موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

الْمَجِيدِ: أي: الكَريمِ، الشَّريفِ، والمَجْدُ: بُلوغُ النِّهايةِ في الكرَمِ، ووُصِف القرآنُ بذلك لكثرةِ ما يَتضمَّنُ مِن المكارمِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، والمجدُ أيضًا: الشَّرفُ الواسِعُ، وأصلُ (مجد): يدُلُّ على بُلوغِ النِّهايةِ، ولا يكونُ إلَّا في محمودٍ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/401)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 297)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1728)، ((المفردات)) للراغب (ص: 761). .
مُنْذِرٌ: أي: مُحَذِّرٌ ومُخَوِّفٌ، وأصْلُ الإنذارِ: إخبارٌ فيه تخويفٌ [16] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 797)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 48). .
رَجْعٌ: أي: إعادةٌ، يُريدون البَعثَ بعدَ الموتِ، وأصْلُ (رجع): يدُلُّ على ردٍّ وتَكرارٍ [17] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 417)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342). .
مَرِيجٍ: أي: مُختَلِطٍ، وأصْلُ (مرج): يدُلُّ على الخَلطِ [18] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 417)، ((تفسير ابن جرير)) (17/471)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 387). .

المعنى الإجمالي :

يَبتدئُ اللهُ تعالَى هذه السُّورةَ الكريمةَ بأحَدِ الحُروفِ المُقَطَّعةِ، التي تأتي لبَيانِ إعجازِ هذا القُرآنِ. ثمَّ يُقسِمُ تعالَى بالقُرآنِ الكريمِ الواسِعِ المعاني، ذي الصِّفاتِ العَظيمةِ.
ثمَّ يقولُ سُبحانَه: بلْ تَعَجَّب المشركون واستَنكَروا مَجيءَ رَسولٍ مِنَ البَشَرِ يُحَذِّرُهم مِن عَذابِ اللهِ تعالَى، فقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: إنَّه لشَيءٌ عَجيبٌ أنْ يأتيَنا رَسولٌ مِنَ البَشَرِ، أئِذا مِتْنا وصِرْنا تُرابًا نُبعَثُ أحياءً بعدَ ذلك؟! إنَّ ذلك الرُّجوعَ إلى الحياةِ مرَّةً أخرَى بَعيدٌ وقوعُه!
ثمَّ يرُدُّ اللهُ تعالَى عليهم، فيقولُ: قدْ عَلِمْنا ما تَأكُلُ الأرضُ مِن أجسادِهم بعدَ مَوتِهم، وعِندنا كِتابٌ حافِظٌ لكلِّ شَيءٍ، مَحفوظٌ مِن الشَّياطينِ ومِن التَّغيُّرِ.
ثمَّ يَكشِفُ اللهُ تعالَى عن حَقيقةِ أمْرِهم، فيقولُ: بلْ كَذَّبوا بالقُرآنِ حينَ جاءَهم؛ فهُم في أمْرٍ مُختلِطٍ مُلتبِسٍ عليهم!

تفسير الآيات :

ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1).
ق.
افتُتِحَت هذه السُّورةُ بهذا الحرفِ مِن الحُروفِ المقطَّعةِ التي تُستفتَحُ بها كثيرٌ مِن سُوَرِ القرآنِ لبيانِ إعجازِه؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، معَ أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها [19] يُنظر ما تَقدَّم في تفسيرِ سُورةِ البَقَرةِ (1/64). .
وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ.
أي: أُقْسِم بالقُرآنِ الكريمِ، الواسِعِ المعاني، الشَّريفِ، ذي الصِّفاتِ العظيمةِ الكامِلةِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/401)، ((تفسير القرطبي)) (17/3)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803). قال السَّمين الحلَبيُّ: (قولُه: وَالْقُرْآَنِ: قَسَمٌ. وفي جَوابِه أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّه قولُه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ. الثاني: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ. الثالثُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ. الرابعُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى. الخامسُ: بَلْ عَجِبُوا. وهو قولٌ كوفيٌّ؛ قالوا: لأنَّه بمعنى «قدْ عَجِبوا». السادس: أنَّه مَحذوفٌ، فقدَّره الزجَّاج والأخفشُ والمبرِّدُ «لَتُبْعَثُنَّ»). ((الدر المصون)) (10/17). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (2/522)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/41). وقال ابنُ كَثير: (الجَوَابُ هو مَضْمونُ الكلامِ بعْدَ القَسَمِ، وهو إثْباتُ النُّبوَّةِ، وإثباتُ المَعادِ، وتَقْرِيرُه وتَحقيقُه وإنْ لمْ يَكُنِ القَسَمُ مُتلقًّى لفظًا، وهذا كثيرٌ في أقْسامِ القُرآنِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/395). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/422، 427). وقيل: الجوابُ هو الَّذي وقَعَ عنه الإضرابُ بـ بَلْ في قولِه تعالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2]، يعني كأنَّه قال: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ما رَدُّوا أمْرَك بحُجةٍ، أو ما كذَّبوك ببُرهانٍ. وممَّن اختاره: ابنُ عطيَّة، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/300)، ((تفسير ابن عطية)) (5/155). وقال ابنُ القَيِّم: (هاهنا قد اتَّحَد المُقسَمُ به والمُقسَمُ عليه، وهو القُرآنُ؛ فأقسَمَ بالقُرآنِ على ثُبوتِه وصِدقِه، وأنَّه حَقٌّ مِن عِندِه؛ ولذلك حُذِفَ الجُوابُ ولم يُصَرَّحْ به؛ لِما في القَسَمِ مِن الدَّلالةِ عليه، أو لأنَّ المقصودَ نَفسُ المُقسَمِ به). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 425). وقال ابنُ عُثَيمين: (وأظهَرُ ما يكونُ أنْ نقولَ: إنَّ مِثلَ هذا التركيبِ لا يَحتاجُ إلى جَوابِ القَسَمِ؛ لأنَّه معروفٌ مِن عَظَمةِ المُقسَمِ عليه، فكأنَّه أقسَمَ بالقُرآنِ على صِحَّةِ القُرآنِ؛ فالقُرآنُ المَجيدُ لِكَونِه مجَيدًا كان دَليلًا على الحَقِّ، وأنَّه مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وحينَئذٍ لا يَحتاجُ القَسَمُ إلى جوابٍ؛ لأنَّ الجَوابَ في ضِمنِ القَسَمِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 72). .
كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22].
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2).
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
أي: بلْ [21] قال الشَّوكاني: (بَلْ لِلإضْرابِ عن الجوابِ على اختِلافِ الأقوالِ، وأَنْ في مَوضِعِ نَصْبٍ على تقديرِ: لِأَنْ جاءَهم. والمعنى: بلْ عَجِبَ الكفَّارُ لِأَنْ جاءهُم مُنذِرٌ منهم، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَكْتَفوا بمُجَرَّدِ الشَّكِّ والرَّدِّ، بلْ جَعَلوا ذلك مِن الأمورِ العجيبةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/84). وقال القاسميُّ: (وقيل: هو إضرابٌ عمَّا يُفهَمُ مِن وَصفِ القُرآنِ بالمَجيدِ، كأنَّه قيل: ليس سَبَبُ امتِناعِهم من الإيمانِ بالقُرآنِ أنَّه لا مَجْدَ له، ولكِنْ لجَهْلِهم). ((تفسير القاسمي)) (9/6). وقال ابنُ عادلٍ: (إذا ترَكَ المتكلِّمُ المُضْرَبَ عنه صريحًا وأتى بحرفِ الإضرابِ، اسْتُفِيدَ منه أمرانِ: أحدُهما: الإشارةُ إلى أمْرٍ آخَرَ قبْلَه مُضرَبٌ عنه. والثاني: عِظَمُ التَّفاوتِ بيْنهما، وهاهنا كذلك؛ لأنَّ الشَّكَّ بعْد قيامِ البُرهانِ بعيدٌ، لكنَّ القطعَ بخلافِه في غايةِ ما يكون مِن البُعدِ، فالعجَبُ منه أبعَدُ). ((تفسير ابن عادل)) (18/9)، ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/123). تَعَجَّبوا واستَنكَروا مَجيءَ رَسولٍ مِنَ البَشَرِ يُحَذِّرُهم مِن عَذابِ اللهِ تعالى [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/402)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/278-279). قال ابنُ عطيةَ: (واختَلَف النَّاسُ في الضَّميرِ في عَجِبُوا لِمَن هو؟ فقال جمهورُ المتأوِّلينَ: هو لجَميعِ النَّاسِ مُؤمِنِهم وكافِرِهم... لكِنِ المُؤمِنونَ نَظَروا واهتَدَوا، والكافِرونَ بَقُوا في عَمايتِهم وصَمُّوا وحاجُّوا بذلك العَجَبِ؛ ولذلك قال تعالى: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. وقال آخَرونَ: بل الضَّميرُ في عَجِبُوا للكافِرينَ، وكَرَّر الكلامَ تأكيدًا ومُبالَغةً). ((تفسير ابن عطية)) (5/156). قيلَ المرادُ بالآيةِ: تعجُّبُهم من مَجيءِ رَسولٍ بَشَريٍّ إليهم. وممَّن اختارَه: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، وابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/402)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7027)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/278-279). قال السَّعدي: (مِن جِنسِهم، يُمكِنُهم التلقِّي عنه، ومعرفةُ أحوالِه وصِدقِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 803). وقيل: المرادُ بـ مِنْهُمْ: مِن قَومِهم، قد عرَفوا نسَبَه وصِدقَه وأمانتَه. وممَّن اختارَه في الجُملةِ: السَّمرقنديُّ، والثَّعلبيُّ، والبَغويُّ، والزمخشريُّ، والنَّسَفيُّ، والخازنُ، وهو ظاهِرُ اختيار البقاعيِّ، وابن عُثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/332)، ((تفسير الثعلبي)) (9/94)، ((تفسير البغوي)) (4/270)، ((تفسير الزمخشري)) (4/379)، ((تفسير النسفي)) (3/361)، ((تفسير الخازن)) (4/186)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/403-404)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 73). .
كما قال الله تعالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].
وقال سُبحانَه: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [يونس: 2] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ.
أي: فقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: إنَّه لشَيءٌ مُستغرَبٌ ومُستبعَدٌ أنْ يَأتيَنا رَسولٌ مِنَ البَشَرِ يُنذِرُ بعَذابٍ بعدَ الموتِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/402)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/278-279)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 73). !
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أظهَرَ الكافِرونَ العَجَبَ مِن رِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أظهَروا استِبعادَ ما أخبَرَهم به [24] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/124). .
وأيضًا لَمَّا كان المتعَجَّبُ منه مُجمَلًا، أوضَحَه بقَولِه [25] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/405). :
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا.
أي: قال المُشرِكونَ: أئِذا مِتْنا وصِرْنا تُرابًا نُبعَثُ أحياءً بعْدَ ذلك، ونَرى ما وُعِدْنا مِن العَذابِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/402، 403)، ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/280). ؟!
كما قال تعالى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 81 - 83] .
ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
أي: قال المُشرِكونَ: رَدُّنا أحياءً بعدَ مَوتِنا وصَيْرورتِنا تُرابًا وعِظامًا، بَعيدٌ وقوعُه، ومحالٌ حُدوثُه [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/403)، ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/280)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 74). قال ابنُ عُثَيمين: (يَحسُنُ عندَ التِّلاوةِ أن تَقِفَ على قَولِه: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا؛ لأنَّ قَولَه: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ جملةٌ استِئنافيَّةٌ لا عَلاقةَ لها مِن حيثُ الإعرابُ بما قَبْلَها). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 74). ويُنظر: ((القطع والائتناف)) للنحَّاس (ص: 677). !
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قبْلَها:
لَمَّا كان السِّياقُ لإحاطةِ العِلمِ بما نَعلَمُ وما لا نَعلَمُ، توقَّع السَّامعُ الجوابَ عن هذا الجَهلِ؛ فقال مُزيلًا لسَببِه [28] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/405). :
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ.
أي: قدْ عَلِمْنا ما تَأكُلُ الأرضُ مِن أجسادِهم بعدَ مَوتِهم، ولا يَخْفى عليْنا شَيءٌ مِن أجزاءِ أجسامِهم المتفَرِّقةِ؛ فلا يظُنَّ الكافِرونَ أنَّنا غيرُ قادِرينَ على إحيائِهم إذا ماتوا وصاروا تُرابًا [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/404)، ((الوسيط)) للواحدي (4/163)، ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/280-281)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 74). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ليْس مِنَ الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلَى، إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ [30] عَجْبُ الذَّنَبِ: هو العَظْمُ اللَّطيفُ الَّذي في أسفلِ فَقارِ الظَّهرِ، وأعْلَى ما بينَ الألْيتَينِ، وهو رأسُ العُصعُصِ. يُنظر: ((التعليق على الموطأ)) للوقشي (1/ 268)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 92)، ((طرح التثريب)) للعراقي (3/ 307). ، ومنه يُركَّبُ الخَلْقُ يومَ القِيامة ِ)) [31] رواه البخاريُّ (4935)، ومسلمٌ (2955). .
وعن أَوسِ بنِ أَوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ مِن أفضَلِ أيَّامِكم يومَ الجُمُعةِ؛ فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه النَّفخةُ، وفيه الصَّعقةُ، فأكثِروا علَيَّ مِن الصَّلاةِ فيه؛ فإنَّ صَلاتَكم مَعروضةٌ عليَّ. فقال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، كيف تُعرَضُ صَلاتُنا عليك وقد أَرَمْتَ؟! -يعني: بَلِيتَ- فقال: إنَّ اللهَ حَرَّم على الأرضِ أنْ تَأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ )) [32] أخرجه أبو داود (1047)، والنَّسائيُّ (1374)، وابن ماجه (1636) واللفظ له، وأحمد (16162). صَحَّحه على شرْط الشَّيخينِ: الحاكمُ في ((المستدرك)) (5/776)، ومحمد بن عبد الهادي في ((الصارم المُنْكي)) (336)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (2/206)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1636)، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/548)، وذكَرَ ثُبوتَه ابنُ تيميَّة في ((حقوق آل البيت)) (60)، وصحَّحه لغيره شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1047). .
وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ.
أي: وعِندنا كِتابٌ يَحوي كلَّ شَيءٍ، وحافِظٌ لكلِّ شَيءٍ، وهو مَحفوظٌ مِن الشَّياطينِ ومِن التغيُّرِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/404)، ((الوسيط)) للواحدي (4/163)، ((تفسير الزمخشري)) (4/380)، ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير العليمي)) (6/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/283)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 75). قال الرازيُّ: (الحَفيظُ: يحتَمِلُ أنْ يكونَ بمعنى المحفوظِ، أي: مَحفوظٌ مِن التغييرِ والتبديلِ، ويحتَمِلُ أنْ يكونَ بمعنى الحافِظِ، أي: حافِظٌ أجزاءَهم وأعمالَهم، بحيث لا يَنسى شيئًا منها). ((تفسير الرازي)) (28/125). وقيل: هو محفوظٌ من الشَّياطينِ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: مُقاتلُ بنُ سُليمان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/110). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: مَحفوظٌ مِن الشَّياطينِ، ومِن أنْ يُدرَسَ ويُبعثَرَ، وهو اللَّوحُ المحفوظُ: الثَّعلبيُّ، والبَغويُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/94)، ((تفسير البغوي)) (4/270). وممَّن اختار أنَّ حَفِيظٌ بمعنى حافظٍ: القُرطبيُّ، والشَّوكاني، وابن عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير الشوكاني)) (5/85)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 75). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/301). قال البقاعيُّ: (أي: بالِغٌ في الحِفظِ لا يَشِذُّ عنه شَيءٌ مِن الأشياءِ دَقَّ أو جَلَّ، فكيف يَستبعِدونَ على عظَمَتِنا أنْ نَقدِرَ على تَمييزِ تُرابِهم مِن تُرابِ الأرضِ، ولم يَختلِطْ في عِلْمِنا شيءٌ مِن جُزءٍ منه بشَيءٍ مِن جُزءٍ آخَرَ، فَضلًا عن أنْ يختَلِطَ شَيءٌ منه بشَيءٍ آخَرَ مِن تُرابِ الأرضِ أو غيرِها). ((نظم الدرر)) (18/406). وقال العُلَيمي: (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ مَحفوظٌ مِن الشياطينِ، جامعٌ لم يَفُتْه شيءٌ، وهو اللَّوحُ المحفوظُ). ((تفسير العليمي)) (6/380). .
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5).
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ.
أي: بلْ [34] قال الشَّوكاني: (أضْرَب سُبحانَه عن كَلامِهم الأوَّلِ، وانْتَقَل إلى ما هو أشنعُ منه فقالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ؛ فإنَّه تصريحٌ منهم بالتكذيبِ بعدَ ما تقدَّم عنهم مِن الاستبعادِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/85). يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/380)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/284). وقال ابنُ عُثَيمين: (بَلْ هنا للإضرابِ الانتقاليِّ، ولَيستْ للإضرابِ الإبطاليِّ؛ لأنَّ الأوَّلَ ثابِتٌ، والثَّانيَ زائِدٌ عليه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 75). وقال ابنُ عطيةَ: (وقبْلَ قَولِه: بَلْ كَذَّبُوا مُضمَرٌ، عنه وقَع الإضرابُ، تقديرُه: ما أجادوا النَّظَرَ، أو نحوُ هذا، والَّذي يَقَعُ عنه الإضرابُ بـ بَلْ الأغلَبُ فيه أنَّه مَنفيٌّ تَقضي «بَلْ» بفَسادِه، وقدْ يكونُ أمرًا موجَبًا تَقضي «بَلْ» بتَركِ القَولِ فيه لا بفَسادِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/157). وقيل: المضروبُ عنه تقديرُه: لم يَكذِبِ المُنذِرُ، بلْ هم الَّذين كَذَّبوا؛ فإنَّه تعالَى لَمَّا قال عنهم: إنَّهم قالوا: هذا شيءٌ عَجيبٌ، كان في معنى قولِهم: إنَّ المُنذِرَ كاذِبٌ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/126). سارَعوا إلى التَّكذيبِ بالقُرآنِ حينَ جاءَهم [35] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/284)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 75). قال الماوردي: («الحقُّ» يعني القرآنَ في قَولِ الجميعِ). ((تفسير الماوردي)) (5/341). .
فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ.
أي: فهُم في أمْرٍ مُختلِطٍ مُضطَرِبٍ مُلتبِسٍ عليهم [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/405، 408)، ((تفسير القرطبي)) (17/5)، ((تفسير ابن كثير)) (7/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/285). قال ابنُ القيِّم: (لَمَّا تَرَكوا الحَقَّ وعَدَلوا عنه مَرِج عليهم أمرُهم والتَبَس، فلا يَدرونَ ما يقولونَ وما يَفعلونَ، بلْ لا يقولونَ شيئًا إلَّا كان باطِلًا، ولا يَفعلونَ شَيئًا إلَّا كان ضائِعًا غيرَ نافعٍ لهم، وهذا شأنُ كُلِّ مَن خرَج عن الطَّريقِ الموصِلِ إلى المقصودِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 127-128). وقال السِّعديُّ: (فتارةً يقولونَ عنك: إنَّك ساحِرٌ، وتارةً مجنونٌ، وتارةً شاعِرٌ، وكذلك جعَلوا القُرآنَ عِضِينَ؛ كُلٌّ قال فيه ما اقتضاهُ رأيُه الفاسِدُ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 803). .
كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8، 9].

الفوائد التربوية :

1- قَال اللهُ تعالَى: وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ فهو وَسيعُ المعاني عَظيمُها، كَثيرُ الوُجوهِ، كَثيرُ البَرَكاتِ، جَزيلُ المبَرَّاتِ، والمجدُ: سَعةُ الأوصافِ وعَظَمتُها، وأحَقُّ كَلامٍ يُوصَفُ بهذا: هذا القُرآنُ الذي قدِ احتوى على عُلومِ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، الذي حَوى مِنَ الفَصاحةِ أكمَلَها، ومِنَ الألفاظِ أجزَلَها، ومِنَ المعاني أعَمَّها وأحسَنَها، وهذا مُوجِبٌ لكَمالِ اتِّباعِه، وسُرعةِ الانقيادِ له، وشُكرِ اللهِ على المِنَّةِ به [37] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:803). . وقيل: المجْدُ صِفةُ العَظَمةِ والسُّلطانِ، فالقُرآنُ مَجيدٌ ذو غَلَبةٍ وذو سُلطانٍ، يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، مَن تمسَّك به فله العِزَّةُ وله الغَلَبةُ، والمجدُ هو العِزَّةُ والسُّلطانُ والقُوَّةُ، فالقُرآنُ مَجيدٌ، ومَن تمسَّك بالمَجيدِ كان مَجيدًا عَظيمًا [38] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 5). .
2- مَن رَدَّ الحَقَّ مَرِجَ عليه أمرُه، واختَلَطَ عليه، والْتبَسَ عليه وَجهُ الصَّوابِ؛ فلم يَدْرِ أين يذهَبُ، كما قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [39] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/173). ، فكلُّ إنسانٍ يَرُدُّ الحقَّ أوَّلَ مرَّةٍ فلْيَعلَمْ أنَّه سيُبتلَى بالشَّكِّ والرَّيبِ في قَبولِ الحقِّ في المُستَقبَلِ؛ فهؤلاء لَمَّا كَذَّبوا صاروا في أمْرٍ مَريجٍ، الْتبَسَ عليهم الأمرُ وترَدَّدُوا فيه. وبَعضُ النَّاسِ حينَ يُقالُ له: أَمَرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا، يَقولُ: الأمرُ للوُجوبِ أمْ للاستِحبابِ؟! ويَقصِدُ: إذا كان للاستِحبابِ فأنا في حِلٍّ منه، وإذا كان للوُجوبِ فعَلْتُه! وهذا خَطأٌ، ولكِنْ قُلْ: سَمِعْنا وأطَعْنا، وافعَلْ ما أُمِرْتَ به سواءً على الوُجوبِ أو على الاستِحبابِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 75). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قال اللهُ تعالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ عَجَّب منهم هذا العَجَبَ بقَولِه: مِنْهُمْ؛ لأنَّ العادةَ عِندَهم وعِندَ جميعِ النَّاسِ أنَّه إذا كان النَّذيرُ منهم لم يُداخِلْهم في إنذارِه شَكٌّ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، وهؤلاء خالَفوا عادةَ النَّاسِ في تَعجُّبِهم مِن كَونِ النَّذيرِ -وهو أحَدُهم- خُصَّ بالرِّسالةِ دُونَهم، ولم يُدرِكوا وَجهَ الخُصوصيَّةِ لكونَه مِثْلَهم، فكذلك أنكَروا رِسالتَه وفَضْلَ كِتابِه بألسِنَتِهم نَفاسةً وحَسَدًا؛ لأنَّهم كانوا مُعترِفينَ بخَصائِصِه التي رفَعه اللهُ تعالَى عليهم بها قبْلَ الرِّسالةِ، فحَطَّهم عَجَبُهم ذلك إلى الحَضيضِ مِن دَرَكاتِ السَّفَهِ وخِفَّةِ الأحلامِ؛ لأنَّهم عَجِبوا أنْ كان الرَّسولُ بَشَرًا، وأوجَبوا أنْ يكونَ الإلهُ حَجَرًا! وعَجِبوا مِن أنْ يُعادوا مِن تُرابٍ وتَثبُتَ له الحياةُ، ولم يَعجَبوا أنْ يُبتَدَؤوا مِن تُرابٍ، ولم يكُنْ له أصلٌ في الحياةِ [41] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/403). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ يدُلُّ على البَعثِ، وقُدرتِه تعالَى عليه؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى عالمٌ بأجزاءِ كُلِّ واحدٍ مِن الموتَى، لا يَشتَبِهُ عليه جُزءُ واحِدٍ بجُزءِ الآخَرِ، وقادِرٌ على الجَمعِ والتَّأليفِ؛ فليس الرَّجعُ منه ببَعيدٍ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/13). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/125). .
3- في قَولِه تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه يُعيدُ هذا الجَسَدَ بعَينِه، الَّذي أطاع وعَصى، فيُنَعِّمُه ويُعَذِّبُه، كما يُنَعِّمُ الرُّوحَ التي آمَنَتْ بعَينِها، ويُعَذِّبُ التي كَفَرَتْ بعَينِها، لا أنَّه سُبحانَه يَخلُقُ رُوحًا أُخرى غيرَ هذه فيُنَعِّمُها ويُعَذِّبُها، كما قاله مَن لم يَعرِفِ المعادَ الذي أَخبرَتْ به الرُّسُلُ؛ حيثُ زَعَمَ أنَّ اللهَ سُبحانَه يَخلُقُ بَدَنًا غيرَ هذا البَدَنِ مِن كلِّ وَجهٍ، عليه يَقَعُ النَّعيمُ والعَذابُ! فإنَّه سُبحانَه جَعَلَ هذا جَوابًا لسؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ وهو أنَّه يُمَيِّزُ تلك الأجزاءَ التي اختَلَطَتْ بالأرضِ واستَحالتْ إلى العناصرِ بحيثُ لا تَتميَّزُ؛ فأخبَرَ سُبحانَه أنَّه قدْ عَلِمَ ما تَنقُصُه الأرضُ مِن لُحومِهم وعِظامِهم وأشعارِهم، وأنَّه كما هو عالِمٌ بتلك الأجزاءِ فهو قادِرٌ على تَحصيلِها وجَمعِها بعدَ تَفَرُّقِها، وتأليفِها خَلْقًا جديدًا [43] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 5)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/156-157). .
4- قال اللهُ تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: بناءً على هذا التَّكذيبِ صاروا في أمْرٍ مَريجٍ مُضطَرِبٍ، ليْس لهم قَرارٌ، وليْس لهم سُكونٌ؛ ولذلك تَجِدُ الإنسانَ كُلَّما كان أشَدَّ يَقينًا في دِينِ اللهِ كان أثبَتَ وأنظَمَ لعَمَلِه، وكُلَّما كان أشَدَّ تَكذيبًا كان دائِمًا في قَلَقٍ؛ ولذلك قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [44] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 5). .
5- قال اللهُ تعالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ يُستفادُ مِن هذه الآيةِ: أنَّ مِمَّا يَفتَحُ اللهُ به على العَبدِ في مَعرفةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ أنْ يكونَ مُصَدِّقًا مُوقِنًا؛ فكُلَّما كان مُصَدِّقًا مُوقِنًا فَتَحَ اللهُ له ما لا يَفتحُه لِغَيرِه، أمَّا مَن كان مُكَذِّبًا فإنَّ أبوابَ الهدايةِ تُغلَقُ دُونَه؛ قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] ، والعِياذُ باللهِ! [45] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 5).

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
- قولُه: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ قسَمٌ بالقُرآنِ، والقسَمُ به كِنايةٌ عن التَّنويهِ بشأْنِه؛ لأنَّ القسَمَ لا يكونُ إلَّا بعَظيمٍ عندَ المُقسِمِ؛ فكان التَّعظيمُ مِن لَوازمِ القَسَمِ، وأتْبَعَ هذا التَّنويهَ الكِنائيَّ بتَنويهٍ صَريحٍ بوصْفِ القرآنِ بـ الْمَجِيدِ؛ فالمَجيدُ المتَّصِفُ بقوَّةِ المجْدِ، والمجْدُ: الشَّرَفُ الكاملُ وكَرَمُ النَّوعِ، ودلَّت صِيغةُ المُبالَغةِ (مَجِيد) على كَمالِ مَجْدِه [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/276، 277). .
- وجَوابُ القَسمِ مَحذوفٌ؛ لِتَذهَبَ نفْسُ السامعِ في تَقديرِه كلَّ طريقٍ مُمكنٍ في المَقامِ، ويدُلُّ عليه ابتداءُ السُّورةِ بحرْفِ (ق) المُشعِرِ بالنِّداءِ على عَجزِهم عن مُعارَضةِ القرآنِ بعدَ تَحدِّيهم بذلك، أو يَدلُّ عليه الإضرابُ في قَولِه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، والتَّقديرُ: والقُرآنِ المَجيدِ، إنَّك لَرسولُ اللهِ بالحقِّ، أو يُقدَّرُ الجوابُ: إنَّه لَتنزيلٌ مِن ربِّ العَالَمين، أو نحوُ ذلك [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/276)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/281). . وقيلَ غيرُ ذلك.
- وفي قَولِه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إضرابٌ انتقاليٌّ؛ أضرَبَ عن جَوابِ القسَمِ المحذوفِ لبيانِ حالتِهم الزَّائدةِ في الشَّناعةِ والقُبحِ، وهذا الإضرابُ يَقْتضي كَلامًا مُنتقَلًا منه، فتَعيَّنَ أنْ يُقدِّرَ السَّامعُ جَوابًا تَتمُّ به الفائدةُ يدُلُّ عليه الكلامُ، وهذا مِن إيجازِ الحذْفِ [48] الإيجازُ: هو الاختِصارُ والجمْعُ للمعاني الكَثيرةِ بالألْفاظِ القليلةِ، وأداءُ المقصودِ مِن الكلامِ بأقلَّ مِن عباراتِ مُتعارَفِ الأوساطِ. ويكونُ الإيجازُ مَحمودًا إذا لم يُخِلَّ بالمقصودِ. وقيل: الإيجازُ حذْفُ الفُضولِ، وتقريبُ البعيدِ. وقيل عن البلاغة كُلِّها: هي إصابةُ المعنى، وحُسنُ الإيجازِ. والإيجازُ نوعانِ: الأولُ: إيجازُ القِصَرِ (ويُسمَّى إيجازَ البَلاغةِ)، وهو ما ليس بحَذْفٍ؛ كقولِه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ فإنَّه لا حذْفَ فيه معَ أنَّ معناه كثيرٌ يَزيدُ على لفْظِه؛ لأنَّ المرادَ به أنَّ الإنسانَ إذا علِم أنَّه متَى قَتَل قُتِل، كان ذلك داعيًا له قويًّا إلى ألَّا يُقدِمَ على القِتالِ؛ فارتفَع بالقتْلِ -الذي هو قِصاصٌ- كثيرٌ مِن قتْلِ الناسِ بعضِهم لبعضٍ؛ فكان ارتفاعُ القتلِ حياةً لهم. الثاني: إيجازٌ الحَذْف، والإيجازُ بالحذْفِ: هو حذفُ ما يُعلمُ ويُفهَمُ مِن سِياقِ الكلامِ بشرطِ وُجودُ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه؛ فقدْ يكونُ الإيجازُ بالحذفِ وغيرِه. والفرقُ بينَ الحذفِ والإيجازِ أن يكون في الحذفِ مقدَّرٌ، بخِلافِ الإيجازِ؛ فإنَّه عبارةٌ عن اللفظِ القليلِ الجامعِ للمعاني الجمَّةِ بنفْسِه. يُنظر: ((البيان والتبيُّن)) للجاحظ (1/ 99)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رَشِيق (1/ 242)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/ 181 وما بعدها)، ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 277)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/ 102)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 198). ، وحسَّنَه أنَّ الانتقالَ مُشعِرٌ بأهمَّيَّةِ المُنتقَلِ إليه، أي: عُدْ عمَّا تُريدُ تَقديرَه مِن جَوابٍ، وانتَقِلْ إلى بَيانِ سَببِ إنكارِهم الذي حَدَا بنا إلى القَسَمِ [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/277، 278)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/281). .
- وأيضًا قولُه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ خبَرٌ مُستعمَلٌ في الإنكارِ إنكارًا لعجَبِهم البالِغِ حَدَّ الإحالةِ؛ فهو إنكارٌ لتَعجُّبِهم ممَّا ليس بعجَبٍ -وهو أنْ يُنذِرَهم بالمَخُوفِ رجُلٌ منهم قدْ عرَفوا وَساطتَه فيهم وعَدالتَه وأمانتَه، ومَن كان على صِفتِه لم يكُنْ إلَّا ناصحًا لقومِه، خائفًا أنْ يَنالَهم سُوءٌ، ويَحُلَّ بهم مَكروهٌ، وإذا عَلِمَ أنَّ مَخُوفًا أظلَّهم، لَزِمَه أنْ يُنذِرَهم ويُحذِّرَهم؛ فكيْف بما هو غايةُ المخاوفِ ونِهايةُ المحاذيرِ؟!- وإنكارٌ لتعجُّبِهم ممَّا أنذَرَهم به مِن البَعثِ مع عِلمِهم بقُدْرةِ اللهِ تعالَى على خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنهما، وعلى اختراعِ كُلِّ شَيءٍ وإبداعِه، وإقرارِهم بالنَّشأةِ الأُولَى، ومعَ شَهادةِ العقلِ بأنَّه لا بُدَّ مِن الجزاءِ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/379، 380)، ((تفسير البيضاوي)) (5/139)، ((تفسير أبي حيان)) (9/529)، ((تفسير أبي السعود)) (8/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/278). .
- وضَميرُ عَجِبُوا عائدٌ إلى غَيرِ مذْكورٍ؛ فمَعادُه مَعلومٌ مِن السِّياقِ، وهو افتتاحُ السُّورةِ بحرْفِ التَّهجِّي الذي قُصِدَ منه تَعجيزُهم عن الإتيانِ بمِثلِ القرآنِ؛ لأنَّ عجْزَهم عن الإتيانِ بمِثْلِه في حالِ أنَّه مُركَّبٌ مِن حُروفِ لُغتِهِم، يدُلُّهم على أنَّه ليْس بكلامِ بَشرٍ، بلْ هو كلامُ اللهِ أبلَغَه إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على لِسانِ المَلَكِ؛ فإنَّ المُتحَدَّينَ بالإعجازِ مَشهورون يَعلَمُهم المسلِمونَ، وهم أيضًا يَعلَمونَ أنَّهم المَعْنيُّونَ بالتَّحدِّي بالإعجازِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/278). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- وأَنْ جَاءَهُمْ مَجرورٌ بـ (مِن) المَحذوفةِ، أي: عَجِبوا مِن مَجيءِ مُنذرٍ منهم، أو عَجِبوا مِن ادِّعاءِ أنْ جاءهُم مُنذِرٌ منهم [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/279). .
- وعُبِّرَ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَصْفِ مُنْذِرٌ -وهو المخبِرُ بشَرٍّ سيَكونُ-؛ للإيماءِ إلى أنَّ عجَبَهم كان ناشئًا عن صِفتَينِ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إحداهما: أنَّه مُخبِرٌ بعذابٍ يكونُ بعدَ الموتِ، أي: مُخبِرٌ بما لا يُصدِّقون بوُقوعِه، وإنَّما أنذَرَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَذابِ الآخِرةِ بعدَ البعثِ، والثانيةُ: كونُه مِن نَوعِ البشَرِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/279). .
- واقتُصِرَ على النِّذارةِ؛ لأنَّه لَمَّا لم يَتعيَّنْ للبِشارةِ مَوضِعٌ كان في حَقِّهم مُنذِرًا لا غيرُ [54] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/124). ، أو لِتَخويفِ مَن أنكَرَ البَعثَ؛ اقتُصِرَ على النِّذارةِ [55] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/403). ، أو أنَّه عُبِّرَ بما دَلَّ على النِّذارةِ؛ لأنَّها المقصودُ الأعظَمُ مِن هذه السُّورةِ [56] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/404). .
- قولُه: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ حِكايةٌ لتعجُّبِهم، وتفسيرٌ له، وبيانٌ لكَونِه مُقارنًا لغايةِ الإنكارِ، مع زِيادةِ تَفصيلٍ لمحَلِّ التَّعجُّبِ [57] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/139)، ((تفسير أبي حيان)) (9/529)، ((تفسير أبي السعود)) (8/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/279). .
- وفُرِّعَ على التَّكذيبِ الحاصِلِ في نُفوسِهم ذِكْرُ مَقالتِهم التي تُفصِحُ عنه وعن شُبهتِهم الباطلةِ بقولِه: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، وخُصَّ هذا بالعِنايةِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّه أدخَلُ عِندَهم في الاستبعادِ، وأحَقُّ بالإنكارِ؛ فهو الذي غَرَّهم، فأحالوا أنْ يُرسِلَ اللهُ إليهم أحدًا مِن نَوعِهم؛ ولذلك وُصِفَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ابتداءً بصِفةِ مُنْذِرٌ قبْلَ وَصفِه بأنَّه منهم؛ ليدُلَّ على أنَّ ما أنذَرَهم به هو الباعِثُ الأصليُّ لتَكذيبِهم إيَّاه، وأنَّ كونَه منْهم إنَّما قوَّى الاستِبعادَ والتَّعجُّبَ. ثم إنَّ ذلك يُتخَلَّصُ منه إلى إبطالِ حُجَّتِهم وإثباتِ البَعثِ، وهو المقصودُ بقولِه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إلى قولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/279). [ق: 4- 11] .
- قولُه: بَلْ عَجِبُوا ... وقولُه: فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إضْمارُهم أوَّلًا في قَولِه: عَجِبُوا؛ للإشعارِ بتَعيُّنِهم بما أُسنِدَ إليهم، وإظهارُهم ثانيًا فَقَالَ الْكَافِرُونَ ... للتَّسجيلِ عليهم بالكُفْرِ بمُوجِبِه. أوْ عطْفٌ لتَعجُّبِهم مِن البَعثةِ، على أنَّ هَذَا إشارةٌ إلى مُبْهمٍ يُفسِّرُه ما بعْدَه مِن الجُملةِ الإنكاريَّةِ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا، ووضْعُ المُظهَرِ مَوضعَ المُضمرِ؛ إمَّا لسَبْقِ اتِّصافِهم بَما يُوجِبُ كُفْرَهم، وإمَّا للإيذانِ بأنَّ تَعجُّبَهم مِن البَعثِ -لدَلالتِه على استِقصارِهم لقُدْرةِ اللهِ سُبحانَه عنْه، معَ مُعايَنتِهم لقُدْرتِه تعالَى على ما هُو أشقُّ منْه في قِياسِ العَقلِ مِن مَصنوعاتِه البَديعةِ- أشنَعُ مِن الأوَّلِ، وأعرَقُ في كَونِه كُفْرًا [59] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/380)، ((تفسير البيضاوي)) (5/139)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/525)، ((تفسير أبي حيان)) (9/529)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/279). ، وقيل غيرُ ذلك [60] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/404). .
- وحصَلَ في ضمْنِ هاتَينِ الفاصلتينِ ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ خُصوصيَّاتٌ كثيرةٌ مِن البلاغةِ؛ منها إيجازُ الحذْفِ [61] تقدم تعريفه (ص: 377). ، ومنها: ما أفادَه الإضرابُ مِن الاهتِمامِ بأمرِ البَعثِ، ومنها: الإيجازُ البَديعُ الحاصِلُ مِن التَّعبيرِ بوصْفِ مُنْذِرٌ، ومنها: إقحامُ وصْفِه بأنَّه مِنْهُمْ؛ لأنَّ لذلك مَدخلًا في تَعجبُّهِم، ومنها: الإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ على خِلافِ مُقْتضى الظاهرِ؛ فوُضِع الْكَافِرُونَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للشَّهادةِ على أنَّهم في قَولِهم هذا مُقدِمونَ على الكُفرِ العظيمِ، ومنها: الإجمالُ المُعْقَبُ بالتَّفصيلِ في قَولِه: شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/379)، ((تفسير البيضاوي)) (5/139)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/531)، ((تفسير أبي السعود)) (8/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 279). .
2- قولُه تعالَى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
- قولُه: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والإبطالِ، والجُملةُ تَقريرٌ للتَّعجيبِ وتأْكيدٌ للإنكارِ، يُريدون تَعجيبَ السَّامعين مِن ذلك تَعجيبَ إحالةٍ؛ لئلَّا يُؤمِنوا به، وجعَلوا مَناطَ التَّعجيبِ الزَّمانَ الذي أفادَتْه (إذا) وما أُضِيفَ إليه، أي: زَمنَ مَوتِنا، وكَونِنا تُرابًا. والمُستفهَمُ عنه مَحذوفٌ دلَّ عليه ظرْفُ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا، وحُذِفَ لأنَّه غَنيٌّ عنِ البَيانِ؛ لغايةِ شُهْرتِه معَ دَلالةِ ما بعْدَه عليه، والتَّقديرُ: أنرْجِعُ إلى الحياةِ في حِينِ انعِدامِ الحياةِ منَّا بالموتِ، وحِينِ تَفتُّتِ الجَسَدِ وصَيرورتِه تُرابًا [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/125، 126)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/280)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/281). ؟!
- وجُملةُ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مُؤكِّدةٌ لجُملةِ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا بطَريقِ الحَقيقةِ والذِّكْرِ؛ لأنَّ شأنَ التَّأكيدِ أنْ يكونَ أجْلَى دَلالةً [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/280). .
3- قولُه تعالَى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لرَدِّ قَولِهم: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] ؛ فإنَّ إحالتَهم البَعثَ ناشئةٌ عن عِدَّةِ شُبَهٍ؛ منها: أنَّ تفرُّقَ أجزاءِ الأجسادِ في مَناحي الأرضِ ومَهابِّ الرِّياحِ، لا يُبقي أمَلًا في إمكانِ جَمعِها؛ إذْ لا يُحيطُ بها مُحيطٌ، وأنَّها لو عُلِمَت مَواقِعُها لَتعذَّرَ الْتقاطُها وجَمعُها، ولوْ جُمِعَت كيف تَعودُ إلى صُوَرِها التي كانتْ مُشكَّلةً بها، وأنَّها لو عادتْ كيف تَعودُ إليها؟! فاقتُصِرَ في إقْلاعِ شُبَهِهم على إقلاعِ أصْلِها، وهو عَدَمُ العِلمِ بمَواقعِ تلك الأجزاءِ وذرَّاتِها. وفُصِلَت الجُملةُ بدونِ عطْفٍ؛ لأنَّها ابتداءُ كَلامٍ لردِّ كَلامِهم، وهذا هو الأليَقُ بنَظْمِ الكلامِ. وقيل: هي جَوابُ القسَمِ، وأيًّا ما كان فهو رَدٌّ لقولِهم: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [65] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/380)، ((تفسير البيضاوي)) (5/139)، ((تفسير أبي حيان)) (9/530)، ((تفسير أبي السعود)) (8/126)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/280، 281). .
- وأيضًا هذا الكَلامُ بَيانٌ للإمكانِ؛ رَعيًا لِمَا تَضمَّنه كَلامُهم مِن الإحالةِ؛ لأنَّ ثُبوتَ الإمكانِ يُقلِعُ اعتِقادَ الاستِحالةِ مِن نُفوسِهم، وهو كافٍ لإبطالِ تَكذيبِهم ولاستِدعائِهم للنَّظَرِ في الدَّعوةِ، ثم يَبْقى النَّظَرُ في كيفيَّةِ الإعادةِ، وهي أمْرٌ لم نُكلَّفْ بالبحثِ عنه [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/281). .
- وعُبِّرَ بلفظِ تَنْقُصُ الْأَرْضُ دونَ التَّعبيرِ بالإعدامِ؛ لأنَّ للأجسادِ درَجاتٍ مِن الاضمحلالِ تَدخُلُ تحْتَ حقيقةِ النَّقصِ؛ فقدْ يَفنى بعضُ أجزاءِ الجسَدِ ويَبْقى بعضُه، وقدْ يَأتي الفَناءُ على جميعِ أجزائِه، إلا أنَّه قدْ صحَّ أنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ لا يَفنَى [67] أخرجه البخاري (4935)، ومسلم (2955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ بلفظ: ((ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب)) ، فيكون فَناءُ الأجسادِ نَقصًا لا انعدامًا [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/282، 283). .
- قولُه: وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ عُطِفَ على قولِه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ عَطْفَ الأعمِّ على الأخصِّ، وهو بمَعنى تَذييلٍ لجُملةِ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، أي: وعِندَنا عِلمٌ بكلِّ شَيءٍ عِلمًا ثابتًا؛ فتَنكيرُ كِتَابٌ للتَّعظيمِ، وهو تَعظيمُ التَّعميمِ، أي: عِندنا كِتابُ كلِّ شَيءٍ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/283). .
4- قولُه تعالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ
- قولُه: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إضرابٌ ثانٍ تابعٌ للإضرابِ الذي في قَولِه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2] على طَريقةِ تَكريرِ الجُملةِ في مَقامِ التَّنديدِ والإبطالِ، أو بدَلٌ مِن جُملةِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ؛ لأنَّ ذلك العجَبَ مُشتمِلٌ على التَّكذيبِ، وكِلا الاعتبارَينِ يَقْتضيانِ فصْلَ هذه الجُملةِ بدونِ عاطفٍ، والمَقصِدُ مِن هذه الجُملةِ: أنَّهم أتَوا بأفظَعَ وأشنَعَ وأقبَحَ مِن إحالتِهم البَعثَ؛ وذلك هو التَّكذيبُ بالحقِّ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/380)، ((تفسير أبي حيان)) (9/530)، ((تفسير أبي السعود)) (8/126)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/284)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/282). .
- ولَمَّا حرْفُ تَوقيتٍ؛ فهي دالَّةٌ على ربْطِ حُصولِ جَوابِها بوقْتِ حُصولِ شَرْطِها، فهي مُؤذِنةٌ بمُبادَرةِ حُصولِ الجوابِ عندَ حُصولِ الشَّرطِ، والمعنى: أنَّهم بادَروا بالتَّكذيبِ دونَ تأمُّلٍ ولا نظَرٍ فيما حَواهُ مِن الحَقِّ، بلْ كذَّبوا به مِن أوَّلِ وَهْلةٍ، فكذَّبوا بتَوحيدِ اللهِ، وهو أوَّلُ حقٍّ جاء به القُرآنُ؛ ولذلك عُقِّبَ بقولِه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا إلى قولِه: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [ق: 6- 11] ؛ فالتَّكذيبُ بما جاء به القُرآنُ يعُمُّ التَّكذيبَ بالبَعثِ وغيرِه [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/284). .
- قولُه: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ فُرِّعَ على الخَبرِ المُنتقَلِ إليه بالإضرابِ وَصْفُ حالِهم النَّاشئةِ عن المُبادَرةِ بالتَّكذيبِ قبْلَ التَّأمُّلِ بأنَّها أمْرٌ مَريجٌ أحاط بهمْ، وتَجلْجَلوا فيه، كما دلَّ عليه حَرفُ الظَّرفيَّةِ (في). والمُريجُ: المُضطرِبُ المُختلِطُ، أي: لا قَرارَ في أنفُسِهم في هذا التَّكذيبِ. وهذا تَحميقٌ لهم بأنَّهم طاشَتْ عُقولُهم، فلم يُتْقنوا التَّكذيبَ، ولم يَرْسُوا على وَصْفِ الكلامِ الذي كذَّبوا به [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/284، 285). .