موسوعة التفسير

سورةُ الطَّارِقِ
الآيات (11-17)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

الرَّجْعِ: أي: المطَرِ؛ لأنَّه يَرجِعُ كُلَّ عامٍ ويتكَرَّرُ، وأصلُ (رجع): يدُلُّ على رَدٍّ وتَكرارٍ [66] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((البسيط)) للواحدي (23/417)، ((تفسير البغوي)) (8/395). .
الصَّدْعِ: أي: النَّباتِ؛ لأنَّ الأرضَ تتصَدَّعُ -أي: تَنْشَقُّ- عنه، والصَّدعُ في اللُّغةِ: الشَّقُّ، وأصلُ (صدع): يدُلُّ على انفِراجِ شَيءٍ [67] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 523)، ((تفسير ابن جرير)) (24/304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/338)، ((البسيط)) للواحدي (23/419)، ((المفردات)) للراغب (ص: 478). .
رُوَيْدًا: أي: قَليلًا، والرَّودُ: التَّرَدُّدُ في طَلَبِ الشَّيءِ برِفقٍ [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/307)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/457)، ((المفردات)) للراغب (ص: 371)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 447)، ((تفسير القرطبي)) (20/12)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 458). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
جُملةُ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا لا محلَّ لها استئنافيَّةٌ مُؤكِّدةٌ للجُملةِ السَّابقةِ، وقيل: بَدَلٌ منها. رُوَيْدًا: في نَصْبِه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّه مَفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المصدَرِ؛ فهو مُرادِفٌ لعامِلِه أَمْهِلْهُمْ. ورُوَيْدًا تصغيرُ «إرْواد» [69] وقيل: هو تصغيرُ رودٍ، أي: مهلٍ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/12)، ((تفسير أبي حيان)) (10/449). -أي: إمْهال، وزنًا ومعنًى- على التَّرخيمِ بحذفِ الزَّوائدِ، وأصلُه مِنَ الرَّوْدِ: وهو المَهْلُ وعدَمُ العجَلةِ. الثَّاني: أن يكونَ رُوَيْدًا نائبًا عن المصدَرِ؛ نعتًا لمصدَرٍ محذوفٍ، أي: أمهِلْهم إمهالًا رُوَيدًا، أي: قليلًا أو قريبًا. الثَّالثُ: أن يكونَ نائبًا عن ظَرفِ الزَّمانِ؛ نَعتًا لزَمانٍ محذوفٍ، أي: زَمانًا قليلًا. الرَّابعُ: أن يكونَ مَنصوبًا على الحاليَّةِ، أي: أمهِلْهم مُستَأنيًا بهم غَيرَ مُستعجِلٍ [70] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/425)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1282)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/757)، ((تفسير الشوكاني)) (5/511)، ((تفسير الألوسي)) (15/312)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/303)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/269). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُقْسِمًا أيضًا على صحَّةِ القرآنِ: أُقسِمُ بالسَّماءِ الَّتي تَرجِعُ بالمطَرِ، وبالأرضِ الَّتي تتصَدَّعُ وتَنْشَقُّ؛ إنَّ القُرآنَ لَقَولٌ فاصِلٌ، يَفصِلُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وليس هو باللَّعِبِ والباطِلِ، بل كُلُّه حَقٌّ وجِدٌّ.
 ثمَّ يختمُ اللهُ سُبحانَه السُّورةَ الكريمةَ ببَيانِ ما يُدَبِّرُ الكافِرون للمؤمنينَ؛ مُسلِّيًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُبشِّرًا له بحُسنِ العاقِبةِ، فيقول: إنَّ الكافِرينَ يَكيدُونَ؛ لِيَدفَعوا بكَيْدِهم الحَقَّ، وأنا أَكيدُ بهم كَيدًا عَظيمًا، بإمْهالِهم واسْتِدْراجِهم؛ حتَّى أُهلِكَهم وهم على باطِلِهم، فأَمْهِلْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكافِرينَ زَمَنًا قليلًا، ولا تَستَعجِلْ عِقابَهم!

تفسير الآيات:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ تَبيَّنَ الدَّليلُ على إمْكانِ البَعثِ؛ أُعقِبَ بتَحقيقِ أنَّ القُرآنَ حَقٌّ، وأنَّ ما فيه قولٌ فَصْلٌ؛ إبْطالًا لِما مُوِّهَ عليهم مِن أنَّ أَخبارَه غَيرُ صادِقةٍ؛ إذ قد أَخبَرَهم بإحْياءِ الرِّمَمِ البالِيةِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
وأيضًا لَمَّا اشتَمَلت الجُمَلُ السَّابقةُ -على وَجازتِها- على الذِّرْوةِ العُلْيا مِن البَلاغةِ في إثباتِ البَعثِ والجَزاءِ والوَحدانيَّةِ له سُبحانَه وتعالى، إلى غيرِ ذلك مِن بُحورِ العُلومِ، فثبَتَ أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فثَبَت أنَّ كُلَّ ما فيه حَقٌّ، معَ مُنازَعَتِهم في ذلك كُلِّه- اقتضى الحالُ الإقسامَ على حَقِّيَّتِه؛ فقال [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/381). :
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11).
أي: أُقسِمُ بالسَّماءِ ذاتِ المطَرِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/302)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/10)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 106)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151). قال الماوَرْدي: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ فيه أربعةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: ذاتُ المطَرِ؛ لأنَّه يَرجِعُ في كلِّ عامٍ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: ذاتُ السَّحابِ؛ لأنَّه يَرجِعُ بالمطَرِ. الثَّالِثُ: ذاتُ الرُّجوعِ إلى ما كانت. قاله عِكْرِمةُ. الرَّابعُ: ذاتُ النُّجومِ الرَّاجعةِ. قاله ابنُ زَيدٍ. ويحتَمِلُ خامِسًا: ذاتُ الملائِكةِ؛ لرُجوعِهم إليها بأعمالِ العِبادِ). ((تفسير الماوردي)) (6/248). والقَولُ بأنَّ المرادَ بالرَّجْعِ: المطَرُ، حكى الواحِديُّ فيه اتِّفاقَ المُفَسِّرينَ، ومِمَّن ذهب إليه: القرطبيُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20 10)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/266)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وأبو مالكٍ، وابنُ أَبْزَى، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/302)، ((البسيط)) للواحدي (23/417)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/476). قال السعدي: (تَرجِعُ السَّماءُ بالمطَرِ كُلَّ عامٍ، وتنصَدِعُ الأرضُ للنَّباتِ، فيَعيشُ بذلك الآدَميُّونَ والبهائِمُ، وتَرجِعُ السَّماءُ أيضًا بالأقدارِ والشُّؤونِ الإلهيَّةِ كُلَّ وَقتٍ، وتنصَدِعُ الأرضُ عن الأمواتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 920). وعَدَّه ابنُ القيِّمِ مِن بابِ التَّفسيرِ بالمثالِ، وأنَّ المرادَ أعَمُّ مِن ذلك، فقال: (التَّحقيقُ أنَّ هذا على وَجهِ التَّمثيلِ. ورَجْعُ السَّماءِ: هو إعطاءُ الخَيرِ الَّذي يكونُ مِن جِهَتِها حالًا بَعْدَ حالٍ على مرورِ الأزمانِ تَرجِعُه رَجْعًا، أي: تُعْطيه مَرَّةً بعْدَ مرَّةٍ، والخَيرُ كُلُّه مِن قِبَلِ السَّماءِ يَجيءُ، ولَمَّا كان أظهَرَ الخَيرِ المشهودِ بالعِيانِ المطَرُ، فُسِّرَ الرَّجْعُ به، وحَسَّنَ تَفسيرَه به مُقابَلتُه بصَدْعِ الأرضِ عن النَّباتِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 106). وقيل: المرادُ: غِيابُ الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ، وطُلوعُها. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/304). وذهَبَ البِقاعي إلى هذا المعنى وإلى ما هو أعَمُّ منه، فقال: (ذَاتِ الرَّجْعِ الَّتي تَرجِعُ بالدَّورانِ إلى الموضِعِ الَّذي ابتدَأَت الدَّورانَ منه، فتَرجِعُ الأحوالَ الَّتي كانت وتصَرَّمَت؛ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ، والشَّمسِ والقَمَرِ والكواكِبِ، والفُصولِ؛ مِنَ الشِّتاءِ وما فيه مِن بَردٍ ومطرٍ، والصَّيفِ وما فيه مِن حرٍّ وصفاءٍ وسكونٍ وغيرِ ذلك؛ والنَّباتَ بعدَ تهشُّمِه وصَيرورتِه تُرابًا مختَلِطًا بتُرابِ الأرضِ، وترجِعُ الماءَ على قَولِ مَن يَقولُ: إنَّ السَّحابَ يأخُذُه مِن البَحرِ ويعلو به فيَعصِرُه في الهواءِ ثمَّ يرُدُّه إلى الأرضِ، وغيرَ ذلك مِن الأمورِ الدَّالِّ كُلٌّ منها قطعًا على أنَّ فاعِلَ ذلك قادِرٌ على إعادةِ كُلِّ ما فَنِيَ كما كان، مِن غَيرِ فَرقٍ أصلًا). ((نظم الدرر)) (21/382). .
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الأمْرَ العُلويَّ بادِئًا به لشَرَفِه؛ أتْبَعَه السُّفليَّ [74] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/382). .
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12).
أي: وأُقسِمُ بالأرضِ ذاتِ النَّباتِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/304)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 106، 107)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). قال الماوَرْدي: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ فيها أربعةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: ذاتُ النَّباتِ؛ لانصِداعِ الأرضِ عنه. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: ذاتُ الأوديةِ؛ لأنَّ الأرضَ قد انصدَعَت بها. قاله ابنُ جُرَيجٍ. الثَّالثُ: ذاتُ الطُّرُقِ الَّتي تَصدَعُها المُشاةُ. قاله مجاهِدٌ. الرَّابعُ: ذاتُ الحَرْثِ؛ لأنَّه يَصدَعُها. ويحتَمِلُ خامِسًا: ذاتُ الأمواتِ؛ لانصِداعِها عنهم للنُّشورِ). ((تفسير الماوردي)) (6/249). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: تتشَقَّقُ بالنَّباتِ: ابنُ جرير، وابن القيم، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/304)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 106، 107)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/266)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151). قال ابن كثير: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ قال ابنُ عبَّاسٍ: هو انصِداعُها عن النَّباتِ. وكذا قال سعيدُ ابنُ جُبَيرٍ، وعِكْرِمةُ، وأبو مالكٍ، والضَّحَّاكُ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وغيرُ واحدٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/376). وقال الرَّسْعَني: (قال المفسِّرونَ واللُّغَويُّونَ: تتصدَّعُ عن النَّباتِ والأشجارِ). ((تفسير الرسعني)) (8/584). وقال ابن عثيمين: (كُلُّه إشارةٌ إلى حياةِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، والقُرآنُ به حياةُ القُلوبِ بعْدَ مَوتِها). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151). وقال ابنُ القيِّمِ: (وفُسِّرَ الصَّدعُ بالنَّباتِ؛ لأنَّه يَصدَعُ الأرضَ، أي: يَشُقُّها، فأقسَمَ سُبحانَه بالسَّماءِ ذاتِ المطَرِ، والأرضِ ذاتِ النَّباتِ، وكُلٌّ مِن ذلك آيةٌ مِن آياتِ اللهِ تعالى الدَّالَّةِ على رُبوبيَّتِه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 106). وقيل: تتصَدَّعُ عن النَّباتِ والشَّجَرِ والثِّمارِ والأنهارِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: القرطبيُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((تفسير الخازن)) (4/416). وتقدَّم قولُ السعديِّ أنَّ الأرضَ تنصدعُ للنَّباتِ، وتنصدعُ عن الأمواتِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 920). قال البِقاعي: (فجَمَع بالقَسَمِ العالَمَ العُلويَّ الَّذي هو كالرَّجُلِ، والسُّفْليَّ الَّذي هو كالمرأةِ، فكما أنَّ الرَّجُلَ يَسقِيها مِن مائِه فتتصَدَّعُ عن الولَدِ، فكذلك السَّماءُ تَسْقي الأرضَ فتتصَدَّعُ عن النَّباتِ، وكما أنَّها تتصَدَّعُ عن النَّباتِ بعْدَ فَنائِه وصَيرورتِه رُفاتًا، فيَعودُ كما كان؛ فكذلك تتصَدَّعُ عن النَّاسِ بعْدَ فَنائِهم، فيَعودونَ كما كانوا بإذْنِ رَبِّها مِن غيرِ فَرقٍ أصلًا). ((نظم الدرر)) (21/383). وقال الشوكاني: (الحاصلُ أنَّ الصَّدْعَ إنْ كان اسْمًا لِلنَّباتِ فكأنَّه قال: والأرضِ ذاتِ النَّباتِ، وإنْ كان المرادُ به الشَّقَّ فكأنَّه قال: والأرضِ ذاتِ الشَّقِّ الَّذي يَخرُجُ منه النَّباتُ ونحوُه). ((تفسير الشوكاني)) (5/511). .
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13).
أي: إنَّ القُرآنَ قَولٌ فاصِلٌ، يَفصِلُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/304)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/432)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 107)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/266، 267). قال ابنُ الجوزي: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني به القُرآنَ، وهذا جوابُ القَسَمِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/430). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: القرآنُ: الواحديُّ، والقرطبي، وابن تيميَّة، وابن القيِّم. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/ 432)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 107). وقال ابنُ عثيمين: (يَفصِلُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وبيْنَ المتَّقينَ والظَّالِمينَ، بل إنَّه فَصْلٌ، أي: قاطِعٌ لكُلِّ مَن ناوأه وعاداه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151، 152). وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى البَعْثِ بعدَ الموتِ، والمعنى: إنَّ ما أخبَرْتُكم به مِن قُدْرتي على إحيائِكم في اليَومِ الَّذي تُبْلَى فيه سرائِرُكم: قَولٌ فَصلٌ وحَقٌّ. ومِمَّن ذهب إليه: القَفَّالُ، ورجَّحَه الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/123). .
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
عَطَف وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ بعد الثَّناءِ على القُرآنِ بأنَّه «قَولٌ فَصلٌ» ردًّا على المشركينَ؛ إذ كانوا يَزعُمونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاء يَهزِلُ؛ إذ يخبِرُ بأنَّ الموتى سيَحْيَونَ، يُريدونَ تضليلَ عامَّتِهم حينَ يَسمَعونَ قوارِعَ القُرآنِ وإرشادَه وجَزالةَ مَعانيه، يختَلِقونَ لهم تلك المعاذيرَ؛ لِيَصرِفوهم عن أن يتدَبَّروا القُرآنَ [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/267). .
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14).
أي: وليس القُرآنُ باللَّعِبِ والباطِلِ، بل كُلُّه حَقٌّ وجِدٌّ [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/306)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير الألوسي)) (15/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 152). قال البقاعي: (بِالْهَزْلِ أي: بالضَّعيفِ المَرذولِ الَّذي لا طائِلَ تحتَه، فمِن حَقِّه ما هو عليه الآنَ مِن كَونِه مَهِيبًا في القُلوبِ، مُعَظَّمًا في الصُّدورِ، يرتَفِعُ به قارِئُه وسامِعُه عن أن يُلِمَّ بهَزلٍ، ويَعْلو به في أعيُنِ العامَّةِ والخاصَّةِ). ((نظم الدرر)) (21/384). .
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15).
أي: إنَّ الكافِرينَ المُكَذِّبينَ بالقُرآنِ يَكيدُونَ؛ لِيَدفَعوا بكَيْدِهم الحَقَّ، ويُؤَيِّدوا الباطِلَ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/307)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير ابن عطية)) (5/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/11)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 152، 153). .
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16).
أي: وأنا أَكيدُ بهم كَيدًا عَظيمًا -جزاءَ كَيدِهم-، بإمْهالِهم واسْتِدْراجِهم؛ حتَّى أُهلِكَهم وهم على باطِلِهم، وأُظهِرَ الحَقَّ عليه ولو بعْدَ حِينٍ [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/307)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/384)، ((تفسير العليمي)) (7/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/268). .
كما قال تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور: 42].
وقال سُبحانَه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44-45] .
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17).
أي: فأَمْهِلْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكافِرينَ زَمَنًا قليلًا، ولا تَستَعجِلْ عِقابَهم؛ فإنَّه واقِعٌ بهم -لا محالةَ- في الوَقتِ الَّذي جعَلَه اللهُ مَوعِدًا لهَلاكِهم [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/307)، ((الوسيط)) للواحدي (4/467)، ((تفسير القرطبي)) (20/12)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 108)، ((تفسير ابن كثير)) (8/376)، ((تفسير الألوسي)) (15/312)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/268)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 154). قال ابنُ الجوزي: (قَولُه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا زعَمَ بَعضُهم أنَّه مَنسوخٌ بآيةِ السَّيفِ، وإذا قُلْنا: إنَّه وَعيدٌ، فلا نَسْخَ). ((نواسخ القرآن)) (2/624). ويُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لهبة الله بن سلامة (ص: 196)، ((جمال القراء وكمال الإقراء)) لعلم الدين السخاوي (2/896). وقال ابنُ عثيمين: (في هذه الآيةِ تهديدٌ لقُرَيشٍ، وتَسليةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، ووَعدٌ له بالنَّصرِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 154). !
كما قال تعالى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] .
وقال سُبحانَه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أنَّ القرآنَ يَفْصِلُ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، وهو قاطعٌ لكلِّ مَن ناوأه وعاداه؛ ولهذا نَجِدُ المسلمينَ لَمَّا كانوا يُجاهِدونَ الكُفَّارَ بالقرآنِ نَجِدُهم غَلَبوا الكُفَّارَ، وقَطَعوا دابرَهم، وقُضِيَ بيْنَهم، فلمَّا أَعرَضوا عن القرآنِ هُزِموا وأُذِلُّوا بقَدْرِ بُعْدِهم عن القرآنِ، وكلَّما ابتعَدَ الإنسانُ عن كتابِ اللهِ ابتعَدَتْ عنه العِزَّةُ، وابتعدَ عنه النَّصرُ؛ حتَّى يَرجِعَ إلى كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 152). .
2- في قَولِه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا زجرٌ وتحذيرٌ للقَومِ، وكما أنَّه تحذيرٌ لهم فهو ترغيبٌ في خِلافِ طَريقِهم في الطَّاعاتِ [83] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/124). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ في هذَينِ الحالَينِ إيماءٌ إلى دَليلٍ آخَرَ مِن دَلائلِ إحياءِ النَّاسِ للبَعثِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
2- قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ هذا هو القَسَمُ الثَّاني للسَّماءِ، والقَسَمُ الأوَّلُ ما كان في أوَّلِ السُّورةِ؛ فهناك قال: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ وبيْنَهما مُناسَبةٌ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ الأوَّلَ فيه إشارةٌ إلى الطَّارقِ الَّذي هو النَّجمُ، والنَّجمُ تُرمى به الشَّياطينُ الَّذين يَستَرِقونَ السَّمْعَ، وفي رَمْيِ الشَّياطينِ بذلك حِفْظٌ لكتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، أمَّا هنا فأَقْسَمَ بالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ إنَّ هذا القُرآنَ قَولٌ فَصلٌ، فأقْسَمَ على أنَّ القرآنَ قولٌ فَصلٌ؛ فصار القَسَمُ الأوَّلُ مُناسَبتُه أنَّ فيه الإشارةَ إلى ما يُحْفَظُ به هذا القُرآنُ حالَ إنزالِه، وفي القَسَمِ الثَّاني الإشارةُ إلى أنَّ القرآنَ حياةٌ، يعني يُقالُ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ الرَّجْعُ هو المطرُ، يُسَمَّى رَجْعًا؛ لأنَّه يَرْجِعُ ويَتكَرَّرُ، ومعلومٌ أنَّ المطرَ به حياةُ الأرضِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ الصَّدعُ هو الانشِقاقُ، يعني: التَّشَقُّقَ بخروجِ النَّباتِ منه؛ فأقْسَمَ بالمطرِ الَّذي هو سببُ خروجِ النَّباتِ، وبالتَّشَقُّقِ الَّذي يَخرُجُ منه النَّباتُ، وكلُّه إشارةٌ إلى حياةِ الأرضِ بعْدَ موتِها، والقرآنُ به حياةُ القُلوبِ بعْدَ موتِها، كما قال اللهُ تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] ، فسمَّى اللهُ القرآنَ رُوحًا؛ لأنَّه تحيا به القُلوبُ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 151). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا تأمَّلْ قولَه: يَكِيدُونَ حيثُ أَتَى بصيغةِ الجَمعِ، وَأَكِيدُ حيثُ أَتَى بصيغةِ الإفرادِ؛ فإنَّ كيدَ اللهِ تعالى أعظمُ مِن كيدِ جَميعِ كُيودِهم مهما بلَغَتْ [86] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/180). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ردٌّ على الجَهْميَّةِ في نَفْيِ الصِّفاتِ بالكُلِّيَّةِ، وقد أَخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن نفْسِه بأنَّه يَكِيدُ، بلَفظِ «الكَيدِ» الَّذي أَخبَرَ به عنِ الكائدِين، وهم يُنكِرونه، يَرُدُّون نصَّ القُرآنِ [87] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/509). ! فالكَيدُ والمكرُ والمُخادَعةُ: إيصالُ الشَّرِّ إلى الغَيرِ بطَريقٍ خَفِيٍّ، ولكِنَّ ذلك نَوعانِ: قَبيحٌ، وهو إيصالُ ذلك لِمَن لا يَستَحِقُّه، وحَسَنٌ، وهو إيصالُه إلى مُستَحِقِّه عُقوبةً له؛ فالأوَّلُ مذَمومٌ، والثَّاني ممدوحٌ، والرَّبُّ تعالى إنَّما يَفعَلُ مِن ذلك ما يُحمَدُ عليه عَدلًا منه وحِكمةً، وهو تعالى يأخُذُ الظَّالِمَ والفاجِرَ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ، لا كما يَفعَلُ الظَّلَمةُ بعِبادِه [88] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/171). .
فالله سُبحانَه يَنسُبُ إلى نَفْسِه أحسَنَ هذه المعاني، وما هو منها حِكمةٌ وحَقٌّ وصَوابٌ وجزاءٌ للمُسيءِ، وذلك غايةُ العَدْلِ والحَقِّ؛ كقَولِه تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] ، وقَولِه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ، وقَولِه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ، وقَولِه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وقَولِه: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] ، فهذا منه سُبحانَه فى أعلى مَراتِبِ الحُسْنِ، وإن كان مِنَ العَبدِ قَبيحًا سَيِّئًا؛ لأنَّه ظالِمٌ فيه، ومُوقِعُه بمَن لا يَستَحِقُّه، والرَّبُّ تعالى عادِلٌ فيه، مُوقِعُه بأهلِه ومَن يَستَحِقُّه [89] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/114). .
5- ينقَسِمُ الكيدُ إلى نَوعَينِ: محمودٍ، ومَذمومٍ؛ قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا، وقال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183] ، وقال: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف: 76] ، وإذا عُرِفَ ذلك فلا إشكالَ أنَّه يجوزُ للإنسانِ أنْ يُظْهِرَ قولًا أو فِعْلًا مَقصودُه به مَقصودٌ صالحٌ، وإنْ كان ظاهِرُه خِلافَ ما قَصَدَ به، إذا كانت فيه مَصلحةٌ دينيَّةٌ، مِثلُ دَفْعِ الظُّلمِ عن نفْسِه أو غَيرِه، أو إبطالِ حِيلةٍ مُحرَّمةٍ، وإنَّما المُحَرَّمُ: أنْ يَقصِدَ بالعُقودِ الشَّرعيَّةِ غيرَ ما شَرَعَها اللهُ تعالى ورَسولُه له، فيَصيرُ مُخادِعًا للهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كائدًا لدِينِه، ماكِرًا بشَرْعِه؛ فإنَّ مَقصودَه حُصولُ الشَّيءِ الَّذي حَرَّمَه اللهُ تعالى ورسولُه بتلك الحيلةِ، وإسقاطُ الَّذي أوجبَه بتلك الحيلةِ، وهذا ضِدُّ الَّذي قَبْلَه؛ فإنَّ ذلك مَقصودُه التَّوصُّلُ إلى إظهارِ دِينِ اللهِ تعالى، ودَفْعُ مَعصيتِه، وإبطالُ الظُّلمِ، وإزالةُ المنكَرِ، فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخَرُ [90] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/388). .
6- في قَولِه تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أنَّه لَمَّا كان في المكَذِّبينَ -في عِلْمِ اللهِ- مَن يُؤمِنُ، فليس مُستَحِقًّا لإيقاعِ مِثلِ هذا التَّهديدِ؛ عَبَّرَ بالوَصفِ المقتَضي للرُّسوخِ، فقال: الْكَافِرِينَ، أي: فلا تَدْعُ عليهم، ولا تَستَعجِلْ لهم بالإهلاكِ؛ فإنَّا لا نَعجَلُ؛ لأنَّه لا يَعجَلُ بالعُقوبةِ إلَّا مَن يَخافُ الفَوتَ [91] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/385). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ الجُملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
- وافتُتِحَ الكَلامُ بالقَسَمِ تَحقيقًا لصِدقِ القُرآنِ في الإخْبارِ بالبَعثِ وفي غَيرِ ذلك ممَّا اشتَمَلَ عليه مِن الهُدى؛ ولذلك أُعيدَ القَسَمُ بالسَّماءِ كما أُقسِمَ بها في أوَّلِ السُّورةِ، وذُكِرَ مِن أحوالِ السَّماءِ ما لَه مُناسَبةٌ بالمُقسَمِ عليه، وهو الغَيثُ الَّذي به صَلاحُ النَّاسِ؛ فإنَّ إصلاحَ القُرآنِ للنَّاسِ كإصْلاحِ المَطَرِ، وفي الحديثِ: ((مَثَلُ ما بعَثَني اللهُ به مِن الهُدى والعِلْمِ كمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصاب أرضًا)) [93] أخرجه البخاريُّ (79) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2282) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه. الحديثَ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
- والرَّجْعُ، أي: المَطَرُ، والصَّدْعُ: هو ما تَتصَدَّعُ عنه الأرضُ مِن النَّباتِ، أو مَصدَرٌ مِن المَبنيِّ للمَفعولِ، وهو تَشقُّقُها بالنَّباتِ لا بالعُيونِ كما قيلَ؛ فإنَّ وصْفَ السَّماءِ والأرضِ عندَ الإقْسامِ بهما على حقِّيَّةِ القُرآنِ النَّاطقِ بالبَعثِ بما ذُكِرَ مِن الوَصفَينِ للإيماءِ إلى أنَّهما في أنفُسِهما مِن شَواهِدِه، وهو السِّرُّ في التَّعبيرِ بالصَّدعِ عنه وعن المَطَرِ بالرَّجْعِ، وذلك في تَشقُّقِ الأرضِ بالنَّباتِ المُحاكي للنُّشورِ حَسبَما ذُكِرَ في مَواقِعَ مِن التَّنزيلِ، لا في تَشقُّقِها بالعُيونِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/142). .
- وأيضًا في اسمِ (الرَّجْعِ) مُناسَبةٌ لمَعْنى البَعثِ في قولِه: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 8] ، وفي مُسمَّى (الرَّجْعِ) -وهو المَطَرُ المُعاقِبُ لمَطَرٍ آخَرَ- مُناسَبةٌ لمَعنى الرَّجْعِ البَعثِ؛ فإنَّ البَعثَ حياةٌ مُعاقَبةٌ بحياةٍ سابِقةٍ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
- وعُطِفَتْ الأرضُ في القَسَمِ؛ لأنَّ بذِكرِ الأرضِ إتْمامَ المُناسَبةِ بيْنَ المُقسَمِ والمُقسَمِ عليه [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/266). .
- قولُه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فيه الإخْبارُ بالمَصدرِ للمُبالَغةِ، أي: إنَّه لقَولٌ فاصِلٌ بيْنَ الحقِّ والباطِلِ، مبالِغٌ في ذلك كأنَّه نفْسُ الفَصلِ [98] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/267). .
- بعدَ أنْ أثنَى الله سبحانَه وتعالى على القرآنِ بقولِه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، عطَف عليه قولَه: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ، ووجهُ ذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَزعُمون أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ يَهزِلُ؛ إذ يُخبِرُ بأنَّ المَوتى سيَحيَون، فردَّ الله سبحانَه عليهم؛ فالهَزْلُ على هذا الوَجْهِ هو ضِدُّ الجِدِّ، أي: المَزْحُ واللَّعِبُ، ومِثلُ هذه الصِّفةِ إذا وَرَدَتْ في الكَلامِ البَليغِ لا مَحمَلَ لها إلَّا إرادةُ التَّعريضِ، وإلَّا كانتْ تَقصيرًا في المَدْحِ، لا سِيَّما إذا سَبَقَتْها مَحمَدةٌ مِن المَحامِدِ العَظيمةِ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/267). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
- قولُه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا استِئنافٌ بَيانيٌّ يُنبِئُ عن سُؤالِ سائِلٍ يَعجَبُ مِن إعْراضِهم عن القُرآنِ معَ أنَّه قولٌ فَصلٌ، ويَعجَبُ مِن مَعاذيرِهم الباطِلةِ، مِثلَ قولِهم: هو هَزْلٌ أو هَذَيانٌ أو سِحرٌ، فبيَّنَ للسَّامِعِ أنَّ عَمَلَهم ذلك كَيدٌ مَقصودٌ؛ فَهُم يَتَظاهَرون بأنَّهم ما يَصرِفُهم عن التَّصديقِ بالقُرآنِ إلَّا ما تَحقَّقوه مِن عدَمِ صِدْقِه، وهُم إنَّما يَصرِفُهم عن الإيمانِ به الحِفاظُ على سِيادتِهم، فيُضلِّلون عامَّتهم بتلك التَّعِلَّاتِ المُلفَّقةِ. والتَّأكيدُ بـ (إِنَّ) لتَحقيقِ هذا الخَبَرِ؛ لغَرابتِه، وعليه فقَولُه: وَأَكِيدُ كَيْدًا تَتْميمٌ [100] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). وإدْماجٌ [101] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، وإنْذارٌ لهم حِينَ يَسمَعونه [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/267). . أو هو كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للإجابةِ عن سُؤالٍ نَشَأَ مِن فَحوى الكلامِ؛ كأنَّه قيلَ: وماذا تَتَسمَّى مُكابَرتُهم وعِنادُهم؟ فقيلَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [103] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/443). .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا مُوَجَّهًا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تَسلِيةً له على أقوالِهم في القُرآنِ الرَّاجِعةِ إلى تَكذيبِ مَن جاءَ بالقُرآنِ، أي: إنَّما يَدَّعون أنَّه هَزْلٌ لقَصدِ الكَيدِ، وليس لأنَّهم يَحسَبونك كاذِبًا. وجُملةُ وَأَكِيدُ كَيْدًا تَثبيتٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووَعدٌ بالنَّصرِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/267، 268). .
- قولُه: كَيْدًا في المَوضِعَينِ مَفعولٌ مُطلَقٌ مُؤكِّدٌ لعامِلِه، وقُصِدَ منه مع التَّوكِيدِ تَنوينُ تَنكيرِه الدَّالِّ على التَّعظيمِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/268). .
- قولُه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا الفاءُ لتَفريعِ الأمرِ بالإمْهالِ على مَجموعِ الكَلامِ السَّابقِ مِن قَولِه: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] بما فيه مِن تَصريحٍ وتَعريضٍ وتَبيينٍ ووَعْدٍ بالنَّصرِ، أي: فلا تَستعجِلْ لهم بطَلَبِ إنْزالِ العِقابِ؛ فإنَّه واقِعٌ بهم لا مَحالةَ [106] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/268)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/443). .
- والتَّمهيلُ: مَصدرُ مَهَّلَ، بمَعنى: أمْهَلَ، وهو الإنْظارُ إلى وَقتٍ مُعيَّنٍ أو غَيرِ مُعيَّنٍ؛ فالجَمعُ بيْنَ (مَهَّلَ) وأَمْهِلْهُمْ؛ للتَّأكيدِ؛ لقَصدِ زِيادةِ التَّسكينِ والتَّصبيرِ، وخولِفَ بيْنَ الفِعلَينِ في التَّعدِيةِ مَرَّةً بالتَّضعيفِ وأُخْرى بالهَمزِ؛ لتَحسينِ التَّكريرِ، وطَلَبًا للخِفَّةِ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/737)، ((تفسير البيضاوي)) (5/304)، ((تفسير أبي السعود)) (9/142)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 606)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/268)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/443). . فلَمَّا كرَّرَ الأمرَ تَوكيدًا خالَفَ بيْن اللَّفظَينِ -فَمَهِّلِ وأَمْهِلْهُمْ- على أنَّ الأوَّلَ مُطلَقٌ، وهذا الثَّاني مُقيَّدٌ بقولِه: رُوَيْدًا [108] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/453). .
- والمُرادُ بالكافِرينَ في قولِه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا: ما عادَ عليْه ضَميرُ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [الطارق: 15] ؛ فهو إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ؛ للنِّداءِ عليْهم بمَذمَّةِ الكُفرِ، فليس المُرادُ جَميعَ الكافِرين، بل أُريدَ الكافِرون المَعْهودون [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/268). .
- وقولُه: رُوَيْدًا مَصدَرٌ مُؤكِّدٌ لفِعلِ أَمْهِلْهُمْ، فقد أكَّدَ قولَه: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ مَرَّتَينِ، والمَعنى: انتَظِرْ ما سيَحُلُّ بهم، ولا تَستَعجِلْ لهم؛ انتِظارَ تَربُّصٍ واتِّيادٍ، فيَكونُ رُوَيْدًا كِنايةً عن تَحقُّقِ ما يَحُلُّ بهم مِن العِقابِ؛ لأنَّ المُطمَئنَّ لحُصولِ شَيءٍ لا يَستعجِلُ به. وتَصغيرُ رُوَيْدًا؛ للدَّلالةِ على التَّقليلِ، أي: مُهلةً غَيرَ طَويلةٍ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/269). .
ويَجوزُ أنْ يَكونَ رُوَيْدًا هُنا اسمَ فِعلٍ للأَمرِ، كما في قَولِهم: رُوَيدَك؛ لأنَّ اقتِرانَه بكافِ الخِطابِ إذا أُريدَ به اسمُ الفِعلِ ليس شَرطًا، ويَكونَ الوَقفُ على قولِه: الْكَافِرِينَ، ورُوَيْدًا كلامًا مُستقِلًّا؛ فليس وُجودُ فِعلٍ مِن مَعْناه قبْلَه بدَليلٍ على أنَّه مُرادٌ به المَصدَرُ، أي: تَصبَّرْ ولا تَستَعجِلْ نُزولَ العَذابِ بهم، فيَكونَ كِنايةً عن الوَعدِ بأنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/269). .