَعرفتِه وتحصيلِه، فتقولُ: أعْياني دواؤُك؛ إذا لم تَهتَدِ ولم تَقِفْ عليه. ولازِمُ هذا المعنَى: العجزُ عنه). ((الفوائد)) (ص: 8). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 112). ؟!
كما قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كذَّبَني ابنُ آدَمَ، ولم يكُنْ له ذلك، يقولُ: لن يُعيدَني كما بدأني! وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهْوَنَ علَيَّ مِن إعادتِه !)) [163] رواه البخاري (4974). .
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.
أي: ليس الأمرُ كذلك، فلم نَعْيَ بالخَلقِ الأوَّلِ، ولا هم يَشُكُّون في ذلك، وإنَّما هم في شَكٍّ وتردُّدٍ وحَيرةٍ مِن قُدرةِ اللهِ على البَعثِ؛ فالتَبَس عليهم إعادةُ اللهِ الأمواتَ خَلقًا جَديدًا، مع أنَّه لا محلَّ للَّبسِ فيه؛ فالإعادةُ أهوَنُ مِنَ الابتداءِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/420)، ((تفسير الزمخشري)) (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 9)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/419)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 88، 89). قال الزمخشري: (قد لَبَّس عليهم الشَّيطانُ وحَيَّرَهم... ولَبْسُ الشَّيطانِ عليهم: تَسويلُه إليهم أنَّ إحياءَ الموتى أمرٌ خارِجٌ عن العادةِ، فتَرَكوا لذلك القياسَ الصَّحيحَ: أنَّ مَن قَدَر على الإنشاءِ كان على الإعادةِ أقدَرَ!). ((تفسير الزمخشري)) (4/382). !
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 10، 11].
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أخبرَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واحدٍ مِن هؤلاء المذكورينَ: فِرعَونَ وغَيرَه، كَذَّب الرُّسُلَ كُلَّهم؛ إذ لم يُؤمِنوا ببَعضٍ ويَكفُروا ببَعضٍ، كاليَهودِ والنَّصارى، بل كَذَّبوا الجَميعَ، وهذا أعظَمُ أنواعِ الكُفرِ؛ فكُلُّ مَن كَذَّب رَسولًا فقد كَفَر، ومَن لم يُصَدِّقْه ولم يُكَذِّبْه فقد كَفَر؛ فكُلُّ مُكَذِّبٍ للرَّسولِ كافِرٌ به، وليس كُلُّ كافرٍ مُكَذِّبًا به؛ إذ قد يكونُ شاكًّا في رسالتِه، أو عالِمًا بصِدقِه لكِنَّه يَحمِلُه الحَسَدُ أو الكِبرُ على ألَّا يُصَدِّقَه، وقد يكونُ مُشتَغِلًا بهَواه عن استِماعِ رِسالتِه والإصغاءِ إليه [165] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/209). .
2- قال الله تعالى: وَفِرْعَوْنُ، ولم يقُلْ: (قومُ فِرعَونَ) لأنَّه ليس في قادةِ هذه الفِرَقِ كافِرٌ غَيرُه، والنَّصُّ عليه يُفهِمُ عَظَمتَه، وأنَّه استخَفَّ قَومَه فأطاعوه [166] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/83، 84). .
3- قال الله تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي: كُلٌّ مِن هذه الأُمَمِ وهؤلاء القُرونِ كَذَّب رَسولَه، ومَن كَذَّب رَسولًا فكأنَّما كَذَّب جميعَ الرُّسُلِ، كقَولِه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، وإنَّما جاءهم رَسولٌ واحِدٌ، فهم في نفْسِ الأمرِ لو جاءهم جميعُ الرُّسُلِ كَذَّبوهم [167] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/397). .
4- التَّحذيرُ لِمُكَذِّبي الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولهذا قال في آخِرِ ما ذَكَرَ: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ، فحَقَّ عليهم وعيدُ اللهِ بالعَذابِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 82). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ يدُلُّ على أنَّ مَن كَذَّب الرُّسُلَ يَحِقُّ عليه العَذابُ، أي: يتحَتَّمُ ويَثبُتُ في حَقِّه ثُبوتًا لا يَصِحُّ معه تخَلُّفُه عنه، وهو دليلٌ واضِحٌ على أنَّ ما قاله بَعضُ أهلِ العِلمِ مِن أنَّ اللهَ يَصِحُّ أن يُخلِفَ وَعيدَه -لأنَّه قال: إنَّه لا يُخلِفُ وَعْدَه، ولم يَقُلْ: إنَّه لا يُخلِفُ وَعيدَه، وأنَّ إخلافَ الوَعيدِ حَسَنٌ لا قبيحٌ، وإنَّما القَبيحُ هو إخلافُ الوَعدِ- لا يَصِحُّ بحالٍ؛ لأنَّ وَعيدَه تعالى للكُفَّارِ حَقٌّ، ووجَب عليهم بتَكذيبِهم للرُّسُلِ، كما دَلَّ عليه قَولُه هنا: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ، وقد تقَرَّر في الأُصولِ أنَّ الفاءَ مِن حُروفِ العِلَّةِ، كقَولِه: (سها فسَجَد)، أي: لعِلَّةِ سَهوِه، و(سَرَق فقُطِعَت يَدُه)، أي: لعِلَّةِ سَرِقتِه، ومنه قَولُه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ؛ فتَكذيبُهم الرُّسُلَ عِلَّةٌ صَحيحةٌ لِكَونِ الوَعيدِ بالعَذابِ حَقًّا ووَجَب عليهم، فدعوى جَوازِ تخلُّفِه باطِلةٌ بلا شَكٍّ، أمَّا الوعيدُ الَّذي لا يمتنِعُ إخلافُه فهو وعيدُ عصاةِ المسلمينَ بتعذيبِهم على كبائرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ الله تعالى أوضَح ذلك في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وهذا في الحقيقةِ تجاوُزٌ مِن الله عن ذُنوبِ عبادِه المؤمنينَ العاصينَ، ولا إشكالَ في ذلك [169] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/425). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن براهينِ البَعثِ؛ لأنَّ مَن لم يَعْيَ بخَلقِ النَّاسِ، ولم يَعجِزْ عن إيجادِهم الأوَّلِ: لا شَكَّ  في قُدرتِه على إعادتِهم، وخَلْقِهم مرَّةً أُخرى؛ لأنَّ الإعادةَ لا يُمكِنُ أن تكونَ أصعَبَ مِن البَدءِ [170] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/425). .
7- قَولُه تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فهذا الخَلقُ الجَديدُ قد سمَّاه الله سُبحانَه وتعالى إعادةً، والمَعادُ مِثلُ المَبدَأِ، وسَمَّاه نَشأةً أُخرى، وهي مِثلُ الأُولى، وسَمَّاه خَلقًا جَديدًا، وهو مِثلُ الخَلقِ الأوَّلِ، كما قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وسَمَّاه أمثالًا، وهم هم؛ فتَطابَقَت ألفاظُ القُرآنِ، وصَدَّق بَعضُها بَعضًا، وبَيَّن بَعضُها بَعضًا؛ ولهذا تزولُ إشكالاتٌ أورَدَها مَن لم يَفهَمِ المَعادَ الَّذي أخبَرَت به الرُّسُلُ عن اللهِ تعالى؛ ولا يُفهَمُ مِن هذا القَولِ ما قاله بَعضُ المتأخِّرينَ: إنَّهم غَيرُهم مِن كُلِّ وَجهٍ؛ فهذا خَطأٌ قَطعًا، مَعاذَ اللهِ مِن اعتِقادِه! بل هم أمثالُهم وهم أعيانُهم [171] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 198). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ لبَيانِ حَقيقةٍ راهنةٍ عن البعثِ، واتِّفاقِ جميعِ الرُّسُلِ عليه، وتعذيبِ مُنكريه، وهو ناشئٌ عن قولِه: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ [ق: 5] ، فعُقِّبَ بأنَّهم لَيسوا ببِدْعٍ في الضَّلالِ؛ فقد كذَّبَت قبْلَهم أُمَمٌ [172] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/295)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/285). .
- وذَكَر مِن الرُّسلِ أشهَرَهم في العالَمِ وأشْهَرَهم بيْنَ العرَبِ؛ فقومُ نُوحٍ أوَّلُ قَومٍ كذَّبوا رَسولَهم، وفِرعونُ كذَّبَ موسى، وقومُ لُوطٍ كذَّبوه، وهؤلاء مَعروفونَ عندَ أهلِ الكِتابِ، وأمَّا أصحابُ الرَّسِّ وعادٌ وثَمودُ وأصحابُ الأَيْكةِ وقَومُ تُبَّعٍ، فهُمْ من العرَبِ، وذُكِروا هنا عقِبَ قومِ نوحٍ؛ للجامعِ الخَياليِّ بيْن القومَينِ، وهو جامعُ التَّضادِّ؛ لأنَّ عَذابَهم كان ضِدَّ عذابِ قَومِ نوحٍ؛ إذ كان عَذابُهم بالخَسفِ، وعذابُ قومِ نوحٍ بالغَرَقِ، ثمَّ ذكَرَ ثَمودَ؛ لشَبَهِ عَذابِهم بعذابِ أصحابِ الرَّسِّ؛ إذْ كانَ عَذابُهم برَجفةِ الأرضِ وصَواعقِ السَّماءِ، ولأنَّ أصحابَ الرَّسِّ مِن بَقايا ثَمودَ -على أحدِ الأقوالِ-، ثمَّ ذُكِرَت عادٌ؛ لأنَّ عذابَها كان بحادثٍ في الجوِّ، وهو الرِّيحُ، ثم ذُكِرَ فِرعونُ وقومُه؛ لأنَّهم كذَّبوا أشهَرَ الرُّسُلِ قبْلَ الإسلامِ، وأصحابُ الأيْكةِ هم قومُ شُعَيبٍ، وهم مِن خُلَطاءِ بني إسرائيلَ [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/295). .
- قَولُه: وَإِخْوَانُ لُوطٍ عبَّرَ بالأُخوَّةِ؛ مع أنه لم يكُنْ مِن نسَبِهم، وإنَّما كان نزيلًا فيهم؛ لاستِوطانِه بلادَهم، واختيارِه لِمُجاوَرتِهم، ومُصاهَرتِهم، وإقامتِه بيْنَهم في مدينتِهم مُدَّةً مَديدةً، وسِنينَ عديدةً، فالمرادُ بـ (إِخْوَانُ) هنا أنَّهم مُلازِمونَ، وهذا مِن إطلاقِ الأُخُوَّةِ على مُلازَمةِ الشَّيءِ ومُمارَستِه [174] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/ 80) و(18/416)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/ 178) و(26/295). .
- والمقصودُ بذِكرِ هذِه الأُمَمِ الَّتي أصابَها عذابٌ شَديدٌ في الدُّنيا عِقابًا على تَكذيبِهم الرُّسلَ: تسليةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّعريضُ بالتَّهديدِ لقَومِه المكذِّبينَ أنْ يحُلَّ بهم ما حلَّ بأولئك [175] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/382)، ((تفسير البيضاوي)) (5/140)، ((تفسير أبي السعود)) (8/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/296)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/285). .
- وجُملةُ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤكِّدةٌ لجُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخرِها؛ فلذلك فُصِلَتْ ولم تُعطَفْ، وليُبْنَى عليه قولُه: فَحَقَّ وَعِيدِ؛ فيَكونَ تَهديدًا بأنْ يحِقَّ عليهم الوعيدُ كما حَقَّ على أولئك مُرتَّبًا بالفاءِ على تَكذيبِهم الرُّسلَ؛ فيكونَ في ذلك تَشْريفٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللرُّسلِ السَّابقينَ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/296). .
- قولُه: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ تنْوينُ كُلٌّ تَنوينُ عِوَضٍ عن المُضافِ إليه، أي: كلُّ أولئك [177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/297). . وإفرادُ الضَّميرِ في قَولِه: كَذَّبَ باعتِبارِ لَفظِ الكُلِّ، أوْ كُلُّ واحدٍ منهم كذَّبَ جمْعَ الرُّسلِ؛ لاتِّفاقِهم على الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ والإنذارِ بالبعثِ والحَشْرِ؛ فتَكذيبُ واحدٍ منهم تكذيبٌ للكلِّ، وهذا على تقْديرِ رِسالةِ تُبَّعٍ ظاهرٌ، وأمَّا على تَقديرِ عدَمِها -وهُو الأظهرُ- فمعنى تَكذيبِ قَومِه الرُّسلَ تكذيبُهم بمنْ قَبْلَهم مِن الرُّسلِ المُجمِعينِ على التَّوحيدِ والبعثِ، وإلى ذلكَ كان يَدْعُوهم تُبَّعٌ [178] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/128). .
- قولُه: فَحَقَّ وَعِيدِ الوعيدُ: الإنذارُ بالعُقوبةِ، واقتَضى الإخبارُ عنه بـ (حَقَّ) أنَّ اللهَ تَوعَّدَهم به، فلمْ يَعبؤوا وكذَّبوا وُقوعَه؛ فحَقَّ وصدَقَ. وحُذِفَت ياءُ المتكلِّمِ الَّتي أُضيفَ إليها وَعِيدِ؛ للرَّعْيِ على الفاصلةِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/297). .
2- قولُه تعالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ استِئنافٌ مقرِّرٌ لصحَّةِ البَعثِ الَّذي حُكِيَت أحوالُ المنكِرينَ له مِن الأممِ المُهلَكةِ. والفاءُ في أَفَعَيِينَا عاطفةٌ على مَحذوفٍ، تقديرُه: أقصَدْنا الخلْقَ فعَجَزْنا عنه حتَّى يتوهَّمَ أحَدٌ عَجْزَنا عن إعادتِه [180] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/285). ؟!
- وأيضًا تُشيرُ فاءُ التَّفريعِ إلى أنَّ هذا الكلامَ مُفرَّعٌ على ما قبْلَه، وهو جُملةُ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق: 6] ، وقولُه: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى [ق: 8] المُعرِّضُ بأنَّهم لم يَتبصَّروا به ولم يَتذكَّروا. وقولُه: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: 9] ، وقولُه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 11] . ويجوزُ أنْ يُجعَلَ تَفريعًا على قولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [181] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/532)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/297). .
- والهَمزةُ في أَفَعَيِينَا استِفهامُ إنكارٍ وتَغليطٍ؛ لأنَّهم لا يَسَعُهم إلَّا الاعتِرافُ بأنَّ اللهَ لم يَعْيَ بالخَلقِ الأوَّلِ؛ إذ لا يُنكِرُ عاقلٌ كَمالَ قُدرةِ الخالِقِ، وعدمَ عَجزِه [182] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/382)، ((تفسير البيضاوي)) (5/140)، ((تفسير أبي حيان)) (9/533)، ((تفسير أبي السعود)) (8/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/297). .
- وفي قَولِه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عُرِّفَ الخلْقُ الأوَّلُ، ونُكِّرَ اللَّبْسُ والخلْقُ الجديدُ؛ وذلك لأنَّه عُرِّفَ الخلْقُ الأوَّلُ لتَفخيمِه وتَعظيمِه؛ لأنَّ الغرَضَ جَعْلُه دَليلًا على إمكانِ الخلْقِ الثَّاني بطَريقِ الأَولى، أي: إذا لم يَعْيَ تعالى بالخلْقِ الأوَّلِ -على عَظَمتِه- فالخلْقُ الآخرُ أَولى ألَّا يَعيا به. وأمَّا تَنكيرُ اللَّبْسِ فللتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، كأنَّه قال: في لَبْسٍ أيَّ لَبْسٍ، وتَنكيرُ الخلْقِ الجديدِ للتَّقليلِ منه، والتَّهوينِ لأمْرِه بالنِّسبةِ إلى الخلْقِ الأوَّلِ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ للتَّفخيمِ، كأنَّه أمْرٌ أعظَمُ مِن أنْ يَرضى الإنسانُ بكَونِه مُلتبسًا عليه، مع أنَّه أوَّلُ ما تُبصَرُ فيه صِحَّتُه [183] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (4/382)، ((تفسير البيضاوي)) (5/140)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/532)، ((تفسير أبي السعود)) (8/128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/285، 286). ، أو نكَّره لتعظيمِ شأنِه، والإشعارِ بأنَّه على وجهٍ غيرِ مُتعارَفٍ ولا مُعتادٍ [184] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/140). . أو تَنكيرُ لَبْسٍ للنَّوعيةِ، وتَنكيرُ خَلْقٍ جَدِيدٍ كذلك، أي: ما هو إلَّا خلْقٌ مِن جُملةِ ما يقَعُ مِن خلْقِ اللهِ الأشياءَ ممَّا وُجِّهَ إحالتُه، ولتَنكيرِه أُجْرِيَت عليه الصِّفةُ بـ جَدِيدٍ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/298). . وقيل: نَكَّر الخَلقَ الجَديدَ؛ لأنَّه كان غيرَ مَعروفٍ عندَ الكُفَّارِ المُخاطَبينَ، وعَرَّف الخَلْقَ الأوَّلَ؛ لأنَّه مَعروفٌ مَعهودٌ [186] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/301). .
- قولُه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ حرْفُ (بل) أفادَ الإضرابَ الإبطاليَّ عن المُستفهَمِ عنه، أي: بلْ ما عَيِينا بالخلْقِ الأوَّلِ، أي: وهم يَعلَمون ذلك، ويَعلَمون أنَّ الخلْقَ الأوَّلَ للأشياءِ أَعظَمُ مِن إعادةِ خلْقِ الأمواتِ، ولكنَّهم تَمكَّنَ منهم اللَّبسُ الشَّديدُ، فأغْشَى إدراكَهم عن دَلائلِ الإمكانِ فأحالُوه؛ فالإضرابُ على أصلِه مِن الإبطالِ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/297، 298). .
- وأيضًا (بل) عطفٌ على مُقدَّرٍ مُستأنَفٍ مَسوقٍ لبيانِ شُبهتِهم وفضْحِ سَفْسطتِهم، والتَّقديرُ: هم غيرُ مُنكِرين لقدرتِنا، بلْ هم في خَلطٍ وشُبهةٍ [188] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/140)، ((تفسير أبي السعود)) (8/128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/285). .
- وجيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ مِن قولِه: هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ هذا الحُكمِ لهم، وأنَّه مُتمكِّنٌ مِن نُفوسِهم، لا يُفارِقُهم البتَّةَ، ولِيَتأتَّى اجتِلابُ حرْفِ الظَّرفيَّةِ في الخبَرِ؛ فيَدُلَّ على انغِماسِهم في هذا اللَّبْسِ، وإحاطتِه بهم إحاطةَ الظَّرفِ بالمَظروفِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/298). .
- قولُه: جَدِيدٍ في هذا الوصفِ تَحميقٌ لهم مِن إحالتِهم البَعثَ، أي: اجْعَلوه خلْقًا جديدًا كالخَلقِ الأوَّلِ، وأيُّ فارقٍ بيْنَهما [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/298). ؟!