موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (148-149)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات :

حُلِيِّهِمْ: الحُلِيُّ جَمْعُ الحَلْيِ، وهو اسمٌ لكلِّ ما يُتَزيَّنُ به مِن مَصاغِ الذَّهَبِ والفِضَّة، وأصْلُ (حلي): تحسينُ الشيءِ [1714] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/435)، ((تفسير القرطبي)) (7/284). .
خُوَارٌ: أي: صوتُ البَقَرِ، وقد يُستعارُ للبَعيرِ، وأَصْلُ (خور): يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ [1715] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/227)، ((المفردات)) للراغب (ص: 302)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 118). .
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: أي: نَدِموا، يُقالُ: سُقِطَ في يَدِ فُلانٍ، إذا نَدِمَ، وأصْلُ (سقط): يَدُلُّ على الوقوعِ [1716] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 172)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 275)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 415)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ قومَ موسى صَنَعوا بعْدَ ذَهابِه لِميقاتِ ربِّه من حُلِيِّهم عِجْلًا جَسَدًا لا رُوحَ فيه، له صَوْتُ البقَرِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ؛ ألم يَرَ هؤلاءِ القومُ أنَّ هذا العِجْلَ الَّذي عبَدوه لا يُكلِّمُهم، ولا يُرشِدُهم إلى خيرٍ؟! اتَّخذوه وكانوا ظالِمين.
ولَمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ نَدَمًا شديدًا على اتِّخاذِهم العِجْلَ معبودًا مِن دونِ اللهِ، بعْدَ عَوْدَةِ موسى عليه السَّلامُ إليهم، ورَأَوْا أنَّهم قد انحرَفوا عن الطَّريقِ القويمِ؛ قالوا: لَئِنْ لم يرحمْنا ربُّنا ويغفِرْ لنا ذُنوبَنا لَنَكُونَنَّ من الخاسِرين.

تفسير الآيتين :

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى فيما تقدَّمَ قِصَّةَ المُناجاةِ، وما حصَلَ فيها من الآياتِ والعِبَرِ، ذَكَرَ في هذه الآيةِ ما كان من قَومِ موسى في مُدَّةِ مَغِيبِه في المناجاةِ من الإشْراكِ؛ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ العَلاقةِ والاشتراكِ في الزَّمَنِ [1717] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/109). ، فقال تعالى:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا
أي: وصَنَعَ بنو إسرائيلَ مِن بعْدِ ذَهابِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى مِيقاتِ ربِّه، صَنَعوا مِن مَصُوغِهِمُ الَّذي يَتزيَّنونَ به عِجْلًا، وهو وَلَدُ البقرةِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ سُبحانَه وتعالى [1718] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/446)، ((المخصص)) لابن سيده (1/366)، ((البسيط)) للواحدي (9/354)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/460)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475- 476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). قال الشنقيطيُّ: (أصْلُ هذا الحُلِيِّ للقِبْطِ... فاتَّخذ السامريُّ العجلَ من ذلك الحُلِيِّ، وهنا قال: مِنْ حُلِيِّهِمْ، قال بعضُ العلماء: لأنَّ اللهَ أورَثَهم أموالَهم بعدَهم، كما في قولِه: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 59] ؛ ولذا أضافَه إليهم بعد هلاكِ فرعونَ وقومِه. وقال بعضُ العلماءِ: الإضافةُ تقَعُ بأدْنى مُلابَسةٍ، فلمَّا كان تحتَ أيديهم عاريَّةً عِندهم أضافَه إليهم بهذه الملابسةِ، وقد بيَّن في «طه» أنَّه مِن زينةِ قومٍ آخرين كما ذَكَر عن الإسرائيليين أنَّهم قالوا: قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه: 87] ، وهي حُلِيِّ القِبْطِ). ((العذب النمير)) (4/163). !
كما قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51] .
وقال سُبحانَه حاكيًا قولَ بني إسرائيلَ: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه: 88-87] .
وقال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 83-85] .
جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
أي: كان العِجْلُ الَّذي عبَدَه قومُ موسى جِسْمًا، لا رُوحَ فيه، له صَوتُ البقرِ [1719] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/447)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/219)، ((تفسير ابن كثير)) (3/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). قال ابنُ كثير: (وقد اختَلف المفسِّرون في هذا العجلِ: هل صار لحمًا ودمًا له خُوارٌ، أو استمرَّ على كونه من ذَهَبٍ إلَّا أنه يَدخُلُ فيه الهواءُ فيُصوِّتُ كالبقرِ؛ على قولَيْنِ، والله أعلم). ((تفسير ابن كثير)) (3/476). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (9/358)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/165- 166). وقال ابنُ عاشور: (المراد أنَّه كجِسمِ العجلِ في الصُّورة والمقدارِ، إلَّا أنه ليس بحيٍّ، وما وقَعَ في القصص أنَّه كان لحمًا ودمًا ويَأكُلُ ويَشرَبُ؛ فهو مِن وَضْعِ القصَّاصين، وكيف والقرآن يقول: مِنْ حُلِيِّهِمْ، ويقول: لَهُ خُوَارٌ؟!). ((تفسير ابن عاشور)) (9/110). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/455). .
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ، بيَّن اللهُ تعالى لهم صِفاتِ النَّقْصِ الَّتي تُنافي الألوهيَّةَ، فقال [1720] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/208). :
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
أي: ألم يَرَ هؤلاء القومُ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ المصْنوعَ من حُلِيِّهم أنَّه لا يستطيع أنْ يتحدَّثَ إليهم، ولا يُرشِدَهم إلى أيِّ خيرٍ؟! فكيف اتَّخذوه إلهًا، ومِن صِفاتِ المعبودِ الحقِّ أنَّه يتكلَّمُ ويَهدي [1721] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/447)، ((الوسيط)) للواحدي (2/411)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/110)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/167- 168). ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 89- 91] .
اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
أي: اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ إلهًا، وكانوا بعِبادتِهم له ظالِمين لأنفُسِهم؛ حيثُ جعلوا العِبادةَ لمخلوقٍ، فوَضعوها في غيرِ مَوْضِعِها [1722] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/447)، ((البسيط)) للواحدي (9/360)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/168- 169). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة: 54] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
أي: ولمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ ندمًا شديدًا على عِبادتِهم العِجلَ بعْدَ رُجوعِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم [1723] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/448)، ((البسيط)) للواحدي (9/365)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/169، 172). قال الرازي: (اتَّفقوا على أنَّ المرادَ من قوله: سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أنَّه اشتدَّ نَدَمُهم على عبادةِ العجلِ). ((تفسير الرازي)) (15/369). .
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا
أي: وعَلِمَ قومُ موسى أنَّهم قدِ انحرَفوا عن طَريقِ الحقِّ [1724] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/448)، ((البسيط)) للواحدي (9/360)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/111- 112)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/169). .
قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
أي: قالوا حينذاكَ تائِبينَ إلى اللهِ تعالى من عِبادةِ العِجلِ: واللهِ لَئِنْ لم يَتداركْنا ربُّنا برحمتِه؛ بالتَّوبةِ، والتَّوفيقِ للأعمالِ الصَّالحةِ، ويَغفِرْ لنا ذُنوبَنا، لَنَكُونَنَّ من الهالِكينَ [1725] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/448)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/113)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/172). .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فيه دليلٌ على أنَّ مَنْ أنْكَر كلامَ اللهِ فقدْ أنْكَرَ خصائِصَ إلهيَّةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ ذَكَرَ أنَّ عدمَ الكلامِ دَليلٌ على عدمِ صلاحيةِ الَّذي لا يتكلَّمُ للإلهيَّةِ [1726] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/81- 82)، ((تفسير السعدي)) (ص:302). ، وفيه دليلٌ أيضًا على أنَّ عدمَ التَّكلُّمِ وعدمَ الهِدايةِ نَقْصٌ، وأنَّ الَّذي يَتكلَّمُ ويَهدي أَكْمَلُ ممَّنْ لا يتكلَّمُ ولا يَهدي، والرَّبُّ أحَقُّ بالكمالِ [1727] يُنظر: ((الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال)) لابن تيمية (ص: 18). .
قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، سَلَبَ تعالى عنه هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ دونَ باقي أوصافِ الإلهيَّةِ؛ لأنَّ انتِفاءَ التَّكليمِ يَستلزِمُ انتِفاءَ العِلْمِ، وانتِفاءَ الهِدايةِ إلى سبيلٍ يَستلزِمُ انتفاءَ القُدرةِ، وانتفاءَ هذَيْنِ الوصفَيْنِ- وهما العِلْمُ والقُدْرَةُ- يَستلزِمانِ باقيَ الأوصافِ؛ فلذلك خُصَّ هذانِ الوَصْفانِ بانتفائِهما [1728] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/177). .
قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ،كان مُقتضى الظَّاهرِ في ترتيبِ حِكايةِ الحوادثِ أنْ يتأخَّرَ قولُه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ... الآيةَ، عن قولِه: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا؛ لأنَّهم ما سُقِطَ في أيديهم إلَّا بعْدَ أنْ رجَعَ موسى، ورَأَوْا فَرْطَ غضبِه، وسمِعوا توبيخَه أخاه وإيَّاهم، وإنَّما خُولِفَ مُقتضى التَّرتيبِ؛ تعجيلًا بِذِكْرِ ما كان لاتِّخاذِهم العجلَ من عاقبةِ النَّدامةِ وتَبَيُّنِ الضَّلالةِ؛ موعظةً للسَّامعين؛ لكيلَا يَعْجَلوا في التَّحوُّلِ عن سُنَّتِهم حتَّى يتبيَّنوا عواقِبَ ما هُمْ مُتحوِّلونَ إليه [1729] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/111). .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، لَمَّا كان السِّيَاقُ في ذِكْرِ إسراعِهم في الفِسْقِ، لم يُذْكَرْ قَبولُ توبتِهم كما في سُورةِ البقرةِ [1730] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/87). .

بلاغة الآيتين :

قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لبيانِ فَسادِ نظرهم في اعتقادهم، والاستفهامُ للتقريرِ وللتعجُّبِ مِن حالِهم [1731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/110). . وفيه تَقريعٌ لهم على فَرْطِ ضَلالِهم، وإفراطِهم بالنَّظرِ؛ لأنَّ هذا العجلَ لا يُمكِنُه أن يَتكلَّمَ بصوابٍ، ولا يَهدِي إلى رَشَدٍ، ولا يَقدِر على ذلك، ومَن كان كذلك كان ناقصًا عاجزًا لا يَصلُحُ أنْ يُعبَد [1732] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/517). .
وقوله: اتَّخَذُوهُ مؤكِّدٌ لجُملةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى؛ فلذلك فُصِلَت، ولم تُعطَفْ عليها، والغَرضُ من التوكيدِ في مِثلِ هذا المقامِ هو التَّكريرُ لأجْلِ التعجُّب [1733] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/111). .
قوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فيه كِنايةٌ عن اشتِدادِ نَدمِهم؛ فإنَّ النَّادمَ المتحسِّرَ على شيءٍ يَعضُّ يدَه غمًّا فتَصيرُ يدُه مسقوطًا فيها؛ لأنَّ فاهَ قدْ وقَعَ فيها [1734] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/160)، ((تفسير البيضاوي)) (3/35)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (3/459). . وقيل معناها: سَقَط في يدِه ساقطٌ فأَبطلَ حركةَ يدِه؛ إذ المقصودُ أنَّ حركةَ يدِه تعطَّلت بسببٍ غيرِ معلومٍ، إلَّا بأنَّه شيءٌ دخَلَ في يدِه فصيَّرها عاجزةً عن العملِ، وذلك كنايةٌ عن كونِه قد فَجَأَه ما أوجبَ حيرتَه في أمْرِه، واستُعمِلَ في الآيةِ في معنى النَّدمِ، وتبيُّنِ الخطأِ لهم [1735] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/112). .
قولُهم: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه تأكيدُ التَّعليقِ الشرطيِّ بالقَسَمِ الذي وطَّأتْه اللام؛ لأنَّهم قد علِموا أنهم أخطؤُوا خطيئةً عظيمة، وقدَّموا الرحمةَ على المغفرةِ؛ لأنَّها سببُها، ومجيءُ خبرِ (كان) مقترنًا بحَرْف مِن التبعيضيَّة؛ لأنَّ ذلك أقوَى في إثباتِ الخَسارةِ مِن (لنكوننَّ خاسرين) [1736] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/113). .