موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (27-29)

ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات :

مُلْتَحَدًا: أي: مَلجأً تَميلُ إليه، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ .
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: الغَداةُ: أوَّلُ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يَدُلُّ على زَمانٍ . والعَشِيُّ: مِنْ زوالِ الشَّمْسِ إلى الصَّباحِ، وآخِرُ النَّهارِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ، وقِلَّةِ وضوحِ الشَّيءِ .
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ: أي: لا تَصرِفْ عَينيك عنهم، ولا تُجاوِزْهم إلى غَيرِهم، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على التَّجاوزِ في الشَّيءِ .
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ: أي: شغَلْنا قلبَه، وجعَلْناه غافلًا، والغفلةُ: سهوٌ يعتري الإنسانَ مِن قلَّةِ التَّحفُّظِ والتَّيقُّظِ. وقيل: المعنى: تركناه غُفْلًا، أي: فارغًا، والغُفْلُ: الشيءُ الفارغُ، والأرضُ الغُفْلُ: التي لا علامةَ بها .
فُرُطًا: أي: سَرَفًا وتَفريطًا وضَياعًا، وهو مِنَ الإفراطِ في الشَّيءِ والتَّجاوُزِ فيه، وقيل: أصلُه مِن التفريطِ، وهو تقديمُ العَجْزِ، فمَن قدَّم العَجْزَ في أمرِه أضاعَه وأهلَكه .
سُرَادِقُهَا: أي: فُسطاطُها وسُورُها، وكُلُّ ما أحاط بشيءٍ واشتمَلَ عليه مِن ثَوبٍ أو حائطٍ، يقالُ له: سُرادِقٌ، وهو فارسيٌّ مُعَرَّب .
كَالْمُهْلِ: المُهلُ: ما انتهى حَرُّه مِمَّا أُذِيبَ من النُّحاس والرَّصاصِ وأشباهِ ذلك، أو عَكَرُ الزَّيتِ، وأصلُ (مهل): يدل على جِنسٍ مِن الذَّائباتِ .
مُرْتَفَقًا: أي: مَنزِلًا، ومَقرًّا يُعَدُّ للارتفاقِ والانتفاعِ، أو مجلسًا، وأصلُ الارتفاقِ: الاتكاءُ على المِرْفقِ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عنفٍ، ويُشتَقُّ منه كلُّ شيءٍ يَدْعو إلى راحةٍ وموافَقَةٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: واقرأْ -يا مُحمَّدُ- ما أوحاه اللهُ إليك من القُرآنِ، وبلِّغْه للناسِ، واتَّبِعْه؛ فإنَّه لا يستطيعُ أحَدٌ أن يُبدِّلَ كَلِماتِ اللهِ؛ ولن تجِدَ مِن دونِ رَبِّك مَلجأً تلجأُ إليه إن أنت لم تَتلُ القرآنَ وتتَّبِعْه وتبلِّغْه.
ثم يرشدُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أحدِ الآدابِ المهمةِ، فيقولُ: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم وحدَه، ويَدْعُونَه أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه مُخلِصينَ في عبادتِه، ولا تَصرِفْ نَظَرَك عنهم إلى غَيرِهم مِن الكُفَّارِ مِن أهلِ الغنَى والجاهِ؛ راغبًا في مجالستِهم، ولا تُطِعْ مَن جعَلْنا قلبَه غافِلًا عن ذِكرِنا، وآثَرَ هواه، وصار أمرُه في جميعِ أعمالِه ضَياعًا وسَفَهًا وتفريطًا.
ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجهرَ بكلمةِ الحقِّ، فيقولُ تعالى: وقُلْ لهؤلاء الغافلينَ: ما جئتُكم به هو الحَقُّ مِن رَبِّكم، فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا، إنا أعدَدْنا للكافرينَ نارًا شديدةً أحاط بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، وإنْ يَستَغِثْ هؤلاء الكُفَّارُ في النَّارِ بطَلَبِ الماءِ مِن شِدَّةِ عطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ أسودَ شَديدِ الحرارةِ يَشوي وجوهَهم، قَبُحَ هذا الشرابُ الذي يُؤتَونَ به، وقَبُحَت النَّارُ مَنزِلًا لهم ومُقامًا!

تفسير الآيات:

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أنزَل اللهُ تعالى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أنزَل مِن قِصَّةِ أهل الكهفِ؛ أمَرَه بأن يقُصَّ ويتلوَ على معاصريه ما أوحَى إليه تعالى مِن كتابِه في قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ وفي غيرِهم .
وأيضًا لَمَّا دلَّ اشتمالُ القُرآنِ على قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ، مِن حيث إنَّها من المُغَيَّباتِ بالإضافةِ إلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنَّه وحيٌ مُعجِزٌ؛ أمَرَه أن يداوِمَ دَرسَه، ويلازِمَ أصحابَه .
وأيضًا لَمَّا أخبَر الله تعالى أنَّ له غيبَ السَّمواتِ والأرضِ، فليس لمخلوقٍ إليها طريقٌ إلَّا عن الطريقِ التي يخبِرُ بها عبادَه، وكان هذا القرآنُ قد اشتملَ على كثيرٍ مِن الغيوبِ؛ أمر تعالى بالإقبالِ عليه، فقال :
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ.
أي: واقرأ -يا محمَّدُ- ما أوحَى اللهُ إليك مِن القرآنِ، وأبلِغْه إلى النَّاسِ، واتَّبِعْه بتصديقِ أخبارِه والعَمَلِ بما فيه، بامتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه .
كما قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: 106] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل: 91- 92] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] .
وقال جلَّ جلالُه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.
أي: لا أحدَ يَستطيعُ أن يغيِّرَ كَلِماتِ الله الشرعيةَ، فيُحَرِّفَ القرآنَ بتغييرِ أخبارِه، وتبديلِ أحكامِه، أو صرفِها عن معانيها الصَّحيحةِ ، ولا أن يُغيِّرَ كَلِماتِه الكونيةَ .
كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس: 15] .
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.
أي: ولن تَجِدَ -يا مُحمَّدُ- مِن دونِ اللهِ مَلجأً تَهرُبُ إليه، وتحتمي به مِن العذابِ، إن أنتَ لم تتلُ القُرآنَ فتَتَّبِعْه وتُبَلِّغْه .
كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 22] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28).
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
أي: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، ويَدْعونَه ويَذكُرونَه مُخلِصينَ له في ذلك .
كما قال تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّةَ نَفَرٍ، فقال المُشرِكونَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اطرُدْ هؤلاء لا يَجتَرِئونَ علينا! قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ، ورجلٌ مِن هُذَيل، وبِلالٌ، ورجلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقع في نفسِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاء اللهُ أن يقعَ، فحدَّث نفسَه، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] )) .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَأنْ أقعُدَ مع قَومٍ يَذكُرونَ اللهَ تعالى مِن صَلاةِ الغَداةِ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً مِن ولَدِ إسماعيلَ، ولَأنْ أقعُدَ مع قومٍ يَذكُرونَ اللهَ مِن صلاةِ العَصرِ إلى أن تَغرُبَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً )) .
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: ولا تَصرِفْ عينَيك -يا مُحمَّدُ- عن الذين يَعبُدونَ رَبَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ؛ لرثاثةِ هيئتِهم وزِيِّهم، مُحتَقِرًا لهم، فتَتجاوزَهم إلى أهلِ الشَّرَفِ والجاهِ، والغنَى والثروةِ، طامحًا إلى مُجالَستِهم بدلًا مِن أولئك .
كما قال تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا.
أي: ولا تُطِعْ -يا مُحمَّدُ- من جعَلْنا قلبَه غافلًا عن ذِكرِنا وعبادتِنا وعن القرآنِ، وانشغل عن ذلك بالدُّنيا .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] .
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.
أي: وآثَرَ اتِّباعَ شَهواتِ نَفسِه، فاختار الكُفرَ والشِّركَ والمعاصيَ على الإيمانِ والتَّوحيدِ والطَّاعةِ .
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
أي: وكانت شُؤونُه وأعمالُه سَفَهًا وتفريطًا وضَياعًا، قد تجاوَز فيها الحَدَّ، وتقدَّم فيها على الحَقِّ، نابذًا له وراءَ ظهرِه .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعد أن أمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم بما فيه نَقضُ ما يَفتِلونَه مِن مُقتَرحاتِهم، وتعريضٌ بتأييسِهم من ذلك -كاقتراحِهم طردَ الفقراءِ حتَّى يُؤمنوا-؛ أمَرَه أن يُصارِحَهم بأنَّه لا يَعدِلُ عن الحَقِّ الذي جاءه مِن الله، وأنَّه مُبلِّغُه بدونِ هَوادةٍ، وأنَّه لا يَرغَبُ في إيمانِهم ببَعضِه دونَ بَعضٍ، ولا يتنازَلُ إلى مُشاطَرتِهم في رَغَباتِهم بشَطرِ الحَقِّ الذي جاء به، وأنَّ إيمانَهم وكُفرَهم موكولٌ إلى أنفُسِهم، لا يَحسَبونَ أنَّهم بوعدِ الإيمانِ يَستَنزِلونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن بعضِ ما أُوحيَ إليه، فالدينُ الحقُّ إنما أتَى مِن عندِ الله، فإن قبلوه عاد النفعُ إليهم، وإن لم يقبلوه عاد الضررُ إليهم، ولا تعلُّقَ لذلك بالفقرِ والغنَى، والقبحِ والحسنِ، والخمولِ والشهرةِ .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: وقُلْ -يا مُحمَّدُ- مُعلِنًا : هذا الذي جِئتُكم به مِن عندِ رَبِّكم هو الحَقُّ بلا شَكٍّ، فلا تَطلُبوه مِن غَيرِه؛ فهو وَحدَه الذي يَهدي إليه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضِلُّ مَن يشاءُ منهم .
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
أي: فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا؛ فإن اختَرتُم الإيمانَ فلكم الجنَّةُ، وإن اختَرْتُم الكُفرَ فقد أُعِدَّت لكم النَّارُ .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا هدَّدَ السَّامِعينَ بما حاصِلُه: لِيَختَرْ كلُّ امرئٍ لنَفسِه ما يجِدُه غَدًا عندَ الله تعالى؛ أتبَعَ هذا التهديدَ تَفصيلًا لِمَا أَعَدَّ للفَريقينِ مِن الوَعدِ والوعيدِ ، ولَمَّا كان الكلامُ مع الكُفَّارِ وفي سياقِ ما طلبوا من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانت البداءةُ بما أعَدَّ لهم أهَمَّ وآكَدَ .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.
أي: إنَّا أعدَدْنا وأرصَدْنا وهيَّأْنا للكافرينَ نارًا يُحيطُ بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، فلا سبيلَ لهم إلى الخُروجِ منها .
كما قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 31] .
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ.
أي: وإنْ يَطلُبِ الكافِرونَ المعذَّبونَ في النَّارِ الماءَ؛ مِن شِدَّةِ عَطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ غَليظٍ أسودَ، غاية في الحرارةِ، يشوي وُجوهَهم ؛ مِن شِدَّةِ حَرِّه .
بِئْسَ الشَّرَابُ.
أي: بئسَ شَرابُ الكافرينَ هذا الماءُ الذي يُؤتَونَ به، فيكونُ زيادةً في عقابِهم .
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا.
أي: وقبُحَت جهنَّمُ مُقامًا يَستَقِرُّ فيه الكافِرونَ .
كما قال تعالى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه الأمرُ بصُحبةِ الأخيارِ، ومُجاهَدةِ النَّفسِ على صُحبَتِهم ومخالَطتِهم وإن كانوا فُقرَاءَ؛ فإنَّ في صُحبَتِهم مِن الفوائِدِ ما لا يُحصى .
2- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ مُجالسةَ الصالحينَ مأثورةٌ على مجالِسِ غَيرِهم، ومَندوبٌ إليها المُؤمِنونَ .
3- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إرشادٌ إلى حَمْلِ النَّفسِ على المَكارهِ، والْتِماسِ القُرْبَةِ إلى الله، وصرْفِها عمَّا تُنَازِعُ إليه مِن هواها .
4- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ في الآيةِ الكريمةِ فَضْلُ الاجتماعِ على الذِّكْرِ والدُّعاءِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه فَضْلُ الإخلاصِ، وأنَّ الإخلاصَ هو الذي عليه مدارُ كلِّ شيءٍ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الآيةِ أنَّ الإنسانَ لا ينبغي له أنْ يدَعَ أحوالَ الآخرةِ والعباداتِ إلى أحوالِ الدُّنيا .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه استحبابُ الذِّكرِ والدُّعاءِ والعبادةِ طَرَفي النَّهارِ؛ لأنَّ اللهَ مَدَحهم بفِعلٍ، وكلُّ فِعلٍ مدحَ اللهُ فاعِلَه، دلَّ ذلك على أنَّ اللهَ يُحِبُّه، وإذا كان يحِبُّه فإنَّه يأمرُ به، ويُرَغِّبُ فيه .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا يدُلُّ على أنَّ الذي ينبغي أن يُطاعَ، ويكونَ إمامًا للنَّاسِ: مَن امتلأ قلبُه بمحَبَّةِ الله، وفاض ذلك على لِسانِه، فلَهِجَ بذِكرِ الله، واتَّبَع مراضيَ رَبِّه، فقَدَّمَها على هواه، فحَفِظَ بذلك ما حَفِظَ مِن وَقتِه، وصَلَحت أحوالُه، واستقامت أفعالُه، ودعا النَّاسَ إلى ما مَنَّ الله به عليه؛ فحَقيقٌ بذلك أن يُتَّبعَ ويُجعَلَ إمامًا ، أمَّا مُتَّبِعُ الهوى فليس أهلًا أنْ يُطاعَ، ولا أنْ يكونَ إمامًا ولا مَتبوعًا؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نهَى عن طاعتِه كما في هذه الآيةِ، وعَزَله عنِ الإمامةِ، كما في قولِه تعالى لخليلِه إبراهيم عليه السلامُ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] أي: لا ينالُ عهدي -بالإمامةِ- ظالِمًا، وكلُّ مَنِ اتَّبَع هواه فهو ظالمٌ، كما قال الله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29] ، فينبغي للرجُلِ أنْ يَنظرَ في شَيخِه وقُدوتِه ومَتبوعِه؛ فإنْ وجَدَه كذلك فليَبعُدْ عنه، وإنْ وجَدَه ممن غَلَب عليه ذِكْرُ اللهِ تعالى، واتِّباعُ السُّنَّةِ، وأمْرُه غيرُ مفروطٍ عليه، بل هو حازمٌ في أمْرِه؛ فليستَمسِك بغَرْزِه .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ دَلالةٌ على أنَّ ذِكْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ هو ذِكْرُ القَلبِ، وأمَّا ذِكْرُ اللِّسانِ مجرَّدًا عن ذِكْرِ القَلبِ، فإنَّه ناقِصٌ؛ فلم يَقُلْ سُبحانه: (مَن أمسَكْنا لِسانَه عن ذِكرِنا)، بل قال: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا؛ فالذِّكْرُ النافعُ هو ذِكْرُ القَلبِ .
10- قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا في هذه الآية إشارةٌ إلى أهميَّةِ حُضورِ القَلبِ عندَ ذِكْرِ اللهِ، وأنَّ الإنسانَ الذي يَذْكُرُ اللهَ بلسانِه، لا بقَلبِه، تُنزَعُ البركةُ مِن أعمالِه وأوقاتِه، حتى يكونَ أمرُه فُرُطًا عليه؛ تجدُه يبقَى السَّاعاتِ الطويلةَ ولم يُحَصِّلْ شيئًا، ولكن لو كان أمرُه مع الله لحصَلَتْ له البركةُ في جميعِ أعمالِه .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدُلُّ على أنَّ شَرَّ أحوالِ الإنسانِ أن يكونَ قَلبُه خاليًا عن ذِكرِ الحَقِّ، ويكونَ مملوءًا مِن الهوى الدَّاعي إلى الاشتغالِ بالخَلقِ .
12- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الباعثَ لهم إلى استدعاءِ الطردِ: غفلةُ قلوبِهم عن جنابِ الله تعالى شأنُه، وملاحظةِ المعقولاتِ، وانهماكُهم في المحسوساتِ، حتَّى خفِيَ عليهم أنَّ الشَّرفَ بحِلْيةِ النَّفسِ لا بزِينةِ الجسَدِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، أي: مِن البشرِ، وإلَّا فاللهُ يُبدِّلُها؛ قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ... الآيةَ [النحل: 101] .
2- قال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ في إضافةِ الرَّبِّ إلى الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دَليلٌ على أنَّ ما أوحاه اللهُ إلى رَسولِه من تمامِ عِنايتِه به .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ بُني فِعلُ (أُوحي) للمفعولِ؛ لأنَّ الخِطابَ مع النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وهو على القَطعِ بأنَّ الموحِيَ إليه هو اللهُ سُبحانَه وتعالى .
4- قال الله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في الآيةِ إثباتُ الوَجهِ لله تعالى، وقد أجمعَ سلَفُ الأمَّةِ، وعُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ على ثُبوتِ الوَجهِ لله تعالى، بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنةِ على ذلك؛ قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أعوذُ بوَجهِك )) .
5- قَولُه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه دَلالةٌ على أنَّ الدعاءَ بالغَدواتِ والعَشِيَّاتِ أفضَلُ وأجدَرُ بالإجابةِ .
6- في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ الاستبدالَ بمجالسةِ صالحي الفقراءِ مجالسةَ طالحي الأغنياءِ، مَعصيةٌ، وإنْ لم يعملِ المُستبدِلُ بأعمالِهم .
7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إشارةٌ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو فارَقَهم -هؤلاء الذين يَدْعُونَ اللهَ- لِمَصلحةٍ دينيَّةٍ؛ لم يدخُلْ هذا في النَّهيِ .
8- قولُه تعالى: أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ فيه دَليلٌ على أنَّ ما يَعرِضُ للعَبدِ مِن غَفلةٍ ومعصيةٍ، إنَّما هو بمشيئةِ الله تعالى؛ إذ لا يقَعُ شَيءٌ البتَّةَ كائِنًا ما كان إلَّا بمشيئتِه الكونيَّةِ القَدَريَّةِ -جلَّ وعلا- وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ [الأنعام: 35] ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام: 25] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ كُلَّ شيءٍ مِن خيرٍ وشَرٍّ، لا يقَعُ إلَّا بمشيئةِ خالقِ السَّمواتِ والأرضِ .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ؛ لقَولِه تعالى: أَغْفَلْنَا -ولم يقُلْ: (غَفَلوا)-، ثمَّ قال: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ -ولم يقلْ: (وأتبَعْناه هواه)-، ففيه أكبرُ الدليلِ على أنَّ إضافةَ أفعالِهم إليهم في مواضِعِ الإضافةِ في القُرآنِ غيرُ دافعٍ فِعْلَه بهم وإرادتَه فيهم؛ إِذْ قد يُجْمَعُ بينهما في حَرفٍ واحدٍ كما ترى .
10- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا هذا نَهيٌ جامعٌ عن مُلابَسةِ شَيءٍ ممَّا يأمُرُه به المُشرِكون، والمقصودُ من النَّهيِ تأسيسُ قاعدةٍ لأعمالِ الرَّسولِ والمُسلِمين تُجاهَ رغائبِ المُشرِكين، وتأييسُ المُشرِكين من نَوالِ شَيءٍ ممَّا رَغِبوه من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ يدُلُّ على أنَّ صُدورَ الفِعلِ عن الفاعِلِ بدونِ القَصدِ والدَّاعي، مُحالٌ .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ هذه الصيغةُ تهديدٌ ووعيدٌ، وليست بتخييرٍ، وذلك يدُلُّ على أنَّ صِيغةَ الأمرِ لا لمعنى الطَّلَبِ في كتابِ اللهِ كثيرةٌ .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ الآيةُ تدُلُّ على أنَّه تعالى لا ينتَفِعُ بإيمانِ المؤمنينَ ولا يستَضِرُّ بكُفرِ الكافرينَ، بل نَفعُ الإيمانِ يعودُ إليهم، وضرَرُ الكُفرِ يَعودُ عليهم، كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 7] .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه سؤالٌ: هل في هذا إباحةُ الكُفرِ؟
 الجواب: لا؛ فالأَمْرُ في قوله تعالى: فَلْيَكْفُرْ للتهديد وليس للإباحة! كما يُهَدِّدُ الإنسانُ غيرَه فيقول: «إنْ كنتَ صادقًا فافعلْ كذا»، ويدلُّ عليه قولُه تعالى بعده: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا يعني: مَن كَفَرَ؛ فله النارُ قد أُعِدَّتْ ، وهذا بِناءً على أن الضَّميرَ في (شاء) لـ (مَن)، وعليه الجُمهورُ.
وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ مَن شاء اللهُ إيمانَه آمنَ، ومن شاء كُفرَه كفَرَ، بناءً على أنَّ الضميرَ فيه (لله) ، وكأنَّه لمَّا كان الإيمانُ والكُفْرُ تابعيْنِ لمَشيئةِ اللهِ، جاء بصِيغَةِ الأمْرِ، حتَّى كأنَّه تحتَّمَ وُقوعُه، مأمورٌ به، مطلوبٌ منه .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا
     - الأمْرُ في قولِه: وَاتْلُ كِنايةٌ عن الاستمرارِ. ومَا أُوحِيَ مُفيدٌ للعُمومِ، أي: كلَّ ما أُوحِيَ إليك، ومفهومُ الموصولِ: أنَّ ما لم يُوحَ إليه لا يَتْلوه .
     - قولُه: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ لَا مُبَدِّلَ عامٌّ، ولِكَلِمَاتِهِ عامٌّ أيضًا؛ فالتَّخصيصُ إمَّا في لَا مُبَدِّلَ، أي: لا مُبدِّلَ له سِواهُ، ألَا ترى إلى قولِه: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] . وإمَّا في كَلِمَاتِهِ، أي: لكلماتِه المُتضمِّنةِ الخبرَ؛ لأنَّ ما تضمَّنَ غيرَ الخبرِ وقَعَ النَّسخُ في بعْضِه .
     - قولُه: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا فيه مَجيءُ مُلْتَحَدًا بصِيغَةِ الافتعالِ؛ لأنَّ أصْلَه تكلُّفُ الميْلِ، ويُفْهَمُ من صِيغَةِ التَّكلُّفِ أنَّه مَفَرٌّ من مَكروهٍ، يتكلَّفُ الخائفُ أنْ يأوِيَ إليه؛ فلذلك كان المُلتحَدُ بمعنى الملجَأِ، والمقصودُ من هذا تأييسُهم ممَّا طَمِعوا فيه .
2- قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
     - قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (مع) تَقْتضي الصُّحبةَ والمُوافقةَ، والأمْرُ بالصَّبرِ هنا يظهَرُ منه كبيرُ اعتناءٍ بهؤلاء الَّذينَ أُمِرَ أنْ يصبِرَ نفْسَه معهم .
     - وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الأنعامِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] ؛ وذلك أنَّ سادةَ المُشركينَ كانوا زعَموا أنَّه لولا أنَّ مِن المُؤمِنين ناسًا أهْلَ خَصاصةٍ في الدُّنيا، وأرقَّاءَ لا يُدانونهم ولا يستأْهِلونَ الجُلوسَ معهم؛ لأتَوْا إلى مُجالَسةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، واسْتَمعوا القُرآنَ، فاقْتَرحوا عليه أنْ يطرُدَهم مِن حولِه إذا غشِيَه سادةُ قُريشٍ؛ فرَدَّ اللهُ عليهم بما في سُورةِ الأنعامِ، وما هنا في هذه السُّورةِ آكَدُ؛ إذ أمَرَه بمُلازمتِهم بقولِه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، ولتَضمينِ فعْلِ (اصْبِر) معنى المُلازَمةِ عُلِّقَ به ظرْفُ (مع) .
     - قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ والتَّعبيرُ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ للإيماءِ إلى تَعليلِ الأمْرِ بمُلازمتِهم، أي: لأنَّهم أحرياءُ بذلك؛ لأجْلِ إقبالِهم على اللهِ، فهم الأجدرُ بالمُقارَنةِ والمُصاحبةِ .
     - قولُه: الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فيه تخصيصُ الغداةِ والعشيِّ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العربَ إذا أرادَتِ الدوامَ أطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ، والغداةَ والعشيَّ، يَعْنُونَ أنَّهم دائمونَ على ذلك، أو: لأنَّ أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ .
     - قولُه: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ جِيءَ بقولِه: عَيْنَاكَ والمقصودُ هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المُراعاةُ للشَّخصِ والتَّلفُّتُ له، والمعنى: ولا تَعْدُ أنت عنهم النَّظرَ إلى غيرِهم . وفيه تأكيدُ الأمْرِ بمُواصلتِهم بالنَّهيِ عن أقَلِّ إعراضٍ عنهم، وظاهِرُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ نهْيُ العينينِ عن أنْ تَعْدُوَا عن الَّذين يَدْعون ربَّهم، والمقصودُ: الإعراضُ؛ ولذلك ضُمِّنَ فعْلُ العَدوِ معنى الإعراضِ؛ فعُدِّيَ إلى المفعولِ بـ (عن)، وكان حَقُّه أنْ يتعدَّى إليه بنفْسِه، أو ضُمِّن معنى (نَبا) و(علا)، والغرضُ في هذا التَّضمينِ -وعدَمِ قولِه مثلًا: (ولا تَعْدُهم عيناكَ)، أو: (ولا تعْلُ عيناكَ عنهم)- إعطاءُ مجموعِ مَعنيينِ، وذلك أقوى من إعطاءِ معنًى فردٍ؛ إذ المعنى هنا: ولا تَقْتحِمْهم عيناكَ مُجاوِزَتينِ إلى غيرِهم .
     - قولُه: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيه تَعريضٌ بحَماقةِ سَادةِ المُشرِكين الَّذين جعَلوا همَّهم وعِنايتَهم بالأُمورِ الظَّاهرةِ، وأهْمَلوا الاعتبارَ بالحقائقِ والمَكارمِ النَّفسيَّةِ، فاسْتَكبروا عن مُجالَسةِ أهْلِ الفضلِ والعُقولِ الرَّاجحةِ والقُلوبِ النَّيِّرةِ، وجَعَلوا هَمَّهم الصُّورَ الظَّاهرةَ .
     - في قولِه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عبَّرَ عنهم بالموصولِ مَنْ أَغْفَلْنَا؛ للإيذانِ بعِلِّيةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ للنَّهيِ عن الإطاعةِ .
     - قولُه: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فيه زِيادةُ فعْلِ الكونِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الخبرِ من الاسمِ، أي: حالةَ تمكُّنِ الإفراطِ والاعتداءِ على الحقِّ .
3- قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا
     - التَّعبيرُ بـ رَبِّكُمْ للتَّذكيرِ بوُجوبِ تَوحيدِه .
     - قولُه: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إمَّا من تَمامِ القولِ المأمورِ به، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها بطَريقِ التَّهديدِ، لا لتَفريعِه عليه، كما في قولِه تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39] ، وقولِه تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147] ، أي: عَقِيبَ تحقُّقِ أنَّ ما أُوحِيَ إليَّ حَقٌّ لا ريبَ فيه، وأنَّ ذلك الحقَّ من جِهَةِ ربِّكم؛ فمَن شاء أنْ يُؤمِنَ به، فلْيُؤْمِنْ كسائرِ المُؤمِنين، ولا يتعلَّلْ بما لا يكادُ يصلُحُ للتَّعليلِ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به فلْيفعَلْ، وفيه من التَّهديدِ وإظهارِ الاستغناءِ عن مُتابعتِهم، وعدَمِ المُبالاةِ بهم وبإيمانِهم وُجودًا وعدَمًا: ما لا يَخْفى. وإمَّا تَهديدٌ من جِهَةِ اللهِ تعالى، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدَها من التَّهديدِ على الأمْرِ، لا على مَضمونِ المأمورِ به، والمعنى: قُلْ لهم ذلك، وبعدَ ذلك مَن شاء أنْ يُؤمِنَ به أو أنْ يُصدِّقَك فيه، فلْيُؤمِنْ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به أو يُكذِّبَك فيه، فلْيفعَلْ .
     - والأمْرُ في قولِه: فَلْيُؤْمِنْ وقولِه: فَلْيَكْفُرْ؛ للتَّسويةِ المُكنَّى بها عن الوعدِ والوعيدِ. وقُدِّمَ الإيمانُ على الكُفرِ؛ لأنَّ إيمانَهم مَرغوبٌ فيه. وفِعْلا (يُؤمِن، ويَكفُر) مُستعملانِ للمُستقبَلِ، أي: مَن شاء أنْ يُوقِعَ أحدَ الأمرينِ، ولو بوجْهِ الاستمرارِ على أحدِهما المُتلبِّسِ به الآنَ؛ فإنَّ العزْمَ على الاستمرارِ عليه تَجديدٌ لإيقاعِه .
     - وجُملةُ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما دَلَّ عليه الكلامُ من إيكالِ الإيمانِ والكُفْرِ إلى أنفُسِهم، وما يُفيدُه من الوعيدِ، كِلاهما يُثيرُ في النُّفوسِ أنْ يقولَ قائلٌ: فمَاذا يُلاقي مَن شاء، فاستمَرَّ على الكُفْرِ؟ فيُجابُ بأنَّ الكُفْرَ وخيمُ العاقبةِ عليهم . وتنكيرُ نَارًا؛ للتَّهويلِ والتَّعظيمِ .
     - قولُه: إِنَّا أَعْتَدْنَا... فيه وعيدٌ شَديدٌ، وتأكيدٌ للتَّهديدِ، وتَعليلٌ لِما يُفيدُه من الزَّجْرِ عنِ الكُفْرِ، أو لِما يُفْهَمُ من ظاهرِ التَّخييرِ؛ من عدَمِ المُبالاةِ بكُفْرِهم، وقِلَّةِ الاهتمامِ بزجْرِهم عنه؛ فإنَّ إعدادَ جزائِه مِن دواعي الإملاءِ والإمهالِ، وعلى القولِ بأنَّه مِن تمامِ القولِ المأمورِ بهِ فهو تَعليلٌ للأمْرِ بما ذُكِرَ من التَّخييرِ التَّهديديِّ، أي: قُلْ لهم ذلك .
     - والتَّعبيرُ عنهم بـ الظَّالِمِينَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مَشيئةَ الكُفْرِ واختيارَه تَجاوزٌ عن الحدِّ، ووضْعٌ للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه. وأُوثِرَت صِيغَةُ الماضي في قولِه: أَحَاطَ؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .
     - وفي قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا تَشبيهٌ مُؤكِّدٌ؛ فقد شبَّهَ النَّارَ المُحيطةَ بهم بالسُّرادقِ المضروبِ على مَن يَحتويهم، وأُضِيفَ السُّرادِقُ إلى النَّارِ؛ فذلك هو التَّشبيهُ المُؤكِّدُ، وهو أنْ يُضافَ المُشبَّهُ إلى المُشبَّهِ به .
     - قولُه: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ فيه تهكُّمٌ، حيث سمَّى أعلَى أنواعِ العَذابِ إغاثةً -والإغاثةُ هي الإنقاذُ من العذابِ-؛ تهكُّمًا بهم وتَشفِّيًا منهم، والتَّهكُّمُ فنٌّ طريفٌ من فُنونِهم، وهو من تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه. والتَّشبيهُ في قولِه: كَالْمُهْلِ في سَوادِ اللَّونِ وشِدَّةِ الحرارةِ، فلا يَزيدُهم إلَّا حرارةً؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: يَشْوِي الْوُجُوهَ، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ .
     - وقيل: أتى قولُه: يُغَاثُوا على سَبيلِ المُقابَلةِ لقولِه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، وإلَّا فليست إغاثةً .
     - قولُه: يَشْوِي الْوُجُوهَ فيه اختصاصُ الوُجوهِ بهذا؛ لكونِها عندَ شُربِهم يقرُبُ حرُّها من وُجوهِهم. وقيل: عُبِّرَ بالوُجوهِ عن جميعِ أبدانِهم .
     - وجُملةُ: بِئْسَ الشَّرَابُ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لتَشنيعِ ذلك الماءِ مَشروبًا كما شُنِّعَ مُغتَسلًا، والمخصوصُ بذَمِّ (بئْس) محذوفٌ، دَلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: بئْسَ الشَّرابُ ذلك الماءُ .
     - وجُملةُ: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا معطوفةٌ على جُملةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، فهي مُستأنَفةٌ أيضًا لإنشاءِ ذَمِّ تلك النَّارِ بما فيها، وشأْنُ المُرتفَقِ أنْ يكونَ مكانَ استراحةٍ؛ فإطلاقُ ذلك على النَّارِ تهكُّمٌ، كما أُطْلِقَ على ما يُزادُ به عذابُهم لفظُ الإغاثةِ، وكما أُطْلِقَ على مكانِهم السُّرادقُ ؛ فهو لمُقابَلةِ ومُشاكَلةِ قولِه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وإلَّا فلا ارتفاقَ لأهْلِ النَّارِ .