موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (1-9)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بَاخِعٌ: أي: قاتِلٌ، قيل: البَخْعُ: أن يبلُغَ بالذَّبحِ البِخاعَ، وهو عِرقٌ مستبطِنٌ القَفا، وذلك أقصَى حدِّ الذَّبحِ ، وأصلُ (بخع): يدُلُّ على القَتلِ .
خَاضِعِينَ: أي: ذَليلينَ، وأصلُ (خضع): يدُلُّ على تَطامُنٍ في الشَّيءِ .
مُحْدَثٍ: أي: مُجَدَّدٍ إنزالُه، وأصلُ (حدث): يدُلُّ على كَونِ الشَّيءِ بعدَ أنْ لم يكُنْ .
زَوْجٍ كَرِيمٍ: أي: صِنفٍ ونوعٍ حسنٍ، وكلُّ شيءٍ شرُف في بابِه فإنَّه يُوصَفُ بالكرمِ .

المعنى الإجماليُّ:

ابتدأت السُّورةُ بالحُروفِ المقطَّعةِ، التي تُبيِّنُ إعجازَ القرآنِ؛ وتُبرِزُ عجزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يَتحدَّثون بها!
 ثمَّ قال الله تعالى: تلك آياتُ القُرآنِ الواضِحِ، المُظهرِ للحَقِّ.
 ثمَّ خاطَب الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بما يُسلِّيه عن تكذيبِ المشركينَ له، فقال: لعلَّك -يا محمَّدُ- مُهلِكٌ نفْسَك غمًّا وأسَفًا؛ بسَبَبِ تَكذيبِ الكافرينَ لك، وعَدَمِ إيمانِهم بدَعوتِك، إنْ نَشَأْ ننَزِّلْ على هؤلاء المُشرِكين مُعجِزةً ظاهِرةً مِن السَّماءِ تُلجِئُهم إلى الإيمانِ، فيَنقادوا للحَقِّ مقهورين.
ثمَّ بيَّن سبحانَه ما عليه هؤلاءِ الكافرونَ مِن عنادٍ وجحودٍ، وبيَّن سوءَ عاقبتِهم، فقال: كُلَّما جاءهم قُرآنٌ مُحدَثٌ تَنزيلُه عليك -أيُّها الرَّسولُ- أعرَضوا عنه فلم يُؤمِنوا به، فقد كذَّب هؤلاء الكُفَّارُ بالقُرآنِ الذي جاءهم مِن عندِ الله، فسيأتيهم عاقِبةُ ما كذَّبوا واستَهزؤوا به.
ثمَّ وبَّخهم سبحانَه على غفلتِهم عن التفكُّرِ في هذا الكونِ، فقال: أوَلم يَرَ أولئك المُشرِكون إلى ما أنبَتْنا في الأرضِ مِن الأصنافِ الكثيرةِ الكريمةِ الطيِّبةِ النَّافعةِ، إنَّ في ذلك لَدَلالةً على كَمالِ قُدرةِ الله تعالى، وما كان أكثَرُ هؤلاء المُشرِكين مُؤمِنينَ، وإنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- لهو الغالِبُ القاهِرُ المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الواسِعُ الرَّحمةِ بعبادِه، فلا يُعاجِلُهم بعُقوبتِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

طسم (1)  .
هذه الحروفُ المقطَّعةُ التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها .
تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2).
أي: تلك آياتُ القرآنِ البَيِّنِ، الواضِحِ صِدقُه، المُظهِرِ ببَيانِه ما فيه مِن الهُدى والحَقِّ .
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّه بيَّن الأمورَ قال بعْدَه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، منبِّهًا بذلك على أنَّ الكتابَ وإنْ بلَغَ في البيانِ كلَّ غايةٍ فغيرُ مُدخِلٍ لهم في الإيمانِ؛ لِمَا أنَّه سبَقَ حُكْمُ اللهِ بخِلافِه، فلا تُبالِغْ في الحزنِ والأسَفِ على ذلك؛ لأنَّك إنْ بالَغْتَ فيه كنتَ بمنزلةِ مَن يَقتُلُ نفْسَه ثمَّ لا يَنتفِعُ بذلك أصلًا، فصَبَّرَه وعَزَّاهُ وعرَّفَه أنَّ غَمَّه وحزنَه لا نفعَ فيه، كما أنَّ وُجودَ الكِتابِ على بيانِه ووُضوحِه لا نفعَ لهم فيه .
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) .
أي: لعلَّك -يا محمَّدُ- مُهلِكٌ نفْسَك غمًّا وأسَفًا؛ لعَدَمِ إيمانِ قَومِك بما جِئتَهم به مِن الحَقِّ، فلا تُهلِكْ نفْسَك بحُزنِك عليهم؛ فما عليك إلَّا البلاغُ، واللهُ يَهدي مَن يشاءُ .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان: 23] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] .
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4).
أي: لو شِئْنا لأنزَلْنا على هؤلاءِ الكُفَّارِ مُعجِزةً ظاهِرةً مِن السَّماءِ تَضطرُّهم إلى الإيمانِ، فينقادوا للحَقِّ قَهرًا، ولكِنْ أراد اللهُ بحكمتِه أن يكونَ إيمانُ كُلِّ أحدٍ اختياريًّا .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [يونس: 99، 100].
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5).
أي: وإذا أتى الكُفَّارَ قُرآنٌ حَديثُ النُّزولِ مِن الرَّحمنِ؛ لِيَتذكَّروا ويتَّعِظوا ويتَّبِعوه، أعرَضوا عنه، فلم يُؤمِنوا به ولم يتدَبَّروه !
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6).
أي: فقد كذَّب الكُفَّارُ بالقُرآنِ الذي جاءهم مِن عندِ اللهِ، فسيأتيهم في المُستقبَلِ صِدقُ أخبارِ القُرآنِ الذي استَهزؤوا به؛ من هَلاكِهم، ونَصرِ اللهِ نَبيَّه، والبَعثِ في الآخرةِ، ودُخولِهم النَّارَ .
كما قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 66، 67].
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان إعراضُهم عن الإيمانِ بالله الخالقِ لهذا الوجودِ، وتكذيبُ ما جاءَتْهم به رسُلُه؛ مِن أعظمِ الكفرِ، وكانوا يجعلونَ الأصنامَ آلهةً؛ نَبَّهَ تعالى على قدرتِه، وأنَّه الخالقُ المنشئُ الذي يَستحِقُّ العبادةَ، فقال تعالى :
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7).
أي: أولم يَرَ أولئك المُشرِكون إلى الأرضِ، فيتفَكَّروا في كثرةِ ما أنبَتْنا فيها مِن الأصنافِ الطيِّبةِ الحَسَنةِ النَّافعةِ ؟!
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ما سبَقَ باهرًا للعَقلِ، مُنَبِّهًا له في كلِّ حالٍ على عَظيمِ اقتِدارِ صانِعِه، وبَديعِ اختيارِه؛ وصَلَ به قولَه :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.
أي: إنَّ في إحياءِ الأرضِ وإنباتِها بعدَ مَوتِها لَدَلالةً على قُدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتى .
كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 33 - 36].
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: وما أكثَرُ هؤلاء المُشرِكين بمؤمِنينَ باللهِ تعالى وآياتِه .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].
وقال سُبحانَه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17] .
وقال تبارك وتعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).
أي: وإنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- لهُو القويُّ الغالِبُ، القاهِرُ المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يعاجِلُهم بعِقابِه، ويقبَلُ تَوبةَ مَن آمَنَ به، وينَجِّي أولياءَه مِن عَذابِه .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

لا يَنبغي أنْ نَجزَعَ إذا ذكَّرْنا إنسانًا ووجَدْناه يُعانِدُ أو يُخاصمُ أو يقولُ: «أنا أعمَلُ ما شئتُ» أو ما أشبهَ ذلك؛ قال الله تعالى لنبيِّه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لا تُهْلِكْ نفسَك إذا لم يؤمِنوا؛ إيمانُهم لهم، وكُفرُهم ليس عليك .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً  دليلٌ على إثباتِ الحِكمةِ؛ لأنَّ اللهَ لم يُنَزِّلْ هذه الآيةَ؛ لأنَّه لو أنزَلها لكان الإيمانُ اضطراريًّا، والإيمانُ الاضطراريُّ لا مَدحَ فيه ولا ثناءَ، بل لا يَنفَعُ صاحبَه؛ فلهذا إذا آمَنَ الإنسانُ عندَ ملاقاةِ الموتِ ما نفعَه، وبعدَ طلوعِ الشَّمسِ مِن مغربِها ما نفعَه! نعم، لا يَنفَعُ إلَّا إذا كان الإيمانُ اختياريًّا، ولَمَّا نَتَقَ اللهُ الجبلَ فوقَ بني إسرائيلَ آمَنوا، ولكنَّ هذا الإيمانَ لا شَكَّ أنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّه إيمانٌ اضطراريٌّ، فمِنْ حكمةِ اللهِ سبحانه وتعالى أنَّه لم يُنَزِّلْ هذه الآيةَ ليَكونَ الإيمانُ عن اختيارٍ، لا عن اضطرارٍ .
2- قال الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ إنْ قيل: لِماذا لم يُرِهم آيةً كما أُرِيَ بنو إسرائيلَ نَتْقَ الجبَلِ فوقَهم كأنَّه ظُلَّةٌ؟
الجواب: كان بنو إسرائيلَ مُؤمِنينَ بموسى وما جاء به، فلم يكنْ إظهارُ الآياتِ لهم لإلجائِهم على الإيمانِ، ولكِنَّه كان لزيادةِ تثبيتِهم، كما قال إبراهيمُ عليه السلامُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة: 260] .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ دليلٌ على أنَّ الأسبابَ مؤثِّرةٌ؛ لأنَّه إذا نزلَتِ الآيةُ خَضَعوا، وهذا دليلٌ على ثبوتِ الأسبابِ وأنَّها مؤثِّرةٌ .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أنَّه تعالى وصَفَ الكُفَّارَ بالإعراضِ أوَّلًا، وبالتَّكذيبِ ثانيًا، وبالاستِهزاءِ ثالثًا؛ وهذه درجاتُ مَن أخذَ يترقَّى في الشَّقاوةِ؛ فإنَّه يُعرِضُ أولًا، ثم يُصَرِّحُ بالتَّكذيبِ والإنكارِ إلى حيثُ يَستهزئُ به ثالثًا .
5- قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أنواعُ النَّباتِ المذكورةُ في هذه الآيةِ دالَّةٌ على وَحدانيَّةِ اللهِ؛ لأنَّ هذا الصُّنعَ الحَكيمَ لا يَصدُرُ إلَّا عن واحدٍ لا شريكَ له. وهذا دَليلٌ مِن طريقِ العقْلِ، ودليلٌ أيضًا على إمكانِ البعثِ؛ لأنَّ الإنباتَ بعدَ الجَفافِ مثيلٌ لإحياءِ الأمواتِ بعدَ رُفاتِهم؛ كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس: 33] . وهذا دَليلٌ تقْريبيٌّ للإمكانِ؛ فكان في آيةِ الإنباتِ تَنبيهٌ على إبطالِ أصْلَيْ عدَمِ إيمانِهم؛ وهما: أصْلُ الإشراكِ باللهِ، وأصلُ إنكارِ البعثِ .
6- قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فإنْ قيل: حين ذُكِرَ الأزواجُ ودَلَّ عليها بكلمتَي الكثرةِ والإحاطةِ، وكانت بحيث لا يُحصيها إلَّا عالِمُ الغَيبِ، كيف قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وهلَّا قال: (آيات)؟
فالجوابُ من عدَّةِ أوجُهٍ:
الأول: أن يكونَ ذلك مُشارًا به إلى مصدرِ أَنْبَتْنَا، فكأنَّه قال: إنَّ في الإنباتِ لآيةً أيَّ آيةٍ، فالمُشارُ إليه واحدٌ، وهو الإنباتُ، وإنِ اختلَفَت مُتعلَّقاتُه.
الثاني: أن يُرادَ: إنَّ في كُلِّ واحدةٍ مِن تلك الأزواجِ لَآيةً؛ فيَكونَ على التَّوزيعِ .
الثالث: لعلَّه وحَّدها على كثرتِها إشارةً إلى أنَّ الدَّوالَّ عليه متساويةُ الأقدامِ في الدَّلالةِ، فالراسخون تُغنيهم واحدةٌ، وغيرُهم لا يَرجعون لشيءٍ .
7- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ خَتَمَ اللهُ تعالى بعِزَّتِه ورحمتِه؛ لِيَجمعَ بيْنَ الترغيبِ والترهيبِ؛ التَّرهيبِ بالعِزَّةِ، والتَّرغيبِ بالرَّحمةِ .
8- في قوله تعالى: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الجمعُ هنا بينَ هاتينِ الصِّفتينِ «العِزَّةِ، والرَّحمةِ» للتناسُبِ البالغِ؛ لأنَّ مِن اجتماعِهما يحصلُ الكمالُ، فهو بعِزَّتِه ذو رحمةٍ؛ فلو قارنَّا بينَ العزةِ والرحمةِ في صفاتِ المخلوقينَ لوجَدْنا أنَّهما لا يجتمعان في الغالبِ؛ وأنَّ العزيزَ الذي يَرى نفْسَه قاهرًا: في الغالبِ لا تكونُ فيه رحمةٌ، فاجتماعُ الصِّفتينِ يحصلُ بهما كمالٌ على الكمالِ، عِزَّةٌ ورحمةٌ، ثم اجتماعُهما كمالٌ، فيكونُ مع العِزَّةِ رحيمًا لا يُؤاخِذُ ولا يَنتقِمُ؛ ولهذا لم يُعَجِّلِ اللهُ سبحانه وتعالى العقوبةَ للظالمِ، ولكنَّه بحكمتِه يُمْلي له حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: طسم المقصودُ بهذه الحروفِ المُقطَّعةِ: التَّعريضُ بإلْهابِ نُفوسِ المُنكِرينَ لِمُعارَضةِ بعضِ سُورِ القرآنِ بالإتيانِ بمِثْلِه في بَلاغتِه وفصاحتِه، وتحدِّيهم بذلك، وتسجيلِ عجْزِهم عن ذلك .
2- قولُه تعالى: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
- قولُه: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ الإشارةُ بـ تِلْكَ إلى الحاضرِ في الأذهانِ مِن آياتِ القرآنِ المُنزَّلِ مِن قبْلُ، وبيَّنَه الإخبارُ عن اسمِ الإشارةِ بأنَّها آياتُ الكتابِ ، وما في اسمِ الإشارةِ مِن معنى البُعدِ؛ للتَّنبيهِ على بُعدِ منزلةِ المُشارِ إليه في الفَخامةِ .
3- قولُه تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الكلامُ استئنافٌ بَيانيٌّ، وقَع جوابًا عمَّا يُثِيرُه مَضمونُ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ مِن تساؤُلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في نفْسِه عن استمرارِ إعراضِ المُشركينَ عن الإيمانِ وتصديقِ القرآنِ. وحُوِّلَ الخِطابُ مِن تَوجيهِه إلى المعاندينَ إلى تَوجيهِه للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو نوعٌ مِن الالْتفاتِ؛ فيه الْتفاتٌ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ، والْتفاتٌ عمَّن كان الكلامُ مُوجَّهًا إليه بتَوجيهِ الكلامِ إلى شخصٍ آخَرَ .
- قولُه: لَعَلَّكَ (لعلَّ) للإشفاقِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، وهو حثٌّ على ترْكِ الأسفِ مِن ضَلالِهم، على طريقةِ تَمثيلِ شأْنِ المُتكلِّمِ الحاثِّ على الإقلاعِ بحالِ مَن يَستقرِبُ حُصولَ هَلاكِ المُخاطَبِ إذا استمرَّ على ما هو فيه مِن الغَمِّ .
- قولُه: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جِيءَ بمُضارعِ الكَونِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه لا يأسَفُ على عدَمِ إيمانِهم ولوِ استمرَّ ذلك في المُستقبَلِ؛ فيكونُ انتفاؤُه فيما مَضى أوْلى بألَّا يُؤسَفَ له. وعدَلَ عن (ألَّا يُؤمِنوا) إلى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ في فِعلِ الكونِ دَلالةً على الاستمرارِ، زِيادةً على ما أفادَتْه صِيغةُ المُضارعِ، فتأكَّدَ استمرارُ عدَمِ إيمانِهم الَّذي هو مَورِدُ الإقلاعِ عن الحُزنِ له .
- وضَميرُ يَكُونُوا عائدٌ إلى معلومٍ مِن مقامِ التَّحدِّي الحاصلِ بقولِه: طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 1، 2]؛ للعلْمِ بأنَّ المُتحدَّيْنَ هم الكافِرونَ المُكذِّبون .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ مُؤْمِنِينَ؛ إمَّا لأنَّ المُرادَ: مُؤمنينَ بما جِئتَ به مِن التَّوحيدِ والبعثِ، وتَصديقِ القرآنِ وتصديقِ الرَّسولِ، وإمَّا لأنَّه أُرِيدَ بـ مُؤْمِنِينَ المعنى اللَّقبِيُّ، أي: ألَّا يَكونوا في عِدادِ الفريقِ المعروفِ بالمؤمنينَ، وهم أمَّةُ الإسلامِ .
- وقد جاء في سُورةِ (الكهفِ): فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] بحرْفِ نفْيِ الماضي وهو (لَمْ)؛ لأنَّ سُورةَ (الكهفِ) مُتأخِّرةُ النُّزولِ عن سُورةِ (الشُّعراءِ)؛ فعدَمُ إيمانِهم قد تقرَّرَ حينَئذٍ، وبلَغَ حدَّ المأْيوسِ منه .
4- قولُه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
- قولُه: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ ... استِئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ ما يُفْهَمُ مِن الكلامِ مِن النَّهيِ عن التَّحسُّرِ المذكورِ، ببَيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مَشيئةُ اللهِ تعالى حتْمًا؛ فلا وجْهَ للطَّمعِ فيه، والتَّألُّمِ مِن فَواتِه .
- وهو استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ التَّسليةَ على عدَمِ إيمانِهم تُثِيرُ في النَّفسِ سُؤالًا عن إمهالِهم دونَ عُقوبةٍ لِيُؤمِنوا، كما قال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] ، فأُجِيبَ بأنَّ اللهَ قادرٌ على ذلك. فهذا الاستئنافُ اعتراضٌ بيْنَ الجُملتينِ المعطوفةِ إحداهما على الأُخرى .
- وجِيءَ بحرْفِ (إنْ) الَّذي الغالبُ فيه أنْ يُشعِرَ بعدَمِ الجزْمِ بوُقوعِ الشَّرطِ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك لا يَشاؤُه اللهُ لحِكمةٍ اقتضَتْ ألَّا يَشاءَه .
- ومفعولُ نَشَأْ محذوفٌ، يدُلُّ عليه جوابُ الشَّرطِ على الطَّريقةِ الغالبةِ في حذْفِ مفعولِ فِعلِ المشيئةِ. والتَّقديرُ: إنْ نشَأْ تَنزيلَ آيةٍ نُنزِّلْها ، وقيل: إنْ نشَأْ إيمانَهم .
- وتَقديمُ الظَّرفينِ -عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ- على المفعولِ الصَّريحِ آَيَةً؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .
- قولُه: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ أصْلُ الكلامِ: فظَلُّوا لها خاضعينَ، فأُقحِمَتِ الأعناقُ لبَيانِ مَوضعِ الخُضوعِ، وتُرِكَ الكلامُ على أصْلِه، كقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ، كأنَّ الأهلَ غيرُ مذكورٍ. أو لَمَّا وُصِفَت بالخُضوعِ الَّذي هو للعُقلاءِ قيل: خَاضِعِينَ، كقولِه تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] . وقيل: أعناقُ النَّاسِ: رُؤساؤهم ومُقدَّمُوهم، شُبِّهوا بالأعناقِ كما قيل لهم: هم الرُّؤوسُ والنَّواصي والصُّدورُ. وقيلَ: جماعاتُ النَّاسِ . وفائدةُ الوجْهِ الأوَّلِ -وهو إقحامُ العُنقِ- تصويرُ حالةِ الخضوعِ؛ إدخالًا للرَّوعةِ. والوجْهُ الثَّاني مِن بابِ إجراءِ ما لا يَعقِلُ مُجرى العُقلاءِ؛ مُبالغةً لِخُضوعِهم، فكأنَّه سَرى منهم إليها. والثَّالثُ مِن إطلاقِ الجُزءِ على الكلِّ؛ فإنَّ المُتكبِّرَ إنَّما يَظهَرُ تجبُّرُه في عُنقِه، ولَيِّه له .
- وفُرِّعَ على تَنزيلِ الآيةِ ما هو في مَعنى الصِّفةِ لها، وهو جُملةُ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ بفاءِ التَّعقيبِ .
- قولُه: فَظَلَّتْ معطوفٌ على المُضارعِ نُنَزِّلْ الَّذي لو استُعمِلَ بدَلَه الماضي لكانَ صحيحًا ، وفائدةُ وضْعِ نُنَزِّلْ مَوضِعَ (أنزَلْنا): استحضارُ صُورةِ إنزالِ تلك الآيةِ العظيمةِ المُلْجِئةِ إلى الإيمانِ، وحُصولِ خُضوعِ رِقابِهم عندَ ذلك في ذِهنِ السَّامعِ؛ لِيَتعجَّبَ منه، وإلَّا لم يصِحَّ عطْفُ الماضي على المُستقبَلِ بحرفِ التَّعقيبِ، أو جَعْلُ الماضي مُسبَّبًا عن المُستقبَلِ . وقيل: فائدةُ عَطفِ فَظَلَّتْ -وهو ماضٍ- على المضارِعِ نُنَزِّلْ: التفنُّنُ بيْنَ الصِّيغتَينِ، وتقريبُ زَمنِ مُضيِّ المُعقَّبِ بالفاءِ مِن زَمَنِ حُصولِ الجزاءِ، بحيثُ يكونُ حصولُ خُضوعِهم للآيةِ بمَنزلةِ حُصولِ تَنزيلِها؛ فيتِمُّ ذلك سريعًا حتَّى يُخيَّلَ لهم مِن سُرعةِ حُصولِه أنَّه أمرٌ مضَى؛ فلذلك قال: فَظَلَّتْ، ولم يقُلْ: (فتَظَلُّ)، وهذا قريبٌ من استِعمالِ الماضي في قولِه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وكِلاهما للتهديدِ .
5- قولُه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بَيانٌ لشِدَّةِ شَكيمتِهم، وعدَمِ ارْعِوائِهم عمَّا كانوا عليه مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ بغيرِ ما ذُكِرَ مِن الآيةِ المُلْجئةِ؛ لِصَرْفِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن الحِرصِ على إسلامِهم، وقَطْعِ رجائِه عنه .
- قولُه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ ... فيه دَلالةٌ على فَضْلِه وشَرفِه، وشَناعةِ ما فعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمةِ؛ لِتَغليظِ شَناعتِهم، وتَهويلِ جِنايتِهم؛ فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأْتيهم مِن جَنابِه عزَّ وجلَّ على الإطلاقِ شَنيعٌ قبيحٌ، وعمَّا يأْتيهم بمُوجَبِ رَحمتِه تعالى لِمَحضِ مَنفعتِهم أشنَعُ وأقبَحُ .
- وقولُه: وَمَا يَأْتِيهِمْ ... فيه التعبيرُ بالمُضارِعِ (يأتي)؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ والاستمرارِ .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ ذِكْرٍ مُؤكِّدةٌ لعُمومِ نفْيِ الأحوالِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ جاء قولُه هنا: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بذِكْرِ اسمِ (الرَّحمنِ) دونَ وصْفِ (الرَّبِّ) كما في سُورةِ (الأنبياءِ): مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2] . ووَجْهُه: أنَّ السِّياقَ هنا لِتَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إعراضِ قَومِه؛ فكان في وصْفِ مُؤْتي الذِّكْرِ بـ (الرَّحمنِ) تَشنيعٌ لحالِ المُعرِضينَ، وتَعريضٌ لِغَباوتِهم أنْ يُعرِضوا عمَّا هو رَحمةٌ لهم، فإذا كانوا لا يُدْرِكون صَلاحَهم، فلا تَذهَبْ نفْسُك حَسراتٍ على قومٍ أضاعوا نفْعَهم، وأنت قد أرشدْتَهم إليه وذَكَّرْتَهم، كما قال المَثَلُ : لا يَحزُنْك دمٌ هَراقَه أهْلُه .
- وقيلَ: خُصَّتْ سُورةُ (الأنبياءِ) بقولِه: مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) لم يأْتِ مُضافًا، ولِمُوافقةِ ما بعْدَه، وهو قولُه: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ [الأنبياء: 4] ، وخُصَّتْ سُورةُ (الشُّعراءِ) بقولِه: مِنَ الرَّحْمَنِ؛ لِيَكونَ كلُّ سُورةٍ مَخصوصةً بوصْفٍ مِن أوصافِه؛ وليس في أوصافِ اللهِ تعالى اسمٌ أشبَهُ باسمِ (اللهِ) مِن (الرَّحمنِ)؛ لأنَّهما اسمانِ ممنوعانِ أنْ يُسمَّى بهما غيرُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولِمُوافقةِ ما بعْدَه، وهو قولُه: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 9] ؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) و(الرَّحيمَ) مِن مَصدرٍ واحدٍ . وقيل غيرُ ذلك .
- وفي الإتيانِ بفِعلِ كَانُوا وخبَرِه دُونَ أنْ يُقالَ: (إلَّا أعْرَضوا): إفادةُ أنَّ إعراضَهم راسخٌ فيهم، وأنَّه قديمٌ مُستمِرٌّ؛ إذ أخبَرَ عنهم قبْلَ ذلك بقولِه: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، فانتِفاءُ كونِ إيمانِهم واقعًا هو إعراضٌ منهم عن دَعوةِ الرَّسولِ الَّتي طريقُها الذِّكْرُ بالقرآنِ، فإذا أتاهُم ذِكْرٌ بعدَ الذِّكْرِ الَّذي لم يُؤمِنوا بسَببِه، وجَدَهم على إعراضِهم القديمِ .
- وجُملةُ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ جُملةٌ حاليَّةٌ، أي: إلَّا يَكونوا عنه مُعرِضينَ، تدُلُّ على أنَّ دَيْدَنَهم وعادتَهم الإعراضُ عن ذِكْرِ اللهِ، أي: هذِه عادتُهم، فلا تأسَفْ لعدَمِ إيمانِهم بآياتِ الكتابِ المُبينِ، وما يَجيئُهم منها مِن بَعْدُ، فسيُعرِضون عنه؛ لأنَّهم عُرِفوا بالإعراضِ .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ على الخبرِ؛ لرِعايةِ الفاصلةِ .
- وهذه الآيةُ مُتَّصِلةٌ معنًى بقولِه تعالى: طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 1، 2]؛ فإنَّه تعالى أعلَمَ أوَّلًا: أنَّه أنزَلَ هذا الكتابَ الكريمَ في نِهايةٍ مِن الوُضوحِ والبَيانِ، وأنَّهم ما رَفَعوا له رأسًا، ثمَّ نبَّهَ ثانيًا على أنَّ هذا الكتابَ مع وُضوحِ آياتِه إنَّما أُنزِلَ على سبيلِ التَّدرُّجِ؛ لِيَكونَ أدخَلَ في التَّذكيرِ، وأنجَعَ في الاتِّعاظِ به، وهم مع ذلك قابَلوا كلَّ حِصَّةٍ منه بتَكذيبٍ واستِهزاءٍ، كلُّ ذلك تَسليةً لحَبيبِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ لئلَّا يَذهَبَ بنفْسِه حَسَراتٍ؛ ولذلك أوقَعَ قولَه تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... الآيتينِ اعتراضًا، يعني: انظُرْ إليهم وإلى ما فعَلوا بمِثْلِ هذا الكتابِ الكريمِ وبمُنزِلِه، على أنَّه قادرٌ على أنْ يَقْسِرَهم على الإيمانِ وهم مُهانون خاضِعون، فأشْفِقْ على نفْسِك أنْ تَقتُلَها حَسرةً على ما فاتَك مِن إسلامِهم .
6- قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ خُولِفَ بيْنَ الألفاظِ -وهي الإعراضُ والتَّكذيبُ والاستهزاءُ- والغرضُ واحدٌ، وهو الإعراضُ؛ وذلك لاختلافِ الأغراضِ، كأنَّه قِيل: حِينَ أعْرَضوا عن الذِّكْرِ فقد كذَّبوا به، وحينَ كذَّبوا به فقد خفَّ عندَهم قَدْرُه، وصار عُرضةً للاستهزاءِ والسُّخريةِ؛ لأنَّ مَن كان قابلًا للحقِّ مُقبِلًا عليه، كان مُصدِّقًا به لا مَحالةَ ولم يُظَنَّ به التَّكذيبُ، ومَن كان مُصدِّقًا به كان مُوقِّرًا له؛ فعدَل في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ عمَّا يَقْتضيهِ سائرُ ما سلَفَ مِن الإعراضِ والتَّكذيبِ؛ للإيذانِ بأنَّهما كانا مُقارنَينِ للاستِهزاءِ ؛ فالمقصودُ التَّدرُّجُ مِن غَرضٍ إلى غرضٍ، وتصويرُ معنَى ما صدَرَ منهم مِن الاستهزاءِ، وأنَّه نَتيجةُ التَّكذيبِ المُسبَّبِ عن الإعراضِ؛ فالفاءُ في قولِه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا عاطفةٌ، وفي قولِهم: فَسَيَأْتِيهِمْ سَببيَّةٌ فصيحةٌ؛ لأنَّ مدْخولَها وعيدٌ للمُستهزئِ، والوعيدُ مَسبوقٌ بحُصولِ الاستهزاءِ . وقيل: الفاءُ في قولِه: فَقَدْ كَذَّبُوا فَصيحةٌ، أي: فقد تَبيَّنَ أنَّ إعراضَهم إعراضُ تكذيبٍ، بعْدَ الإخبارِ عنهم بأنَّ سُنَّتَهم الإعراضُ عن الذِّكْرِ الآتي بعضُه عقِبَ بعضٍ؛ فإنَّ الإعراضَ كان لأنَّهم قد كذَّبوا بالقُرآنِ. والفاءُ في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ لترتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها، وتَعقيبِ الإخبارِ بالوعيدِ بعْدَ الإخبارِ بالتَّكذيبِ .
- وقيل: في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ احتِباكٌ ؛ حيثُ ذَكَر التكذيبَ أولًا دليلًا على حذْفِه ثانيًا، والاستهزاءَ ثانيًا دليلًا على حَذْفِ مِثْلِه أولًا .
- والسِّينُ والفاءُ في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ لتَأكيدِ مَضمونِ الجُملةِ وتَقريرِه .
- وأيضًا قولُه: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وعيدٌ لهم وإنذارٌ بأنَّهم سيَعلمون إذا مسَّهم عذابُ اللهِ ما الشَّيءُ الَّذي كانوا يَستهزِئون به . وأنباؤُه: ما سيَحيقُ بهم مِن العُقوباتِ العاجلةِ والآجلةِ، عبَّرَ عنها بذاكَ؛ إمَّا لكَونِها ممَّا نبَّأَ بها القُرآنُ الكريمُ، وإمَّا لأنَّهم بمُشاهَدتِها يَقِفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ، كما يقِفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ، وفيه تَهويلٌ له؛ لأنَّ النَّبأَ لا يُطلَقُ إلَّا على خبرٍ خطيرٍ، له وقْعٌ عظيمٌ .
- وأُوثِرَ إفرادُ فِعلِ (يأْتيهم)، مع أنَّ فاعلَه جمْعُ تَكسيرٍ لغيرِ مُذكَّرٍ حقيقيٍّ يجوزُ تأْنيثُه؛ لأنَّ الإفرادَ أخفُّ في الكلامِ؛ لكثرةِ دَوَرانِه .
- و(ما) في قولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً؛ فيجوزُ أنْ يكونَ ماصَدَقَها القرآنَ، وذلك كقولِه تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة: 231]. وجِيءَ في صِلَتِه بفِعلِ يَسْتَهْزِئُونَ دونَ (يُكذِّبون)؛ لتَحصُلَ فائدةُ الإخبارِ عنهم بأنَّهم كذَّبوا به واسْتَهْزؤوا به، وتكون الباءُ في بِهِ لتَعديةِ فِعلِ يَسْتَهْزِئُونَ، والضَّميرُ المجرورُ عائدًا إلى (ما) الموصولةِ، وأنباؤُه: أخبارُه بالوعيدِ. ويجوزُ أنْ يكونَ ماصَدَقَ (ما): جِنسَ ما عُرِفوا باستهزائِهم به، وهو التَّوعُّدُ؛ كانوا يقولون: متى هذا الوعدُ؟ ونحوَ ذلك. وإضافةُ أَنْبَاءُ إلى مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ على هذا إضافةٌ بَيانيَّةٌ، أي: ما كانوا به يَستهزِئون الَّذي هو أنباءُ ما سيَحُلُّ بهم. وجمْعُ الأنباءِ على هذا باعتبارِ أنَّهم اسْتَهْزؤوا بأشياءَ كثيرةٍ؛ منها البعثُ، ومنها العذابُ في الدُّنيا، ومنها نصْرُ المُسلمينَ عليهم: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، ومنها فتْحُ مكَّةَ، ومنها عذابُ جهنَّمَ، وشجرةُ الزَّقُّومِ. ويجوزُ كونُ (ما) مصدريَّةً، أي: أنباءُ كونِ استهزائِهم، أي: حُصوله، وضميرُ بِهِ عائدًا إلى معلومٍ مِن المقامِ، وهو القرآنُ أو الرَّسولُ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم .
- وإقحامُ فِعلِ كَانُوا هنا؛ لإفادةِ أنَّ استهزاءَهم راسخٌ فيهم، وأنَّه قديمٌ مُستمِرٌّ. وأُوثِرَ الإتيانُ بالفِعلِ المضارعِ -وهو يَسْتَهْزِئُونَ- دونَ اسمِ الفاعلِ كالَّذي في قولِه: كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] ؛ لأنَّ الاستهزاءَ يتجدَّدُ عندَ تجدُّدِ وَعِيدِهم بالعذابِ، وأمَّا الإعراضُ فمُتمكِّنٌ منهم .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جاء قولُه هنا: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وفي سُورةِ (الأنعامِ) قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 5] . ووجْهُه: أنَّ سُورةَ الأنعامِ مُتقدِّمةٌ في النُّزولِ على (الشُّعراءِ)، فاستوفَى فيها اللَّفْظَ؛ فقَيَّدَ التَّكذيبَ بقولِه: بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، ثمَّ قال: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ على التَّمامِ، وحذَف مِن (الشُّعراءِ)، وهو مرادٌ؛ إحالةً على الأوَّلِ، فذَكَرَ فيها: فَقَدْ كَذَّبُوا مُطلقًا؛ لأنَّ تَقييدَه في هذه السُّورةِ يدُلُّ عليه، ثمَّ اقتصَرَ على السِّينِ هنا بدلَ (سوف)؛ لِيتَّفِقَ اللَّفظانِ فيه على الاختصارِ . ولَمَّا كان فِعلُ الاستقبالِ المقرونُ بـ (سوف) أبعَدَ زمانًا مِن المقرونِ بالسِّينِ، تَعيَّن الأوَّلُ فيما نزل أوَّلًا، والثاني فيما نزَل آخِرًا .
7- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا الواوُ عاطفةٌ على جُملةِ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] ؛ فالهمزةُ الاستفهاميَّةُ منه مُقدَّمةٌ على واوِ العطفِ لفظًا؛ لأنَّ للاستفهامِ الصَّدارةَ، والاستفهامُ إنكارٌ على عدَمِ رُؤيتِهم ذلك؛ لأنَّ دَلالةَ الإنباتِ على الصَّانعِ الواحدِ دَلالةٌ بيِّنةٌ لكلِّ مَن يراهُ، فلمَّا لم يَنتفِعوا بتلك الرُّؤيةِ نُزِّلَت رُؤيتُهم مَنزلةَ العدَمِ، فأنكَرَ عليهم ذلك .
- وقيل: الهَمزةُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أفَعَلوا ما فَعَلوا مِن الإعراضِ عن الآياتِ، والتَّكذيبِ والاستهزاءِ بها، ولم ينظرُوا إِلَى الْأَرْضِ !
- قولُه: كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئنافٌ مُبيِّنٌ لِمَا في الأرضِ مِن الآياتِ الزَّاجرةِ عن الكُفرِ، الدَّاعيةِ إلى الإيمانِ .
- و(مِن) تَبعيضيَّةٌ. ومَورِدُ التَّكثيرِ الَّذي أفادَتْه (كم) هو كثرةُ الإنباتِ في أمكنةٍ كثيرةٍ، ومَورِدُ الشُّمولِ المُفادِ مِن (كل) هو أنواعُ النَّباتِ وأصنافُه؛ وفي الأمْرينِ دَلالةٌ على دَقيقِ الصُّنعِ. واستُغْنِيَ بذِكْرِ أبعاضِ كلِّ زوجٍ عن ذِكْرِ مُميِّزِ (كم)؛ لأنَّه قد عُلِمَ مِن التَّبعيضِ .
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ جَمَعَ بيْنَ (كم) و(كل)، ولم يقُلْ: كم أنبَتْنا فيها مِن زوجٍ كريمٍ؛ لأنَّ (كل) دلَّت على الإحاطةِ بأزواجِ النَّباتِ على سبيلِ التَّفصيلِ، و(كم) دلَّت على أنَّ هذا الذي أحاط بأزواج النبات متكاثرٌ، مُفرِطُ الكثرةِ، فالمحيطُ: الكلُّ، والمحاطُ به: الأصنافُ، فهذا معنى الجمْعِ بيْنَهما، وبه نبَّهَ على كَمالِ قُدرتِه ؛ فمَقامُ بَيانِ كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى يَقْتضي إيرادَ ما يَستوعِبُ الأصنافَ كلَّها مع بَيانِ تكاثُرِها، ولا يَحصُلُ ذلك إلَّا بالجمْعِ بيْن (كم) و(كل) ؛ ففي الآيةِ فنُّ التَّتميمِ .
- وأيضًا في قولِه: كَرِيمٍ فنُّ التَّتميمِ، فتمَّمَ وصْفَه الزَّوجَ بالكريمِ؛ وذلك لأمْرينِ:
أ- أنَّ النَّباتَ على نوعينِ: نافعٍ وضارٍّ، فدلَّ بكلمةِ كَرِيمٍ أنَّه يَقصِدُ النَّوعَ النَّافعَ؛ لاختصاصِه بالدَّلالةِ على القُدرةِ والنِّعمةِ معًا، فذكَرَ كثرةَ ما أنبَتَ في الأرضِ مِن جميعِ أصنافِ النَّباتِ النَّافعِ، وخلَّى ذِكْرَ الضَّارِّ.
ب- أنَّه يَقصِدُ كِلَا النَّوعينِ النَّافعِ والضَّارِّ، ويَصِفُهما جميعًا بالكرَمِ؛ تَنبيهًا على أنَّه ما أنبَتَ شيئًا إلَّا لفائدةٍ؛ لأنَّ الحكيمَ لا يَفعَلُ فِعلًا إلَّا لغرضٍ صحيحٍ ولِحكمةٍ بالغةٍ، وإنْ غفَلَ عنها الغافلونَ، ولم يَتوصَّلْ إلى مَعرفتِها العاقلونَ .
- قولُه: زَوْجٍ كَرِيمٍ هذا مِن إدماجِ الامتِنانِ في ضِمْنِ الاستِدلالِ؛ لأنَّ الاستدلالَ على بَديعِ الصُّنعِ يَحصُلُ بالنَّظرِ في إنباتِ الكريمِ وغيرِه؛ ففي الاستِدلالِ بإنباتِ الكريمِ مِن ذلك وفاءٌ بغَرضِ الامتنانِ مع عدَمِ فَواتِ الاستدلالِ. وأيضًا فنظَرُ النَّاسِ في الأنواعِ الكَريمةِ أنفَذُ وأشهَرُ؛ لأنَّه يَبتدِئُ بطَلبِ المنفعةِ منها، والإعجابِ بها؛ فإذا تطلَّبَها وقَعَ في الاستدلالِ؛ فيكونُ الاقتصارُ على الاستِدلالِ بها في الآيةِ مِن قَبِيلِ التَّذكيرِ للمُشركينَ بما هم مُمارِسون له، وراغِبون فيه .
- وهذا الاستدلالُ لَمَّا كان عقليًّا اقتصَرَ عليه، ولم يُكرَّرْ بغيرِه مِن نوعِ الأدلةِ العقليَّةِ، كما كُرِّرَت الدَّلائلُ الحاصلةُ مِن العِبرةِ بأحوالِ الأُمَمِ، مِن قولِه: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء: 10] ، إلى آخِرِ قِصَّةِ أصحابِ الأَيْكةِ .
8- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
- التَّأكيدُ بحرْفِ (إنَّ)؛ لِتَنزيلِ المُتحدَّثِ عنهم مَنزلةَ مَن يُنكِرُ دَلالةَ ذلك الإنباتِ وصِفاتِه على ثُبوتِ الوَحدانيَّةِ، الَّتي هي باعثُ تَكذيبِهم الرَّسولَ لمَّا دَعاهم إلى إثباتِها .
- واسمُ الإشارةِ فيه مِن معنَى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ .
- قولُه: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (كانَ) صِلَةٌ مُقحمةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: وما أكثرُهم مُؤمِنين .
- وأسنَدَ نفْيَ الإيمانِ إلى أكثرِهم؛ لأنَّ قليلًا منهم يُؤمِنون حينَئذٍ، أو بعْدَ ذلك .
9- قولُه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
- في التَّعرُّضِ لوَصْفِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ مِن تَشريفِه والعِدَةِ الخَفيَّةِ بالانتقامِ مِن الكفَرةِ: مَا لا يَخْفى .
- قولُه: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لَمَّا كان المَوضِعُ مَوضعَ بَيانِ القُدرةِ، قدَّمَ صِفَةَ العِزَّةِ على صِفةِ الرَّحمةِ؛ فالرَّحمةُ إذا كانت عن قُدرةٍ كانت أعظَمَ وقْعًا ، ولأنَّه لو لم يُقَدِّمْهُ لكان رُبَّما قيلَ: إنَّه رَحِمَهم لِعَجْزِه عن عقوبتِهم! فأزال هذا الوهمَ بذِكْرِ العزيزِ وهو الغالبُ القاهرُ، والمرادُ أنَّهم مع كفرِهم وقدرةِ اللهِ على أنْ يُعَجِّلَ عقابَهم لا يَتْرُكُ رحمتَهم بما تقدَّمَ ذِكْرُه مِن خَلْقِ كلِّ زوجٍ كريمٍ مِن النَّباتِ، ثم مِن إعطاءِ الصحةِ والعقلِ والهدايةِ .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تذييلٌ لهذا الخبَرِ بوصْفِ اللهِ بالعِزَّةِ، أي: تَمامِ القُدرةِ، فتَعلَمون أنَّه لو شاءَ لعجَّلَ لهم العِقابَ، وبوصْفِ الرَّحمةِ إيماءٌ إلى أنَّ في إمهالِهم رَحمةً بهم؛ لعلَّهم يَشكُرون، ورحيمٌ بكَ؛ قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف: 58] . وفي وصْفِ الرَّحمةِ إيماءٌ إلى أنَّه يَرحَمُ رُسلَه بتأْييدِه ونصْرِه .
- وقد ختَمَ كلَّ استدلالٍ جِيءَ به على المُشركينَ المُكذِّبين بتَذييلٍ واحدٍ؛ هو قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ؛ تَسجيلًا عليهم بأنَّ آياتِ الوَحدانيَّةِ وصِدْقِ الرُّسلِ عديدةٌ كافيةٌ لمَن يتطلَّبُ الحقَّ، ولكنَّ أكثرَ المُشركينَ لا يُؤمِنون، وأنَّ اللهَ عزيزٌ قادرٌ على أنْ يُنزِلَ بهم العذابَ، وأنَّه رحيمٌ برُسلِه، فناصِرُهم على أعدائِهم .