موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (75-78)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ

غريب الكلمات:

فَأَعْقَبَهُمْ: أي: أورَثَهم، وأصلُ (عقب): يدلُّ على تأخيرِ شيءٍ، وإتيانِه بعدَ غيرِه .
وَنَجْوَاهُمْ: أي: حَديثَهم بينهم، وأصلُ (نجو): يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ مَن عاهد اللهَ لَئِن رزَقَهم مِن فَضلِه لَيُخرِجَنَّ الصَّدقةَ، ولَيكونَنَّ من الصَّالحينَ الذين يؤدُّونَ حَقَّ اللهِ وحَقَّ عِبادِه، فلمَّا رزَقَهم اللهُ مِن فَضلِه بَخِلوا به، وتوَلَّوا عن طاعةِ اللهِ تعالى، والوفاءِ بِعَهدِه، مُعرِضينَ ومُنصَرفينَ عن ذلك، فجعل اللهُ عاقبةَ ذلك نِفاقًا في قلوبِهم، يستمِرُّ معهم إلى يومِ يُتوَفَّونَ ويَلقَونَ اللهَ؛ بسبَبِ إخلافِهم اللهَ ما وَعَدوه، وبسببِ كَذِبِهم في كلامِهم.
ألم يعلَمْ هؤلاءِ المُنافِقونَ أنَّ الله يعلمُ ما يُخفونَه وما يتَناجَونَ به، وأنَّه تعالى علَّامٌ لِجَميعِ ما غابَ عن حواسِّ خَلْقِه.

تفسير الآيات:

وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ختم الله تعالى الآية السابقة بأنَّه أغناهم من فضلِه؛ أتبَعَها بإقامةِ الدَّليلِ عليها، وعلى أنَّهم يَقبِضونَ أيديَهم، وعلى اجترائِهم على أقبَحِ الكَذِبِ، فقال تعالى :
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ .
أي: ومِن المُنافِقينَ من أعطى اللهَ عَهدًا بقَولِه: واللهِ لَئِن رَزَقَنا اللهُ مِن فَضلِه، لنُخرِجَنَّ الصَّدَقةَ ممَّا أعطانا .
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: ولَنكونَنَّ- إن بسَطَ اللهُ علينا الرِّزقَ- من جملةِ الصَّالحينَ الذين يؤدُّونَ حَقَّ اللهِ وحَقَّ عبادِه .
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76).
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ.
أي: فلمَّا رزَقَهم اللهُ وأعطاهم مِن فَضلِه بَخِلوا بما آتاهم، فلم يُنْفِقوا منه في حقِّ الله، ولم يتصدَّقوا بشيءٍ منه، كما حلَفوا .
وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ.
أي: وأدبَرُوا عن طاعةِ اللهِ تعالى والوفاءِ بِعَهدِه، مُعرِضينَ ومُنصَرفينَ عن ذلك .
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77).
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ.
أي: فجعل اللهُ عاقبةَ أمرِهِم نِفاقًا كائنًا في قلوبِهم، متمكِّنًا منها، مستمرًّا فيها إلى يومِ يلقون الله تعالى، بموتِهم، وخروجِهم مِن الدُّنيا .
بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ.
أي: فجعل اللهُ في قلوبِهم النِّفاقَ، وحَرَمَهم التوبةَ منه؛ بسبَبِ إخلافِهم ما عاهدوا اللهَ عليه، مِن الصَّدَقةِ والصَّلاحِ؛ ولأنَّهم كانوا يَكذِبونَ في كلامِهم وعهدهم .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِن النِّفاقِ حتى يدَعَها: إذا اؤتُمِنَ خان، وإذا حدَّثَ كَذَب، وإذا عاهَد غَدَر، وإذا خاصَم فَجَر )) .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت المُعاهَدةُ سَببًا للإغناءِ في الظَّاهرِ، وكان ذلك ربَّما كان مَظِنَّةً لأنْ يتوهَّمَ مَن لا عِلمَ له أنَّ ذلك لخفاءِ أمرِ البَواطِنِ عليه سُبحانه، وكان الحُكمُ هنا واردًا على القَلبِ بالنِّفاقِ الذي هو أقبَحُ الأخلاقِ، مع عدمِ القُدرةِ لِصاحِبِه على التخلُّصِ منه، كان ذلك أدَلَّ دَليلٍ على أنَّه تعالى أعلَمُ بما في كلِّ قَلبٍ مِن صاحِبِ ذلك القَلبِ، فعَقَّبَ ذلك بالإنكارِ على مَن لا يعلَمُ ذلك، والتَّوبيخِ له والتَّقريعِ، فقال تعالى :
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.
أي: ألم يعلَمِ المُنافِقونَ الذين يُبطِنونَ الكُفرَ، ويُظهرونَ الإسلامَ، أنَّ اللهَ يعلَمُ ما يُخفونَه مِن الكُفرِ والنِّفاقِ، ويَعلَمُ ما يتناجَونَ به فيما بينهم مِن الطَّعنِ في الإسلامِ والمُسلِمينَ، وسيُجازيهم على أعمالِهم ؟!
وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.
أي: ألم يعلَمِ المُنافِقونَ أنَّ اللهَ يعلَمُ جَميعَ ما غاب عن حواسِّ خَلْقِه، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن المغيَّباتِ ؟!

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ظاهِرُ هذه الآيةِ يدُلُّ على أن نَقضَ العَهدِ، وخُلفَ الوَعدِ يُورِثانِ النِّفاقَ، فيجِبُ على المُسلمِ أن يُبالِغَ في الاحترازِ عنهما، فإذا عاهدَ اللهَ في أمرٍ، فليجتَهِدْ في الوَفاءِ به .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فيه دَلالةٌ على وُجوبِ الحَذَرِ مِن إحداثِ الأفعالِ الذَّميمةِ؛ فإنَّها تُفسِدُ الأخلاقَ الصَّالحةَ، ويزدادُ الفَسادُ تمكُّنًا مِن النَّفسِ بطبيعةِ التولُّدِ الذي هو ناموسُ الوُجودِ .
3- قال الله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ هذا بيانٌ عما يُوجِبُه الكَذِبُ مع إخلافِ الوعدِ مِن النِّفاقِ، فمن أخلَفَ في المواثيقِ مع اللهِ، فقد تعرَّضَ للنِّفاقِ، وكان جزاؤُه مِن اللهِ إفسادَ قلْبِه بما يُكسِبُه النِّفاقَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أعاد اللَّامَ الواقعةَ في جوابِ القَسَمِ في (لنكُوننَّ)؛ لتأكيدِ العَزمِ على الاستعانةِ، والتوسُّلِ بفَضلِ المالِ إلى الاستقامةِ على منهجِ الصَّلاحِ، بما هو وراءَ الصَّدَقاتِ، التي عقَدُوا العَهدَ والقَسَمَ عليها .
2- دلَّ قولُه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ على صِحَّةِ تَعليقِ النَّذرِ بالمِلْكِ، مِثلُ قَولِ القائل: إنْ رزَقَني اللهُ مالًا فلِلَّه عليَّ أنْ أتصدَّقَ به أو بشيءٍ منه، فهذا يصِحُّ اتِّفاقًا .
3- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فيه أنَّ إخلافَ الوَعدِ والكَذِبَ، مِن خِصالِ النِّفاقِ، فيكونُ الوفاءُ والصِّدقُ مِن شُعَبِ الإيمانِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فيه المعاقبةُ على الذَّنبِ بما هو أشَدُّ منه .
5- قَولُ الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ استدلَّ به قومٌ على أنَّ مَن حلَفَ إن فعَلَ كذا، فللَّهِ عليَّ كذا، أنَّه يلزَمُه .
6- قولُه تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ النِّفاقُ إذا كان في القَلبِ، فهو الكُفرُ، فأمَّا إذا كان في الأعمالِ فهو معصيةٌ، قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها إذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّث كَذَب، وإذا عاهدَ غَدَرَ ، وإذا خاصَم فَجَرَ )) .
7- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ عُطِفَت النَّجوى على السِّرِّ مع أنَّه أعَمُّ منها؛ لينبِّئَهم باطِّلاعِه على ما يتناجَونَ به من الكيدِ والطَّعنِ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
قولُه: وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ عبَّرَ عَنْ كَذِبِهِم بصيغةِ كَانُوا يَكْذِبُونَ لدَلالةِ كَانَ على أنَّ الكَذِبَ كائنٌ فيهم، ومُتمكِّنٌ منهم، ودَلالةِ المُضارِعِ يَكْذِبونَ على تَكرُّرِهِ وتَجدُّدِه ، واستمرارِه؛ لأنَّ ذلك شأنُهم الدَّائِمُ، الذي هو أخَصُّ لوازمِ النِّفاقِ، بينما عبَّرَ عن إخلافِهم الوعدَ بالفِعلِ الماضي، فقال: بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ؛ لأنَّه في حادثةٍ وَقَعَت .
2- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اسْتِفهامٌ تَضمَّنَ التَّوبيخَ والتَّقريعَ والتَّهديدَ .
وإظهارُ اسْمِ الجلالةِ اللَّهَ في الموقِعينِ؛ لإلقاءِ الرَّوعةِ، وتَربيةِ المهابةِ .
وفي إيرادِ العِلْمِ المُتعلِّقِ بسِرِّهِم ونجواهُم بصِيغةِ الفِعْلِ أَلَمْ يَعْلَمُوا الدَّالِ على الحُدوثِ والتَّجدُّدِ، والعِلْمِ المُتعلِّقِ بالغُيوبِ الكثيرةِ الدَّائمةِ بصِيغةِ الاسْمِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الدَّالِ على الدَّوامِ والمُبالَغةِ: فخامةٌ وجَزالةٌ لا تَخْفى .
وتَقديمُ السِّرِّ على النَّجوى؛ لأنَّ العِلمَ به أعظَمُ في الشَّاهِدِ مِنَ العِلمِ بها، مع ما في تَقديمِه وتعليقِ العِلمِ به مِن تعجيلِ إدخالِ الرَّوعةِ .