موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (4 - 6)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات :

آيَةٍ: أي: عَلامَةٍ ودليلٍ وحُجَّةٍ على وَحدانيَّة اللهِ، وصِدقِ رسلِه فيما جاءوا به، وتُطلَقُ الآيةُ على العلامةِ- يُقال: آيةُ كذا؛ أي: علامَتُه- وعلى العَجيبةِ، وتُطلق أيضًا على الجماعةِ، وسُمِّيت الآيةُ مِن القرآنِ بذلك: إمَّا مِن العلامةِ؛ لأنَّها علامةٌ على صدقِ مَن جاء بها، أو مِن الجماعةِ؛ لأنَّها جماعةٌ مِن كلماتِ القرآنِ مشتملةٌ على بعضِ ما اشتَمل عليه القرآنُ مِن الإعجازِ، والحلالِ والحرامِ، والعقائدِ .
قَرْنٍ: أي: قومٍ وأُمَّة من الناس مُقترنِينَ في زمَنٍ واحد، وجَمْعُه قرونٌ، ويُطلَق القرنُ كذلك على الزَّمان، وأهلِ الزمان، وأهلِ مُدَّة كان فيها نبيٌّ، أو كان فيها طَبقةٌ من أهل العِلم، قلَّت السِّنون أو كثُرت؛ قيل: مُدَّتُه ثمانون سَنةً، ولا يَقِلُّ عن ثَلاثينَ سَنةً، وأصل (قرن): يدلُّ على جمْعِ شيءٍ إلى شيء .
مَكَّنَّاهُمْ: أَعطَيْناهم، وثَبَّتْناهم، وأسْكنَّاهم، وملَّكْناهم، ووَطَّأْنَا لهم البِلادَ والأرضَ .
مِدْرَارًا: المطرُ المدرارُ هو: المُتتابِع الغزيرُ الذي يَتْبَعُ بَعضُه بَعضًا، وأصلُه: تَولُّدُ شَيءٍ عن شيءٍ .
وَأَنْشَأْنَا: خَلَقْنا وأحْدَثْنا، والنَّشأة: إحداثُ الشَّيءِ وتربيتُه، والإنشاءُ: إخراجُ ما في الشَّيءِ بالقوَّة إلى الفِعل، وأصل (نشأ) يدلُّ على ارتفاعٍ في شيءٍ .

مشكل الإعراب :

قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
كَمْ: اسمٌ له وجوبُ الصَّدارةِ في الكَلامِ، ويجوزُ هنا أن تَكونَ استفهاميَّةً أو خَبريَّة، وهي في مَحلِّ نَصبٍ مفعولٌ به مُقَدَّمٌ بـأَهْلَكْنَا لا بـيَرَوْا؛ لأنَّ الاستفهامَ وما جرَى مجراهُ لا يَعمَلُ فيه ما قَبْلَه، وهي مُعَلِّقةٌ للفِعل (يَرَى) عن العَملِ . والرؤيةُ هنا الأقربُ أنَّها رُؤيةٌ عِلْميَّةٌ وليستْ بَصريَّةً، فتَنصِب مَفعولَينِ، وكَمْ وما في حيِّزها سَدَّتْ مَسدَّ هذَينِ المفعولَينِ. وقوله: مِنْ قَرْنٍ تمييزٌ لـ (كم)؛ وهذا الإعرابُ بِناءً على أنَّ (كم) عِبارةٌ عن الأشخاص، أي: كَثيرًا من القرونِ أهلَكْنا. ويَجوزُ أنْ تكونَ كَمْ عِبارةً عن المصدرِ، فتَنتصبَ انتصابَه بـأهْلَكْنا على المفعوليَّة المُطْلَقَة، والتقدير: كَمْ إهلاكًا أَهْلَكْنا، ومِنْ قَرْنٍ على هذا صِفةٌ لمفعولِ أَهْلَكْنَا، أي: أهلكْنا قومًا أو فوجًا مِن القُرونِ. ويجوزُ أنْ تكونَ كَمْ عِبارةً عن الزَّمان، فتَنتصبَ على الظَّرفِ، والتقدير: كم أَزمنةً أهلَكْنا فيها، وعلى هذا الوجهِ فـمِنْ قَرْنٍ هو المفعولُ به لـأَهْلَكْنَا، ومِنْ مَزيدةٌ فيه؛ وجازَ ذلك لأنَّ الكلامَ غيرُ مُوجَبٍ، والمجرورَ نكرةٌ .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ المشرِكين والمكذِّبين لا تأتيهم من حُجَّةٍ وعلامةٍ على وحدانيةِ اللهِ، وصِدقِ رُسلِه إلَّا أعْرَضوا عنها؛ فكذَّبوا بالحقِّ لَمَّا أتاهم من عندِ الله، ولَسَوف تأتيهم عقوبةٌ على اتِّخاذِهم هذا الحقَّ ومَن جاء به سُخريةً.
ألم يَعتبِرْ هؤلاءِ بالأُممِ الماضِيَة فيَروا كثرةَ الأُمم التي أهْلَكها اللهُ، مِن الذين مكَّنَهُم الله في الأرضِ ما لم يُمكِّنْ لهؤلاءِ الكَفرةِ، وجعَل الأمطارَ يَتتابَع نُزولُها عليهم، وجعَل الأنهارَ تَجري من تحتِهم، فأهْلَكَهم بذُنوبهم، وأحْدَث سبحانه بعدَ إهلاكِهم جيلًا آخَرَ.

تفسير الآيات :

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) .
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا تكلَّم اللهُ تعالى أولًا: في التَّوحيدِ، وثانيًا: في المعادِ، وثالثًا: فيما يقرِّر هذين المطلوبَيْن، ذكَر بعدَه ما يتعلَّق بتقريرِ النُّبوَّة، وبدأ فيه بأنْ بيَّن كونَ هؤلاء الكفَّار مُعرضين عن تأمُّل الدَّلائلِ، غيرَ ملتفتِين إليها ، فقال تعالى:
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) .
أي: ومهما أتى هؤلاء الكفَّارَ والمشركين المكذِّبين مِن حُجَّةٍ وعلامةٍ على وحدانيتِه تعالى، وصِدق رُسُلِه عليهم السَّلام؛ فإنَّهم يُعْرِضونَ عنها، غيرَ مُبالِين بها .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (5) .
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
في هذه الآياتِ رتَّب اللهُ تعالى أحوالَ هؤلاء الكفَّارِ على ثلاثِ مراتبَ؛ فالمرتبةُ الأولى: كونُهم مُعرِضينَ عن التأمُّلِ في الدَّلائل والتفكُّرِ في البَيِّناتِ، وهذا في الآية السَّابِقَة، والمرتبة الثانِيَة: كونُهم مُكذِّبينَ بها، وهذه المرتبةُ أزيدُ ممَّا قبلَها؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشَّيءِ قد لا يكونُ مكذِّبًا به، بل يكون غافلًا عنه غيرَ مُتعرِّضٍ له، فإذا صار مُكذِّبًا به، فقد زاد على الإعراض، والمرتبةُ الثالثة: كونُهم مُستهزِئين بها؛ لأنَّ المكذِّبَ بالشيءِ قد لا يَبلغُ تكذيبُه به إلى حدِّ الاستهزاءِ، فإذا بلغَ إلى هذا الحدِّ فقَدْ بلَغَ الغايةَ القُصْوى في الإنكار، وهاتان المرتبتانِ في هذه الآيةِ، فبَيَّن تعالى أنَّ أولئكَ الكفَّارَ وصَلوا إلى هذه المراتبِ الثلاثِ على هذا الترتيبِ .
وأيضًا لَمَّا كان إعراضُهم عن النَّظرِ المذكورِ في الآيةِ السَّابقةِ سببًا لتكذيبهم، وكان تكذيبُهم  سببًا لتعذيبِهم ؛ لذا قال تعالى:
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ.
أي: فقدْ كذَّبوا بما جاءَهم من عندِ الله تبارَك وتعالى .
فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.
أي: فسوف تأتِيهم أخبارُ استهزائِهم بآياتِ اللهِ، وبالأدلَّة التي آتاهم، وسيجدونَ عقوبتَه وجزاءَه .
ثم حذَّرهم اللهُ تعالى مِن أنْ يصيبَهم مِن العذابِ، والنَّكالِ الدنيويِّ، ما حلَّ بأشباهِهم ونُظرائِهم مِن القُرونِ السَّالفةِ ، فقال تعالى:
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6).
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا منَعَهم اللهُ تعالى عن ذلِك الإعراضِ، والتكذيبِ، والاستهزاءِ، بالتهديدِ والوعيدِ؛ أتْبعَه بما يَجري مجرَى الموعظةِ والنَّصيحةِ في هذا البابِ، فوَعَظَهم بسائرِ القُرون الماضية؛ كقومِ نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، وقومِ لوطٍ، وقومِ شعيبٍ، وفِرعونَ، وغيرِهم ، وحذَّرهم مِن أنْ يصيبَهم مِن العذابِ والنَّكالِ الدنيويِّ ما حلَّ بأشباهِهم ونُظرائِهم مِن هذه القُرون الماضيةِ ، فقال تعالى:
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ.
أي: ألم يَعتبرْ هؤلاء بالأممِ الماضيةِ، فيَرَوا كثرةَ مَن أفنيتُ، ودَمَّرتُ مِن قبلِهم من الأممِ، الذين وطَّأتُ لهم البلادَ والأرضَ تَوطئةً لم أُوطِّئْها لهم، وأعطيتُهم فيها ما لم أُعْطِهم؛ فقدْ كانوا أشدَّ قوَّةً، وأكثرَ جمعًا، وأكثرَ أموالًا وأولادًا .
كما قال تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة: 69] .
وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ [الروم: 9-10] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ: 45] .
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا.
أي: وجَعَلْنا المطرَ يَتتابَعُ نزولُه عليهم بغزارةٍ .
وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ.
مُناسبتُها لمَا قبلها:
لَمَّا ذَكَر نفْعَهم بماءِ السَّماءِ، وكان غيرَ دائمٍ، أتْبعَه ماءَ الأرضِ؛ لدوامِه، وملازَمتِه للبَساتين والرِّياضِ، فقال :
وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ.
أي: وأَجْرَيْنا لهم الأنْهارَ من تحتِ أشجارِهم ومساكنِهم .
فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ.
أي: فأخَذْناهم بعذابٍ أفناهم؛ بسببِ ما ارتكبوه مِن خطايا، ومنها تكذيبُ رُسلِ الله، عليهم السَّلام .
كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .
وأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ.
أي: وأَحْدَثْنا مِن بعدِ الَّذين أَهلَكْناهم جيلًا آخَرَ .

الفوائد التربوية :

1- خَطرُ الإعراضِ عن الآياتِ، وأنَّه يُخشَى على مَن أعرضَ عنِ الآياتِ ألَّا يَهتديَ إليها؛ لِقَوله تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ .
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ توجيهٌ وإرشادٌ إلى الاعتبارِ بالأُمم السَّالِفة؛ فإنَّ إهلاكَ الأممِ المكذِّبةِ، بعدَ إمهالِهم وتمكينِهم في الأرضِ؛ سُنَّةُ اللهِ، ودأْبُه في السَّابقين واللَّاحقين؛ فينبغي الاعتبارُ بمَن قَصَّ الله نَبأَهم
3- قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يُوجِب الاعتبارَ، والانتباهَ من نَوْم الغفلةِ، ورقدةِ الجَهالة؛ لأنَّه تعالى بيَّن أنَّهم مع مزيدِ العزِّ في الدنيا بهذه الوُجوهِ، ومع كثرةِ العددِ والبَسْطَة في المالِ والجِسم، جرَى عليهم عندَ الكُفْر الإهلاكُ .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- إضافةُ الآياتِ إلى الربِّ في قوله: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ تُفيدُ أنَّ إنزالَه الوحيَ، وبعثَه للرُّسُل، وتأييدَهم، وهدايتَه للخَلْقِ بهم، كلُّه مِن مقتضى ربوبيَّته، أي: مقتضى كونِه هو السيِّدَ المالِكَ المربِّيَ لخلقِه، المدبِّرَ لأمورِهم على الوجه الموافِق للحِكمة، وأنَّه لا يَقدِر عليه غيرُه؛ فالذين يُؤمنون بالربِّ، ولا يُؤمنون بكُتُبه ورُسلِه، يَجهلون قدْرَ ربوبيَّته، وكُنْهَ حِكمتِه ورحمتِه .
2- إضافةُ (الربِّ) إلى ضَمير (هم) في قوله تعالى: رَبِّهِمْ؛ لقصدِ التَّسجيلِ عليهم بالعقوق لحقِّ العبوديَّة؛ لأنَّ مِن حقِّ العبد أن يُقبِلَ على ما يأتيه من ربِّه، وعلى مَن يأتيه يقولُ له: إنِّي مُرسَلٌ إليك مِن ربِّك، ثم يتأمَّلَ وينظرَ، وليس من حقِّه أن يُعرِضَ عن ذلك؛ إذ لعلَّه يُعرِض عمَّا إنْ تأمَّلَه عَلِمَ أنَّه مِن عند ربِّه .
3- قوله تعالى: مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ فيه أنَّ الله سبحانه وتعالى حكيمٌ رحيمٌ؛ وذلك لكونِه يأتي بالآياتِ للخَلقِ، فإنَّ هذا من الحِكمةِ الواضحةِ؛ لأنَّه ليس من المعقولِ أن يأتيَ رجلٌ، ويقولَ للناس: إنَّه رسولٌ، ويستبيح دِماءَ مَن لم يُؤمِنْ به وأموالَهم وذُريَّاتِهم ونِساءَهم، بدون أنْ يكون هناك آيةٌ تدلُّ على صِدقه؛ ولهذا قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما مِن الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَن عليه البَشَرُ )) ، وهذا مِن جِهة الحِكمة. أمَّا مِن جِهة الرَّحمة؛ فإنَّ الله رحِمَ الخَلقَ بكونِه إذا أَرسلَ إليهم الرُّسلَ آتاهم الآياتِ الدالَّةَ على صِدق هؤلاء الرُّسُلِ، ولو شاءَ لأَرسَلَهم بدونِ آياتٍ، ثمَّ مَن كذَّب أخَذَه، لكن تأبَى حِكمتُه ورحمتُه أنْ يُرسِلَ رسلًا بلا آيةٍ .
4- أنَّ الإعراضَ عن الحقِّ يَعقبُه التكذيبُ به؛ ففائدةُ (الفاء) في قوله: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ التعقيبُ بعد قوله: مُعْرِضِينَ، يعني: أنَّ الإعراضَ عن الآياتِ أعْقَبه التكذيبُ .
5- قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فيه أنَّ هؤلاء- مع تواتُرِ الآياتِ عليهم- كذَّبوا بالحقِّ، ولم يَستجيبوا له، والتكذيبُ بالحقِّ بعدَ مجيئه أشدُّ من التَّكذيبِ به قبلَ أن يأتيَ، بحيثُ يَسمَعُ الإنسانُ عنه، ولكنَّه لم يتأكَّدْ، فإنَّ هذا الذي أتاه الحقُّ، وكذَّب به، يكون تكذيبُه أعظمَ .
6- كيف قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا مع أنَّ القومَ ما كانوا مُقرِّين بصِدقِ محمَّدٍ عليه السَّلام فيما يُخبِر عنه، وهم أيضًا ما شاهَدوا وقائعَ الأُمم السَّالِفة؟
والجواب: أنَّ أقاصيصَ المتقدِّمين مشهورةٌ بين الخَلْقِ، فيَبعُدُ أنْ يُقال: إنَّهم ما سَمِعوا هذه الحكاياتِ، ومجرَّدُ سَماعِها يَكفي في الاعتبارِ .
7- قولُه تعالى: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فيه بيانُ عظمةِ اللهِ سبحانه وتعالى وغَيْرتِه؛ حيث أهْلَك أولئكَ القومَ مع ما عِندَهم من القوَّةِ والنِّعمةِ؛ قال تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.... .
8- قوله تعالى: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فيه بيانُ تمامِ قُدرةِ الله تبارك وتعالى وسُلطانِه، والتنبيهُ على أنَّه تعالى لا يَتعاظَمُه أنْ يُهلِكَهم، ويُخلِيَ بلادَهم منهم؛ فإنَّه قادرٌ على أن يُنْشِئ مكانَهم قومًا آخَرين، يَعمُر بهم بلادَهم؛ كقوله: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس: 15] ؛ لأنَّ الأمرَ أمرُه عزَّ وجلَّ، والمُلك مُلكُه، والسُّلطان سُلطانه؛ فهو سبحانه وتعالى يَفعَلُ ما يشاءُ؛ من إهلاكٍ وإنشاءٍ .
9- قولُه تعالى: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ المقصودُ من هذا: تعريضٌ بالمشركين بأنَّ الله مُهلِكُهم، ومنشئٌ مِن بَعدِهم قَرنَ المسلِمينَ في دِيارهم؛ ففيه نِذارةٌ بفَتْح مكَّة، وسائرِ بلادِ العربِ على أيدي المُسلمينَ .

بلاغة الآيات :

1- قوله: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فيه التفاتٌ؛ إذ ضمائرُ جمْع الغائبين في قولِه: تَأْتِيهِمْ، رَبِّهِمْ مرادٌ منها المشرِكون، الذين هم بعضُ مَن شمِلَتْه ضمائرُ الخِطاب في الآيةِ التي قبْلَها، من قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ؛ ففي العدولِ عن الخِطابِ إلى الغَيبة بالنِّسبةِ إليهم التفاتٌ أوْجَبه تَشهيرُهم بهذا الحالِ الذَّميم، تَنصيصًا على ذلك، وإعراضًا عن خِطابهم، وهو مِن أحسنِ الالتفاتِ؛ لأنَّ الالتفاتَ يُحسِّنه أن يكونَ له مُقتَضٍ زائدٌ على نقْلِ الكلامِ مِن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، المرادُ منه تجديدُ نشاطِ السَّامع .
- وعبَّر بصِيغةِ المضارعِ في قوله: تَأْتِيهِمْ لحِكايةِ الحالِ الماضية، وفيه دَلالةٌ على الاستمرارِ التجدُّدي .
- ومِنْ في قوله: مِنْ آيَةٍ مزيدةٌ للاستغراقِ، ولتأكيدِ النَّفي، وفي قوله: مِنْ آيَاتِ للتبعيضِ .
- وفي قوله: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ: اخْتِيرَ الإتيانُ في خبرِ (كان) بصِيغةِ اسمِ الفاعلِ مُعْرِضِينَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الإعراضَ متحقِّقٌ من دَلالةِ فِعل الكَونِ (كَانُوا)، ومُتجدِّد مِن دَلالةِ صِيغة اسم الفاعِل؛ لأنَّ المشتقَّاتِ في قُوَّة الفِعلِ المضارِع .
- والاستثناءُ في قولِه تعالى: إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ دالٌّ على أنَّهم لم يَكُنْ لهم حالٌ إلَّا الإعراضُ .
2- قوله: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الفاء في فَسَوْفَ للتفريعِ والتسبُّبِ على قولِه: كَذَّبُوا بِالحَقِّ؛ تأكيدًا لوعدِ المؤمنين بالنَّصرِ، وإظهارِ الإسلامِ على الدِّين كلِّه، وإنذارِ المشركينَ بأنْ سيحُلُّ بهم ما حلَّ بالأُمم الذين كذَّبوا رُسلَهم ممَّن عَرَفوا، وحرفُ التَّسويفِ (سَوْفَ) جاءَ لتأكيدِ حصولِ ذلك في المستقبَلِ .
- وفي قوله: أَنْبَاءُ إيذانٌ بغاية العِظَم؛ لأنَّ (النَّبأ) لا يُطلَق إلَّا على خبرٍ عظيمِ الوقْعِ .
- قال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ جاء هنا تقييدُ الكذبِ بالحقِّ، والتَنفيسِ بـسَوْفَ، وفي الشُّعراء: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ [الشعراء: 6] ، فحذَف (الحقَّ)، وجاء بالسِّين فقط؛ لأنَّ الأنعام مُتقدِّمةٌ في النُّزولِ على الشُّعراءِ، فاستوفَى فيها اللَّفْظَ، وحذَف مِن الشُّعراءِ، وهو مرادٌ؛ إحالةً على الأوَّلِ، وناسَب الحذْفُ الاختصارَ في حرْف التَّنفيسِ، فجاء بالسِّين ، ويَحسُن أن يُزادَ على ذلك أنَّه لَمَّا كان فِعلُ الاستقبالِ المقرونُ بـ (سوف) أبعدَ زمانًا من المقرون بالسِّين، تَعيَّن الأوَّلُ فيما نزل أولًا، والثاني فيما نزَل آخِرًا
3- قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا استئنافٌ مَسُوقٌ لتعيينِ ما هو المرادُ بالأنباءِ التي سبَق بها الوعيدُ، وتقريرِ إتيانِها بطريقِ الاستشهاد، وهمزةُ الإنكار في قوله: أَلَمْ يَرَوْا لتقريرِ الرُّؤْية، وكَمْ مفيدةٌ للتكثير .
- وفيه التفاتٌ من الغَيْبة في قوله: يَرَوْا إلى الخِطابِ- حيث قال: لَكُمْ، دُونَ (لهم)- وفيه تعريضٌ بقلَّة تمكينِ هؤلاءِ، ونَقصِهم عن أحوالِ مَن سَبق، ومع تمكينِ أولئك في الأرضِ فقد حلَّ بهم الهلاكُ؛ فكيفَ لا يحُلُّ بكم على قلَّتِكم، وضِيق خُطَّتكم؟! فالهلاكُ إليكم أسرعُ من الهلاكِ إليهم .
- وجاءت لفظة: مِدْرَارًا للمبالغةِ في اتِّصالِ المطرِ، ودوامِه وقتَ الحاجة .