موسوعة التفسير

سُورةُ السَّجْدةِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لَا رَيْبَ فِيهِ: أي: لا شكَّ فيه، والرَّيبُ: الشَّكُّ، أو هو شكٌّ مع قلَقٍ وريبةٍ، وهو مصدرُ (رابَني الشَّيءُ): إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وحقيقةُ الرِّيبةِ: قلَقُ النَّفْسِ واضْطِرابُها، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شكٍّ، أو شكٍّ وخَوفٍ .
افْتَرَاهُ: أي: اختلَقه، وكذَبَه، وافتعَله، والافتراءُ: الاختلاقُ، ومنه قيل: افترَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفه بما ليس فيه، وأصلُ (فري): قطْعُ الشَّيءِ؛ فالفَرْيُ: قطعُه لإصلاحِه، والإفراءُ: قطعُه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ .
نَذِيرٍ: بمعنى مُنذِرٍ، أي: محَذِّرٍ، والإنذارُ: الإبلاغُ؛ ولا يكادُ يكونُ إلَّا في التَّخويفِ، وأصلُ (نذر): تخويفٌ .
اسْتَوَى: أي: عَلا، وارتَفَع، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استقامةٍ، واعتِدالٍ بينَ شيئَينِ .
وَلِيٍّ: أي: ناصرٍ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .
شَفِيعٍ: أي: شافعٍ، يُقالُ: شفَع لِفُلانٍ: إذا جاء مُلتمِسًا مَطلَبَه، ومُعِينًا له؛ وأصلُ الشَّفْعِ: ضَمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه .
يُدَبِّرُ: أي: يَقضي ويُمضي، والتَّدبيرُ: تنزيلُ الأمورِ في مراتبِها على أحكامِ عَواقبِها، وأصلُ (دبر): آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه، خِلافُ قُبُلِه .
يَعْرُجُ: أي: يَصعَدُ، وأصلُ (صعد): يدُلُّ على ارتفاعٍ ومَشَقَّةٍ .

المعنى الإجماليُّ:

افتتَح الله تعالى هذه السُّورةَ ببعضِ الحروفِ المقطَّعةِ، وتقدَّم الكلامُ عن الحروفِ المُقطَّعةِ في تَفسيرِ أوَّلِ سُورةِ الرُّومِ.
ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ هذا القُرآنَ بلا شكٍّ نزَلَ مِن عندِ اللهِ رَبِّ العالَمينَ، ثمَّ يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِلًا: بل أيَقولُ المُشرِكونَ: اختلَقْ هذا القُرآنَ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه؟! ليس الأمرُ كما يقولونَ؛ فالقرآنُ هو الحقُّ المنَزَّلُ إليك مِن رَبِّك؛ لِتُنذِرَ به قَومًا لم يأتِهم رَسولٌ يُنذِرُهم مِن قَبلِك؛ لعلَّهم يَعرِفونَ الحقَّ فيَهتَدونَ!
ثمَّ أثنَى الله سبحانَه على ذاتِه، فقال: الَّذي يَستحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه هو الَّذي خلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما مِن الخَلقِ في ستَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا على عَرشِه كما يليقُ بجَلالِه سُبحانَه، ليس لكم مِن دونِه سُبحانَه وليٌّ يَتَولَّى أمرَكم، ولا شَفيعٌ يَشفَعُ لكم عِندَه، أفلا تَتذَكَّرونَ؟!
يُدبِّرُ اللهُ أمْرَ خَلْقِه فيَنزِلُ قَضاؤُه مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، ثمَّ يَصعَدُ إليه في يومٍ كان مِقدارُه ألْفَ سَنةٍ، كما تَحسُبونَ مِن أيَّامِكم في الدُّنيا.

تَفسيرُ الآياتِ:

الم (1).
تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المُقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ الرُّومِ .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2).
أي: هذا القُرآنُ لا شكَّ أنَّه نَزَل مِن عندِ اللهِ الخالِقِ المالِكِ المدَبِّرِ لجَميعِ العالَمينَ .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3).
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
أي: بل أيَقولُ المُشرِكونَ: اختلَقَ مُحمَّدٌ القُرآنَ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه، ونَسَبَه إلى اللهِ كَذِبًا ؟!
بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
أي: ليس الأمرُ كما يَقولونَ؛ فالقُرآنُ هو الصِّدقُ الثَّابِتُ المنَزَّلُ إليك مِن عندِ رَبِّك يا مُحمَّدُ .
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
أي: لِتُنذِرَ بالقُرآنِ وتُحَذِّرَ به قَومًا لم يأتِهم رَسولٌ يُنذِرُهم مِن قَبْلِك .
كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس: 6] .
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
أي: لعلَّهم يَعرِفونَ الحَقَّ ويُؤمِنونَ به ويتَّبِعونَه .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الرِّسالةَ، بيَّنَ ما على الرَّسولِ مِن الدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ، وإقامةِ الدَّليلِ .
وأيضًا لَمَّا كان الرُّكنُ الأعظَمُ مِن أركانِ هُدى الكتابِ هو إثباتَ الوحدانيَّةِ للإلهِ، وإبطالَ الشِّركِ: عقَّب الثَّناءَ على الكِتابِ بإثباتِ هذا الرُّكنِ .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: المعبودُ الَّذي لا تَصلُحُ العِبادةُ إلَّا له: هو الَّذي أوجَدَ السَّمواتِ السَّبْعَ والأرَضِينَ وما بيْنَهما مِنَ الخَلقِ في سِتَّةِ أيَّامٍ؛ أوجَدَها مِنَ العَدَمِ بتَقديرٍ ونِظامٍ .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
أي: ثمَّ علا اللهُ تعالى وارتفَع على عَرشِه كما يَليقُ بجَلالِه سُبحانَه .
كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] .
مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ .
أي: ليس لكم ممَّن سِوَى اللهِ وَلِيٌّ يتوَلَّى أمْرَكم ويَنفَعُكم، ولا شَفيعٌ يَشفَعُ لكم عندَ رَبِّكم .
أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ .
أي: أفلا تَتذَكَّرونَ ما تَعلَمونَه مِن أنَّه الخالِقُ وحْدَه الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، واستوى على عَرشِه، ومِن أنَّه لا حُجَّةَ لِشَيءٍ ممَّا أشرَكتُموه به؟! فهو الَّذي انفردَ بتَدبيرِكم وتَولِّيكم، وله الشَّفاعةُ كُلُّها، وهو المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له .
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى الخَلْقَ؛ بيَّنَ الأمرَ، كما قال تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] ، والعَظَمةُ تتبيَّنُ بهما؛ فإنَّ مَن يَملِكُ مماليكَ كثيرينَ عُظَماءَ تكونُ له عَظَمةٌ، ثمَّ إذا كان أمْرُه نافِذًا فيهم يَزدادُ في أعيُنِ الخَلقِ، وإن لم يكُنْ له نَفاذُ أمرٍ يَنقُصُ مِن عَظَمتِه .
وأيضًا لَمَّا نفَى اللهُ تعالى أن يكونَ له شَريكٌ أو وَزيرٌ في الخَلقِ؛ ذكَرَ كيف يَفعَلُ في هذا المُلكِ العَظيمِ الَّذي أبدَعَه في سِتَّةِ أيَّامٍ؛ مِن عالَمِ الأرواحِ والأمرِ .
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5).
أي: يُدَبِّرُ اللهُ أمرَ خَلْقِه بما يَشاءُ، فيَنزِلُ تَقديرُه وقَضاؤُه مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ ، ثمَّ يَصعَدُ إليه مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ في يومٍ كان مِقدارُه ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَحسُبونَ مِن أيَّامِكم في الدُّنيا .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ في قَولِه تعالى: أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ تَوبيخُ مَن لا يَتذكَّرُ بعدَ هذا البَيانِ، وهذه الفائِدةُ تترتَّبُ عليها فائِدةٌ أخرى، وهي: وُجوبُ التَّذَكُّرِ بآياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ الإنسانَ يَتذَكَّرُ بآياتِ اللهِ، ولا يَمُرُّ عليها كأنَّها ألفاظٌ عابِرةٌ !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إثباتُ عُلُوِّ اللهِ؛ فإنَّ النُّزولَ لا يكونُ إلَّا مِن أعلَى .
2- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارةٌ إلى أنَّ هذا القرآنَ مُلْزَمٌ به جميعُ الناسِ، فإذا كان ربُّهم الَّذي أنزَله؛ فمعناه أنَّه يَلْزَمُهم جميعًا العملُ بهذا القرآنِ، فإنه لَمَّا أراد أنْ يُتَّبَعَ أمرُ القُرآنِ مِن حيثُ هو قرآنٌ؛ بَيَّنَ أنَّه نازِلٌ مِن ربِّ العالَمينَ الَّذي يَعتمِدُ عليه هؤلاء العالَمونَ، فنَزَّلَ عليهم الكِتابَ؛ لأنَّه لَمَّا كان ربَّ العالَمينَ وَجَبَ على جميعِ العالَمينَ أن يَقبَلوا هذا .
3- إن قيلَ: كيف الجَمعُ بينَ قَولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] وبينَ قَولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ؟
فالجوابُ: أنَّهم لم يأتِهم نَذيرٌ مُعاصِرٌ لهم، فلا يُعارِضُ ذلك مَن تقدَّمَ قبْلَ عَصرِهم.
وأيضًا فإنَّ المرادَ بقَولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ أنَّ نبُوَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ليست ببِدْعٍ؛ فلا ينبغي أن تُنكَرَ؛ لأنَّ اللهَ أرسَلَه كما أرسَلَ مَن قَبْلَه، والمرادُ بقَولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أنَّهم مُحتاجونَ إلى الإنذارِ؛ لِكَونِهم لم يتقَدَّمْ مَن يُنذِرُهم؛ فاختلَفَ سياقُ الكلامِ، فلا تَعارُضَ بيْنَهما .
4- قَولُ الله تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فيه سُؤالٌ: التَّخصيصُ بالذِّكرِ يدُلُّ على نَفْيِ ما عداه؛ فقَولُه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ يُوجِبُ أن يكونَ إنذارُه مُختَصًّا بمَنْ لم يأتِه نذيرٌ، لكِنَّ أهلَ الكتابِ قد أتاهم نذيرٌ، فلا يكونُ الكِتابُ مُنزَّلًا إلى الرَّسولِ لِيُنذِرَ أهلَ الكِتابِ، فلا يكونُ رَسولًا إليهم؟!
الجوابُ: أنَّ هذا فاسِدٌ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ التَّخصيصَ لا يُوجِبُ نفْيَ ما عَداه.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ مَن يقولُ: التَّخصيصُ يُوجِبُ نَفْيَ ما عَداه، يوافِقُ غيرَه في أنَّ التَّخصيصَ إن كان له سَبَبٌ غيرُ نفْيِ ما عَداه، لا يُوجِبُ نَفْيَ ما عداه، وهاهنا وُجِدَ ذلك؛ لأنَّ إنذارَهم كان أَولى، فوقع التَّخصيصُ لأجْلِ ذلك، ألَا ترى أنَّه تعالى قال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ، ولم يُفهَمْ منه أنَّه لا يُنذِرُ غيرَهم، أو لم يُؤمَرْ بإنذارِ غَيرِهم.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّه على ما ذُكِرَ لا يَرِدُ ذلك أصلًا؛ لأنَّ أهلَ الكتابِ كانوا قد ضَلُّوا، ولم يأتِهم نذيرٌ مِن قَبْلِ محمَّدٍ بعدَ ضَلالِهم؛ فلَزِمَ أن يكونَ مُرسَلًا إلى الكُلِّ على درجةٍ سواءٍ .
5- أيَّدَ اللهُ كَوْنَ القُرآنِ غيرَ مُفترًى، وأنَّه الحقُّ ببَيانِ غايتِه، حيثُ قال: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ؛ فإنَّ بَيانَ غايةِ الشَّيءِ وحِكمتِه -لا سيَّما عندَ كَونِها غايةً حَميدةً، مُستتبِعةً لِمَنافعَ جليلةٍ في وَقتِ شِدَّةِ الحاجةِ إليها- ممَّا يُقرِّرُ وُجودَ الشَّيءِ ويُؤكِّدَه لا مَحالةَ .
6- قولُه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إنْ قِيل: ما الحِكمةُ في خَلْقِها في ستَّةِ أيَّامٍ، وكان قادرًا على خلْقِها في طَرْفةِ عَينٍ؟
قِيل: لأنَّ خَلْقَها على التَّأنِّي أدَلُّ على حكمتِه، ولُطفِ تدبيرِه، وفيه أيضًا تعليمُ النَّاس، وتنبيهُ العِبادِ على التَّأنِّي في الأُمورِ، وأنَّ لكلِّ شَيءٍ عندَه أجَلًا .
7- في قَولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إبطالُ قَولِ الملاحِدةِ القائِلينَ بقِدَمِ العالَمِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَه لم يَخْلُقْه بقُدرتِه ومَشيئتِه، ومَن أثبَتَ منهم وُجودَ الرَّبِّ جَعَلَه لازِمًا لِذَاتِه أوَّلًا وأبدًا غيرَ مخلوقٍ، كما هو قولُ بعضِ الفلاسفةِ وأتْباعِهم مِن الملاحدةِ الجاحدينَ لِمَا اتَّفَقَت عليه الرُّسُلُ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- والكُتُبُ، وشَهِدَت به العُقولُ والفِطَرُ .
8- في قَولِه تعالى: وَمَا بَيْنَهُمَا أنَّ بينَ السَّمواتِ والأرضِ مِن الآياتِ شيئًا كبيرًا؛ حيث جعلَه قَسيمًا لِخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ومقابِلًا له .
9- في قَولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ دَلالةٌ على أنَّ خَلْقَ العَرشِ قبْلَ خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فإنَّه يقتَضي أنَّه استَوى على العَرشِ بعدَ خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولم يَذكُرْ أنَّه خَلَقَه حينَئذٍ، ولو كان خَلَقَه حينَئذٍ لكان قد ذَكَر خَلْقَه ثمَّ استِواءَه عليه، ولأنَّ ذِكْرَه للاستِواءِ عليه دونَ خَلْقِه دَليلٌ على أنَّه كان مَخلوقًا قبْلَ ذلك .
10- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ دَلالةٌ على بُطلانِ تأويلِ الاستِواءِ بمعنى المِلْكِ؛ لأنَّه سُبحانَه أخبَرَ أنَّه خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ استوى على العَرشِ استواءً يليقُ بجلالِه، وقد أخبرَ أنَّ العَرشَ كان مَوجودًا قبْلَ خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، كما دلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ، وحينَئذٍ فهو مِن حِينِ خلَقَ العَرشَ مالِكٌ له مُستَولٍ عليه؛ فكيف يكونُ الاستواءُ عليه -على تأويلِه بالمِلْكِ- مؤخَّرًا عن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؟! وأيضًا فاللهُ مالِكٌ لكُلِّ شَيءٍ، مُستَولٍ عليه؛ فكيف يُخَصُّ العرشُ بالاستواءِ على هذا التأويلِ ؟!
11- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إثباتُ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الاستِواءَ مِن الأفعالِ الَّتي يفعَلُها بمَشيئتِه، وهي الَّتي يُعَبَّرُ عنها أحيانًا بالصِّفاتِ الفِعليَّةِ .
12- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إثباتُ استواءِ اللهِ على عَرشِه، وهو عُلُوُّه واستِقرارُه عليه بدونِ تكييفٍ ، وإبطالُ قولِ المُعطِّلةِ والجهميَّةِ الَّذين يقولون: ليس على العرشِ شَيءٌ سِوى العَدَمِ! وإنَّ اللهَ ليس مُستويًا على عرشِه! إلى غيرِ ذلك مِن أقوالِهم الباطلةِ !
وقد وَصَفَ الله تعالى نفسَه بالاستواءِ على العرشِ في سبعِ آياتٍ مِن كتابِه؛ في هذه السورةِ وفي (الأعرافِ) و(يونسَ) و(الرعدِ) و(طه) و(الفرقانِ) و(الحديدِ)، ولم يذكُرْ صفةَ الاستواءِ في أحدِ تلك المواضعِ السبعةِ إلا مقرونةً بشيءٍ مِن صفاتِ الكمالِ والجلالِ يُبْهِرُ العقولَ، ويقضي بأنَّه العظيمُ الأعظمُ التي لا يُماثلُه شيءٌ في شيءٍ مِن صفاتِه، ولا في ذاتِه، ولا أفعالِه، وأنَّ جميعَ تلك الصفاتِ بما فيها الاستواءُ لا يجوزُ جَحْدُ شيءٍ منها ولا إنكارُه .
13- في قَولِه تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يَدَّعونَ أنَّ أمرَ الإنسانِ مُستقِلٌّ به؛ لأنَّنا نقولُ: إنَّ فِعلَ الإنسانِ مِن الأمرِ، والَّذي يُدبِّرُه هو اللهُ عزَّ وجلَّ .
14- في قَولِه تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ إثباتُ عُلُوِّ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فقَولُه تعالى: مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ هذا النُّزولُ، وقولُه عزَّ وجلَّ: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ هذا الصُّعودُ، ولا نُزولَ إلَّا مِن عالٍ، ولا صعودَ إلَّا إلى عالٍ؛ فيُستفادُ عُلُوُّ اللهِ تعالى مِن الجُملتينِ؛ مِن كلِّ واحدةٍ على انفرادٍ .
15- قال الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ، وقال في سُورةِ (السَّجدةِ): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وقال في سُورةِ (المعارِجِ): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] ؛ فوقَعَ اختلافٌ في تَقديرِ اليومِ.
ووَجْهُ ذلك: أنَّ المُرادَ في سُورةِ (الحجِّ) تَبْيينُ أفْعالِه سُبحانَه، وأنَّه لا تكلُّفَ فيها ولا مُعالجةَ؛ فكأنْ قد قِيل لهم: إذا شاء هذا بكمْ وأراد إنفاذَهُ، كان وتَحصَّلَ في الوقتِ الوَجيزِ القريبِ منه ما تُقدِّرونَ حُصولَه ومُعالَجةَ وُقوعِه، أو تُقدِّرون تَهيئتَهُ ونُفوذَه بألْفِ سَنةٍ مِن أيَّامِكم، وإذا أراد سُبحانَه وُقوعَ ذلك كان عن أمْرِه (كُن) أعجَلَ مِن كلِّ عاجِلٍ؛ فلِمَ يَسْتعجِلون ما لا تَكلُّفَ في وُقوعِه وحُلولِه؟! وعلى هذا قولُه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ؛ فالمُرادُ أنَّ بُعْدَ هذه المسافةِ لا تَحولُ دونَ استعجالِ نُفوذِ تَدبيرِه، وإمضاءِ مَقاديرِه، وأنَّه سُبحانَه لَيُدَبِّرُها، ثمَّ تَرجِعُ إليه في وَقْتٍ لو وُكِّلَ ذلك إليكم، وكان مِن مَقدوراتِكم؛ لَفَعلتُموهُ في ألْفِ سَنةٍ. وأمَّا آيةُ (المعارِجِ) فالمُرادُ باليومِ المذكورِ فيها يومُ القيامةِ؛ ففيه مِن الأعمالِ المُتعلِّقةِ بالخَلْقِ ما يَتقدَّرُ وُقوعُه وتخلُّصُه مِن أيَّامِ الدُّنيا على مُتعارفِها -مع عَظيمِ أهْوالِه، وشِدَّةِ كُروبِه- مِن أيَّامِنا بخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ . وقيل: يومُ الألْفِ في سُورةِ (السَّجدةِ) هو مِقدارُ سَيرِ الأمْرِ وعُروجِه إليه تعالى. ويومُ الألْفِ في سُورةِ (الحجِّ) هو أحَدُ الأيَّامِ السِّتَّةِ الَّتي خلَقَ اللهُ فيها السَّمواتِ. ويومُ الخمسينَ ألْفًا هو يومُ القيامةِ. وقيل: المُرادُ بها جَميعِها يومُ القيامةِ، وإنَّ الاختلافَ باعتبارِ حالِ المُؤمِن والكافِرِ؛ بدليلِ قولِه: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 9، 10].

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ افتُتِحَتِ السُّورةُ بالتَّنويهِ بشَأْنِ القُرآنِ؛ لأنَّه جامعُ الهُدى الَّذي تَضمَّنَتْه هذه السُّورةُ وغيرُها، ولأنَّ جِماعَ ضَلالِ الضَّالِّينَ هو التَّكذيبُ بهذا الكتابِ؛ فاللهُ جعَلَ القُرآنَ هُدًى للنَّاسِ، وخصَّ العرَبَ أنْ شَرَّفَهم بجَعلِهم أوَّلَ مَن يَتلقَّى هذا الكِتابَ، وبأنْ أنزَلَه بلُغَتِهم؛ فكان منهم أشدُّ المُكذِّبينَ بما جاء به، لا جَرَمَ أنَّ تكذيبَ أولئك المُكذِّبينَ أعرَقُ في الضَّلالةِ، وأوغَلُ في أفَنِ الرَّأيِ .
- وافتِتاحُ الكلامِ بالجُملةِ الاسميَّةِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لِدَلالتِها على الدَّوامِ والثَّباتِ .
- وجِيءَ بالمُسنَدِ إليه تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مُعرَّفًا بالإضافةِ لإطالتِه؛ لِيَحصُلَ بتَطويلِه ثُمَّ تَعقيبِه بالجُملةِ المُعترضةِ التَّشويقُ إلى مَعرفةِ الخبَرِ، وهو قولُه: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ولولا ذلك لَقِيل: (قُرآنٌ مُنزَّلٌ مِن ربِّ العالَمينَ)، أو نحوُ ذلك .
- وإنَّما عُدِلَ هنا عن أُسلوبِ قولِه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ في سُورةِ البقرةِ [1- 2]؛ لأنَّ سُورةَ (البَقرةِ) نازلةٌ بيْن ظَهرانَيِ المُسلِمينَ، ومَن يُرْجَى إسلامُهم مِن أهلِ الكِتابِ، وهمُ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة: 4]، وأمَّا هذه السُّورةُ (السَّجدة) فقد جابَهَ اللهُ بها المُشركينَ الَّذين لا يُؤمِنون بالإلهِ الواحدِ، ولا يُوقِنون بالآخرةِ؛ فهم أصلَبُ عُودًا، وأشدُّ كُفْرًا وصُدودًا .
- ووقَعَت جُملةُ لَا رَيْبَ فِيهِ بأُسلوبِ المَعلومِ المُقرَّرِ؛ فلم تُجعَلْ خَبرًا ثانيًا عن المُبتدأِ؛ لِزِيادةِ التَّشويقِ إلى الخبَرِ؛ لِيُقرَّرَ كَونُه مِن ربِّ العالَمينَ .
- واستِحضارُ الجَلالةِ بطَريقِ الإضافةِ بوَصفِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دونَ الاسمِ العَلَمِ وغيرِه مِن طُرقِ التَّعريفِ؛ لِمَا فيه مِن الإيماءِ إلى عُمومِ الشَّريعةِ، وكَوْنِ كِتابِها مُنزَّلًا للنَّاسِ كلِّهم، بخِلافِ ما سبَقَ مِن الكُتبِ الإلهيَّةِ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن جُملةِ دَواعي تَكذيبِهم به: أنَّه كيفَ خَصَّ اللهُ برِسالتِه بَشرًا منهم؟! حَسَدًا مِن عندِ أنفُسِهم؛ لأنَّ رُبوبيَّةَ اللهِ للعالَمينَ تُنبِئُ عن أنَّه لا يُسأَلُ عمَّا يَفعَلُ، وأنَّه أعلَمُ حيث يَجعَلُ رِسالاتِه ، وأيضًا لأنَّ كِتابَ مَن يكونُ رَبَّ العالَمينَ يكونُ فيه عجائِبُ العالَمينَ، فتدعو النَّفْسُ إلى مُطالعتِه .  
2- قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ (أم) للإضرابِ عن الكلامِ السَّابقِ إضرابَ انتقالٍ، وهي (أَم) المُنقطِعةُ الَّتي بمعنى (بَل)، وهي مُؤْذِنةٌ باستِفهامٍ بالهَمزةِ، والاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَها هنا تَعجُّبيٌّ؛ لأنَّهم قالوا هذا القولَ الشَّنيعَ، وعَلِمَه النَّاسُ عنهم؛ فلا جَرَمَ كانوا أحِقَّاءَ بالتَّعجُّبِ مِن حالِهم ومَقالِهم؛ لأنَّهم أبْدَوا به أمْرًا غَريبًا يَعجَبُ منه العُقلاءُ ذَوو الأحلامِ الرَّاجحةِ، والنُّفوسِ المُنصِفةِ؛ إذ دَلائلُ انتفاءِ الرَّيبِ عن كَونِه مِن ربِّ العالَمينَ واضحةٌ، بَلْهَ الجَزْمَ بأنَّه مُفترًى على اللهِ تعالى !
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ صِيغَ الخَبرُ عن قَولِهم العَجيبِ بصِيغةِ المُضارِعِ يَقُولُونَ؛ لاستِحضارِ حالةِ ذلك القولِ؛ تَحقيقًا للتَّعجُّبِ منه؛ حتَّى لا تَغفُلَ عن حالِ قَولِهم أذهانُ السَّامعينَ، وفي المُضارعِ مع ذلك إيذانٌ بتَجدُّدِ مَقالتِهم هذه، وأنَّهم لا يُقلِعون عنها على الرَّغمِ ممَّا جاءهم مِن البيِّناتِ رَغْمَ افتِضاحِهم بالعَجْزِ عن مُعارَضتِه .
- وأضرَبَ على قَولِهم: افْتَرَاهُ إضرابَ إبطالٍ بقولِه: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ؛ لإثباتِ أنَّ القُرآنَ حقٌّ. والتَّعريفُ في الْحَقُّ تَعريفُ الجِنسِ المُفيدُ تَحقيقَ الجِنسيَّةِ فيه، أي: هو حقٌّ، ذلك الحقُّ المَعروفةُ ماهيَّتُه مِن بيْنِ الأجناسِ، والمُفارقُ لِجِنسِ الباطلِ، وفي تَعريفِ المُسندِ بلامِ الجِنسِ ذَريعةٌ إلى اعتبارِ كَمالِ هذا الجِنسِ في المُسنَدِ إليه، وهو مَعنى القَصرِ الادِّعائيِّ للمُبالَغةِ، والحقُّ الواردُ مِن قِبَلِ اللهِ لا جَرَمَ أنَّه أكمَلُ جِنسِ الحقِّ .
- وفي قولِه: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ استُحْضِرَتِ الذَّاتُ العَليَّةُ هنا بعُنوانِ رَبِّكَ؛ لأنَّ الكلامَ جاء ردًّا على قولِهم: افْتَرَاهُ، يَعْنون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكان مَقامُ الرَّدِّ مُقتضيًا تأْييدَ مَن ألْصَقوا به ما هو بَرِيءٌ منه؛ بإثباتِ أنَّ الكتابَ حَقٌّ مِن ربِّ مَن ألْصَقوا به الافتراءَ؛ تَنْويهًا بشَأْنِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَخلُّصًا إلى تَصديقِه؛ لأنَّه إذا كان الكِتابُ الَّذي جاء به حقًّا مِن عِندِ اللهِ، فهو رسولُ اللهِ حقًّا؛ فقولُه: رَبِّكَ بعدَ قولِه: رَبِّ الْعَالَمِينَ تَخصيصٌ بعدَ تَعميمٍ؛ للتَّخلُّصِ إلى إثباتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والإيذانِ بأنَّ المُنزَّلَ الكائنَ مِن جِهةِ مالكِ العالَمينَ، ومُدبِّرِ أُمورِ المخلوقاتِ كلِّها هو الثَّابتُ مِن جِهةِ مَن هو مالكُك ومُدبِّرُ أمْرِك خاصَّةً؛ فدلَّ التَّخصيصُ بعدَ التَّعميمِ على عِظَمِ شأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ التَّصريحُ باسمِ الذَّاتِ والحَضرةِ الجامعةِ، وإثباتُ الخالقيَّةِ والمُدَبِّريَّةِ بعدَ الحُكمِ بإنزالِ هذا القرآنِ، دلَّ على تَعظيمِ شأنِ هذا المُنزَّلِ والمنزَّلِ عليه، كأنَّه قيل: هو الحقُّ مِن ربِّك ذلك الَّذي خلَق السَّمواتِ والأرضَ، ثمَّ استوَى على العَرشِ؛ فهو مِن بابِ ترتُّبِ الحُكمِ على الوَصفِ .
- قولُه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ المَقصودُ به: تَذكيرُهم بأنَّهم أحوَجُ الأقوامِ إلى نَذيرٍ؛ إذ لم يَكونوا على بَقيَّةٍ مِن هُدًى، وإثارةُ هِمَمِهم لاغتباطِ أهلِ الكتابِ؛ لِيَتقبَّلوا الكِتابَ الَّذي أُنزِلَ إليهم، ويَسبِقوا أهلَ الكتابِ إلى اتِّباعِه؛ فيَكونَ للمُؤمنينَ منه السَّبْقُ في الشَّرعِ الأخيرِ، كما كان لِمَن لم يُسلِمْ مِن أهْلِ الكتابِ السَّبقُ ببَعضِ الاهتداءِ ومُمارَسةِ الكِتابِ السَّابقِ .
- ولَمَّا حَكَى تعالى عنهم أنَّهم يَقولون: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ افتراهُ ورَدَّ عليهم، اقتَصَرَ في ذِكرِ ما جاء به القُرآنُ على الإنذارِ، وإنْ كان قد جاء له وللتَّبشيرِ؛ لِيَكونَ ذلك رَدْعًا لهم، ولأنَّه إذا ذُكِرَ الإنذارُ، صار عندَ العاقلِ فِكرٌ فيما أُنذِرَ به؛ فلعلَّ ذلك الفِكرَ يكونُ سَببًا لهِدايتِه .
- وقد جاءتْ هذه الآيةُ على أُسلوبٍ بَديعِ الإحكامِ؛ إذ ثبَتَ أنَّ الكتابَ تَنزيلٌ مِن ربِّ جميعِ الكائناتِ، وأنَّه يَحِقُّ ألَّا يَرتابَ فيه مُرتابٌ، ثمَّ انتقَلَ إلى الإنكارِ والتَّعجيبِ مِن الَّذين جَزَموا بأنَّ الجائيَ به مُفتَرٍ على اللهِ، ثمَّ ردَّ عليهم بإثباتِ أنَّه الحقُّ الكاملُ مِن ربِّ الَّذي نَسَبوا إليه افتِراءَه، فلو كان افتَراهُ لَقَدَرَ اللهُ على إظْهارِ أمْرِه، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47]، ثمَّ جاء بما هو أنْكَى للمُكذِّبينَ، وأبلَغُ في تَسفيهِ أحلامِهم، وأوغَلُ في النِّداءِ على إهمالِهم النَّظرَ في دَقائقِ المعاني؛ فبيَّنَ ما فيه تَذكرةٌ لهم ببَعضِ المَصالحِ الَّتي جاء لِأجْلِها هذا الكتابُ بقولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ؛ فقد جَمَعوا مِن الجَهالةِ ما هو ضِغْثٌ على إبَّالةٍ ؛ فإنَّ هذا الكتابَ على أنَّ حَقِّيَّتَه مُقتضيةٌ المُنافَسةَ في الانتفاعِ به ولو لم يُلْفَتوا إلى تَقلُّدِه، وعلى أنَّهم دُعوا إلى الأخْذِ به، وذلك ممَّا يُوجِبُ التَّأمُّلَ في حقِّيَّتِه؛ على ذلك كلِّه فهُم كانوا أحْوَجَ إلى اتِّباعِه مِن اليهودِ والنَّصارى والمجوسِ؛ لأنَّ هؤلاء لم تَسبِقْ لهم رِسالةُ مُرسَلٍ؛ فكانوا أبعَدَ عن طُرقِ الهُدَى بما تَعاقَبَ عليهم مِن القُرونِ دونَ دَعوةِ رسولٍ، فكان ذلك كافيًا في حِرصِهم على التَّمسُّكِ به، وشُعورِهم بمَزيدِ الحاجةِ إليه؛ رَجاءً منهم أنْ يَهتَدوا .
3- قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ
- قولُه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ جِيءَ باسمِ الجَلالةِ مُبتدأً؛ لإحضارِه في الأذهانِ بالاسمِ المُختصِّ به؛ قَطعًا لِدابرِ عَقيدةِ الشَّريكِ في الإلهيَّةِ، وجِيءَ باسمِ المَوصولِ (الَّذي)؛ للإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخبَرِ، وأنَّه الانفرادُ بالرُّبوبيَّةِ لجَميعِ الخلائقِ في السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، ومِن أولئك: المُشرِكون المَعْنيُّون بالخَبرِ. والخِطابُ مُوجَّهٌ إلى المُشركينَ على طَريقةِ الالْتفاتِ .
- قولُه: مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ (مِن) زائدةٌ؛ لِتَأكيدِ النَّفيِ، أي: لا وَليَّ لكم ولا شَفيعَ لكم غيرُ اللهِ؛ فلا وِلايةَ للأصنامِ، ولا شَفاعةَ لها؛ إبطالًا لِمَا زَعَموه لأصنامِهم مِن الوَصفينِ إبطالًا راجعًا إلى إبطالِ الإلهيَّةِ عنها .
- وفُرِّعَ على هذا الدَّليلِ إنكارٌ على عَدمِ تَدبُّرِهم في ذلك، وإهمالِهم النَّظرَ بقولِه: أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ؛ فهو استِفهامٌ إنكاريٌّ .
4- قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
- قولُه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ المَقصودُ مِن حَرفَيِ الابتِداءِ والانتِهاءِ (مِن وإلى) شُمولُ تَدبيرِ اللهِ تعالى الأُمورَ كلَّها في العالَمَينِ العُلويِّ والسُّفليِّ، تَدبيرًا شاملًا لها مِن السَّماءِ إلى الأرضِ؛ فأفادَ حَرفُ الانتهاءِ شُمولَ التَّدبيرِ لأُمورِ كلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ وفيما بيْنَهما. والتَّعريفُ في كلمةِ الْأَمْرَ مُفِيدٌ لاستِغراقِ الأُمورِ كلِّها، لا يَخرُجُ عن تَصرُّفِه شَيءٌ منها .
- وقيل: (ألْفٌ) يَجوزُ أنْ يُستعمَلَ كِنايةً عن الكَثرةِ الشَّديدةِ، كما يُقال: زُرْتُك ألْفَ مرَّةٍ، وقولُه تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96] ، وهو هنا بتَقديرِ كافِ التَّشبيهِ، أو كلمةِ (نَحو)، أي: كان مِقدارُه كألْفِ سَنةٍ، أو نَحوَ ألْفِ سَنةٍ، كما في قولِه تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] . ويَجوزُ أنْ يكونَ (ألْفٌ) مُستعمَلًا في صَريحِ مَعناهُ. وقولُه: مِمَّا تَعُدُّونَ أي: ممَّا تَحْسُبون في أعدادِكم، و(ما) مَصدريةٌ أو مَوصوليَّةٌ، وهو وَصفٌ لـ أَلْفَ سَنَةٍ. وهذا الوصفُ لا يَقْتضي كَوْنَ اسمِ (ألْفٍ) مُستعمَلًا في صَريحِ معناهُ؛ لأنَّه يَجوزُ أنْ يكونَ إيضاحًا للتَّشبيهِ؛ فهو قَريبٌ مِن ذِكرِ وَجهِ الشَّبهِ مع التَّشبيهِ، وقد يَترجَّحُ أنَّ هذا الوَصفَ لَمَّا كان في مَعنى الموصوفِ صار بمَنزلةِ التَّأكيدِ اللَّفظيِّ لِمَدلولِه، فكان رافعًا لاحتِمالِ المجازِ في العدَدِ .