موسوعة التفسير

سورةُ الطَّارِقِ
الآيات (1-10)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غريب الكلمات:

وَالطَّارِقِ: أي: الكوكَبِ أو النَّجمِ الَّذي يَظهَرُ باللَّيلِ ويَختفي بالنَّهارِ، يُقالُ: طَرَقَ يَطرُقُ طُروقًا، أي: جاء لَيلًا، وأصلُ (طرق): يدُلُّ على الإتيانِ مَساءً [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((تفسير ابن جرير)) (24/289)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/449)، ((المفردات)) للراغب (ص: 518)، ((تفسير القرطبي)) (20/ 2)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/751). .
الثَّاقِبُ: أي: المُضيءُ المتوَهِّجُ، يُقالُ: ثَقَبَ النَّجمُ: إذا أضاء، وأصلُ (ثقب): يدُلُّ على نَفاذِ الشَّيءِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((تفسير ابن جرير)) (24/289)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((المفردات)) للراغب (ص: 173)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 458)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 330). قال ابن فارس: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ قالُوا: هو نَجْمٌ يَنْفُذُ السَّمواتِ كُلَّها نورُه). ((مقاييس اللغة)) (1/382). .
مَاءٍ دَافِقٍ: أي: ذي دَفْقٍ، أو مَدفوقٍ، والدَّفْقُ: صَبٌّ فيه دَفعٌ وسَيَلانٌ بسُرعةٍ، وهو المَنِيُّ، وأصلُ (دفق): يدُلُّ على دَفعِ الشَّيءِ قُدُمًا [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 204)، ((تفسير ابن جرير)) (24/71)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/286)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 447)، ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((تفسير الألوسي)) (15/308). .
الصُّلْبِ: أي: الظَّهرِ، وقيل: كلُّ شَيءٍ مِن الظَّهرِ فيه فَقارٌ فهو صُلبٌ، وأصلُ (صلب) هنا: يدُلُّ على الشِّدَّةِ والقوَّةِ، وسُمِّيَ الظَّهرُ صُلْبًا؛ لِقُوَّتِه وصَلابَتِه وشِدَّتِه [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/301)، ((المفردات)) للراغب (ص: 489)، ((تفسير العليمي)) (7/336)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 544). قال ابن عاشور: (الصُّلْبِ: العُمودِ العَظميِّ الكائنِ في وسَطِ الظَّهرِ، وهو ذو الفقراتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/262). .
وَالتَّرَائِبِ: أي: ضُلوعِ الصَّدرِ، ومَوضِعِ القِلادةِ مِنه، واحِدتُها: تَرِيبةٌ، وأصلُ (ترب) هنا: يدُلُّ على تساوي الشَّيئَينِ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((تفسير ابن جرير)) (24/293)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/346)، ((المفردات)) للراغب (ص: 165)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 447). قال ابن عاشور: («التَّرائِبِ»: جمعُ تَرِيبَةٍ، ويُقالُ: تَرِيبٌ. ومُحَرَّرُ أقوالِ اللُّغَوِيِّينَ فيها أنَّها عِظامُ الصَّدْرِ الَّتي بيْنَ التَّرْقُوَتَينِ والثَّدْيَينِ، ووسَموه بأنَّه مَوضِعُ القِلادةِ مِن المرأةِ. والتَّرائِبُ تُضافُ إلى الرَّجُلِ وإلى المرأةِ، ولكِنَّ أكثرَ وُقوعِها في كلامِهم في أوصافِ النِّساءِ؛ لعدمِ احْتِياجِهم إلى وَصْفِها في الرِّجالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/262). .
تُبْلَى: أي: تُختَبَرُ وتَظهَرُ، وأصلُ (بلو): يدُلُّ على الاختبارِ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((تفسير ابن جرير)) (24/300)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 447)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 522). .
السَّرَائِرُ: أي: سرائِرُ القُلوبِ مِن العقائِدِ والنِّيَّاتِ والأعمالِ، جمعُ سريرةٍ، وأصلُ (سرر): يدُلُّ على إخفاءِ الشَّيءِ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/67)، ((المفردات)) للراغب (ص: 404)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 522)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/265). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
إِنْ: نافيةٌ، كُلُّ مُبتدَأٌ، لَمَّا: أداةُ حَصرٍ بمعنَى «إلَّا»، عَلَيْهَا: جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمَحذوفٍ خَبَرٌ مُقدَّمٌ. حَافِظٌ: مُبتدَأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ. والجملةُ عَلَيْهَا حَافِظٌ في محَلِّ رَفعٍ خَبَرُ «كُلُّ». والجُملةُ كُلُّها جوابُ القَسَمِ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
وقُرِئَ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ بتَخفيفِ «ما» في لَمَّا [12] قرَأ عاصِمٌ وحمزةُ وابنُ عامرٍ وأبو جَعفرٍ: لَمَّا بتَشديدِ الميمِ، والباقونَ بتَخفيفِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/291). ، فـ إِنْ هي المخَفَّفةُ مِنَ الثَّقيلةِ، ولَمَا: اللَّامُ فارِقةٌ، و«ما» مزيدةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: إنَّ الشَّأنَ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيها حافِظٌ. فـ عَلَيْهَا: جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمَحذوفٍ خَبَرٌ مُقدَّمٌ. حَافِظٌ: مُبتدَأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ. والجملةُ «لَعَلَيْهَا حافِظٌ» في محَلِّ رَفعٍ خَبَرُ كُلُّ. والجُملةُ كُلُّها في محَلِّ رَفعٍ خبَرُ «إِنْ» المخَفَّفةِ مِن الثَّقيلةِ، والجُملةُ إِنْ كُلُّ ... جوابُ القَسَمِ أيضًا لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ [13] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/254)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1281)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/752)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 118، 119)، ((تفسير الألوسي)) (15/307)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/299). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالسَّماءِ والطَّارِقِ الَّذي يَظهَرُ لَيلًا، ثمَّ قال تعالى: وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بالطَّارِقِ؟! هو النَّجْمُ المتوَقِّدُ النَّافِذُ؛ أُقسِمُ ما مِن إنسانٍ إلَّا وعليه ملائِكةٌ حَفَظةٌ.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى الإنسانَ بالتَّفكُّرِ في نشأتِه الأُولى، فيقولُ: فلْيَنظُرِ الإنسانُ مِن أيِّ شَيءٍ خُلِقَ؟
ثمَّ يُجيبُ عن هذا السُّؤالِ، فيقولُ: خُلِقَ مِن مَنِيٍّ مُنصَبٍّ يَخرُجُ ذلك المنيُّ مِن بيْنِ الصُّلبِ وعِظامِ الصَّدْرِ. ومِن ثَمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى قُدرتَه على بعثِ الإنسانِ بعدَ مَوتِه، فيقولُ: إنَّ اللهَ قادِرٌ على رَجْعِ الإنسانِ حَيًّا بعْدَ مَوتِه يَومَ تَظهَرُ سَرائِرُ النَّاسِ، وما كانوا يُخفونَه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، ويُجازَونَ عليه، فما للإنسانِ يومَ القيامةِ مِن قُوَّةٍ يَدفَعُ بها عذابَ اللهِ، ولا ناصِرٍ يَنصُرُه ويُنقِذُه!

تفسير الآيات:

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1).
أي: أُقسِمُ بالسَّماءِ، وأُقسِمُ بالطَّارِقِ الَّذي يَظهَرُ لَيلًا [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/288)، ((الوسيط)) للواحدي (4/464)، ((تفسير القرطبي)) (20/1)، ((تفسير ابن كثير)) (8/374). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2).
أي: وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بالطَّارِقِ الَّذي عظَّمْتُه بالقَسَمِ به [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/289)، ((تفسير الشوكاني)) (5/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/258). ؟
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3).
أي: هو النَّجْمُ المتوقِّدُ النَّافِذُ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/289)، ((الوسيط)) للواحدي (4/464)، ((تفسير القرطبي)) (20/3)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920). ممَّن اختار أنَّ معنى: الثَّاقِبُ: المُضيءُ المُنيرُ، الَّذي يتَوقَّدُ ضياؤُه ويَتَوهَّجُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/659)، ((تفسير ابن جرير)) (24/289)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/311)، ((تفسير السمرقندي)) (3/568)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/117)، ((تفسير الثعلبي)) (10/178)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8191)، ((البسيط)) للواحدي (23/404)، ((تفسير البغوي)) (5/239)، ((تفسير الزمخشري)) (4/734)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/428)، ((تفسير الرسعني)) (8/579)، ((تفسير القرطبي)) (20/ 3)، ((تفسير الشوكاني)) (5/508)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919). قال الزمخشري: (كأنَّه يَثقُبُ الظَّلامَ بضَوئِه فيَنفُذُ فيه). ((تفسير الزمخشري)) (4/734). قال الفرَّاءُ: (ويُقالُ: إنَّ الثَّاقِبَ هو النَّجمُ الَّذي يُقالُ له: زُحَلُ. والثَّاقِبُ: الَّذي قد ارتفَع على النُّجومِ). ((معاني القرآن)) (3/254). وقال القرطبيُّ: (عن ابنِ عبَّاسٍ وعَطاءٍ: الثَّاقِبُ: الَّذي تُرْمَى به الشَّياطينُ). ((تفسير القرطبي)) (20/1). وقال الواحدي: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ اسمُ الجنسِ، وأُريدَ به العُمومُ في قولِ أهلِ المعاني، وأكثَرِ أهلِ التَّفسيرِ، وهو قولُ الكلبيِّ، ومُقاتِلٍ، وقَتادةَ، والحسَنِ، والفرَّاءِ، والزَّجَّاجِ. وقال ابنُ زَيدٍ: أراد به الثُّرَيَّا، والعربُ تُسَمِّيه النَّجمَ... وروى أبو الجَوزاءِ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه زُحَلُ. والقولُ هو الأوَّلُ). ((البسيط)) (23/404، 405). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/246). وقال السعدي: (الصَّحيحُ أنَّه اسمُ جِنسٍ يَشملُ سائرَ النُّجومِ الثَّواقِبِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 919). .
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المُقسَمَ به؛ أتْبَعَه بذِكرِ المُقسَمِ عليه [17] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/118). .
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4).
أي: ما مِن إنسانٍ إلَّا وعليه ملائِكةٌ حَفَظةٌ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/291)، ((الوسيط)) للواحدي (4/464)، ((تفسير ابن عطية)) (5/465)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 101)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 147). قيل: المرادُ: يَحفَظونَ أعمالَه ويُحصُونَها. ومِمَّن ذهب إليه: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكي، والواحدي، والبغوي، وابن عطية، ونسَبَه ابنُ جُزَي للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/291)، ((تفسير السمرقندي)) (3/568)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8192)، ((الوسيط)) للواحدي (4/464)، ((تفسير البغوي)) (5/239)، ((تفسير ابن عطية)) (5/465)، ((تفسير ابن جزي)) (2/471). وقيل: المرادُ: كُلُّ نفْسٍ عليها مِنَ اللهِ حافِظٌ مِن الملائكةِ يَحرُسُها مِن الآفاتِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/375). ويُنظر أيضًا: ((معاني القرآن)) للفراء (3/255). وقال البِقاعي جامِعًا بيْن هذه المعاني: (المرادُ به الجِنسُ مِنَ الملائِكةِ؛ فبَعضُهم لحِفْظِها مِن الآفاتِ، وبَعضُهم لحِفْظِها مِنَ الوَساوسِ، وبَعضُهم لحِفظِ أعمالِها وإحصائِها بالكِتابةِ، وبَعضُهم لحِفظِ ما كُتِبَ لها مِن رِزقٍ وأجَلٍ، وشَقاوةٍ أو سعادةٍ، ومَشيٍ ونِكاحٍ، وسَفَرٍ وإقامةٍ، فلا يتعَدَّى شيئًا مِن ذلك...، فإنْ قُلتَ: إنَّ الحافِظَ الملائكةُ، صَدَقْتَ، وإنْ قُلْتَ: إنَّه اللهُ، صدَقْتَ؛ لأنَّه الآمِرُ لهم والمقَدِّرُ على الحِفظِ، والحافِظُ لهم مِنَ الوهمِ والزَّيغِ، فهو الحافِظُ الحقيقيُّ). ((نظم الدرر)) (21/373). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ أنَّ كُلَّ نفْسٍ عليها حافِظٌ؛ أتْبَعَ ذلك بوَصيَّةِ الإنسانِ بالنَّظَرِ في أوَّلِ أمرِه ونَشأتِه الأُولى؛ حتَّى يَعلَمَ أنَّ مَن أنشأه قادِرٌ على إعادتِه وجزائِه، فيَعمَلَ لذلك، ولا يُملِيَ على حافِظِه إلَّا ما يَسُرُّه في عاقِبتِه [19] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((تفسير أبي حيان)) (10/451). .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5).
أي: فلْيَنظُرِ الإنسانُ مُتفَكِّرًا مِن أيِّ شَيءٍ خلَقه ربُّه سُبحانَه [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/292)، ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 101)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/377، 378)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/261)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 148). قال ابن القيِّم: (فلْيَنظُرْ نظَرَ الفِكرِ والاسْتِدلالِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 101). قيل: المرادُ بالإنسانِ هنا: المكذِّبُ بالبَعثِ، المُنكِرُ له. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، وابن عطية، والرَّسْعَني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/292)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8193)، ((تفسير ابن عطية)) (5/465)، ((تفسير الرسعني)) (8/580). وقيل: المرادُ بالإنسانِ: ابنُ آدَمَ، وكلُّ إنسانٍ. وممَّن قال به: القرطبيُّ، وابنُ عادل، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((تفسير ابن عادل)) (20/262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/278). .
كما قال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 17-18] .
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6).
أي: خُلِقَ مِن مَنِيٍّ مُنصَبٍّ يخرُجُ دَفْقًا [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/292)، ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((تفسير أبي حيان)) (10/448)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/262)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 148). قيل: المرادُ به: ماءُ الرَّجُلِ، وماءُ المرأةِ. ومِمَّن قال به: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وابن كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/659)، ((تفسير الثعلبي)) (10/179)، ((تفسير البغوي)) (5/239)، ((تفسير القرطبي)) (20/4)، ((تفسير الخازن)) (4/415)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/ 377، 378). ويقرِّرُ بعضُ المعاصرينَ أنَّ الماءَ الدَّافِقَ الَّذي يُخلَقُ منه الإنسانُ يُقصَدُ به ماءُ كلٍّ مِن الرَّجُلِ والمرأةِ، وسُمِّيَ دافِقًا؛ لأنَّه يَخرُجُ مِن مصدرِه متدَفِّقًا، فماءُ الرَّجُلِ يخرُجُ مِن خُصْيَتَيْه ويحمِلُ الحيواناتِ المَنَويَّةَ، وماءُ المرأةِ هو الماءُ المحيطُ بالبُوَيْضةِ في داخلِ حُوَيْصِلةٍ معروفةٍ باسم (حويصلة جراف) بالمِبْيَضِ، فإذا انفجرَتْ هذه الحُوَيْصِلةُ تدَفَّقَ هذا الماءُ لِيَدفَعَ بالبُوَيْضةِ إلى بُوقِ قناةِ الرَّحِمِ حتَّى تَلتقي بالحيَوانِ المَنَويِّ، ويخرُجُ هذا الماءُ مِن المرأةِ مرَّةً واحدةً في الشَّهرِ. يُنظر: ((مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي)) لزغلول النجار (ص: 224)، ((خلق الإنسان بين الطب والقرآن)) للبار (ص: 123). وقال ابنُ عاشور: (معنى: دَافِقٍ خارِجٌ بقُوَّةٍ وسُرعةٍ، والأشهَرُ أنَّه يقالُ على نُطفةِ الرَّجُلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/262). .
كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل: 4] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45-46] .
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7).
أي: يَخرُجُ هذا الماءُ -الَّذي خَلَق اللهُ منه الإنسانَ- مِن بيْنِ الصُّلبِ وعِظامِ الصَّدْرِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/292، 296)، ((تفسير القرطبي)) (20/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 148). ذكر ابنُ القيِّمِ أنَّه لا خِلافَ في أنَّ المرادَ بالصُّلْبِ: صُلبُ الرَّجُلِ. يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (1/112، 113). واختُلِفَ في التَّرائِبِ؛ فقيل: المرادُ: تَرائِبُ المرأةِ، وهي عِظامُ الصَّدرِ في مَوضِعِ القِلادةِ وفَوقَ الثَّديَينِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، والواحديُّ، والزمخشري، وابن كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/659)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/255)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1192)، ((تفسير الزمخشري)) (4/735)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/378). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ: صُلْبُ الرَّجُلِ وتَرائبُ المرأةِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والكلبيُّ، وسُفْيانُ الثَّوريُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/293)، ((البسيط)) للواحدي (23/412)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375). وقيل: المرادُ: ترائِبُ الرَّجُلِ، وهي عِظامُ صَدْرِه أيضًا. واستظهَر هذا القولَ: ابنُ القيِّمِ، ومالَ إليه السعديُّ، واختاره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/112، 113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 148). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ: صُلبُ الرَّجُلِ وترائبُه: الحسَنُ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/375). قال ابنُ عُثيمين: (إنْ قُلْنا بالقَولِ الرَّاجِحِ: إنَّ الصُّلبَ والتَّرائِبَ وَصْفانِ للرَّجُلِ؛ لأنَّ الماءَ الدَّافِقَ هو ماءُ الرَّجُلِ، أمَّا المرأةُ فلا يكونُ ماؤها دافِقًا، وعلى هذا فيكونُ الإنسانُ مخلوقًا مِن ماءِ الرَّجُلِ، لكِنْ ماءُ الرَّجْلِ وَحْدَه لا يكفي، لا بُدَّ أن يتَّصِلَ بالبُوَيْضةِ الَّتي يُفرِزُها رَحِمُ المرأةِ، فيَزدَوِجُ هذا بهذا، ويكونُ الإنسانُ مخلوقًا مِن الأمْرَينِ جميعًا، أي: مِن أبيه وأمِّه). ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 125). وقيل: المرادُ: صُلْبُ الرَّجُلِ وترائبُه، وصُلبُ المرأةِ وترائبُها. وممَّن اختاره: ابنُ جُزَي، وابن عجيبة، والمراغي، وحسنين مخلوف. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/471)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/282)، ((تفسير المراغي)) (21/106) و(30/112)، ((صفوة البيان لمعاني القرآن)) لحسنين مخلوف (ص: 797). ويُنظر أيضًا: ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (15/355). قال ابن عطية: (قولُه تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، قال قَتادةُ والحسَنُ وغيرُهما: معناه: مِن بيْنِ صُلبِ كلِّ واحدٍ مِن الرَّجُلِ والمرأةِ وترائبِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/465). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/7). قال المراغي: (وهو الموافقُ لِما أثبَتَه العِلمُ حديثًا). ((تفسير المراغي)) (30/111). وقال أيضًا: (مِن بيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ فى كلٍّ مِن الرَّجُلِ والمرأةِ، كما دلَّ على ذلك عِلمُ الأجنَّةِ). ((تفسير المراغي)) (21/106). وقد قرَّر بعضُ المعاصرينَ أنَّ كُلًّا مِن ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المرأةِ -وقد سبق بيانُهما (ص: 85)- يخرُجُ مِن بيْن الصُّلبِ والتَّرائبِ؛ فالغُدَدُ التَّناسُليَّةُ في الرَّجُلِ والمرأةِ تَنشأُ مِن هذا المكانِ، وتستمِرُّ تغذيتُهما منه، فالخُصْيةُ والمِبْيَضُ يَقَعانِ في بَدءِ تكوينِهما ما بيْن منتصَفِ العمودِ الفِقريِّ تقريبًا ومقابلَ أسفَلِ الضُّلوعِ. يُنظر: ((تفسير المراغي)) (30/112)، ((مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي)) لزغلول النجار (ص: 226)، ((خلق الإنسان بين الطب والقرآن)) للبار (ص: 124). .
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَدَر الصَّانِعُ على جَمعِ تلك الأجزاءِ المتفَرِّقةِ حتَّى خَلَق منها إنسانًا سَوِيًّا، وَجَب أن يُقالَ: إنَّه بَعْدَ مَوتِه وتفَرُّقِ أجزائِه لا بُدَّ أن يَقدِرَ الصَّانِعُ على جَمعِ تلك الأجزاءِ، وجَعْلِها خَلْقًا سَوِيًّا كما كان أوَّلًا؛ ولهذا السِّرِّ لَمَّا بَيَّن تعالى دَلالتَه على المبدَأِ؛ فَرَّع عليه أيضًا دَلالتَه على صِحَّةِ المَعادِ؛ فقال تعالى [23] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/120). :
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8).
أي: إنَّ اللهَ الخالِقَ قادِرٌ على رَجْعِ الإنسانِ حَيًّا بَعْدَ مَوتِه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/297، 300)، ((الوسيط)) للواحدي (4/465)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 103-105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/379، 380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/265). قال ابنُ الجوزيِّ: (وفي هذه الهاءِ قولانِ: أحَدُهما: أنَّها تعودُ على الإنسانِ، ثمَّ في المعنى قولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه على إعادةِ الإنسانِ حَيًّا بعْدَ مَوتِه قادِرٌ. قاله الحسَنُ، وقَتادةُ. قال الزَّجَّاجُ: ويدُلُّ على هذا القَولِ قَولُه عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ. والثَّاني: أنَّه على رَجْعِه مِن حالِ الكِبَرِ إلى الشَّبابِ، ومِنَ الشَّبابِ إلى الصِّبا، ومِنَ الصِّبا إلى النُّطْفةِ: قادِرٌ. قاله الضَّحَّاكُ. والقَولُ الثَّاني: أنَّها تعودُ على الماءِ، ثمَّ في معنى الكلامِ ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: رَدُّ الماءِ في الإحليلِ. قاله مجاهِدٌ. والثَّاني: على رَدِّه في الصُّلْبِ. قاله عِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ. والثَّالثُ: على حَبْسِ الماءِ فلا يَخرُجُ. قاله ابنُ زَيدٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/429). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/312). وقد ضَعَّف ابنُ القيِّمِ قَولَ مَن قال: المرادُ رَدُّ الماءِ في الإحليلِ، وقَولَ مَن قال: المرادُ رَدُّ الماءِ في الصُّلْبِ. ونَصَر القَولَ بأنَّ المرادَ رَجْعُ الإنسانِ حَيًّا يومَ القيامةِ، مِن عَشَرةِ وُجوهٍ. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 103). .
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أقام سُبحانَه الدَّليلَ على صِحَّةِ القَولِ بالبَعْثِ والقيامةِ؛ وَصَف حالَ الإنسانِ في ذلك اليومِ، فقال تعالى [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/121). :
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9).
أي: يَومَ تَظهَرُ سَرائِرُ النَّاسِ، فيَتبَيَّنُ ما كانوا يُخفونَه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، ويُجازَونَ على ما يَستَحِقُّونَه مِن ثَوابٍ وعِقابٍ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/300)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 105)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 265)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 149). .
كما قال تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يونس: 30] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات: 9-10] .
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الامتِناعُ في الدُّنيا إمَّا بقُوَّةٍ في الإنسانِ، وإمَّا بناصرٍ خارجٍ عن نَفْسِه؛ نفى عنه تعالى ما يمتَنِعُ به [27] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/452). .
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10).
أي: فما للإنسانِ يومَ القيامةِ مِن قُوَّةٍ يَدفَعُ بها عذابَ اللهِ، ولا ناصِرٍ له يَنصُرُه ويُنقِذُه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/300)، ((تفسير القرطبي)) (20/10)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/265)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 150). قال ابنُ القيِّم: (أخبَرَ سُبحانَه عن حالِ الإنسانِ في يومِ القيامةِ أنَّه غَيرُ مُمتنِعٍ مِن عَذابِ اللهِ؛ لا بقُوَّةٍ منه، ولا بقُوَّةٍ مِن خارجٍ، وهو النَّاصِرُ؛ فإنَّ العَبدَ إذا وقعَ في شِدَّةٍ فإمَّا أن يَدفَعَها بقُوَّتِه أو قُوَّةِ مَن يَنصُرُه، وكِلاهما معدومٌ في حَقِّه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 106). .
كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 24 - 26] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ أنَّه يجبُ على الإنسانِ النَّظرُ في الشَّيءِ الَّذي خُلِق منه؛ لقولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، وظاهِرُ القُرآنِ: أنَّ النَّظَرَ في ذلك واجِبٌ، ولا دليلَ يَصرِفُ عن ذلك [29] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/338). ، فيَجِبُ على كلِّ إنسانٍ أن يَنظُرَ في مَراحِلِه وتاريخِ مَراحِلِه؛ حتَّى يَفهَمَ الآخِرةَ؛ لأنَّ اللهَ أمَرَه بذلك [30] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/278). .
2- أمْرُ الإنسانِ بأن يَنظُرَ مِمَّ خُلِقَ في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ تنبيهٌ له على حَقارةِ ما خُلِقَ منه؛ لِيَعرِفَ قَدْرَه، ويَترُكَ التَّكبُّرَ والعُتُوَّ، ويدُلُّ لذلك قَولُه تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] الآيةَ [31] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/331). . فالآيةُ فيها عِظَةٌ للإنسانِ، وتنبيهٌ له على معرفةِ خَلْقِه، وضَعْفِ تركيبِه، وعلى ما يُزيلُ به دواعيَ الكِبْرِ والنَّخوةِ عن نفْسِه، فلا يُنازِعُ فيها خالقَه الَّذي لا يُشارِكُه في الكبرياءِ والعَظَمةِ، ولا يَستطيلُ به على المخلوقينَ؛ إذْ مَن يكونُ هذا بَدْءَ خَلْقِه، ثُمَّ يصيرُ آخِرُه إلى البِلَى والرُّفاتِ إلى أنْ يُجَدِّدَ اللهُ خَلْقَه بالنُّشُورِ يومَ يُحيي العِظامَ النَّخِرةَ والأجسامَ الباليةَ: جديرٌ بألَّا يُفارِقَه الذُّلُّ والاستِكانةُ في جميعِ الأحوالِ [32] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/509). .
3- أنَّ المهِمَّ العنايةُ بصَلاحِ القَلبِ؛ لأنَّه هو الَّذي عليه مَدارُ الحِسابِ يومَ القيامةِ، قال تعالى: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، أي: تُختَبَرُ السَّرائِرُ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 218). .
4- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ لطيفةٌ في التَّعبيرِ عن الأعمالِ بالسِّرِّ، وهي أنَّ الأعمالَ نتائجُ السَّرائرِ الباطنةِ، فمَن كانت سَريرتُه صالحةً كان عمَلُه صالحًا؛ فتبدو سريرتُه على وجهِه نورًا وإشراقًا وحياءً، ومَن كانت سَريرتُه فاسدةً كان عمَلُه تابعًا لسَريرتِه، ولا اعتبارَ بصورتِه؛ فتبدو سريرتُه على وجهِه سَوادًا وظُلمةً وشَيْنًا، وإنْ كان الَّذي يبدو عليه في الدُّنيا إنَّما هو عَمَلُه لا سَريرتُه، فيومَ القيامةِ تبدو عليه سريرتُه، ويكونُ الحُكْمُ والظُّهورُ لها [34] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 105). !
5- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ دَلالةٌ على أنَّه لا قُوَّةَ للعَبدِ ذلك اليومَ؛ لأنَّ قُوَّةَ الإنسانِ إمَّا أن تكونَ له لِذَاتِه، أو مُستفادةً مِن غيرِه؛ فالأوَّلُ مَنفِيٌّ بقَولِه تعالى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ، والثَّاني مَنفِيٌّ بقَولِه: وَلَا نَاصِرٍ، ولا شَكَّ أنَّه زَجرٌ وتَحذيرٌ [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/122). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَلَّ أن تَجِيءَ سُورةٌ في القُرآنِ الكريمِ إلَّا وفيها ذِكرُ السَّماءِ؛ إمَّا إخبارًا عن عِظَمِها وسَعَتِها، وإمَّا إقسامًا بها، وإمَّا دُعاءً إلى النَّظَرِ فيها، وإمَّا إرشادًا للعِبادِ أن يَستَدِلُّوا بها على عَظَمةِ بانيها ورافِعِها، وإمَّا استِدلالًا منه سُبحانَه بخَلْقِها على ما أخبَرَ به مِنَ المَعادِ والقيامةِ، وإمَّا استِدلالًا منه برُبوبيَّتِه لها على وَحدانيَّتِه، وأنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، وإمَّا استدلالًا منه بحُسْنِها واستِوائِها والْتِئامِ أجزائِها وعدَمِ الفُطورِ فيها على تَمامِ حِكمتِه وقُدرتِه، وكذلك ما فيها مِن الكَواكِبِ والشَّمسِ والقَمَرِ والعَجائبِ الَّتي تَتقاصَرُ عُقولُ البشَرِ عن قليلِها، فكم مِن قَسَمٍ في القُرآنِ بها؛ كقَولِه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس: 5] وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ [الطارق: 11] وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس: 1] وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم: 1] فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير: 15] ! فلم يُقسِمِ اللهُ تعالى في كتابِه بشَيءٍ مِن مخلوقاتِه أكثَرَ مِن السَّماءِ والنُّجومِ والشَّمسِ والقَمَرِ، وهو سُبحانَه يُقسِمُ بما يُقسِمُ به مِن مخلوقاتِه؛ لتضَمُّنِه الآياتِ والعَجائِبَ الدَّالَّةَ عليه، وكلَّما كان أعظَمَ آيةً وأبلَغَ في الدَّلالةِ، كان إقسامُه به أكثَرَ مِن غَيرِه [36] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/196). .
2- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ سؤالٌ: كيف يُقْسِمُ اللهُ سُبحانَه وتعالى بالمخلوقاتِ، مع أنَّ القَسَمَ بالمخلوقاتِ شِرْكٌ؛ لِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَفَ بغيرِ اللهِ فقد كَفَرَ أو أَشْرَكَ )) [37] أخرجه أبو داودَ (3251)، والترمذيُّ (1535) واللَّفظُ له، وأحمدُ (6072) مِن حديثِ عبدِ الله ابنِ عُمرَ رضيَ الله عنهما. حسَّنه الترمذيُّ، وصحَّحه ابنُ تيميَّةَ كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/28)، وابنُ القيِّم في ((الوابل الصيب)) (189)، وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (3/144)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3251). ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن كان حالِفًا فلْيَحْلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ )) [38] أخرجه البخاريُّ (2679) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1646) من حديثِ عبدِالله بنِ عُمرَ رضيَ الله عنهما. ؟ فلا يجوزُ الحَلِفُ بغيرِ اللهِ؛ لا بالأنبياءِ، ولا بالملائكةِ، ولا بالكَعْبةِ، ولا بالوطَنِ، ولا بأيِّ شيءٍ مِن المخلوقاتِ!
الجوابُ: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى له أنْ يُقْسِمَ بما شاء مِن خَلْقِه، وإقسامُه بما يُقْسِمُ به مِن خَلْقِه يدُلُّ على عَظَمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ عِظَمَ المخلوقِ يدُلُّ على عِظَمِ الخالقِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 146). .
3- في قَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ سؤالٌ عن وجهِ الجَمعِ مع قولِه تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] في أنَّ أصلَ بني آدمَ مِن الطِّينِ، والطِّينُ مِن الأرضِ.
الجوابُ: أنَّ الخَلْقَ هو مِن الطِّينِ باعتبارِ الأصلِ، وأنَّ الماءَ الدَّافِقَ هو باعتبارِ الفَرعِ المتولِّدِ مِن الأصلِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 23). .
4- في قَولِه تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أنَّ الجنينَ يُخْلَقُ مِن ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المرأةِ، خلافًا لِمَن يَزْعُمُ مِن الطَّبائعيِّينَ أنَّه إنَّما يُخْلَقُ مِن ماءِ الرَّجُلِ وَحْدَه [41] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 277). ! ففيه مِن عِلمِ التَّشريحِ أنَّ الوَلَدَ مخلوقٌ مِن ماءِ أبَوَيه معًا [42] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 285). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
- افتِتاحُ السُّورةِ بالقَسَمِ تَحقيقٌ لِما يُقسَمُ عليه، وتَشويقٌ إليه، ووَقَعَ القَسَمُ بمَخلوقَينِ عَظيمَينِ فيهما دَلالةٌ على عَظيمِ قُدرةِ خالِقِهما؛ هما: السَّماءُ، والنُّجومُ، أو نَجمٌ منها عَظيمٌ مَعروفٌ، أو ما يَبدو انقِضاضُه مِن الشُّهُبِ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/258). .
- والطَّارقُ: وَصفٌ مُشتَقٌّ مِن الطُّروقِ، وهو المَجيءُ لَيلًا، وأُبهِمَ المَوصوفُ بالطَّارقِ ابتِداءً، ثمَّ زِيدَ إبْهامًا مَشوبًا بتَعظيمِ أمْرِه بقَولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، ثمَّ بُيِّنَ بأنَّه النَّجْمُ الثَّاقِبُ؛ ليَحصُلَ مِن ذلك مَزيدُ تَقرُّرٍ للمُرادِ بالمُقسَمِ به، وهو أنَّه مِن جِنسِ النُّجومِ، شَبَّهَ طُلوعَ النَّجمِ لَيلًا بطُروقِ المُسافِرِ الطَّارقِ بَيتًا، بجامِعِ كَونِه ظُهورًا في اللَّيلِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/258). .
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ استِفهامٌ مُستَعمَلٌ في تَعظيمِ أمْرِ الطَّارقِ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/258). .
- وأيضًا قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ تَنويهٌ بشَأنِ الطَّارقِ إثْرَ تَفخيمِه بالإقْسامِ به، وتَنبيهٌ على أنَّ رِفعةَ قَدْرِه بحَيثُ لا يَنالُها إدراكُ الخَلْقِ، فلا بُدَّ مِن تَلَقِّيها مِن الخَلَّاقِ العَليمِ [46] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/140). .
- وقولُه: النَّجْمُ خَبَرٌ عن ضَميرٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: هو، أي: الطَّارقُ النَّجمُ الثَّاقِبُ. والثَّقْبُ: خَرْقُ شَيءٍ مُلتَئمٍ، وهو هُنا مُعبَّرٌ به عن ظُهورِ النُّورِ في خِلالِ ظُلْمةِ اللَّيلِ؛ شَبَّهَ النَّجمَ بمِسمارٍ أو نَحوِه، وظُهورَ ضَوئِه بظُهورِ ما يَبدو مِن المِسمارِ مِن خِلالِ الجِسمِ الَّذي يَثقُبُه مِثلَ لَوحٍ أو ثَوبٍ، ولعلَّ التَّعبيرَ بالثَّقْبِ عن بُروزِ شُعاعِ النَّجمِ في ظُلْمةِ اللَّيلِ مِن مُبتَكَراتِ القُرآنِ، ولم يَرِدْ في كَلامِ العرَبِ قبْلَ القرآنِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/259). .
- والتَّعريفُ في (النَّجمِ) يَجوزُ أنْ يَكونَ تَعريفَ الجِنسِ، فيَستَغرِقَ جَميعَ النُّجومِ استِغراقًا حَقيقيًّا، وكُلُّها ثاقِبٌ، فكأنَّه قيلَ: والنُّجومِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ التَّعريفُ للعَهدِ، إشارةً إلى نَجمٍ مَعروفٍ يُطلَقُ عليْه اسمُ «النَّجمِ» غالبًا، أي: والنَّجمِ الَّذي هو طارقٌ، وقيلَ: أُريدَ بالطَّارقِ نَوعُ الشُّهُبِ؛ فالتَّعريفُ في لَفظِ النَّجمِ للاستِغراقِ، وخُصَّ عُمومُه بوُقوعِه خَبَرًا عن ضَميرِ الطَّارقِ، أي: أنَّ الشِّهابَ عندَ انقِضاضِه يُرى سائِرًا بسُرعةٍ، ثمَّ يَغيبُ عن النَّظرِ، فيَلوحُ كأنَّه استَقرَّ، فأَشبَهَ إسْراعَ السَّائِرِ لَيلًا ليَبلُغَ إلى الأحْياءِ المَعمورةِ، فإذا بَلَغَها وَقَفَ سَيْرُه [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/259، 260). .
- وقدْ أرادَ اللهُ عزَّ مِن قائلٍ أنْ يُقسِمَ بالنَّجمِ الثَّاقِبِ تَعظيمًا له، لِما عُرِفَ فيه مِن عَجيبِ القُدْرةِ ولَطيفِ الحِكمةِ، وأنْ يُنبِّهَ على ذلك، فجاءَ بما هو صِفةٌ مُشترَكةٌ بيْنَه وبيْنَ غَيرِه، وهو (الطَّارِقُ)، ثمَّ قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، ثمَّ فَسَّرَه بقَولِه: النَّجْمُ الثَّاقِبُ؛ إزالةً لذلك الإبْهامِ الحاصِلِ بالاستِفهامِ، وكُلُّ هذا إظْهارٌ لفَخامةِ شَأنِه، وإجْلالِ مَحلِّه [49] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/734)، ((تفسير البيضاوي)) (5/303)، ((تفسير أبي حيان)) (10/449)، ((تفسير أبي السعود)) (9/140)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/445). .
- قولُه: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ جَوابٌ للقَسَمِ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ جِيءَ به لِما ذُكِرَ مِن تَأكيدِ فَخامةِ المُقسَمِ به، المُستَتبِعِ لتَأكيدِ مَضمونِ الجُملةِ المُقسَمِ عليها [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/140، 141). .
- وقدْ جُعِلَ جَوابُ القَسَمِ هذا كِنايةً [51] أطلق عليها ابنُ عاشورٍ كنايةً تلويحيةً رمزيةً، وتَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). عن المَقْصودِ، وهو: إثْباتُ البَعثِ؛ فهو كالدَّليلِ على إثْباتِه؛ فإنَّ إقامةَ الحافِظِ تَستَلْزِمُ شَيئًا يَحفَظُه، وهو الأعمالُ خَيرُها وشَرُّها -وذلك على قولٍ-، وذلك يَستَلْزِمُ إرادةَ المُحاسَبةِ عليها، والجَزاءِ بما تَقتَضيه جَزاءً مُؤخَّرًا بعدَ الحياةِ الدُّنيا؛ لئلَّا تَذهَبَ أعمالُ العامِلينَ سُدًى، وذلك يَستَلْزِمُ أنَّ الجَزاءَ مُؤخَّرٌ إلى ما بعْدَ هذه الحياةِ؛ إذ المُشاهَدُ تَخلُّفُ الجَزاءِ في هذه الحياةِ بكَثْرةٍ، فلو أُهمِلَ الجَزاءُ لَكان إهْمالُه مُنافِيًا لحِكْمةِ الإلَهِ الحَكيمِ مُبدِعِ هذا الكَونِ، وهذا الجَزاءُ المُؤخَّرُ يَستَلْزِمُ إعادةَ حياةٍ للذَّواتِ الصَّادِرةِ منها الأعمالُ. وقد حصَلَ مع هذا الاستِدلالِ إفادةُ أنَّ على الأنفُسِ حَفَظَةً؛ فهو إدْماجٌ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/260). الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). .
- وأيضًا قدْ تَضمَّنَ هذا الجَوابُ -زِيادةً على إفادتِه تَحقيقَ الجَزاءِ- إنْذارًا للمُشرِكين بأنَّ اللهَ يَعلَمُ اعتِقادَهم وأفعالَهم، وأنَّه سيُجازيهم على ذلك [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/261). .
2- قولُه تعالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ
- قولُه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ الفاءُ لتَفريعِ الأمرِ بالنَّظرِ في الخِلْقةِ الأُولى على ما أُريدَ مِن قولِه: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق: 4] مِن لَوازِمِ مَعناهُ، وهو إثْباتُ البَعثِ الَّذي أنكَروه على طَريقةِ الكِنايةِ التَّلْويحيَّةِ الرَّمْزيَّةِ؛ فالتَّقديرُ: فإنْ رَأَيْتُم البَعثَ مُحالًا فلْيَنظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ؛ ليَعلَمَ أنَّ الخَلْقَ الثَّانيَ ليس بأَبْعَدَ مِن الخَلْقِ الأوَّلِ، فهذه الفاءُ مُفيدةٌ مُفادَ الفاءِ الفَصيحةِ. والنَّظرُ: نَظَرُ العَقلِ، وهو التَّفكُّرُ المُؤدِّي إلى عِلمِ شَيءٍ بالاستِدلالِ؛ فالمَأمورُ به نَظَرُ المُنكِرِ للبَعثِ في أدِلَّةِ إثْباتِه، كما يَقتَضيه التَّفريعُ على إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/261). [الطارق: 4] .
- والاستِفهامُ مِمَّ خُلِقَ مُستعمَلٌ في الإيقاظِ، والتَّنبيهِ إلى ما يَجِبُ عِلمُه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/261). .
- وقولُه: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ استِئنافٌ وَقَعَ جَوابًا عن استِفهامٍ مُقدَّرٍ، كأنَّه قيلَ: مِمَّ خُلِقَ؟ فقيلَ: خُلِقَ مِن ماءٍ ذي دَفْقٍ [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/141)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/442). .
- وفي قولِه: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أُطنِبَ في وَصفِ هذا الماءِ الدَّافِقِ لإدْماجِ التَّعليمِ، والعِبرةِ بدَقائقِ التَّكوينِ؛ ليَستَيقِظَ الجاهِلُ الكافِرُ، ويَزدادَ المُؤمِنُ عِلمًا ويَقينًا [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/262). .
- ووُصِفَ أنَّه يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ؛ لأنَّ النَّاسَ لا يَتفطَّنون لذلك، والخُروجُ مُستعمَلٌ في ابتِداءِ التَّنقُّلِ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ ولو بدُون بُروزٍ؛ فإنَّ بُروزَ هذا الماءِ لا يَكونُ مِن بيْنِ الصُّلبِ والتَّرائِبِ، وهذا مُخاطَبةٌ للنَّاسِ بما يَعرِفون يَومَئذٍ بكَلامٍ مُجمَلٍ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/262، 263). .
- قيل: أفرَدَ الأوَّلَ الصُّلْبِ، وجَمَعَ الآخَرَ (التَّرَائِبِ) وأرادَ سُبحانَه: يَخرُجُ مِن بيْنِ الأصلابِ والتَّرائِبِ، فاكتَفى بالواحِدِ عن الجَماعةِ، كما قال تعالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30] ، ولم يَقُلْ: والأَرَضينَ، وعلى القولِ بأنَّ التَّرائبَ للمرأةِ فإنَّ صدرَ المرأةِ هو تَرِيبتُها، فيُقالُ: للمرأةِ تَرائبُ، يعني بها التَّرِيبةَ وما حَوالَيْها وأحاط بها، وكذلك العربُ تقولُ: رأيتُ خَلاخيلَ المرأةِ وثُدِيَّها، وإنَّما لها ثَدْيانِ وخَلْخالانِ [59] يُنظر: ((إعراب ثلاثين سورة)) لابن خالويه (ص: 48)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/ 444). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ
- قولُه: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] ؛ لأنَّ السَّامِعَ يَتساءَلُ عن المَقصدِ مِن هذا الأمرِ بالنَّظرِ في أصْلِ الخِلْقةِ، وإذْ قد كان ذلك النَّظرُ نَظَرَ استِدلالٍ، فهذا الاستِئنافُ البَيانيُّ له يَتنزَّلُ مَنزِلةَ نَتيجةِ الدَّليلِ؛ فصارَ المَعنى: إنَّ الَّذي خَلَقَ الإنسانَ مِن ماءٍ دافِقٍ قادِرٌ على إعادةِ خَلْقِه بأسبابٍ أُخْرى، وبذلك يَتقَرَّرُ إمْكانُ إعادةِ الخَلْقِ، ويَزولُ ما زَعَمَه المُشرِكون مِن استِحالةِ تلك الإعادةِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/264، 265). .
- والضَّميرُ في إِنَّهُ للخالِقِ؛ لدَلالةِ خُلِقَ عليه، ومَعناه: إنَّ ذلك الَّذي خَلَقَ الإنسانَ ابتِداءً مِن نُطْفةٍ عَلَى رَجْعِهِ على إعادتِه خُصوصًا لَقَادِرٌ لَبَيِّنُ القُدرةِ، لا يَعسُرُ ويَصعُبُ عليه، ولا يَعجِزُ عنه؛ ففي مَجيءِ الفِعلِ مَجهولًا أوَّلًا، والإضمارِ قبْلَ الذِّكرِ ثانيًا؛ دَلالةٌ على أنَّ الكلامَ مِن بابِ إرخاءِ العِنانِ، أي: ما أقولُ: إنَّني أنا المُبدِئُ والمُعيدُ، بلْ أقولُ: إنَّ ذلك الَّذي تُعُورِفَ عِندَكم واشتَهَرَ وتُقِرُّون أنَّه الخالقُ؛ هو القادرُ على الإعادةِ؛ فجِيءَ بـ (إنَّ) واللَّامِ وتَنكيرِ الخبَرِ؛ ليَدُلَّ على ردٍّ بَليغٍ، وعلى إنكارٍ مُبالَغٍ منهم بأنَّه لا حشْرَ ولا نشْرَ، بلْ إمَّا تَعطيلٌ أو أمْرٌ آخَرُ كما اختَلَفَ فيه المُبْطِلون [61] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/735)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/384). .
- وضَميرُ إِنَّهُ عائدٌ إلى اللهِ تعالَى، وإنْ لم يَسبِقْ ذِكرٌ لمَعادٍ، ولكنَّ بِناءَ الفِعلِ للمَجهولِ في قولِه: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 6] يُؤذِنُ بأنَّ الخالِقَ مَعروفٌ لا يُحتاجُ إلى ذِكرِ اسْمِه، وأُسنِدَ الرَّجْعُ إلى ضَميرِه دُون سُلوكِ طَريقةِ البِناءِ للمَجهولِ، كَما في قولِه: خُلِقَ؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ إيضاحٍ وتَصريحٍ بأنَّ اللهَ هو فاعِلُ ذلك [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/265). .
- قولُه: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ السَّرائرُ: ما يُسِرُّه الإنسانُ ويُخفيه مِن نِيَّاتِه وعقائِدِه، وبَلْوُ السَّرائرِ: اختِبارُها وتَمييزُ الصَّالِحِ منها عن الفاسِدِ، وهو كِنايةٌ عن الحِسابِ عليها والجَزاءِ، وبَلْوُ الأعمالِ الظَّاهِرةِ والأقوالِ مُستَفادٌ بدَلالةِ الفَحْوى [63] فَحْوَى الخِطابِ -ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولَى، كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظَمُ مِن التَّافيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كان دونَ القِنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأُولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). مِن بَلْوِ السَّرائرِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/265). .
- ولَمَّا كان بَلْوُ السَّرائرِ مُؤْذِنًا بأنَّ اللهَ تعالى عَليمٌ بما يَستُرُه النَّاسُ مِن الجَرائمِ، وكان قولُه: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ مُشعِرًا بالمُؤاخَذةِ على العَقائدِ الباطِلةِ والأعمالِ الشَّنيعةِ؛ فُرِّعَ عليْه قولُه: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ، فالضَّميرُ عائدٌ إلى الإنسانِ، والمَقصودُ المُشرِكون مِن النَّاسِ؛ لأنَّهم المَسوقُ مِن أَجْلِهم هذا التَّهديدُ، أي: فما للإنسانِ المُشرِكِ مِن قُوَّةٍ يَدفَعُ بها عن نفْسِه، وما لَه مِن ناصِرٍ يُدافِعُ عنه [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/265). .