موسوعة التفسير

سورةُ الطَّارِقِ
الآيات (11-17)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

الرَّجْعِ: أي: المطَرِ؛ لأنَّه يَرجِعُ كُلَّ عامٍ ويتكَرَّرُ، وأصلُ (رجع): يدُلُّ على رَدٍّ وتَكرارٍ .
الصَّدْعِ: أي: النَّباتِ؛ لأنَّ الأرضَ تتصَدَّعُ -أي: تَنْشَقُّ- عنه، والصَّدعُ في اللُّغةِ: الشَّقُّ، وأصلُ (صدع): يدُلُّ على انفِراجِ شَيءٍ .
رُوَيْدًا: أي: قَليلًا، والرَّودُ: التَّرَدُّدُ في طَلَبِ الشَّيءِ برِفقٍ .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
جُملةُ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا لا محلَّ لها استئنافيَّةٌ مُؤكِّدةٌ للجُملةِ السَّابقةِ، وقيل: بَدَلٌ منها. رُوَيْدًا: في نَصْبِه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّه مَفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المصدَرِ؛ فهو مُرادِفٌ لعامِلِه أَمْهِلْهُمْ. ورُوَيْدًا تصغيرُ «إرْواد» -أي: إمْهال، وزنًا ومعنًى- على التَّرخيمِ بحذفِ الزَّوائدِ، وأصلُه مِنَ الرَّوْدِ: وهو المَهْلُ وعدَمُ العجَلةِ. الثَّاني: أن يكونَ رُوَيْدًا نائبًا عن المصدَرِ؛ نعتًا لمصدَرٍ محذوفٍ، أي: أمهِلْهم إمهالًا رُوَيدًا، أي: قليلًا أو قريبًا. الثَّالثُ: أن يكونَ نائبًا عن ظَرفِ الزَّمانِ؛ نَعتًا لزَمانٍ محذوفٍ، أي: زَمانًا قليلًا. الرَّابعُ: أن يكونَ مَنصوبًا على الحاليَّةِ، أي: أمهِلْهم مُستَأنيًا بهم غَيرَ مُستعجِلٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُقْسِمًا أيضًا على صحَّةِ القرآنِ: أُقسِمُ بالسَّماءِ الَّتي تَرجِعُ بالمطَرِ، وبالأرضِ الَّتي تتصَدَّعُ وتَنْشَقُّ؛ إنَّ القُرآنَ لَقَولٌ فاصِلٌ، يَفصِلُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وليس هو باللَّعِبِ والباطِلِ، بل كُلُّه حَقٌّ وجِدٌّ.
 ثمَّ يختمُ اللهُ سُبحانَه السُّورةَ الكريمةَ ببَيانِ ما يُدَبِّرُ الكافِرون للمؤمنينَ؛ مُسلِّيًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُبشِّرًا له بحُسنِ العاقِبةِ، فيقول: إنَّ الكافِرينَ يَكيدُونَ؛ لِيَدفَعوا بكَيْدِهم الحَقَّ، وأنا أَكيدُ بهم كَيدًا عَظيمًا، بإمْهالِهم واسْتِدْراجِهم؛ حتَّى أُهلِكَهم وهم على باطِلِهم، فأَمْهِلْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكافِرينَ زَمَنًا قليلًا، ولا تَستَعجِلْ عِقابَهم!

تفسير الآيات:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ تَبيَّنَ الدَّليلُ على إمْكانِ البَعثِ؛ أُعقِبَ بتَحقيقِ أنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وأنَّ ما فيه قولٌ فَصْلٌ؛ إبْطالًا لِما مُوِّهَ عليهم مِن أنَّ أَخبارَه غَيرُ صادِقةٍ؛ إذ قد أَخبَرَهم بإحْياءِ الرِّمَمِ البالِيةِ .
وأيضًا لَمَّا اشتَمَلت الجُمَلُ السَّابقةُ -على وَجازتِها- على الذِّرْوةِ العُلْيا مِن البَلاغةِ في إثباتِ البَعثِ والجَزاءِ والوَحدانيَّةِ له سُبحانَه وتعالى، إلى غيرِ ذلك مِن بُحورِ العُلومِ، فثبَتَ أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فثَبَت أنَّ كُلَّ ما فيه حَقٌّ، معَ مُنازَعَتِهم في ذلك كُلِّه- اقتضى الحالُ الإقسامَ على حَقِّيَّتِه؛ فقال :
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11).
أي: أُقسِمُ بالسَّماءِ ذاتِ المطَرِ .
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الأمْرَ العُلويَّ بادِئًا به لشَرَفِه؛ أتْبَعَه السُّفليَّ .
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12).
أي: وأُقسِمُ بالأرضِ ذاتِ النَّباتِ .
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13).
أي: إنَّ القُرآنَ قَولٌ فاصِلٌ، يَفصِلُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ .
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
عَطَف وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ بعد الثَّناءِ على القُرآنِ بأنَّه «قَولٌ فَصلٌ» ردًّا على المشركينَ؛ إذ كانوا يَزعُمونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاء يَهزِلُ؛ إذ يخبِرُ بأنَّ الموتى سيَحْيَونَ، يُريدونَ تضليلَ عامَّتِهم حينَ يَسمَعونَ قوارِعَ القُرآنِ وإرشادَه وجَزالةَ مَعانيه، يختَلِقونَ لهم تلك المعاذيرَ؛ لِيَصرِفوهم عن أن يتدَبَّروا القُرآنَ .
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14).
أي: وليس القُرآنُ باللَّعِبِ والباطِلِ، بل كُلُّه حَقٌّ وجِدٌّ .
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15).
أي: إنَّ الكافِرينَ المُكَذِّبينَ بالقُرآنِ يَكيدُونَ؛ لِيَدفَعوا بكَيْدِهم الحَقَّ، ويُؤَيِّدوا الباطِلَ .
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16).
أي: وأنا أَكيدُ بهم كَيدًا عَظيمًا -جزاءَ كَيدِهم-، بإمْهالِهم واسْتِدْراجِهم؛ حتَّى أُهلِكَهم وهم على باطِلِهم، وأُظهِرَ الحَقَّ عليه ولو بعْدَ حِينٍ .
كما قال تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور: 42].
وقال سُبحانَه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44-45] .
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17).
أي: فأَمْهِلْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكافِرينَ زَمَنًا قليلًا، ولا تَستَعجِلْ عِقابَهم؛ فإنَّه واقِعٌ بهم -لا محالةَ- في الوَقتِ الَّذي جعَلَه اللهُ مَوعِدًا لهَلاكِهم !
كما قال تعالى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] .
وقال سُبحانَه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أنَّ القرآنَ يَفْصِلُ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، وهو قاطعٌ لكلِّ مَن ناوأه وعاداه؛ ولهذا نَجِدُ المسلمينَ لَمَّا كانوا يُجاهِدونَ الكُفَّارَ بالقرآنِ نَجِدُهم غَلَبوا الكُفَّارَ، وقَطَعوا دابرَهم، وقُضِيَ بيْنَهم، فلمَّا أَعرَضوا عن القرآنِ هُزِموا وأُذِلُّوا بقَدْرِ بُعْدِهم عن القرآنِ، وكلَّما ابتعَدَ الإنسانُ عن كتابِ اللهِ ابتعَدَتْ عنه العِزَّةُ، وابتعدَ عنه النَّصرُ؛ حتَّى يَرجِعَ إلى كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ .
2- في قَولِه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا زجرٌ وتحذيرٌ للقَومِ، وكما أنَّه تحذيرٌ لهم فهو ترغيبٌ في خِلافِ طَريقِهم في الطَّاعاتِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ في هذَينِ الحالَينِ إيماءٌ إلى دَليلٍ آخَرَ مِن دَلائلِ إحياءِ النَّاسِ للبَعثِ .
2- قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ هذا هو القَسَمُ الثَّاني للسَّماءِ، والقَسَمُ الأوَّلُ ما كان في أوَّلِ السُّورةِ؛ فهناك قال: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ وبيْنَهما مُناسَبةٌ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ الأوَّلَ فيه إشارةٌ إلى الطَّارقِ الَّذي هو النَّجمُ، والنَّجمُ تُرمى به الشَّياطينُ الَّذين يَستَرِقونَ السَّمْعَ، وفي رَمْيِ الشَّياطينِ بذلك حِفْظٌ لكتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، أمَّا هنا فأَقْسَمَ بالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ إنَّ هذا القُرآنَ قَولٌ فَصلٌ، فأقْسَمَ على أنَّ القرآنَ قولٌ فَصلٌ؛ فصار القَسَمُ الأوَّلُ مُناسَبتُه أنَّ فيه الإشارةَ إلى ما يُحْفَظُ به هذا القُرآنُ حالَ إنزالِه، وفي القَسَمِ الثَّاني الإشارةُ إلى أنَّ القرآنَ حياةٌ، يعني يُقالُ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ الرَّجْعُ هو المطرُ، يُسَمَّى رَجْعًا؛ لأنَّه يَرْجِعُ ويَتكَرَّرُ، ومعلومٌ أنَّ المطرَ به حياةُ الأرضِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ الصَّدعُ هو الانشِقاقُ، يعني: التَّشَقُّقَ بخروجِ النَّباتِ منه؛ فأقْسَمَ بالمطرِ الَّذي هو سببُ خروجِ النَّباتِ، وبالتَّشَقُّقِ الَّذي يَخرُجُ منه النَّباتُ، وكلُّه إشارةٌ إلى حياةِ الأرضِ بعْدَ موتِها، والقرآنُ به حياةُ القُلوبِ بعْدَ موتِها، كما قال اللهُ تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] ، فسمَّى اللهُ القرآنَ رُوحًا؛ لأنَّه تحيا به القُلوبُ .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا تأمَّلْ قولَه: يَكِيدُونَ حيثُ أَتَى بصيغةِ الجَمعِ، وَأَكِيدُ حيثُ أَتَى بصيغةِ الإفرادِ؛ فإنَّ كيدَ اللهِ تعالى أعظمُ مِن كيدِ جَميعِ كُيودِهم مهما بلَغَتْ .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ردٌّ على الجَهْميَّةِ في نَفْيِ الصِّفاتِ بالكُلِّيَّةِ، وقد أَخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن نفْسِه بأنَّه يَكِيدُ، بلَفظِ «الكَيدِ» الَّذي أَخبَرَ به عنِ الكائدِين، وهم يُنكِرونه، يَرُدُّون نصَّ القُرآنِ ! فالكَيدُ والمكرُ والمُخادَعةُ: إيصالُ الشَّرِّ إلى الغَيرِ بطَريقٍ خَفِيٍّ، ولكِنَّ ذلك نَوعانِ: قَبيحٌ، وهو إيصالُ ذلك لِمَن لا يَستَحِقُّه، وحَسَنٌ، وهو إيصالُه إلى مُستَحِقِّه عُقوبةً له؛ فالأوَّلُ مذَمومٌ، والثَّاني ممدوحٌ، والرَّبُّ تعالى إنَّما يَفعَلُ مِن ذلك ما يُحمَدُ عليه عَدلًا منه وحِكمةً، وهو تعالى يأخُذُ الظَّالِمَ والفاجِرَ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ، لا كما يَفعَلُ الظَّلَمةُ بعِبادِه .
فالله سُبحانَه يَنسُبُ إلى نَفْسِه أحسَنَ هذه المعاني، وما هو منها حِكمةٌ وحَقٌّ وصَوابٌ وجزاءٌ للمُسيءِ، وذلك غايةُ العَدْلِ والحَقِّ؛ كقَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] ، وقَولِه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ، وقَولِه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ، وقَولِه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وقَولِه: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] ، فهذا منه سُبحانَه فى أعلى مَراتِبِ الحُسْنِ، وإن كان مِنَ العَبدِ قَبيحًا سَيِّئًا؛ لأنَّه ظالِمٌ فيه، ومُوقِعُه بمَن لا يَستَحِقُّه، والرَّبُّ تعالى عادِلٌ فيه، مُوقِعُه بأهلِه ومَن يَستَحِقُّه .
5- ينقَسِمُ الكيدُ إلى نَوعَينِ: محمودٍ، ومَذمومٍ؛ قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا، وقال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] ، وقال: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف: 76] ، وإذا عُرِفَ ذلك فلا إشكالَ أنَّه يجوزُ للإنسانِ أنْ يُظْهِرَ قولًا أو فِعْلًا مَقصودُه به مَقصودٌ صالحٌ، وإنْ كان ظاهِرُه خِلافَ ما قَصَدَ به، إذا كانت فيه مَصلحةٌ دينيَّةٌ، مِثلُ دَفْعِ الظُّلمِ عن نفْسِه أو غَيرِه، أو إبطالِ حِيلةٍ مُحرَّمةٍ، وإنَّما المُحَرَّمُ: أنْ يَقصِدَ بالعُقودِ الشَّرعيَّةِ غيرَ ما شَرَعَها اللهُ تعالى ورَسولُه له، فيَصيرُ مُخادِعًا للهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كائدًا لدِينِه، ماكِرًا بشَرْعِه؛ فإنَّ مَقصودَه حُصولُ الشَّيءِ الَّذي حَرَّمَه اللهُ تعالى ورسولُه بتلك الحيلةِ، وإسقاطُ الَّذي أوجبَه بتلك الحيلةِ، وهذا ضِدُّ الَّذي قَبْلَه؛ فإنَّ ذلك مَقصودُه التَّوصُّلُ إلى إظهارِ دِينِ اللهِ تعالى، ودَفْعُ مَعصيتِه، وإبطالُ الظُّلمِ، وإزالةُ المنكَرِ، فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخَرُ .
6- في قَولِه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أنَّه لَمَّا كان في المكَذِّبينَ -في عِلْمِ اللهِ- مَن يُؤمِنُ، فليس مُستَحِقًّا لإيقاعِ مِثلِ هذا التَّهديدِ؛ عَبَّرَ بالوَصفِ المقتَضي للرُّسوخِ، فقال: الْكَافِرِينَ، أي: فلا تَدْعُ عليهم، ولا تَستَعجِلْ لهم بالإهلاكِ؛ فإنَّا لا نَعجَلُ؛ لأنَّه لا يَعجَلُ بالعُقوبةِ إلَّا مَن يَخافُ الفَوتَ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ الجُملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ .
- وافتُتِحَ الكَلامُ بالقَسَمِ تَحقيقًا لصِدقِ القُرآنِ في الإخْبارِ بالبَعثِ وفي غَيرِ ذلك ممَّا اشتَمَلَ عليه مِن الهُدى؛ ولذلك أُعيدَ القَسَمُ بالسَّماءِ كما أُقسِمَ بها في أوَّلِ السُّورةِ، وذُكِرَ مِن أحوالِ السَّماءِ ما لَه مُناسَبةٌ بالمُقسَمِ عليه، وهو الغَيثُ الَّذي به صَلاحُ النَّاسِ؛ فإنَّ إصلاحَ القُرآنِ للنَّاسِ كإصْلاحِ المَطَرِ، وفي الحديثِ: ((مَثَلُ ما بعَثَني اللهُ به مِن الهُدى والعِلْمِ كمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصاب أرضًا)) الحديثَ .
- والرَّجْعُ، أي: المَطَرُ، والصَّدْعُ: هو ما تَتصَدَّعُ عنه الأرضُ مِن النَّباتِ، أو مَصدَرٌ مِن المَبنيِّ للمَفعولِ، وهو تَشقُّقُها بالنَّباتِ لا بالعُيونِ كما قيلَ؛ فإنَّ وصْفَ السَّماءِ والأرضِ عندَ الإقْسامِ بهما على حقِّيَّةِ القُرآنِ النَّاطقِ بالبَعثِ بما ذُكِرَ مِن الوَصفَينِ للإيماءِ إلى أنَّهما في أنفُسِهما مِن شَواهِدِه، وهو السِّرُّ في التَّعبيرِ بالصَّدعِ عنه وعن المَطَرِ بالرَّجْعِ، وذلك في تَشقُّقِ الأرضِ بالنَّباتِ المُحاكي للنُّشورِ حَسبَما ذُكِرَ في مَواقِعَ مِن التَّنزيلِ، لا في تَشقُّقِها بالعُيونِ .
- وأيضًا في اسمِ (الرَّجْعِ) مُناسَبةٌ لمَعْنى البَعثِ في قولِه: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 8] ، وفي مُسمَّى (الرَّجْعِ) -وهو المَطَرُ المُعاقِبُ لمَطَرٍ آخَرَ- مُناسَبةٌ لمَعنى الرَّجْعِ البَعثِ؛ فإنَّ البَعثَ حياةٌ مُعاقَبةٌ بحياةٍ سابِقةٍ .
- وعُطِفَتْ الأرضُ في القَسَمِ؛ لأنَّ بذِكرِ الأرضِ إتْمامَ المُناسَبةِ بيْنَ المُقسَمِ والمُقسَمِ عليه .
- قولُه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فيه الإخْبارُ بالمَصدرِ للمُبالَغةِ، أي: إنَّه لقَولٌ فاصِلٌ بيْنَ الحقِّ والباطِلِ، مبالِغٌ في ذلك كأنَّه نفْسُ الفَصلِ .
- بعدَ أنْ أثنَى الله سبحانَه وتعالى على القرآنِ بقولِه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، عطَف عليه قولَه: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ، ووجهُ ذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَزعُمون أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ يَهزِلُ؛ إذ يُخبِرُ بأنَّ المَوتى سيَحيَون، فردَّ الله سبحانَه عليهم؛ فالهَزْلُ على هذا الوَجْهِ هو ضِدُّ الجِدِّ، أي: المَزْحُ واللَّعِبُ، ومِثلُ هذه الصِّفةِ إذا وَرَدَتْ في الكَلامِ البَليغِ لا مَحمَلَ لها إلَّا إرادةُ التَّعريضِ، وإلَّا كانتْ تَقصيرًا في المَدْحِ، لا سِيَّما إذا سَبَقَتْها مَحمَدةٌ مِن المَحامِدِ العَظيمةِ .
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
- قولُه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا استِئنافٌ بَيانيٌّ يُنبِئُ عن سُؤالِ سائِلٍ يَعجَبُ مِن إعْراضِهم عن القُرآنِ معَ أنَّه قولٌ فَصلٌ، ويَعجَبُ مِن مَعاذيرِهم الباطِلةِ، مِثلَ قولِهم: هو هَزْلٌ أو هَذَيانٌ أو سِحرٌ، فبيَّنَ للسَّامِعِ أنَّ عَمَلَهم ذلك كَيدٌ مَقصودٌ؛ فَهُم يَتَظاهَرون بأنَّهم ما يَصرِفُهم عن التَّصديقِ بالقُرآنِ إلَّا ما تَحقَّقوه مِن عدَمِ صِدْقِه، وهُم إنَّما يَصرِفُهم عن الإيمانِ به الحِفاظُ على سِيادتِهم، فيُضلِّلون عامَّتهم بتلك التَّعِلَّاتِ المُلفَّقةِ. والتَّأكيدُ بـ (إِنَّ) لتَحقيقِ هذا الخَبَرِ؛ لغَرابتِه، وعليه فقَولُه: وَأَكِيدُ كَيْدًا تَتْميمٌ وإدْماجٌ ، وإنْذارٌ لهم حِينَ يَسمَعونه . أو هو كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للإجابةِ عن سُؤالٍ نَشَأَ مِن فَحوى الكلامِ؛ كأنَّه قيلَ: وماذا تَتَسمَّى مُكابَرتُهم وعِنادُهم؟ فقيلَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا مُوَجَّهًا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تَسلِيةً له على أقوالِهم في القُرآنِ الرَّاجِعةِ إلى تَكذيبِ مَن جاءَ بالقُرآنِ، أي: إنَّما يَدَّعون أنَّه هَزْلٌ لقَصدِ الكَيدِ، وليس لأنَّهم يَحسَبونك كاذِبًا. وجُملةُ وَأَكِيدُ كَيْدًا تَثبيتٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووَعدٌ بالنَّصرِ .
- قولُه: كَيْدًا في المَوضِعَينِ مَفعولٌ مُطلَقٌ مُؤكِّدٌ لعامِلِه، وقُصِدَ منه مع التَّوكِيدِ تَنوينُ تَنكيرِه الدَّالِّ على التَّعظيمِ .
- قولُه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا الفاءُ لتَفريعِ الأمرِ بالإمْهالِ على مَجموعِ الكَلامِ السَّابقِ مِن قَولِه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] بما فيه مِن تَصريحٍ وتَعريضٍ وتَبيينٍ ووَعْدٍ بالنَّصرِ، أي: فلا تَستعجِلْ لهم بطَلَبِ إنْزالِ العِقابِ؛ فإنَّه واقِعٌ بهم لا مَحالةَ .
- والتَّمهيلُ: مَصدرُ مَهَّلَ، بمَعنى: أمْهَلَ، وهو الإنْظارُ إلى وَقتٍ مُعيَّنٍ أو غَيرِ مُعيَّنٍ؛ فالجَمعُ بيْنَ (مَهَّلَ) وأَمْهِلْهُمْ؛ للتَّأكيدِ؛ لقَصدِ زِيادةِ التَّسكينِ والتَّصبيرِ، وخولِفَ بيْنَ الفِعلَينِ في التَّعدِيةِ مَرَّةً بالتَّضعيفِ وأُخْرى بالهَمزِ؛ لتَحسينِ التَّكريرِ، وطَلَبًا للخِفَّةِ . فلَمَّا كرَّرَ الأمرَ تَوكيدًا خالَفَ بيْن اللَّفظَينِ -فَمَهِّلِ وأَمْهِلْهُمْ- على أنَّ الأوَّلَ مُطلَقٌ، وهذا الثَّاني مُقيَّدٌ بقولِه: رُوَيْدًا .
- والمُرادُ بالكافِرينَ في قولِه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا: ما عادَ عليْه ضَميرُ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [الطارق: 15] ؛ فهو إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ؛ للنِّداءِ عليْهم بمَذمَّةِ الكُفرِ، فليس المُرادُ جَميعَ الكافِرين، بل أُريدَ الكافِرون المَعْهودون .
- وقولُه: رُوَيْدًا مَصدَرٌ مُؤكِّدٌ لفِعلِ أَمْهِلْهُمْ، فقد أكَّدَ قولَه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ مَرَّتَينِ، والمَعنى: انتَظِرْ ما سيَحُلُّ بهم، ولا تَستَعجِلْ لهم؛ انتِظارَ تَربُّصٍ واتِّيادٍ، فيَكونُ رُوَيْدًا كِنايةً عن تَحقُّقِ ما يَحُلُّ بهم مِن العِقابِ؛ لأنَّ المُطمَئنَّ لحُصولِ شَيءٍ لا يَستعجِلُ به. وتَصغيرُ رُوَيْدًا؛ للدَّلالةِ على التَّقليلِ، أي: مُهلةً غَيرَ طَويلةٍ .
ويَجوزُ أنْ يَكونَ رُوَيْدًا هُنا اسمَ فِعلٍ للأَمرِ، كما في قَولِهم: رُوَيدَك؛ لأنَّ اقتِرانَه بكافِ الخِطابِ إذا أُريدَ به اسمُ الفِعلِ ليس شَرطًا، ويَكونَ الوَقفُ على قولِه: الْكَافِرِينَ، ورُوَيْدًا كلامًا مُستقِلًّا؛ فليس وُجودُ فِعلٍ مِن مَعْناه قبْلَه بدَليلٍ على أنَّه مُرادٌ به المَصدَرُ، أي: تَصبَّرْ ولا تَستَعجِلْ نُزولَ العَذابِ بهم، فيَكونَ كِنايةً عن الوَعدِ بأنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ .