موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (73-74)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

وَاغْلُظْ: أي: اشْدُدْ، وأصلُ (غلظ): يدلُّ على ضِدِّ الرِّقَّةِ .
ومَأْوَاهُمُ: أي: ومصيرُهم، ومثواهم ومقامُهم، ومسكنُهم ومكثُهم، أو مرجعُهم الذي يَعُودون إليه، والمَأْوى: مَكَانُ كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، وأصْلُه: التَّجمُّع .
نَقَمُوا: أي: كَرِهوا وأنكَروا، وأصلُ (نقم): يدلُّ على إنكارِ شَيءٍ وعَيبِه .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يجاهِدَ الكفَّارَ والمُنافِقينَ، وأن يَشدُدَ عليهم بالقَولِ والفِعلِ، ومصيرُهم في الآخرةِ نارُ جهنَّم، وبِئس المكانُ الذي صاروا إليه.
ويخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ يَحلِفونَ باللهِ كَذِبًا على أنَّهم لم يتفوَّهوا بكلمةِ الكُفرِ، ولم يَقولوها، ولقد قالوها، وكَفَروا بعد إسلامِهم، وهمُّوا بما لم يستطيعوا الوصولَ إليه، وما عابُوا وما أنكَروا إلَّا أنْ أغناهم اللهُ ورسولُه مِن فَضلِه، فإن يتوبوا من نفاقِهم وكُفرِهم، يكُن ذلك خيرًا لهم، وإن يُعرِضوا عن الإيمانِ والتَّوبةِ يُعذِّبْهم اللهُ عذابًا مُوجِعًا في الدُّنيا والآخرةِ، وما لهم من وليٍّ يُحصِّلُ لهم الخيرَ، ولا نصيرٍ يدفَعُ عنهم الشرَّ.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثبَتَت مُوالاةُ المُؤمِنينَ ومُقاطَعتُهم للمُنافِقينَ والكافرينَ، وكان ما مضى من التَّرغيبِ والتَّرهيبِ كافيًا في الإنابةِ، وكان مَن لم يرجِعْ بذلك عظيمَ الطُّغيانِ، غَريقًا في الكُفرانِ- أتبَعَ ذلك الأمرَ بجِهادِهم بما يليقُ بعِنادِهم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ.
أي: يا أيُّها النبيُّ جاهدِ الكُفَّارَ المُحاربينَ، بالسِّلاحِ، وجاهِدْ غيرَ المحاربينَ مِنهم بالحُجَّةِ، وجاهِدِ المنافقينَ بالسِّلاحِ إنْ أظهَروا نفاقَهم، وبالحُجَّةِ لِرَدِّ شُبُهاتِهم، وبإقامةِ الحُدودِ على من يقَعُ فيها منهم .
كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال: 65] .
وقال عز وجل: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] .
وقال تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60-61] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نبيٍّ بعَثَه اللهُ في أمَّةٍ قبلي إلَّا كان له مِن أمَّتِه حواريُّونَ وأصحابٌ، يأخُذونَ بسُنَّتِه، ويَقتَدونَ بأمْرِه، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بعدِهم خُلوفٌ ، يقولونَ ما لا يَفعلونَ، ويَفعلونَ ما لا يُؤمَرونَ، فمن جاهَدَهم بِيَدِه فهو مؤمِنٌ، ومن جاهَدَهم بلسانِه فهو مؤمِنٌ، ومن جاهَدَهم بقَلبِه فهو مُؤمِنٌ، وليس وراءَ ذلك من الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ )) .
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
أي: واشدُدْ- يا محمَّدُ- بالقَولِ والفِعلِ على الكفَّارِ والمُنافِقينَ .
كما قال تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ يهوديًّا رضَّ رأسَ جاريةٍ بين حَجَرين،ِ فقيل لها: مَن فعلَ بك هذا؟ أفلانٌ أو فلانٌ، حتى سُمِّيَ اليهوديُّ، فأُتيَ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يزَلْ به حتى أقَرَّ به، فرَضَّ رأسَه بالحِجارةِ)) .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَدِمَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفَرٌ مِن عُكْلٍ، فأسلَموا، فاجتَوَوُا المدينةَ ، فأمَرَهم أن يأتوا إبِلَ الصَّدَقةِ، فيَشرَبوا مِن أبوالِها وألبانِها، ففَعَلوا فصَحُّوا، فارتَدُّوا وقَتَلوا رُعاتَها، واسْتاقُوا الإبِلَ، فبعَثَ في آثارِهم، فأُتيَ بهم، فقطَعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعيُنَهم ، ثمَّ لم يَحسِمْهم حتى ماتوا )) .
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
مناسبتُها لما قبلَها:
 لَمَّا ذكر اللهُ تعالى عذابَهم في الدُّنيا بالجهادِ والغِلظةِ؛ ذكَرَ عذابَهم في الآخرةِ، فقال :
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: ومَقَرُّ الكفَّارِ والمُنافِقينَ في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ لا يَخرُجونَ منها، وبِئسَ المكانُ الذي صاروا إليه .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66] .
يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74).
مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذه الآيةَ بيانٌ للسَّبَبِ المقتَضي لجهادِ المُنافِقينَ كالكُفَّار، وهو أنَّهم أظهَروا الكُفرَ بالقَولِ، وهمُّوا بشَرِّ ما يُغري به مِن الفِعلِ، وهو الفَتكُ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وأيضًا لَمَّا كان معظَمُ ما أُخِذَ على المُنافِقينَ هو كَلِماتٍ دالَّةً على الطَّعنِ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونحو ذلك من دلائِلِ الكُفرِ، وكانوا إذا نُقِلَ ذلك عنهم تنصَّلوا منه بالأيمانِ الكاذبةِ- عُقِّبَت آيةُ الأمرِ بجِهادِهم بالتَّنبيهِ على أنَّ ما يتنَصَّلونَ به تَنصُّلٌ كاذِبٌ، وأنْ لا ثِقةَ بحَلِفِهم، وعلى إثباتِ أنَّهم قالوا ما هو صريحٌ في كُفرِهم .
يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ.
أي: يحلِفُ المنافِقونَ بالله كَذِبًا على أنَّهم لم يتفوَّهوا بكَلِمةِ الكُفرِ، كسَبِّ النبيِّ، والطَّعنِ في الدِّينِ، ولقَدْ نطَقوا بكلمةِ الكُفرِ التي يُنكِرونَ قَولَها .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ظِلِّ حُجرةٍ مِن حُجَرِه وعنده نفَرٌ من المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بِعَينَي شَيطانٍ، فإذا أتاكم فلا تكَلِّموه، فجاء رجلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّمَه، قال: علامَ تَشتِمني أنت وفلانٌ وفلانٌ- نفَرٌ دعاهم بأسمائِهم- قال: فذهَبَ الرَّجُلُ فدعاهم فحَلَفوا بالله واعتَذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18] )) .
وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ.
أي: وأظهَرَ المُنافِقونَ كُفرَهم بما قالوه من الكُفرِ، بعد أن كانوا يُظهِرونَ الإسلامَ .
وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ.
أي: وهمَّ المُنافِقونَ أن يفعلوا من الشَّرِّ والفَتْكِ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين رجَعَ مِن غزوةِ تَبوكَ، ما لم يستطيعوا الوصولَ إليه؛ إذ عصَمَه اللهُ تعالى منهم .
وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ.
أي: والحالُ أنَّ المُنافِقينَ ما عابُوا وما أنكَرُوا إلَّا ما هو جديرٌ حقًّا بالمَدحِ والشُّكرِ والثَّناءِ، وهو إغناءُ اللهِ لهم مِن فَضلِه بسبَبِ رَسولِه، وبركةِ رسالَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد أن كانوا فُقَراءَ !
عن عبدِ اللهِ بنِ زَيدِ بنِ عاصمٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا أفاء اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ، قسَمَ في النَّاسِ؛ في المؤلَّفةِ قُلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شَيئًا، فكأنَّهم وجَدوا إذ لم يُصِبْهم ما أصابَ النَّاس، فخَطَبَهم فقال: يا معشَرَ الأنصارِ، ألَمْ أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وكُنتُم متفرِّقينَ فألَّفَكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي؟! )) .
فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ.
أي: فإن يتُبِ المُنافِقونَ مِن نِفاقِهم وكُفرِهم، يكُنْ رُجوعُهم إلى الحَقِّ خَيرًا لهم في دينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم .
كما قال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد: 21] .
وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
أي: وإن يُعرِضِ المُنافِقونَ عن الإيمانِ والتَّوبةِ، ويستَمِرُّوا على النِّفاقِ؛ يعذِّبْهم اللهُ عذابًا مُؤلِمًا في الدُّنيا- بالهَمِّ والحُزنِ والخِزيِ، وبالقَتلِ إن أظهَروا نِفاقَهم- ويُعَذِّبْهم في الآخرةِ بعذابِ النَّارِ .
وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ.
أي: وما للمُنافِقينَ في الأرضِ كُلِّها أيُّ ولِيٍّ يتولَّاهم، ويُحصِّلُ لهم الخيرَ، ولا أيُّ نَصيرٍ ينصُرُهم ويدفَعُ عنهم الشَّرَّ .

الفوائد التربوية:

1- كلُّ من وُقِفَ منه على فسادٍ في العقائدِ، فحُكمُه أن يُجاهَدَ بالحُجَّةِ، ويُستعمَلَ معه الغِلَظُ ما أمكَنَ؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] .
2- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فالحجَّةُ على المنافِقِ جِهادٌ لهم، وعلى هذا، فالاحتجاجُ على المُنافِقينَ والمُلحِدينَ، والرَّادِّينَ للكِتابِ والسنَّةِ، والمُخالفينَ لهما؛ من الجِهادِ .
3- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ جِهادُ المنافقينَ أصعَبُ مِن جهادِ الكفَّارِ، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّةِ، ووَرَثةِ الرُّسُلِ، والقائِمونَ به أفرادٌ في العالَم، والمُشارِكونَ فيه والمُعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلِّينَ عددًا، فهم الأعظَمونَ عند اللهِ قَدْرًا .
4- قَولُه تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ هذه الغِلْظةُ الإراديَّةُ (أي غيرُ الطَّبيعيَّةِ) تربيةٌ للمُنافِقينَ وعقوبةٌ، يُرجى أن تكونَ سببًا لهدايةِ مَن لم يُطبَعِ الكُفرُ على قَلبِه، وتُحِطْ به خطايا نفاقِه .
5- التوبةُ أصلٌ لسَعادةِ الدُّنيا والآخرةِ؛ قال اللهُ تعالى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ .
6- مَن خذَلَه اللهُ تعالى وآذَنَه بحَربٍ منه، لا يَقدِر أحَدٌ أن يُجيرَه منه؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُه تعالى: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قرَنَ المُنافقينَ هنا بالكُفَّار؛ تنبيهًا على أنَّ سبَبَ الأمرِ بجِهادِ الكُفَّارِ قد تحقَّقَ في المُنافِقينَ، فجِهادُهم كجِهادِ الكفَّارِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ استدَلَّ به من قال بقَتلِ المُنافِقينَ .
3- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا أي: ما وقَعَ منهم قَولٌ، فقصَرَ الفِعلَ تَعميمًا للمَفعول؛ِ إعلامًا بأنَّهم مهما عُنِّفُوا على قولٍ كائنًا ما كان، بادَرُوا إلى الحَلِف على نَفيِه كذِبًا؛ لأنَّهم مَرَدوا على النِّفاقِ، فتطَبَّعوا بأعلى الكَذِبِ .
4- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فيه أنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ التكفيرَ يقَعُ بما يدُلُّ على الكُفرِ مِن قائِلِه أو فاعِلِه، دَلالةً بيِّنةً، وإنْ لم يكُن أعلَنَ الكُفرَ .
6- قَولُه تعالى: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فقال: بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ولم يقُل: (بعد إيمانهم) لأنَّ ذلك لم يتجاوَزْ ألسِنَتَهم .
7- قيل للبَجليِّ : أتجِدُ في كتابِ اللهِ تعالى (اتَّقِ شَرَّ مَن أحسَنْتَ إليه؟) قال نعم: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ عُطِفَ الرَّسولُ على اسمِ الجلالةِ في فِعلِ الإغناءِ؛ لأنَّه السَّببُ الظَّاهِرُ المُباشِرُ .
9- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فيه دليلٌ على قَبولِ تَوبةِ الزِّنديقِ المُسِرِّ للكُفرِ المُظهِر للإيمانِ ، وقَبولِ تَوبةِ مَن كفَرَ بعد إسلامِه .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
قولُه: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جُمْلةٌ مُسْتأنَفةٌ لبيانِ آجِلِ أَمْرِهم إِثْرَ بيانِ عاجِلِه .
وقولُه: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييلٌ لِمَا قَبْلَه .
2- قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ اسْتِئنافٌ لبيانِ ما صَدَرَ عنهم مِنَ الجرائمِ المُوجِبةِ لِمَّا مَرَّ مِنَ الأمرِ بالجِهادِ والغِلْظةِ عليهم، ودُخولِ جَهنَّمَ .
وإيثارُ صيغةِ الاسْتِقبالِ يَحْلِفُونَ؛ لاسْتِحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على تَكريرِ الحَلِفَ، وإيثارُ صِيغةِ الجَمْعِ في قَالُوا مَعَ أنَّ القائلَ هو بعضُهم؛ للإيذانِ بأنَّ بَقِيَّتَهم برِضاهُم صَارُوا بمَنْزلةِ القائلِ .
وأكَّدَ صُدورَ كَلِمةِ الكُفْرِ منهم بصِيغةِ القَسَمِ وَلَقَدْ قَالُوا في مُقابَلةِ تأكيدِهم نَفْيَ صُدورِها؛ ليكونَ تَكذيبُ قولِهم مُساويًا لقولِهم في التَّأكيدِ .
قولُه: إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ اسْتِثناءٌ تَهكُّميٌّ، وهو مِنْ تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، ونُكْتَتُه أنَّ المُتكلِّمَ يَظْهَرُ كأنَّه يَبْحَثُ عَنْ شيءٍ يَنْقُضُ حُكْمَه الخَبَريَّ ونَحْوَه، فيَذْكُرُ شيئًا هو مِنْ مؤكِّدات الحُكْمِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه اسْتَقصى فلم يَجِدْ ما يَنْقُضُه .
قولُه: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ... فيه مجِيءُ الفِعْلِ يَكُ في جَوابِ الشَّرطِ دَونَ أنْ يُقالَ: (فإنْ يَتوبوا فهو خَيرٌ لَهُمْ)؛ لتَأكيدِ وقوعِ الخيرِ عِنْدَ التَّوبةِ، والإيماءِ إلى أنَّه لا يَحْصُلُ الخيرُ إلَّا عِنْدَ التَّوبةِ؛ لأنَّ فِعْلَ التَّكوينِ مُؤذِنٌ بذلك .
وقَولُ اللهِ تعالى: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ خصَّصَ الأرضَ بالذِّكرِ، مع أنَّهم لا ولِيَّ لهم في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا لا يعتَقِدونَ الوحدانيَّةَ، ولا يصَدِّقونَ بالآخرةِ، كان اعتقادُهم وجودَ الوَليِّ والنَّصيرِ مقصورًا على الدُّنيا، فعبَّرَ عنها بـ فِي الْأَرْضِ، أو أراد بالأرضِ أرضَ الدُّنيا والآخرةِ .