موسوعة التفسير

سورةُ الجِنِّ
الآيات (1-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

نَفَرٌ: أي: جماعةٌ ما بيْنَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ، والنَّفَرُ: اسْمُ جَمْعٍ، يَقَعُ على جماعةٍ مِن الرِّجالِ خاصَّةً، ولا واحدَ له مِن لَفظِه. والنَّفْرُ: الانْزِعاجُ عن الشَّيءِ وإلى الشَّيءِ، كالفَزَعِ إلى الشَّيءِ وعن الشَّيءِ، والنَّفَرُ والنَّفيرُ والنَّفَرَةُ: عِدَّةُ رِجالٍ يُمْكِنُهم النَّفْرُ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 489)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 470)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 817)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/93). قال الكفوي: (النَّفَرُ: مِن الثَّلاثةِ إلى التِّسعةِ، ولا يُستعمَلُ فيما فَوقَ العَشَرةِ، ولا في طائفةِ النِّساءِ، وإذا استُعْمِلَ فيما فَوْقَها أو في طائفةِ الرِّجالِ والنِّساءِ يُفَسَّرُ حِينَئذٍ بالنَّفسِ). ((الكليات)) (ص: 686). .
جَدُّ: أي: عَظَمةُ وجلالُ، وأصلُ (جدد) هنا: يدُلُّ على العَظَمةِ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 19، 489)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 177)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/406)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 420)، ((تفسير القرطبي)) (19/8). .
سَفِيهُنَا: أي: إبليسُ أو مَرَدةُ الجِنِّ، أو جاهِلُنا، والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، والجهلُ، والسَّفيهُ: الخفيفُ العَقلِ، وأصلُ (سفه): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسَخافةٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 120، 489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 79)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (2/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 414)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 420)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
شَطَطًا: أي: كَذِبًا وجَوْرًا، ومعنى الشَّطَطِ في اللُّغةِ: مُجاوَزةُ القَدْرِ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على الإفراطِ في البُعدِ والمَيلِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 264)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 288)، ((المفردات)) للراغب (ص: 453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 272). .
يَعُوذُونَ: أي: يَلجَؤُونَ ويَستَجيرونَ. والعَوذُ: الالتِجاءُ إلى الغَيرِ، والتَّعَلُّقُ به، وأصلُ (عوذ): يدُلُّ على الالتِجاءِ إلى الشَّيءِ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/183)، ((المفردات)) للراغب (ص: 594). .
رَهَقًا: أي: ضَلالًا وإثْمًا وظُلْمًا، والرَّهَقُ: الإثمُ وغِشْيانُ المَحارِمِ، وأصلُ (رهق) هنا: يدُلُّ على غِشْيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 489، 490)، ((تفسير ابن جرير)) (23/323)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451)، ((تفسير القرطبي)) (19/10). .

مشكل الإعراب:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا
 قولُه تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا قُرِئَت هذه الآيةُ بفَتحِ إنَّ وكَسْرِها [10] قرأها أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ، وحفصٌ بفتحِ الهمزةِ، والباقونَ بكَسْرِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/391). :
فمَن كسَرَها عَطَفَها على قَولِ الجِنِّ: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، فيَكونُ التَّقديرُ: وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ رَبِّنا.
ومَن فَتَح الهمزةَ عَطَفَها على (الهاءِ) في قَولِ الجِنِّ: فَآَمَنَّا بِهِ، فيكونُ التَّقديرُ: وآمَنَّا بأنَّه تعالى جَدُّ رَبِّنا. بتقديرِ الجارِّ؛ لاطِّرادِ حَذْفِه قبْلَ (أنْ) و(أنَّ). وقيل غيرُ ذلك [11] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/234)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/96، 97)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/763)، ((البسيط)) للواحدي (22/281)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/481)، ((تفسير الألوسي)) (15/94). .

المعنى الإجمالي:

يَبتدِئُ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يحَدِّثَ بما حصَل مِن سماعِ بعضِ الجنِّ للقرآنِ، وما قالوه، فيقولُ سُبحانَه: قُلْ -يا مُحَمَّدُ-: أوحَى اللهُ إلَيَّ أنَّه استمَعَ جماعةٌ مِن الجِنِّ للقُرآنِ، فقالوا: إنَّا سَمِعْنا قرآنًا عجيبًا يدُلُّ على الحَقِّ والهُدى، فآمَنَّا به، ولن نُشرِكَ برَبِّنا أحَدًا مِن خَلْقِه، وأنَّه تعالَت عَظَمةُ ربِّنا لم يتَّخِذْ زَوجةً ولا وَلَدًا، وأنَّه كان يقولُ جاهِلُنا على اللهِ كَذِبًا، وأنَّا كُنَّا نَظُنُّ أنَّ الإنسَ والجِنَّ صادِقونَ في ادِّعاءاتِهم، وأنَّهم لن يَجرُؤوا على الكَذِبِ على اللهِ تعالى، وأنَّه كان رِجالٌ مِن الإنسِ إذا نَزَلوا مَنزِلًا يَستَعيذونَ ويَستَجيرونَ بعظيمِ ذلك المكانِ مِنَ الجِنِّ، فزاد الإنسُ الجِنَّ طُغْيانًا وكِبْرًا، وأنَّ كُفَّارَ الجِنِّ ظَنُّوا -كما ظَنَّ كُفَّارُ الإنسِ- أنَّ اللهَ لن يَبعَثَ أحدًا يومَ القيامةِ للحِسابِ والجزاءِ.

تفسير الآيات:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1).
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((انطلَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طائفةٍ مِن أصحابِه عامِدينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقد حِيلَ بيْنَ الشَّياطينِ وبيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، وأُرسلَت عليهم الشُّهُبُ، فرجَعَت الشَّياطينُ إلى قَومِهم، فقالوا: ما لَكم؟! فقالوا: حِيلَ بيْنَنا وبيْنَ خبَرِ السَّماءِ، وأُرسِلَت علينا الشُّهُبُ! قالوا: ما حالَ بيْنَكم وبيْنَ خبَرِ السَّماءِ إلَّا شَيءٌ حَدَث؛ فاضرِبوا مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها، فانظُروا ما هذا الَّذي حالَ بيْنَكم وبيْنَ خبرِ السَّماءِ؟! فانصرَف أولئك الَّذين توَجَّهوا نحوَ تِهامةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو بنَخْلةَ [12] نخلة: موضعٌ بيْن مكَّةَ والطَّائفِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/674). عامِدينَ إلى سوقِ عُكاظٍ، وهو يُصلِّي بأصحابِه صلاةَ الفَجرِ، فلمَّا سَمِعوا القرآنَ استَمَعوا له، فقالوا: هذا -واللهِ- الَّذي حال بيْنَكم وبيْنَ خبرِ السَّماءِ، فهنالك حينَ رَجَعوا إلى قومِهم، وقالوا: يا قَومَنا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1، 2]، فأنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ)) [13] رواه البخاريُّ (773) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (449). .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ -: أوحَى اللهُ إلَيَّ أنَّه استمَعَ جماعةٌ مِن الجِنِّ للقُرآنِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/310)، ((تفسير السمرقندي)) (3/503)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/464، 465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/220). قال الزمخشري: (نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جماعةٌ منهم ما بيْنَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/623). وقال الكرماني: (والنَّفَرُ دونَ العَشَرةِ. قيل: كانوا تِسعةً، وقيل: سَبعةً). ((تفسير الكرماني)) (2/1259). وقال البِقاعي: (وهل هذا الاستماعُ هو المذكورُ في «الأحقافِ» أو غَيرُه، قال أبو حيَّانَ: المشهورُ أنَّه هو. وقيل: هو غيرُه، والجِنُّ الَّذين أتَوَه بمكَّةَ جِنُّ نَصِيبينَ، والَّذين أتوه بنَخلةَ جِنُّ نِينَوى، والسُّورةُ الَّتي استَمَعوها قال عِكرِمةُ: العَلَقُ. وقيل: الرَّحمنُ. ولم يُذكَرْ هنا ولا في الأحقافِ أنَّه رآهم، ويَظهَرُ مِن الحديثِ تعدُّدُ الواقعةِ). ((نظم الدرر)) (20/463). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/293). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (19/1). ويُنظر ما تقدَّم في سورة الأحقاف الآية (29). .
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا.
أي: فقال أولئك النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ: إنَّا سَمِعْنا قرآنًا عجيبًا بديعًا خارِجًا عن العادةِ، فلا حديثَ مِثلُه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/310)، ((تفسير السمرقندي)) (3/503)، ((الوسيط)) للواحدي (4/363)، ((تفسير ابن عطية)) (5/379)، ((تفسير النسفي)) (3/548، 549)، ((تفسير الشوكاني)) (5/364). .
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنوا فَضْلَ القرآنِ مِن جِهةِ الإعجازِ وغَيرِه؛ بيَّنوا المقصودَ بالذَّاتِ الدَّالَّ على غَوصِهم على المعاني، بَعْدَ عِلْمِهم بحُسنِ المباني [16] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/466). .
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ.
أي: قالوا: وهذا القُرآنُ يدُلُّ على الحَقِّ والخَيرِ والصَّوابِ والهُدى، فآمَنَّا به [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/310)، ((الوسيط)) للواحدي (4/363)، ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير الشوكاني)) (5/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/221). قال السعدي: (الرُّشدُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُرشدُ النَّاسَ إلى مصالحِ دينِهم ودُنياهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
كما قال تعالى: هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
وقال سُبحانَه: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30] .
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.
أي: ولن نَجعَلَ أحَدًا مِن خَلْقِه شَريكًا له [18] وقال ابن القيِّم: (أعظَمُ الرُّشدِ والحَقِّ الَّذي يَهدي إليه: مَعرِفةُ اللهِ سُبحانَه، وإثباتُ صِفاتِه، وعُلُوِّه على خَلْقِه ومُبايَنتِه لهم؛ إذ بذلك يتِمُّ الاعترافُ به وإثباتُه، ونَفْيُ ذلك نَفيٌ له ولصِفاتِه). ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (2/326). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/310)، ((تفسير السمعاني)) (6/64)، ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير العليمي)) (7/181). قال الشوكاني: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا مِن خَلْقِه، ولا نتَّخِذَ معه إلهًا آخَرَ؛ لأنَّه المتفرِّدُ بالرُّبوبيَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/364). وقال الواحدي: (وَلَنْ نُشْرِكَ: لن نَعدِلَ بِرَبِّنَا أَحَدًا يعنون: إبليسَ، أي: لا نُطيعُه في الشِّركِ باللهِ). ((الوسيط)) (4/363). .
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا سَمِعُوا القرآنَ، ووُفِّقُوا للتَّوحيدِ والإيمانِ؛ تَنبَّهوا للخطأِ فيما اعتَقَده كفَرةُ الجنِّ مِن تَشبيهِ الله تعالَى بخَلْقِه في اتِّخاذِ الصَّاحبةِ والولدِ، فاستَعْظموه ونزَّهُوه تعالَى عنه [19] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((تفسير أبي السعود)) (9/43). .
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا.
أي: وأنَّه تعالَت عَظَمةُ ربِّنا وجَلالُه [20] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/461)، ((تفسير ابن جرير)) (23/315)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/234)، ((الوسيط)) للواحدي (4/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/222). قال ابنُ عطية: (قرأ جمهورُ النَّاسِ جَدُّ رَبِّنَا -بفتحِ الجيمِ، وضمِّ الدَّالِ- وإضافتِه إلى الرَّبِّ، وقال جمهورُ المفَسِّرينَ: معناه: عَظَمتُه). ((تفسير ابن عطية)) (5/379). ومِن المفسِّرينَ مَنْ جعَل: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مُفَسَّرًا بما بَعْدَه على معنى: تعالت عَظَمةُ ربِّنا عن اتِّخاذِ الصَّاحبةِ والولَدِ. وممَّن نصَّ على هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/234)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1139)، ((تفسير ابن كثير)) (8/238، 239). .
مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَفوه بهذا التَّعالي الأعظَمِ المستلزِمِ للغِنى المطلَقِ، والتَّنزُّهِ عن كلِّ شائبةِ نقْصٍ؛ بَيَّنوه بنَفْيِ ما يُنافِيه بقولِهم إبطالًا للباطلِ [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/468). :
مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.
أي: لم يتَّخِذِ اللهُ تعالى زَوجةً له، ولم يتَّخِذْ وَلَدًا [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/317)، ((تفسير ابن كثير)) (8/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
كما قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101] .
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4).
أي: وأنَّه كان يقولُ جاهِلُنا -الملازِمُ للطَّيشِ والغَيِّ- على اللهِ كَذِبًا وجَورًا بعيدًا عن العَدلِ والصَّوابِ، ومِن ذلك ادِّعاءُ الشَّريكِ والزَّوجةِ والولَدِ لله سُبحانَه وتعالى [23] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/462)، ((تفسير ابن جرير)) (23/320، 321)، ((الوسيط)) للواحدي (4/363)، ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/469، 470)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). قال ابن عطية: (لا خِلافَ أنَّ هذا مِن قَولِ الجِنِّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/379). قيل: المرادُ بالسَّفيهِ هنا: إبليسُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ جُزَي، وأبو حيَّان، والعُلَيمي، ونسَبَه الألوسيُّ وغيرُه إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/320)، ((تفسير السمرقندي)) (3/504)، ((تفسير ابن جزي)) (2/417)، ((تفسير أبي حيان)) (10/295)، ((تفسير العليمي)) (7/182)، ((تفسير الألوسي)) (15/95). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/320)، ((تفسير الثعلبي)) (10/50). وقيل: السَّفيهُ هنا: اسمُ جِنسٍ، فيَعُمُّ إبليسَ وغيرَه. واستحسَنَ ابنُ عطيَّةَ هذا القولَ، واختاره البِقاعيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/379)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/469)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). قال ابن عطيَّة: (السَّفيهُ المذكورُ قال جميعُ المفسِّرينَ: هو إبليسُ لعنه الله. وقال آخَرونَ: هو اسمُ جِنسٍ لكلِّ سفيهٍ منهم. ولا مَحالةَ أنَّ إبليسَ صدرٌ في السُّفهاءِ، وهذا القولُ أحسَنُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/380). .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَروا ما هُدُوا إليه مِنَ الحَقِّ في اللهِ، وفيمَن كان يَحمِلُهم على الباطِلِ؛ ذكَروا عُذْرَهم في اتِّباعِهم للسَّفيهِ، وفي وُقوعِهم في مَواقِعِ التُّهَمِ [24] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/470). .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5).
أي: وأنَّا قبْلَ سَماعِنا للقُرآنِ وإيمانِنا باللهِ كُنَّا نَظُنُّ أنَّ الإنسَ والجِنَّ صادِقونَ في ادِّعاءاتِهم، وأنَّهم لن يَجرُؤوا على الكَذِبِ على اللهِ تعالى، فيَدَّعُوا له الشَّريكَ والصَّاحِبةَ والوَلَدَ كَذِبًا وزُورًا [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/321)، ((الوسيط)) للواحدي (4/363)، ((تفسير ابن عطية)) (5/379)، ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). قال ابن جرير: (كانوا يحسَبونَ أنَّ إبليسَ صادِقٌ فيما يَدعو بَني آدمَ إليه مِن صُنوفِ الكُفرِ؛ فلمَّا سَمِعوا القرآنَ أيْقَنوا أنَّه كان كاذِبًا في كلِّ ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (23/322). وقال السعدي: (أي: كنَّا مغترِّينَ قبلَ ذلك، وغَرَّنا القادةُ والرُّؤساءُ مِن الجِنِّ والإنسِ، فأحسَنَّا بهم الظَّنَّ، وظنَنَّاهم لا يتجرَّؤونَ على الكذِبِ على الله؛ فلذلك كنَّا قبْلَ هذا على طريقِهم، فاليومَ إذْ بانَ لنا الحَقُّ، رجَعْنا إليه، وانقَدْنا له، ولم نُبالِ بقولِ أحدٍ مِنَ النَّاسِ يُعارِضُ الهُدى). ((تفسير السعدي)) (ص: 890). !
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6).
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ.
أي: وأنَّه كان رجالٌ مِن الإنسِ إذا نَزَلوا مَنزِلًا يَستَعيذونَ ويَستَجيرونَ بعظيمِ ذلك المكانِ وسَيِّده مِنَ الجِنِّ؛ طلبًا للأمانِ والسَّلامةِ مِمَّا يخافونَ ويَحذَرونَ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/322)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/203)، ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). !
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا.
أي: فزاد الإنسُ الجِنَّ طُغْيانًا وكِبرًا حينَ رأَوُا الإنسَ يَستَعيذونَ بهم [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/324-326)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/203)، ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). قال السمعاني: (فيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّ الإنسَ زادوا الجِنَّ رَهَقًا، أي: عَظَمةً في أنفُسِهم، كأنَّ الإنسَ لَمَّا استعاذوا بالجِنِّ ازداد الجِنُّ في أنفُسِهم عَظَمةً. والقولُ الثَّاني: هو أنَّ الإنسَ ازدادوا رهقًا بالاستعاذةِ مِنَ الجِنِّ. ومعناه: طُغْيانًا وإثمًا، كأنَّ الإنسَ لَمَّا استعاذوا بالجِنِّ وأمِنوا على أنفُسِهم ازدادوا كُفرًا، وظَنُّوا أنَّ أَمْنَهم كان مِنَ الجِنِّ. وقيل: رَهقًا أي: غِشيانًا للمَحارِمِ. وقيل: مُقارَفةً للْإثمِ). ((تفسير السمعاني)) (6/66). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: زاد الإنسُ الجنَّ بهذا التَّعوُّذ طُغيانًا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والواحديُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّمِ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/462)، ((تفسير السمرقندي)) (3/505)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1140)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/33، 34)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/203)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/309). قال السعدي: (كان الإنسُ يَعبُدونَ الجِنَّ، ويَستعيذونَ بهم عندَ المَخاوِفِ والأفزاعِ، فزاد الإنسُ الجِنَّ رهَقًا، أي: طغيانًا وتكَبُّرًا لَمَّا رأوُا الإنسَ يَعبُدونَهم، ويَستعيذونَ بهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 890). وقال الرازي (قولُه: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا قال المفسِّرونَ: معناه: زادوهم إثمًا وجُرْأةً وطُغْيانًا وخطيئةً وغَيًّا وشرًّا، كلُّ هذا مِن ألفاظِهم). ((تفسير الرازي)) (30/668). وقيل: المرادُ: أنَّ الجِنَّ زادَتِ الإنسَ -لَمَّا استعاذوا بهم- إثمًا، واستِحلالًا للمَحارِمِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والرَّازيُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/326)، ((تفسير الرازي)) (30/668)، ((تفسير ابن جزي)) (2/418). وقيل: المرادُ: أنَّ الجِنَّ زادَت الإنسَ -لَمَّا استعاذوا بهم- خوفًا وذُعرًا منهم؛ فاشتَدَّ خَوفُهم منهم، وصاروا أكثَرَ تعوُّذًا بهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، وجعله السعديُّ احتمالًا في معنى الآيةِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890). قال ابنُ جُزَي: (ضَميرُ الفاعلِ للجِنِّ، وضَميرُ المفعولِ للإنسِ، والمعْنى: أنَّ الجنَّ زادُوا الإنسَ ضَلالًا وإثمًا لَمَّا عاذُوا بهم، أو زادُوهم تَخويفًا لَمَّا رَأَوْا ضَعْفَ عُقولِهم). ((تفسير ابن جزي)) (2/418). وقال ابنُ عاشور: (الَّذي أختارُه في معنى الآيةِ: أنَّ العَوْذَ هنا هو الالتجاءُ إلى الشَّيءِ، والالتِفافُ حَوْلَه، وأنَّ المرادَ: أنَّه كان قومٌ مِن المشركينَ يَعبُدونَ الجِنَّ؛ اتقاءَ شَرِّها. ومعنى فَزَادُوهُمْ رَهَقًا: فزادَتْهم عبادتُهم إيَّاهم ضَلالًا. والرَّهَقُ: يُطلَقُ على الإثمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/225). وقال البِقاعي: (فَزَادُوهُمْ أي: الإنسُ الجنَّ باستِعاذتِهم هذه المُرَتَّبِ عليها إعاذتُهم، والجنُّ الإنسَ بترئيسِ الإنسِ لهم وخَوفِهم منهم رَهَقًا أي: ضيقًا وشدَّةً وغِشْيانًا لِما هم فيه مِن أحوالِ الضَّلالِ، الَّتي يَلزَمُ منها الضِّيقُ والشِّدَّةُ). ((نظم الدرر)) (20/472، 473). .
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7).
أي: وأنَّ كُفَّارَ الجِنِّ ظَنُّوا -كما ظَنَّ كُفَّارُ الإنسِ- أنَّ اللهَ لن يبعَثَ أحدًا يومَ القيامةِ للحِسابِ والجزاءِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/324-326)، ((الوسيط)) للواحدي (4/365)، ((تفسير ابن عطية)) (5/380، 381)، ((تفسير ابن كثير)) (8/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). قال ابنُ عطيَّةَ: (قولُهم: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا يحتَمِلُ معنيَينِ؛ أحدُهما: بعْثُ الحَشرِ مِن القبورِ. والآخَرُ: بعْثُ آدميٍّ رَسولًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/381). وممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ -أي: أنَّه البعثُ بعدَ الموتِ-: السمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والرازي، والرَّسْعَني، والنَّسَفي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/505)، ((تفسير الثعلبي)) (10/51)، ((الوسيط)) للواحدي (4/365)، ((تفسير السمعاني)) (6/66)، ((تفسير البغوي)) (5/160)، ((تفسير الرازي)) (30/668)، ((تفسير الرسعني)) (8/310)، ((تفسير النسفي)) (3/550)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 771)، ((تفسير العليمي)) (7/183)، ((تفسير الشوكاني)) (5/366)، ((تفسير السعدي)) (ص: 890)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وأبو حيَّانَ، والألوسيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/462)، ((تفسير ابن جرير)) (23/326)، ((تفسير أبي حيان)) (10/296)، ((تفسير الألوسي)) (15/96). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/326)، ((تفسير ابن كثير)) (8/240). واختلَف المفسِّرونَ في قائِلِ هذا الكلامِ: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا؛ فقيل: هو مِن قَولِ اللهِ تعالى مخاطِبًا كُفَّارَ الإنسِ؛ لإخبارِهم بأنَّ كُفَّارَ الجِنِّ قد ظنُّوا كما ظنَنْتُم في شأنِ بَعثِ الرُّسُلِ أو العِبادِ. وممَّن ذهب إلى هذا: الواحديُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/365)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/348). وقيل: هو مِن قَولِ الجِنِّ بَعضِهم لبعضٍ، أي: ظَنَّ كُفَّارُ الإنسِ في ذلك كما ظنَنْتُم يا مَعشَرَ الجِنِّ. وممَّن ذهب إلى هذا: الرازيُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/668)، ((تفسير ابن جزي)) (2/418). قال الرازي: (حَمْلُه على كلامِ الجنِّ أَولى؛ لأنَّ ما قبْلَه وما بعدَه كلامُ الجنِّ، فإلقاءُ كلامٍ أجنبيٍّ عن كلامِ الجنِّ في البَيْنِ غيرُ لائقٍ). ((تفسير الرازي)) (30/668). وقال الشوكاني: (هذا مِن قولِ الجنِّ للإنسِ، أي: وإنَّ الجنَّ ظَنُّوا كما ظننتُم أيُّها الإنسُ أنَّه لا بعثَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/366). .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا جَعَلوا السَّبَبَ الدَّاعيَ لهم إلى الإيمانِ وتوابِعِه: ما عَلِموه مِن إرشاداتِ القُرآنِ، وما اشتَمَل عليه مِن المصالِحِ والفوائِدِ، واجتنابِ المَضارِّ؛ فإنَّ ذلك آيةٌ عظيمةٌ وحُجَّةٌ قاطِعةٌ لِمَنِ استنارَ به، واهتَدى بهَدْيِه، وهذا هو الإيمانُ النَّافعُ، المُثمِرُ لكُلِّ خَيرٍ، المبنيُّ على هدايةِ القُرآنِ، بخِلافِ إيمانِ العوائِدِ والمَرْبَى والإلْفِ ونَحوِ ذلك؛ فإنَّه إيمانُ تقليدٍ تحتَ خَطَرِ الشُّبُهاتِ والعوارِضِ الكَثيرةِ [29] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَقتضي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَعلَمْ بحُضورِ الجِنِّ لاستِماعِ القُرآنِ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/219). .
2- قال اللهُ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا في هذا توبيخٌ للكُفَّارِ مِن بني آدَمَ؛ حيث آمَنَت الجِنُّ بسَماعِ القرآنِ مرَّةً واحدةً، وانتَفَعوا بسَماعِ آياتٍ يسيرةٍ منه، وأدركوا بعُقولِهم أنَّه كلامُ اللهِ، وآمَنوا به، ولم ينتَفِعْ كفَّارُ الإنسِ -ولا سيَّما رؤساؤُهم وعُظَماؤُهم- بسَماعِه مرَّاتٍ متعدِّدةً، وتِلاوتِه عليهم في أوقاتٍ مختلِفةٍ، مع كَونِ الرَّسولِ منهم، يَتلوه عليهم بلِسانِهم [31] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/364). !
3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ النَّبيَّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- كما بُعِثَ إلى الإنسِ، فقد بُعِثَ إلى الجِنِّ [32] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/665). . فهو رسولٌ إلى الجِنِّ، كما هو رسولٌ إلى الإنسِ؛ فإنَّ اللهَ صَرَف نَفَرَ الجنِّ لِيَستَمِعوا ما يُوحَى إليه، ويُبلِّغوا قومَهم [33] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ الجِنَّ مكَلَّفونَ كالإنسِ [34] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/665). قال تقيُّ الدِّينِ السُّبكي: (إنَّ قوةَ هذا الكلامِ تَقْتضي أنَّهم انقادوا له، وآمَنوا بعدَ شِركِهم، وذلك يَقْتضي أنَّهم فهِموا أنَّهم مُكلَّفونَ به، وكذلك كثيرٌ مِن الآياتِ التي في هذه السُّورةِ التي خاطَبوا بها قومَهم). ((فتاوى السبكي)) (2/595) .
5- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ الجِنَّ يَستَمِعونَ كَلامَنا، ويَفهَمونَ لُغاتِنا [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/665). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ المؤمِنَ مِنَ الجِنِّ يدعو غيرَه مِن قبيلتِه إلى الإيمانِ [36] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/665). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه سؤالٌ: الَّذين رُمُوا بالشُّهُبِ هم الشَّياطينُ، والَّذين سَمِعوا القرآنَ هم الجِنُّ، فكيف وَجهُ الجَمعِ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ الَّذين رُمُوا بالشُّهُبِ كانوا مِنَ الجِنِّ، إلَّا أنَّه قيل لهم: شياطينُ، كما قيل: (شياطينُ الجِنِّ والإنسِ)؛ فإنَّ الشَّيطانَ: كلُّ مُتمَرِّدٍ بعيدٍ عن طاعةِ اللهِ تعالى.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ الجِنَّ كانوا مع الشَّياطينِ، فلمَّا رُمِيَ الشَّياطينُ أخَذ الجِنُّ الَّذين كانوا معهم في تجَسُّسِ الخبرِ [37] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/664). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فيه بيانُ ذكاءِ الجِنِّ، ومعرفتِهم بالحَقِّ، وأنَّ الَّذي ساقَهم إلى الإيمانِ هو ما تحَقَّقوه مِن هدايةِ القرآنِ؛ وحُسنِ أدَبِهم في خِطابِهم [38] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
9- إذا تُلِيَ القرآنُ على إنسانٍ فقد قامتْ عليه الحُجَّةُ، ولهذا فإنَّ الجنَّ ولَّوْا إلى قَومِهم مُنذِرينَ بمُجرَّدِ سماعِهم القُرآنَ، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ، وقال تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30] . فقراءةُ القرآنِ مُلْزِمةٌ، لكنْ إذا كان الشَّخصُ لا يَفهمُ لغةَ القرآنِ فلا تكونُ مُلْزِمةً؛ لقَولِه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولا يَحصُلُ البيانُ وهو لا يَدري لُغةَ القُرآنِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 296). !
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، أي: ولن نَعودَ إلى ما كنَّا عليه مِنَ الإشراكِ به، وهذا يدُلُّ على أنَّ أولئك الجِنَّ كانوا مِن المُشرِكينَ [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/666). .
11- في قَولِه تعالى: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا حُجَّةٌ على تسميةِ المخلوقينَ بأسماءِ الخالقِ عزَّ وجلَّ؛ إذِ «الأحَدُ» اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تبارك وتعالى [41] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/428). لكنْ في ذلك تفصيلٌ؛ فقد جاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ: (ما كان مِن أسماءِ الله تعالى عَلَم شَخصٍ، كلَفظِ «الله»: امتنع تسميةُ غيرِ الله به؛ لأنَّ مُسمَّاه مُعيَّنٌ لا يَقبَلُ الشَّرِكةَ، وكذا ما كان مِن أسمائِه في معناه في عدَمِ قَبولِ الشَّرِكةِ، كالخالقِ والبارئِ؛ فإنَّ الخالِقَ: مَن يُوجِدُ الشَّيءَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، والبارئَ: مَن يوجِدُ الشَّيءَ بريئًا مِن العَيبِ، وذلك لا يكونُ إلَّا مِن الله وحْدَه؛ فلا يُسمَّى به إلَّا اللهُ تعالى. أمَّا مَا كان له معنًى كُلِّيٌّ تَتفاوَتُ فيه أفرادُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، كالمَلِكِ، والعزيزِ، والجبَّارِ، والمتكبِّرِ؛ فيجوزُ تسميةُ غيرِه بها؛ فقد سمَّى الله نفْسَه بهذه الأسماءِ، وسمَّى بعضَ عبادِه بها). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (2/368). .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا دليلٌ على أنَّ العربَ تُسمِّي بالاسمِ الواحدِ المعانيَ الكثيرةَ؛ إذِ «الجَدُّ» في هذا الموضعِ: العَظَمةُ والجلالُ، وفي غيرِه: «البختُ»، و«أبو الأبِ»، وفيه أيضًا رَدٌّ على المعتزلةِ -فيما يَزعُمونَ-: أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ باسمٍ، ثمَّ سُميَّ به غيرُه لزِم أنْ يُشبِهَه بجميعِ جِهاتِه [42] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/317، 427). !
13- قال تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، فعَلِموا مِن جَدِّ اللهِ وعَظَمتِه ما دَلَّهم على بُطلانِ قولِ مَن يَزعُمُ أنَّ له صاحبةً أو ولَدًا؛ لأنَّ له العَظَمةَ والكَمالَ في كلِّ صِفةِ كَمالٍ، واتِّخاذُ الصَّاحبةِ والولَدِ يُنافي ذلك؛ لأنَّه يُضادُّ كَمالَ الغِنى [43] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 890). ، ولأنَّ الصَّاحبةَ إنَّما تكونُ للضَّعيفِ العاجزِ الَّذي تَضْطَرُّه الشَّهوةُ الباعثةُ إلى اتِّخاذِها له، وأنَّ الولَدَ إنَّما يكونُ عن شَهوةٍ أزعَجَتْه إلى الوِقاعِ الَّذي يَحدُثُ منه الولَدُ، فقال النَّفَرُ مِن الجِنِّ: عَلا مُلْكُ ربِّنا وسُلطانُه وقُدرتُه وعَظَمتُه أنْ يكونَ ضَعيفًا ضَعْفَ خَلْقِه الَّذين تَضطَرُّهم الشَّهوةُ إلى اتِّخاذِ صاحبةٍ، أو وِقاعِ شَيءٍ يكونُ منه ولَدٌ [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/316). .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا فيه دليلٌ على المنعِ مِن أكثَرِ الرُّقى والعزائِمِ [45] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 275). .
15- الاستِعاذةُ بالأمواتِ أو الأحياءِ غيرِ الحاضِرينَ القادِرينَ على العَوذِ: شِركٌ، ومنه قَولُه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [46] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 64). .
16- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أنَّ الاستِعاذةَ بالجِنِّ حرامٌ؛ لأنَّها لا تفيدُ المُستعيذَ، بل تَزيدُه رَهَقًا -أي: خَوفًا وضَعفًا-، فعُوقِبَ بنَقيضِ قَصْدِه، وهذا على اعتبارِ أنَّ «الواوَ» ضميرُ الجِنِّ، و«الهاءَ» ضميرُ الإنسِ [47] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/251). .
17- قال اللهُ تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ الإنسُ سُمُّوا إنسًا لأنَّهم يؤنَسونَ، أي: يُرَونَ. كما قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السَّلامُ: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا [طه: 10] ، أي: رأيتُها، والجِنُّ سُمُّوا جِنًّا لاجتِنانِهم، يجتَنُّونَ عن الأبصارِ، أي: يَستَتِرونَ، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] ، أي: استولى عليه، فغَطَّاه وستَرَه [48] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/465). .
18- في قَولِه تعالى: يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ تسميتُه الجِنَّ رجالًا، إلَّا أنَّه لم يُطْلِقْ عليهم: الرِّجالَ، بل هي تسميَّةٌ مقيَّدةٌ بقَولِه: مِنَ الْجِنِّ، فهم رجالٌ مِن الجِنِّ، ولا يَستَلزِمُ ذلك دُخولَهم في الرِّجالِ عندَ الإطلاقِ، كما تقولُ: «رجالٌ مِن حِجارةٍ» و «رِجالٌ مِن خشَبٍ» ونحوَه؛ وعليه فلا يُشْكِلُ هذا مع قولِه سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] في أنَّه لم يُرْسِلْ جِنِّيًّا، ولا امرأةً، ولا بَدَويًّا [49] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 416). .
19- في قَولِه تعالى: بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ أنَّ للجِنِّ رجالًا، ولهم إناثٌ [50] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/251). .
20- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا يدُلُّ على أنَّ الجِنَّ كما أنَّهم كان فيهم مُشرِكٌ ويَهودِيٌّ ونَصرانيٌّ، ففيهم مَن يُنكِرُ البَعثَ [51] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/668). . على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا
- افتِتاحُ السُّورةِ بالأمرِ بالقولِ يُشيرُ إلى أنَّ ما سيُذكَرُ بعْدَه حدَثٌ غَريبٌ، وخاصَّةً بالنِّسبةِ للمشرِكينَ الَّذين همْ مَظِنَّةُ التَّكذيبِ به، كما يَقتضيهِ قولُه: كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/218). [الجن: 7] .
- قولُه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذين أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يقولَ لهم: إنَّه أُوحِيَ إليه بخبَرِ الجنِّ؛ همْ جميعُ النَّاسِ الَّذين كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبلِّغُهم القُرآنَ مِن المسلمينَ والمشرِكين، أراد اللهُ إبلاغَهُم هذا الخبَرَ؛ لِما له مِن دَلالةٍ على شرَفِ هذا الدِّينِ، وشرَفِ كِتابِه، وشرَفِ مَن جاء به، وفيه إدخالُ مَسرَّةٍ على المسلِمينَ، وتَعريضٌ بالمُشرِكين؛ إذ كان الجنُّ قدْ أدْرَكوا شرَفَ القُرآنِ وفَهِموا مَقاصِدَه وهمْ لا يَعرِفون لُغتَه، ولا يُدرِكون بَلاغتَه، فأقْبَلوا عليه، والَّذين جاءهُم بلِسانِهم وأدْرَكوا خَصائصَ بَلاغتِه أنْكَروه وأعْرَضوا عنه [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/219). !
- وفي الإخبارِ هنا عن استِماعِ الجنِّ للقُرآنِ بأنَّه أُوحِيَ إليه ذلك إيماءٌ إلى أنَّه ما عَلِمَ بذلك إلَّا بإخبارِ اللهِ إيَّاهُ بوُقوعِ هذا الاستماعِ، فالآيةُ تَقْتضي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَعلَمْ بحُضورِ الجنِّ لاستماعِ القُرآنِ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ، وأمَّا في قولِه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ ... [الأحقافِ: 29] الآياتِ؛ فتَذكيرٌ بما في هذه الآيةِ، أو هي إشارةٌ إلى قصَّةٍ أُخرى رَواها عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ [54] يُنظر ما أخرجه مسلم (450). ، ولا عَلاقةَ لها بهذه الآيةِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/219، 220). . وذلك على قولٍ.
- وتأْكيدُ الخبَرِ المُوحَى بحرْفِ (أنَّ)؛ للاهتِمامِ به؛ لغَرابتِه [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/220). .
- وضَميرُ أَنَّهُ ضَميرُ الشَّأنِ، وخبَرُه جُملةُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وفي ذلك زِيادةُ اهتمامٍ بالخبَرِ المُوحى به [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/220). .
- قولُه: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه تأْكيدُ الخبَرِ بـ (إِنَّ)؛ لأنَّهم أخْبَروا به فَريقًا منهم يَشُكُّون في وُقوعِه، فأَتَوا في كَلامِهم بما يُفيدُ تَحقيقَ ما قالُوه [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/221). .
- ووَصْفُ القُرآنِ بالعجَبِ وَصْفٌ بالمَصدرِ على سبيلِ المُبالَغةِ، أي: هو عجبٌ في نفسِه؛ لفَصاحةِ كَلامِه، وحُسنِ مَبانِيه، ودِقَّةِ مَعانيهِ، وغَرابةِ أُسلوبِه، وبَلاغةِ مَواعظِه، وكَونِه مُبايِنًا لسائرِ الكُتبِ [59] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((تفسير أبي حيان)) (10/293)، ((تفسير أبي السعود)) (9/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/221). .
2- قولُه تعالَى: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا
- قولُه: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ، أي: بالقُرآنِ؛ لَمَّا كان الإيمانُ بالقرآنِ يَقْتضي الإيمانَ بمَن جاء به وبمَن أنْزَلَه، قالوا: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا؛ فعطْفُ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا مِن بابِ عطْفِ المُسبَّبِ على السَّببِ، وحرْفُ الجمْعِ يُفوِّضُ التَّرتيبَ إلى ذِهنِ السَّامعِ، وهو أبلَغُ مِن الفاءِ. ويُمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّ مَجموعَ قولِهم: فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا مُسبَّبٌ عن مَجموعِ قولِهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ؛ فكَوْنُه قُرآنًا عجَبًا -أي: مُعجِزًا بَديعًا- يُوجِبُ الإيمانَ به، وكَونُه يَهدي إلى الرُّشدِ مُوجِبٌ قلْعَ الشِّركِ مِن أصْلِه، والدُّخولَ في دِينِ اللهِ كلِّه [60] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/48، 49)، ((تفسير أبي حيان)) (10/293، 294). .
- وقولُ الجنِّ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، أي: يَنْتفي ذلك في المُستقبَلِ، وهذا يَقْتضي أنَّهم كانوا مُشرِكين، ولذلك أكَّدوا نفْيَ الإشراكِ بحرْفِ (لن)؛ فكما أُكِّدَ خبَرُهم عن القرآنِ والثَّناءِ عليه بحرْفِ (إنَّ)، أُكِّدَ خبَرُهم عن إقلاعِهم عن الإشراكِ بحرْفِ (لنْ) [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/221). .
3- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا
- الجَدُّ -بفتْحِ الجيمِ-: العَظَمةُ والجَلالُ، وهذا تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لقولِه: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا؛ لأنَّ اتِّخاذَ الصاحبةِ للافتقارِ إليها؛ لأُنْسِها وعَونِها والالتِذاذِ بصُحبتِها، وكلُّ ذلك مِن آثارِ الاحتياجِ، وللهِ تعالَى الغِنَى المُطلَقُ، وتعالَى جَدُّه بغِناهُ المطلَقِ، والولدُ يُرغَبُ فيه للاستِعانةِ والأُنسِ به، مع ما يَقتضيهِ مِن انفصالِه مِن أجزاءِ والِدَيْه؛ وكلُّ ذلك مِن الافتِقارِ والانتقاصِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/222). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (أنَّ)؛ لأنَّه مَسوقٌ إلى فَريقٍ يَعتقِدون خِلافَ ذلك مِن الجنِّ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). .
- وضَميرُ الجَماعةِ في قولِه: رَبِّنَا عائدٌ إلى كلِّ مُتكلِّمٍ مع تَشريكِ غيرِه؛ فعلَى تَقديرِ أنَّه مِن كَلامِ الجِنِّ، فهو قولُ كلِّ واحدٍ منهم عن نفْسِه ومَن معَه مِن بَقيَّةِ النَّفَرِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). .
- وقولُه: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا بَيانٌ لِحُكْمِ تَعالِي جَدِّه سُبحانَه [65] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((تفسير أبي السعود)) (9/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). .
- والاقتِصارُ في بَيانِ تَعالِي جَدِّ الله على انتفاءِ الصَّاحبةِ عنه والولَدِ يُنبِئُ بأنَّه كان شائعًا في عِلمِ الجنِّ ما كان يَعتقِدُه المشرِكون أنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ مِن سَرَواتِ -أي ساداتِ وأشرافِ وخَواصِّ- الجنِّ، وما اعتقادُ المشركينَ إلَّا ناشئٌ عن تَلقينِ الشَّيطانِ، وهو مِن الجنِّ، ولأنَّ ذلك ممَّا سَمِعوه مِن القرآنِ، مِثل قولِه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). [الأنعامِ: 101].
- وإعادةُ (لا) النَّافيةِ مع المَعطوفِ للتَّأكيدِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ المعطوفَ مَنفيٌّ باستِقلالِه؛ لدَفْعِ توهُّمِ نفْيِ المجموعِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). .
4- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا
- تأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (أنَّ)؛ لأنَّه مَسوقٌ إلى فَريقٍ يَعتقِدون خِلافَ ذلك مِن الجنِّ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/223). .
- قولُه: شَطَطًا نعْتٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: قولًا شَططًا، وهو البُعدُ ومُجاوَزةُ الحدِّ، أوْ هُو شطَطٌ في نفْسِه؛ لفَرْطِ بُعدِه عن الحقِّ [69] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/50)، ((تفسير أبي السعود)) (9/43)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/237). .
5- قولُه تعالَى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا اعتِذارٌ عمَّا اقتَضاهُ قولُهم: فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 2] مِن كَونِهم كانوا مُشرِكينَ لجَهْلِهم، وأخْذِهم قولَ سُفهائِهم يَحسَبونَهم لا يَكذِبون على اللهِ تعالَى [70] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((تفسير أبي السعود)) (9/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/224). .
- والتَّأكيدُ بحرْفِ (أنَّ)؛ لقصْدِ تَحقيقِ عُذرِهم فيما سلَفَ مِن الإشراكِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/224). .
- وتأْكيدُ المَظنونِ بحرْفِ (لنْ) يُفيدُ أنَّهم كانوا مُتوغِّلينَ في حُسنِ ظَنِّهم بمَن ضَلَّلوهم، ويدُلُّ على أنَّ الظَّنَّ هنا بمعْنى اليقينِ، وهو يَقينٌ مُخطِئٌ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/224). .
- قولُه: كَذِبًا مَصدرٌ مُؤكِّدٌ لـ تَقُولَ؛ لأنَّه نَوعٌ مِن القولِ، أو وصْفٌ لمَصدرِه المحذوفِ، أيْ: قولًا كذِبًا، أيْ: مَكذوبًا فيهِ [73] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/623)، ((تفسير البيضاوي)) (5/251)، ((تفسير أبي حيان)) (10/295)، ((تفسير أبي السعود)) (9/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/224)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/237). .
6- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا التَّأكيدُ بـ (أنَّ) راجِعٌ إلى ما تَفرَّعَ على خبَرِها مِن قَولِهم: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/225). .
7- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا
- التَّأكيدُ بحرْفِ (أنَّ) للاهتِمامِ بالخبَرِ؛ لغَرابتِه [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). .
- وجُملةُ كَمَا ظَنَنْتُمْ مُعترِضةٌ بيْنَ ظَنُّوا ومَعمولِه، فيَجوزُ أنْ تكونَ مِن القولِ المَحكيِّ، يقولُ الجنُّ بَعضُهم لبعضٍ؛ يُشبِّهونَ كُفَّارَهم بكفَّارِ الإنسِ، وقيل غيرُ ذلك [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). .
- وكَمَا نعْتٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: ظنُّوا ظنًّا مِثلَ ظَنِّكم [77] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/237). .
- قولُه: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا فيه التَّعبيرُ بحرْفِ (لن)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم كانوا غيرَ مُتردِّدينَ في إحالةِ ذلك [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). .
- والإخبارُ عن هذا فيه تَعريضٌ بالمشركينَ بأنَّ فَسادَ اعتقادِهِم تَجاوَزَ عالَمَ الإنسِ إلى عالَمِ الجنِّ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/226). .