موسوعة التفسير

سورةُ الجِنِّ
الآيات (11-13)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

طَرَائِقَ قِدَدًا: أي: أصنافًا وضُروبًا وفِرَقًا مُختَلِفةً، والطَّرائِقُ جمعُ طَريقةٍ، وهي طَريقةُ الرَّجُلِ ومَذْهَبُه، والقِدَدُ هي الضُّروبُ والأجناسُ المُختَلِفةُ، جمع قِدَّةٍ: وهي القِطعةُ مِن الشَّيءِ، يُقالُ: صَار القَومُ قِدَدًا: إذا تفَرَّقَت أحوالُهم وأهواؤُهم، وقيل: القِدَدُ نحوُ الطَّرائقِ، وهو تأكيدٌ لها هاهنا، يُقالُ لكُلِّ طَريقةٍ: قِدَّةٌ، والطَّرِيقُ: السَّبيلُ الَّذي يُطْرَقُ بالأرجُلِ، ثمَّ استُعمِلَ في كلِّ مَسلَكٍ يَسلُكُه الإنسانُ في فِعْلٍ، محمودًا كان أو مذمومًا، وأصلُ (قدد): يدُلُّ على قَطعِ الشَّيءِ طُولًا [120] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 490)، ((تفسير ابن جرير)) (23/330)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 320)، ((البسيط)) للواحدي (22/304)، ((المفردات)) للراغب (ص: 518، 657). .
بَخْسًا : أي: نَقْصًا مِن عَمَلِه وثَوابِه، وأصلُ (بخس): يدُلُّ على نَقصٍ [121] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 490)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/205)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 429). .
رَهَقًا: أي: ظُلْمًا أو مَكروهًا يَغْشاه، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ [122] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 489، 490)، ((تفسير ابن جرير)) (23/323)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 420). .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله تعالى ما قالَه هؤلاء الجنُّ يَصِفُونَ به حالَهم وواقعَهم، وأنَّهم قالوا: وأنَّا مِنَّا المُطيعونَ للهِ، ومِنَّا مَنْ هم دُونَهم، كنَّا فِرَقًا ومَذاهِبَ مُتفَرِّقةً، وأنَّا عَلِمْنا يقينًا أنَّنا في سُلطانِ اللهِ وقَبضتِه، ولن نَنجُوَ مِن العذابِ إذا أراده بنا في الأرضِ، وإن هرَبْنا منه لم نَنْجُ، فلَنْ نُعْجِزَه إنْ طَلَبَنا، وأنَّا لَمَّا سَمِعْنا القُرآنَ آمَنَّا به، فمَن يؤمِنْ بربِّه فلا يَخافُ أن يَنقُصَ اللهُ شَيئًا مِن حَسَناتِه، ولا أن يَزيدَ شيئًا في سيِّئاتِه.

تفسير الآيات:

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا.
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ.
أي: وأنَّا مِنَّا المُطيعونَ للهِ، ومِنَّا مَنْ هم دُونَهم [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/329)، ((تفسير القرطبي)) (19/15)، ((تفسير الشوكاني)) (5/367)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال ابنُ جُزَي في قولِه: وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ: (أراد به الَّذين ليس صلاحُهم كاملًا، أو الَّذين ليس لهم صلاحٌ؛ فإنَّ «دُونَ» قد تكونُ بمعنَى «أقَلّ»، أو بمعنى «غَيْر»). ((تفسير ابن جزي)) (2/418). قيل: المرادُ بمَن هم دونَ ذلك: الكُفَّارُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنِين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/463)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/45). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/304). وقيل: المرادُ: مَن هم أقلُّ مرتبةً منهم في الصَّلاحِ. وقد مال إليه القرطبيُّ، وذهب إليه ابنُ القيِّمِ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/15)، ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 415، 416)، ((تفسير الشوكاني)) (5/367). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (29/232). قال ابنُ القيِّمِ: (تضَمَّنت هذه الآياتُ انقِسامَهم إلى ثلاثِ طَبَقاتٍ: صالحينَ، ودونَ الصَّالِحينِ، وكُفَّارٍ. وهذه الطَّبقاتُ بإزاءِ طبَقاتِ بني آدمَ؛ فإنَّها ثلاثةٌ: أبرارٌ، ومُقتَصِدونَ، وكُفَّارٌ. فالصَّالحونَ بإزاءِ الأبرارِ، ومَنْ دونَهم بإزاءِ المقتَصِدينَ، والقاسِطون بإزاءِ الكُفَّارِ). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 415، 416). وقال السعدي: (أي: فُسَّاق، وفُجَّار، وكُفَّار). ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا.
أي: كنَّا مَذاهِبَ مُتعَدِّدةً، وآراءً مُتفَرِّقةً، وأهواءً مختلِفةً [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/329)، ((تفسير القرطبي)) (19/15)، ((تفسير ابن كثير)) (8/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال ابن تيمية: (أي: على مَذاهِبَ شتَّى، كما قال العُلماءُ: منهم المسلِمُ، والمشرِكُ، والنَّصرانيُّ، والسُّنِّيُّ، والبِدْعيُّ). ((مجموع الفتاوى)) (11/305). .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان شأْنُ الصَّلاحِ أنْ يكونَ مَرْضيًّا عندَ اللهِ تعالَى، وشأْنُ ضِدِّه بعكْسِ ذلك؛ أعْقَبوا لتَعريضِ الإقلاعِ عن ضِدِّ الصَّلاحِ بما يَقْتضي أنَّ اللهَ قدْ أعدَّ لغيرِ الصَّالحينَ عِقابًا، فأيْقَنوا أنَّ عِقابَ اللهِ لا يُفلِتُ منه أحدٌ استَحقَّه [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/233). .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12).
أي: وأنَّا عَلِمْنا يقينًا أنَّنا في سُلطانِ اللهِ وقَبضتِه وتحتَ قُدرتِه، فلا يُمكِنُنا الإفلاتُ منه في الأرضِ والنَّجاةُ مِن السُّوءِ والعذابِ إذا أراده بنا، وإنْ هَرَبْنا منه لم نَنْجُ، فلَنْ نُعجِزَه إنْ طَلَبَنا [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/331)، ((تفسير الزمخشري)) (4/627)، ((تفسير الرازي)) (30/670)، ((تفسير القرطبي)) (19/16)، ((تفسير أبي حيان)) (10/298)، ((تفسير ابن كثير)) (8/242)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/482)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/234). قال السمعاني: (معنى الظَّنِّ هاهُنا: اليقينُ، أي: أيقَنَّا أن لن نُعجِزَه في الأرضِ). ((تفسير السمعاني)) (6/68). وقال الرازي: (وفِي الْأَرْضِ وهَرَبًا فيه وجهان: الأوَّلُ: أنَّهما حالانِ، أي: لن نُعجِزَه كائنينَ في الأرض أيْنَما كُنَّا فيها، ولن نُعجِزَه هارِبينَ منها إلى السَّماءِ. والثَّاني: لن نُعجِزَه في الأرضِ إن أراد بنا أمرًا، ولن نُعجِزَه هرَبًا إن طَلَبَنا). ((تفسير الرازي)) (30/670). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الزمخشريُّ، والنسفي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/627)، ((تفسير النسفي)) (3/551)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 771)، ((تفسير العليمي)) (7/185)، ((تفسير الألوسي)) (15/99). قال الألوسي: (لن نُعجِزَ اللهَ تعالى كائنينَ فِي الْأَرْضِ، أي: أيْنَما كُنَّا مِن أقطارِها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا أي: هارِبينَ منها إلى السَّماءِ، فالأرضُ محمولةٌ على الجملةِ. ولَمَّا كان وَلَنْ ... إلخ في مُقابَلةِ ما قَبْلُ، لَزِمَ أن يكونَ الهرَبُ إلى السَّماءِ، وفيه تَرَقٍّ ومُبالَغةٌ، كأنَّه قيل: لن نُعجِزَه سُبحانَه في الأرضِ ولا في السَّماءِ). ((تفسير الألوسي)) (15/99). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، الواحدي، والبغوي، والخازن، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/331)، ((تفسير الثعلبي)) (10/52)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1141)، ((تفسير البغوي)) (5/161)، ((تفسير الخازن)) (4/351)، ((تفسير القاسمي)) (9/333). قال ابن عاشور: (ذِكرُ فِي الْأَرْضِ يؤذِنُ بأنَّ المرادَ بالهرَبِ في قَولِه: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا الهرَبُ مِن الرَّجمِ بالشُّهبِ، أي: لا تَطمَعوا أن تَستَرِقوا السَّمعَ؛ فإنَّ رَجْمَ الشُّهُبِ في السَّماءِ لا يُخطِئُكم...، ويَجوزُ أنْ يكونَ نُعْجِزَهُ الأوَّلُ بمعْنى نُغالِبَ...، أيْ: لا يَغْلِبونَ قُدْرَتَنا، ويكونَ فِي الْأَرْضِ مَقصودًا به تَعميمُ الأمكنةِ...، والمرادُ: أنَّا لا نَغلِبُ اللهَ بالقوَّةِ، ويكونَ «نُعجِز» الثَّاني بمعْنى الإفلاتِ، ولذلك بُيِّنَ بـ هَرَبًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/234). .
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعدَ أن ذكَّروا قَومَهم بعذابِ اللهِ في الدُّنيا؛ عادوا إلى ترغيبِهم في الإيمانِ باللهِ وَحْدَه، وتحذيرِهم مِن الكُفرِ بطريقِ المفهومِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/235). .
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ.
أي: وأنَّا لَمَّا سَمِعْنا القُرآنَ الَّذي يَهدِي إلى الحَقِّ، آمَنَّا به دونَ تردُّدٍ [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/331)، ((تفسير القرطبي)) (19/16)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا.
أي: فمَن يؤمِنْ بربِّه فلا يَخافُ أن يَنقُصَ اللهُ شَيئًا مِن حَسَناتِه، ولا أن يَزيدَ شيئًا في سيِّئاتِه [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/331)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 424)، ((تفسير ابن كثير)) (8/242). ممَّن ذهب إلى القولِ المذكورِ في قولِه تعالى: فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا: ابنُ جرير، ومكِّي، والسمعاني، وابن القيم، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/331)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7770)، ((تفسير السمعاني)) (6/68)، ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 424)، ((تفسير الشوكاني)) (5/368). قال ابن كثير: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا قال ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، وغيرُهما: فلا يَخافُ أن ينقصَ مِن حسناتِه، أو يُحمَلَ عليه غيرُ سيِّئاتِه، كما قال تعالى: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]). ((تفسير ابن كثير)) (8/242). وقال الشوكاني: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا أي: لا يخافُ نقصًا في عمَلِه وثَوابِه، ولا ظُلْمًا ومكروهًا يَغشاه، والبَخْسُ: النُّقصانُ، والرَّهَقُ: العُدوانُ والطُّغيانُ، والمعنى: لا يخافُ أن ينقصَ مِن حسناتِه، ولا أن يُزادَ في سيِّئاتِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/368). وقال الواحدي: (وَلَا رَهَقًا ظُلْمًا، بأن يَذهَبَ عمَلُه كلُّه. قاله الكلبيُّ ومقاتلٌ. وقال عَطاءٌ: رَهَقًا: عذابًا. قال المُبَرِّدُ: البَخسُ: الظُّلمُ، والرَّهقُ: ما يَغشاه مِن المكروهِ، فيَدخُلُ فيه العذابُ، ونُقصانُ الحسناتِ والثَّوابِ). ((البسيط)) (22/305). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/463). وقال السعدي: (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا، أي: لا نَقْصًا، ولا طُغيانًا، ولا أذًى يَلحَقُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا يَعنُونَ بالصَّالحينَ: أنفُسَهم، وبمَن دونَ الصَّلاحِ: بَقيَّةَ نَوعِهم، فلمَّا قاموا مَقامَ دَعوةِ إخوانِهم إلى اتِّباعِ طَريقِ الخَيرِ، لم يُصارِحوهم بنِسبتِهم إلى الإفسادِ، بل أبهَموا وقالوا: مِنَّا الصَّالِحُونَ، ثمَّ تلَطَّفوا فقالوا: وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ الصَّادِقُ بمراتبَ مُتفاوِتةٍ في الشَّرِّ والفَسادِ؛ لِيَتطَلَّبَ المُخاطَبونَ دلائِلَ التَّمييزِ بيْنَ الفريقَينِ، على أنَّهم ترَكوا لهم احِتمالَ أن يُعنى بالصَّالحينَ الكامِلونَ في الصَّلاحِ، فيَكونَ المعنيُّ بمَن دونَ ذلك: مَن هم دونَ مَرتبةِ الكمالِ في الصَّلاحِ، وهذا مِن بليغِ العباراتِ في الدَّعوةِ والإرشادِ إلى الخيرِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/232). .
2- قال الله تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا، وإذا سَلِمَ مِنَ الشَّرِّ حصَلَ له الخيرُ، فالإيمانُ سَبَبٌ داعٍ إلى حصولِ كُلِّ خَيرٍ، وانتِفاءِ كُلِّ شَرٍّ [131] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
3- قال تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا؛ لأنَّه لم يَبخَسْ أحدًا حقًّا، ولا ظلَم أحدًا، فلا يَخافُ جزاءَهما، وفيه دَلالةٌ على أنَّ مِنْ حقِّ مَنْ آمَنَ باللهِ تعالَى أنْ يَجتنِبَ المَظالِمَ [132] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/628). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا، وقَولُه: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 14، 15]، وقَولُه: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا فيه أنَّ الجِنَّ مكلَّفونَ بطاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، مأمورونَ مَنهيُّونَ، مُجازَونَ بأعمالِهم، وأنَّ منهم المسلِمَ والكافرَ، والصَّالحَ ودونَ ذلك [133] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 891)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/191). قال ابنُ تَيميَّةَ: (لا رَيبَ أنَّهم مَأمورونَ بأعمالٍ زائدةٍ على التَّصديقِ، ومَنْهيُّون عن أعمالٍ غيرِ التَّكذيبِ؛ فهم مأمورونَ بالأصولِ والفُروعِ بِحَسَبِهم؛ فإنَّهم لَيسوا مُماثِلي الإنسِ في الحدِّ والحقيقةِ، فلا يكونُ ما أُمِروا به ونُهُوا عنه مُساوِيًا لِما على الإنسِ في الحدِّ، لكنَّهم مُشارِكونَ الإنسَ في جِنسِ التَّكليفِ بالأمرِ والنَّهيِ والتَّحليلِ والتَّحريمِ. وهذا ما لم أعلَمْ فيه نِزاعًا بيْن المسلمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (4/233). .
2- في قَولِه تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا أنَّ اللهَ قادِرٌ على العِبَادِ حيثُ كانوا [134] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/206). .
3- قال تعالى حكايةً عن الجنِّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا فذكروا ما يَقْتضي أنَّ اللهَ قدْ أعدَّ لغيرِ الصَّالحينَ عِقابًا، فأيْقَنوا أنَّ عِقابَ اللهِ لا يُفلِتُ منه أحدٌ استَحقَّه، وقَدَّموه على الأمرِ بالإيمانِ الَّذي في قَولِه: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى [الجن: 13] الآيةَ؛ لأنَّ دَرءَ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جَلبِ المصالحِ، والتَّخليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحْليةِ، وقدِ استَفادوا عِلمَ ذلك ممَّا سَمِعوا مِن القُرآنِ، ولم يَكونوا يَعلَمون ذلك مِن قبْلُ؛ إذ لم يَكونوا مُخاطَبينَ بتَعليمٍ في أُصولِ العقائدِ، فلمَّا ألْهَمَهم اللهُ لاستِماعِ القرآنِ، وعَلِموا أُصولَ العقائدِ؛ حذَّروا إخوانَهم اعتقادَ الشِّركِ ووَصْفَ اللهِ بما لا يَليقُ به؛ لأنَّ الاعتقادَ الباطلَ لا يُقِرُّه الإدراكُ المستقيمُ بعْدَ تَنبيهِه؛ لبُطلانِه [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/233). .
4- قولُه تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ، أي: بوُجودِه وانفرادِه بالإلهيَّةِ، كما يُشعِرُ به إحضارُ اسمِه بعُنوانِ الرَّبِّ؛ إذِ الرَّبُّ هو الخالقُ، فما لا يَخلُقُ لا يُعبَدُ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/235). .
5- في قَولِه تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا أنَّ مُحْسِني الجِنِّ في الجَنَّةِ، كما أنَّ مُسِيئَهم في النَّارِ. ووَجهُ الاحتجاجِ بالآيةِ أنَّ البَخْسَ المَنْفِيَّ هو نُقصانُ الثَّوابِ، والرَّهَقَ: الزِّيادةُ في العُقوبةِ على ما عَمِلَ؛ فلا يُنْقَصُ مِن ثوابِ حَسَناتِه، ولا يُزادُ في سيِّئاتِه، ونظيرُ هذا قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112] ، أي: لا يَخافُ زيادةَ سيِّئاتِه، ولا نُقصانَ حَسَناتِه [137] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 424). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا
- قولُه: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا، أي: كنَّا ذَوي مَذاهبَ مُفترِقةٍ مُختلِفةٍ، أو كُنَّا في اختلافِ أحوالِنا مِثلَ الطَّرائقِ المُختلِفةِ، على حذْفِ المُضافِ مِن طَرَائِقَ، وإقامةِ المُضافِ إليه مقام المضافِ المحذوف، أو كانتْ طَرائقُنا طَرائقَ قِدَدٍ، على حذْفِ المُضافِ -الَّذي هو الطَّرائقُ- وإقامةِ الضَّميرِ المُضافِ إليه مُقامَه [138] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/627)، ((تفسير البيضاوي)) (5/252)، ((تفسير أبي حيان)) (10/298)، ((تفسير أبي السعود)) (9/44)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/242). .
- وقيل: قولُه: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا تَشبيهٌ بَليغٌ؛ شُبِّهَ تَخالُفُ الأحوالِ والعقائدِ بالطَّرائقِ تُفْضي كلُّ واحدةٍ منها إلى مَكانٍ لا تُفْضي إليه الأُخرى [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/232). .
- ووُصِفَت طَرَائِقَ بـ قِدَدًا؛ لدَلالتِها على معْنى التَّقطُّعِ والتَّفرُّقِ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/627)، ((تفسير البيضاوي)) (5/252)، ((تفسير أبي السعود)) (9/44، 45). ؛ فالقِدَّةُ: القِطعةُ مِن جِلْدٍ ونحْوِه، المَقطوعةُ طُولًا كالسَّيرِ، شُبِّهَت الطَّرائقُ في كَثرتِها بالقِدَدِ المُقتطَعةِ مِن الجِلْدِ يُقطِّعُها صانعُ حِبالِ القِدِّ، كانوا يُقيِّدون بها الأسْرى [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/233). .
- وأيضًا هذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بذَمِّ الاختِلافِ بيْن القَومِ، وأنَّ على القَومِ أنْ يَتَّحِدوا، ويَتطلَّبوا الحقَّ؛ لِيَكونَ اتِّحادُهم على الحقِّ، وليس المقصودُ منه فائدةَ الخبَرِ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ يَعلَمون ذلك، والتَّوكيدُ بـ (أنَّ) مُتوجِّهٌ إلى المعْنى التَّعريضيِّ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/233). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا عطْفٌ على المجرورِ في قولِه: فَآَمَنَّا بِهِ [الجن: 2] ، والتَّقديرُ: وآمنَّا بأنْ لنْ نُعجِزَ اللهَ في الأرضِ. وذِكرُ فِعلِ ظَنَنَّا تأْكيدٌ لَفظيٌّ لفِعلِ (آمَنَّا) المُقدَّرِ بحرْفِ العَطْفِ؛ لأنَّ الإيمانَ يَقينٌ، وأُطلِقَ الظَّنُّ هنا على اليقينِ، وهو إطلاقٌ كثيرٌ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/233). ، وقرينةُ استعمالِ الظَّنِّ هنا في اليَقينِ هي تأْكيدُ المَظنونِ بحرْفِ (لَنْ) [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/234). .
- قولُه: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا الإعجازُ هنا كِنايةٌ عن الإفلاتِ والنَّجاةِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/234). .
3- قولُه تعالَى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا عطْفٌ على المَجرورِ في قولِه: فَآَمَنَّا بِهِ [الجن: 2] ، والمقصودُ بالعطْفِ قولُه: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا، وأمَّا جُملةُ لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فتَوطئةٌ لذلك [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/234، 235). .
- وأُرِيدَ بالهُدى القُرآنُ؛ إذ هو المَسموعُ لهم، ووَصَفوه بالهُدى للمُبالَغةِ في أنَّه هادٍ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/235). .
- وجُملةُ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا يَجوزُ أنْ تكونَ مِن القولِ المَحكيِّ عن الجنِّ، ويجوزُ أنْ تكونَ كَلامًا مِن اللهِ مُوجَّهًا للمشركينَ، وهي مُعترِضةٌ بيْنَ الجُملتينِ المُتعاطفَتَينِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/235). .
- وجُملةُ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا جَوابٌ لشَرْطِ (مَن)، جُعِلَت بصُورةِ الجُملةِ الاسميَّةِ فقُرِنَت بالفاءِ مع أنَّ ما بعْدَ الفاءِ فِعلٌ، وشأْنُ جَوابِ الشَّرطِ ألَّا يَقترِنَ بالفاءِ إلَّا إذا كان غيرَ صالحٍ لأنْ يكونَ فِعلَ الشَّرطِ، فكان اقتِرانُه بالفاءِ وهو فِعلٌ مُضارِعٌ مُشيرًا إلى إرادةِ جَعْلِه خبَرَ مُبتدأٍ مَحذوفٍ بحيث تكونُ الجُملةُ اسميَّةً، والاسميَّةُ تَقترِنُ بالفاءِ إذا وَقَعَت جَوابَ شَرْطٍ، فكان التَّقديرُ هنا: (فهو لا يَخافُ)؛ ليَكونَ دالًّا على تَحقيقِ سَلامتِه مِن خَوفِ البَخسِ والرَّهَقِ، وليَدُلَّ على اختصاصِه بذلك دونَ غيرِه الَّذي لا يُؤمِنُ برَبِّه، فتَقديرُ المُسنَدِ إليه قبْلَ الخبَرِ الفِعليِّ هنا يَقْتضي التَّخصيصَ والتَّقَوِّيَ. وقد يُقالُ: إنَّ العُدولَ عن تَجريدِ الفعلِ مِن الفاءِ وعن جَزْمِه؛ لدفْعِ إيهامِ أنْ تكونَ (لا) ناهيةً، فهذا العُدولُ صَراحةٌ في إرادةِ الوعْدِ، دونَ احتمالِ إرادةِ النَّهيِ [149] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/628)، ((تفسير البيضاوي)) (5/252)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/58)، ((تفسير أبي حيان)) (10/298)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 45)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/235)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/245). .