موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (148-149)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات :

حُلِيِّهِمْ: الحُلِيُّ جَمْعُ الحَلْيِ، وهو اسمٌ لكلِّ ما يُتَزيَّنُ به مِن مَصاغِ الذَّهَبِ والفِضَّة، وأصْلُ (حلي): تحسينُ الشيءِ .
خُوَارٌ: أي: صوتُ البَقَرِ، وقد يُستعارُ للبَعيرِ، وأَصْلُ (خور): يَدُلُّ عَلَى صَوْتٍ .
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: أي: نَدِموا، يُقالُ: سُقِطَ في يَدِ فُلانٍ، إذا نَدِمَ، وأصْلُ (سقط): يَدُلُّ على الوقوعِ .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ قومَ موسى صَنَعوا بعْدَ ذَهابِه لِميقاتِ ربِّه من حُلِيِّهم عِجْلًا جَسَدًا لا رُوحَ فيه، له صَوْتُ البقَرِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ؛ ألم يَرَ هؤلاءِ القومُ أنَّ هذا العِجْلَ الَّذي عبَدوه لا يُكلِّمُهم، ولا يُرشِدُهم إلى خيرٍ؟! اتَّخذوه وكانوا ظالِمين.
ولَمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ نَدَمًا شديدًا على اتِّخاذِهم العِجْلَ معبودًا مِن دونِ اللهِ، بعْدَ عَوْدَةِ موسى عليه السَّلامُ إليهم، ورَأَوْا أنَّهم قد انحرَفوا عن الطَّريقِ القويمِ؛ قالوا: لَئِنْ لم يرحمْنا ربُّنا ويغفِرْ لنا ذُنوبَنا لَنَكُونَنَّ من الخاسِرين.

تفسير الآيتين :

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى فيما تقدَّمَ قِصَّةَ المُناجاةِ، وما حصَلَ فيها من الآياتِ والعِبَرِ، ذَكَرَ في هذه الآيةِ ما كان من قَومِ موسى في مُدَّةِ مَغِيبِه في المناجاةِ من الإشْراكِ؛ لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ العَلاقةِ والاشتراكِ في الزَّمَنِ ، فقال تعالى:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا
أي: وصَنَعَ بنو إسرائيلَ مِن بعْدِ ذَهابِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى مِيقاتِ ربِّه، صَنَعوا مِن مَصُوغِهِمُ الَّذي يَتزيَّنونَ به عِجْلًا، وهو وَلَدُ البقرةِ، فعبَدوه مِن دونِ اللهِ سُبحانَه وتعالى !
كما قال تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة: 51] .
وقال سُبحانَه حاكيًا قولَ بني إسرائيلَ: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه: 88-87] .
وقال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 83-85] .
جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
أي: كان العِجْلُ الَّذي عبَدَه قومُ موسى جِسْمًا، لا رُوحَ فيه، له صَوتُ البقرِ .
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ، بيَّن اللهُ تعالى لهم صِفاتِ النَّقْصِ الَّتي تُنافي الألوهيَّةَ، فقال :
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا
أي: ألم يَرَ هؤلاء القومُ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ المصْنوعَ من حُلِيِّهم أنَّه لا يستطيع أنْ يتحدَّثَ إليهم، ولا يُرشِدَهم إلى أيِّ خيرٍ؟! فكيف اتَّخذوه إلهًا، ومِن صِفاتِ المعبودِ الحقِّ أنَّه يتكلَّمُ ويَهدي ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 89- 91] .
اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
أي: اتَّخذَ قومُ موسى العِجلَ إلهًا، وكانوا بعِبادتِهم له ظالِمين لأنفُسِهم؛ حيثُ جعلوا العِبادةَ لمخلوقٍ، فوَضعوها في غيرِ مَوْضِعِها .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة: 54] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
أي: ولمَّا نَدِمَ بنو إسرائيلَ ندمًا شديدًا على عِبادتِهم العِجلَ بعْدَ رُجوعِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم .
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا
أي: وعَلِمَ قومُ موسى أنَّهم قدِ انحرَفوا عن طَريقِ الحقِّ .
قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
أي: قالوا حينذاكَ تائِبينَ إلى اللهِ تعالى من عِبادةِ العِجلِ: واللهِ لَئِنْ لم يَتداركْنا ربُّنا برحمتِه؛ بالتَّوبةِ، والتَّوفيقِ للأعمالِ الصَّالحةِ، ويَغفِرْ لنا ذُنوبَنا، لَنَكُونَنَّ من الهالِكينَ .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فيه دليلٌ على أنَّ مَنْ أنْكَر كلامَ اللهِ فقدْ أنْكَرَ خصائِصَ إلهيَّةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ ذَكَرَ أنَّ عدمَ الكلامِ دَليلٌ على عدمِ صلاحيةِ الَّذي لا يتكلَّمُ للإلهيَّةِ ، وفيه دليلٌ أيضًا على أنَّ عدمَ التَّكلُّمِ وعدمَ الهِدايةِ نَقْصٌ، وأنَّ الَّذي يَتكلَّمُ ويَهدي أَكْمَلُ ممَّنْ لا يتكلَّمُ ولا يَهدي، والرَّبُّ أحَقُّ بالكمالِ .
قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، سَلَبَ تعالى عنه هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ دونَ باقي أوصافِ الإلهيَّةِ؛ لأنَّ انتِفاءَ التَّكليمِ يَستلزِمُ انتِفاءَ العِلْمِ، وانتِفاءَ الهِدايةِ إلى سبيلٍ يَستلزِمُ انتفاءَ القُدرةِ، وانتفاءَ هذَيْنِ الوصفَيْنِ- وهما العِلْمُ والقُدْرَةُ- يَستلزِمانِ باقيَ الأوصافِ؛ فلذلك خُصَّ هذانِ الوَصْفانِ بانتفائِهما .
قولُ اللهِ تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ،كان مُقتضى الظَّاهرِ في ترتيبِ حِكايةِ الحوادثِ أنْ يتأخَّرَ قولُه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ... الآيةَ، عن قولِه: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا؛ لأنَّهم ما سُقِطَ في أيديهم إلَّا بعْدَ أنْ رجَعَ موسى، ورَأَوْا فَرْطَ غضبِه، وسمِعوا توبيخَه أخاه وإيَّاهم، وإنَّما خُولِفَ مُقتضى التَّرتيبِ؛ تعجيلًا بِذِكْرِ ما كان لاتِّخاذِهم العجلَ من عاقبةِ النَّدامةِ وتَبَيُّنِ الضَّلالةِ؛ موعظةً للسَّامعين؛ لكيلَا يَعْجَلوا في التَّحوُّلِ عن سُنَّتِهم حتَّى يتبيَّنوا عواقِبَ ما هُمْ مُتحوِّلونَ إليه .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، لَمَّا كان السِّيَاقُ في ذِكْرِ إسراعِهم في الفِسْقِ، لم يُذْكَرْ قَبولُ توبتِهم كما في سُورةِ البقرةِ .

بلاغة الآيتين :

قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
قوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لبيانِ فَسادِ نظرهم في اعتقادهم، والاستفهامُ للتقريرِ وللتعجُّبِ مِن حالِهم . وفيه تَقريعٌ لهم على فَرْطِ ضَلالِهم، وإفراطِهم بالنَّظرِ؛ لأنَّ هذا العجلَ لا يُمكِنُه أن يَتكلَّمَ بصوابٍ، ولا يَهدِي إلى رَشَدٍ، ولا يَقدِر على ذلك، ومَن كان كذلك كان ناقصًا عاجزًا لا يَصلُحُ أنْ يُعبَد .
وقوله: اتَّخَذُوهُ مؤكِّدٌ لجُملةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى؛ فلذلك فُصِلَت، ولم تُعطَفْ عليها، والغَرضُ من التوكيدِ في مِثلِ هذا المقامِ هو التَّكريرُ لأجْلِ التعجُّب .
قوله: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فيه كِنايةٌ عن اشتِدادِ نَدمِهم؛ فإنَّ النَّادمَ المتحسِّرَ على شيءٍ يَعضُّ يدَه غمًّا فتَصيرُ يدُه مسقوطًا فيها؛ لأنَّ فاهَ قدْ وقَعَ فيها . وقيل معناها: سَقَط في يدِه ساقطٌ فأَبطلَ حركةَ يدِه؛ إذ المقصودُ أنَّ حركةَ يدِه تعطَّلت بسببٍ غيرِ معلومٍ، إلَّا بأنَّه شيءٌ دخَلَ في يدِه فصيَّرها عاجزةً عن العملِ، وذلك كنايةٌ عن كونِه قد فَجَأَه ما أوجبَ حيرتَه في أمْرِه، واستُعمِلَ في الآيةِ في معنى النَّدمِ، وتبيُّنِ الخطأِ لهم .
قولُهم: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه تأكيدُ التَّعليقِ الشرطيِّ بالقَسَمِ الذي وطَّأتْه اللام؛ لأنَّهم قد علِموا أنهم أخطؤُوا خطيئةً عظيمة، وقدَّموا الرحمةَ على المغفرةِ؛ لأنَّها سببُها، ومجيءُ خبرِ (كان) مقترنًا بحَرْف مِن التبعيضيَّة؛ لأنَّ ذلك أقوَى في إثباتِ الخَسارةِ مِن (لنكوننَّ خاسرين) .