موسوعة التفسير

سورةُ الجِنِّ
الآيات (1-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

نَفَرٌ: أي: جماعةٌ ما بيْنَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ، والنَّفَرُ: اسْمُ جَمْعٍ، يَقَعُ على جماعةٍ مِن الرِّجالِ خاصَّةً، ولا واحدَ له مِن لَفظِه. والنَّفْرُ: الانْزِعاجُ عن الشَّيءِ وإلى الشَّيءِ، كالفَزَعِ إلى الشَّيءِ وعن الشَّيءِ، والنَّفَرُ والنَّفيرُ والنَّفَرَةُ: عِدَّةُ رِجالٍ يُمْكِنُهم النَّفْرُ .
جَدُّ: أي: عَظَمةُ وجلالُ، وأصلُ (جدد) هنا: يدُلُّ على العَظَمةِ .
سَفِيهُنَا: أي: إبليسُ أو مَرَدةُ الجِنِّ، أو جاهِلُنا، والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، والجهلُ، والسَّفيهُ: الخفيفُ العَقلِ، وأصلُ (سفه): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسَخافةٍ .
شَطَطًا: أي: كَذِبًا وجَوْرًا، ومعنى الشَّطَطِ في اللُّغةِ: مُجاوَزةُ القَدْرِ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على الإفراطِ في البُعدِ والمَيلِ .
يَعُوذُونَ: أي: يَلجَؤُونَ ويَستَجيرونَ. والعَوذُ: الالتِجاءُ إلى الغَيرِ، والتَّعَلُّقُ به، وأصلُ (عوذ): يدُلُّ على الالتِجاءِ إلى الشَّيءِ .
رَهَقًا: أي: ضَلالًا وإثْمًا وظُلْمًا، والرَّهَقُ: الإثمُ وغِشْيانُ المَحارِمِ، وأصلُ (رهق) هنا: يدُلُّ على غِشْيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ .

مشكل الإعراب:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا
 قولُه تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا قُرِئَت هذه الآيةُ بفَتحِ إنَّ وكَسْرِها :
فمَن كسَرَها عَطَفَها على قَولِ الجِنِّ: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، فيَكونُ التَّقديرُ: وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ رَبِّنا.
ومَن فَتَح الهمزةَ عَطَفَها على (الهاءِ) في قَولِ الجِنِّ: فَآَمَنَّا بِهِ، فيكونُ التَّقديرُ: وآمَنَّا بأنَّه تعالى جَدُّ رَبِّنا. بتقديرِ الجارِّ؛ لاطِّرادِ حَذْفِه قبْلَ (أنْ) و(أنَّ). وقيل غيرُ ذلك .

المعنى الإجمالي:

يَبتدِئُ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يحَدِّثَ بما حصَل مِن سماعِ بعضِ الجنِّ للقرآنِ، وما قالوه، فيقولُ سُبحانَه: قُلْ -يا مُحَمَّدُ-: أوحَى اللهُ إلَيَّ أنَّه استمَعَ جماعةٌ مِن الجِنِّ للقُرآنِ، فقالوا: إنَّا سَمِعْنا قرآنًا عجيبًا يدُلُّ على الحَقِّ والهُدى، فآمَنَّا به، ولن نُشرِكَ برَبِّنا أحَدًا مِن خَلْقِه، وأنَّه تعالَت عَظَمةُ ربِّنا لم يتَّخِذْ زَوجةً ولا وَلَدًا، وأنَّه كان يقولُ جاهِلُنا على اللهِ كَذِبًا، وأنَّا كُنَّا نَظُنُّ أنَّ الإنسَ والجِنَّ صادِقونَ في ادِّعاءاتِهم، وأنَّهم لن يَجرُؤوا على الكَذِبِ على اللهِ تعالى، وأنَّه كان رِجالٌ مِن الإنسِ إذا نَزَلوا مَنزِلًا يَستَعيذونَ ويَستَجيرونَ بعظيمِ ذلك المكانِ مِنَ الجِنِّ، فزاد الإنسُ الجِنَّ طُغْيانًا وكِبْرًا، وأنَّ كُفَّارَ الجِنِّ ظَنُّوا -كما ظَنَّ كُفَّارُ الإنسِ- أنَّ اللهَ لن يَبعَثَ أحدًا يومَ القيامةِ للحِسابِ والجزاءِ.

تفسير الآيات:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1).
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((انطلَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طائفةٍ مِن أصحابِه عامِدينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقد حِيلَ بيْنَ الشَّياطينِ وبيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، وأُرسلَت عليهم الشُّهُبُ، فرجَعَت الشَّياطينُ إلى قَومِهم، فقالوا: ما لَكم؟! فقالوا: حِيلَ بيْنَنا وبيْنَ خبَرِ السَّماءِ، وأُرسِلَت علينا الشُّهُبُ! قالوا: ما حالَ بيْنَكم وبيْنَ خبَرِ السَّماءِ إلَّا شَيءٌ حَدَث؛ فاضرِبوا مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها، فانظُروا ما هذا الَّذي حالَ بيْنَكم وبيْنَ خبرِ السَّماءِ؟! فانصرَف أولئك الَّذين توَجَّهوا نحوَ تِهامةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو بنَخْلةَ عامِدينَ إلى سوقِ عُكاظٍ، وهو يُصلِّي بأصحابِه صلاةَ الفَجرِ، فلمَّا سَمِعوا القرآنَ استَمَعوا له، فقالوا: هذا -واللهِ- الَّذي حال بيْنَكم وبيْنَ خبرِ السَّماءِ، فهنالك حينَ رَجَعوا إلى قومِهم، وقالوا: يا قَومَنا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1، 2]، فأنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ)) .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ -: أوحَى اللهُ إلَيَّ أنَّه استمَعَ جماعةٌ مِن الجِنِّ للقُرآنِ .
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا.
أي: فقال أولئك النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ: إنَّا سَمِعْنا قرآنًا عجيبًا بديعًا خارِجًا عن العادةِ، فلا حديثَ مِثلُه .
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنوا فَضْلَ القرآنِ مِن جِهةِ الإعجازِ وغَيرِه؛ بيَّنوا المقصودَ بالذَّاتِ الدَّالَّ على غَوصِهم على المعاني، بَعْدَ عِلْمِهم بحُسنِ المباني .
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ.
أي: قالوا: وهذا القُرآنُ يدُلُّ على الحَقِّ والخَيرِ والصَّوابِ والهُدى، فآمَنَّا به .
كما قال تعالى: هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
وقال سُبحانَه: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30] .
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.
أي: ولن نَجعَلَ أحَدًا مِن خَلْقِه شَريكًا له .
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا سَمِعُوا القرآنَ، ووُفِّقُوا للتَّوحيدِ والإيمانِ؛ تَنبَّهوا للخطأِ فيما اعتَقَده كفَرةُ الجنِّ مِن تَشبيهِ الله تعالَى بخَلْقِه في اتِّخاذِ الصَّاحبةِ والولدِ، فاستَعْظموه ونزَّهُوه تعالَى عنه .
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا.
أي: وأنَّه تعالَت عَظَمةُ ربِّنا وجَلالُه .
مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَفوه بهذا التَّعالي الأعظَمِ المستلزِمِ للغِنى المطلَقِ، والتَّنزُّهِ عن كلِّ شائبةِ نقْصٍ؛ بَيَّنوه بنَفْيِ ما يُنافِيه بقولِهم إبطالًا للباطلِ :
مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.
أي: لم يتَّخِذِ اللهُ تعالى زَوجةً له، ولم يتَّخِذْ وَلَدًا .
كما قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101] .
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4).
أي: وأنَّه كان يقولُ جاهِلُنا -الملازِمُ للطَّيشِ والغَيِّ- على اللهِ كَذِبًا وجَورًا بعيدًا عن العَدلِ والصَّوابِ، ومِن ذلك ادِّعاءُ الشَّريكِ والزَّوجةِ والولَدِ لله سُبحانَه وتعالى .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَروا ما هُدُوا إليه مِنَ الحَقِّ في اللهِ، وفيمَن كان يَحمِلُهم على الباطِلِ؛ ذكَروا عُذْرَهم في اتِّباعِهم للسَّفيهِ، وفي وُقوعِهم في مَواقِعِ التُّهَمِ .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5).
أي: وأنَّا قبْلَ سَماعِنا للقُرآنِ وإيمانِنا باللهِ كُنَّا نَظُنُّ أنَّ الإنسَ والجِنَّ صادِقونَ في ادِّعاءاتِهم، وأنَّهم لن يَجرُؤوا على الكَذِبِ على اللهِ تعالى، فيَدَّعُوا له الشَّريكَ والصَّاحِبةَ والوَلَدَ كَذِبًا وزُورًا !
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6).
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ.
أي: وأنَّه كان رجالٌ مِن الإنسِ إذا نَزَلوا مَنزِلًا يَستَعيذونَ ويَستَجيرونَ بعظيمِ ذلك المكانِ وسَيِّده مِنَ الجِنِّ؛ طلبًا للأمانِ والسَّلامةِ مِمَّا يخافونَ ويَحذَرونَ !
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا.
أي: فزاد الإنسُ الجِنَّ طُغْيانًا وكِبرًا حينَ رأَوُا الإنسَ يَستَعيذونَ بهم .
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7).
أي: وأنَّ كُفَّارَ الجِنِّ ظَنُّوا -كما ظَنَّ كُفَّارُ الإنسِ- أنَّ اللهَ لن يبعَثَ أحدًا يومَ القيامةِ للحِسابِ والجزاءِ .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا جَعَلوا السَّبَبَ الدَّاعيَ لهم إلى الإيمانِ وتوابِعِه: ما عَلِموه مِن إرشاداتِ القُرآنِ، وما اشتَمَل عليه مِن المصالِحِ والفوائِدِ، واجتنابِ المَضارِّ؛ فإنَّ ذلك آيةٌ عظيمةٌ وحُجَّةٌ قاطِعةٌ لِمَنِ استنارَ به، واهتَدى بهَدْيِه، وهذا هو الإيمانُ النَّافعُ، المُثمِرُ لكُلِّ خَيرٍ، المبنيُّ على هدايةِ القُرآنِ، بخِلافِ إيمانِ العوائِدِ والمَرْبَى والإلْفِ ونَحوِ ذلك؛ فإنَّه إيمانُ تقليدٍ تحتَ خَطَرِ الشُّبُهاتِ والعوارِضِ الكَثيرةِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَقتضي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَعلَمْ بحُضورِ الجِنِّ لاستِماعِ القُرآنِ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ .
2- قال اللهُ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا في هذا توبيخٌ للكُفَّارِ مِن بني آدَمَ؛ حيث آمَنَت الجِنُّ بسَماعِ القرآنِ مرَّةً واحدةً، وانتَفَعوا بسَماعِ آياتٍ يسيرةٍ منه، وأدركوا بعُقولِهم أنَّه كلامُ اللهِ، وآمَنوا به، ولم ينتَفِعْ كفَّارُ الإنسِ -ولا سيَّما رؤساؤُهم وعُظَماؤُهم- بسَماعِه مرَّاتٍ متعدِّدةً، وتِلاوتِه عليهم في أوقاتٍ مختلِفةٍ، مع كَونِ الرَّسولِ منهم، يَتلوه عليهم بلِسانِهم !
3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ النَّبيَّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- كما بُعِثَ إلى الإنسِ، فقد بُعِثَ إلى الجِنِّ . فهو رسولٌ إلى الجِنِّ، كما هو رسولٌ إلى الإنسِ؛ فإنَّ اللهَ صَرَف نَفَرَ الجنِّ لِيَستَمِعوا ما يُوحَى إليه، ويُبلِّغوا قومَهم .
4- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ الجِنَّ مكَلَّفونَ كالإنسِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ الجِنَّ يَستَمِعونَ كَلامَنا، ويَفهَمونَ لُغاتِنا .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه أنَّ المؤمِنَ مِنَ الجِنِّ يدعو غيرَه مِن قبيلتِه إلى الإيمانِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه سؤالٌ: الَّذين رُمُوا بالشُّهُبِ هم الشَّياطينُ، والَّذين سَمِعوا القرآنَ هم الجِنُّ، فكيف وَجهُ الجَمعِ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ الَّذين رُمُوا بالشُّهُبِ كانوا مِنَ الجِنِّ، إلَّا أنَّه قيل لهم: شياطينُ، كما قيل: (شياطينُ الجِنِّ والإنسِ)؛ فإنَّ الشَّيطانَ: كلُّ مُتمَرِّدٍ بعيدٍ عن طاعةِ اللهِ تعالى.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ الجِنَّ كانوا مع الشَّياطينِ، فلمَّا رُمِيَ الشَّياطينُ أخَذ الجِنُّ الَّذين كانوا معهم في تجَسُّسِ الخبرِ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فيه بيانُ ذكاءِ الجِنِّ، ومعرفتِهم بالحَقِّ، وأنَّ الَّذي ساقَهم إلى الإيمانِ هو ما تحَقَّقوه مِن هدايةِ القرآنِ؛ وحُسنِ أدَبِهم في خِطابِهم .
9- إذا تُلِيَ القرآنُ على إنسانٍ فقد قامتْ عليه الحُجَّةُ، ولهذا فإنَّ الجنَّ ولَّوْا إلى قَومِهم مُنذِرينَ بمُجرَّدِ سماعِهم القُرآنَ، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ، وقال تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30] . فقراءةُ القرآنِ مُلْزِمةٌ، لكنْ إذا كان الشَّخصُ لا يَفهمُ لغةَ القرآنِ فلا تكونُ مُلْزِمةً؛ لقَولِه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولا يَحصُلُ البيانُ وهو لا يَدري لُغةَ القُرآنِ !
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، أي: ولن نَعودَ إلى ما كنَّا عليه مِنَ الإشراكِ به، وهذا يدُلُّ على أنَّ أولئك الجِنَّ كانوا مِن المُشرِكينَ .
11- في قَولِه تعالى: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا حُجَّةٌ على تسميةِ المخلوقينَ بأسماءِ الخالقِ عزَّ وجلَّ؛ إذِ «الأحَدُ» اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تبارك وتعالى .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا دليلٌ على أنَّ العربَ تُسمِّي بالاسمِ الواحدِ المعانيَ الكثيرةَ؛ إذِ «الجَدُّ» في هذا الموضعِ: العَظَمةُ والجلالُ، وفي غيرِه: «البختُ»، و«أبو الأبِ»، وفيه أيضًا رَدٌّ على المعتزلةِ -فيما يَزعُمونَ-: أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ باسمٍ، ثمَّ سُميَّ به غيرُه لزِم أنْ يُشبِهَه بجميعِ جِهاتِه !
13- قال تعالى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، فعَلِموا مِن جَدِّ اللهِ وعَظَمتِه ما دَلَّهم على بُطلانِ قولِ مَن يَزعُمُ أنَّ له صاحبةً أو ولَدًا؛ لأنَّ له العَظَمةَ والكَمالَ في كلِّ صِفةِ كَمالٍ، واتِّخاذُ الصَّاحبةِ والولَدِ يُنافي ذلك؛ لأنَّه يُضادُّ كَمالَ الغِنى ، ولأنَّ الصَّاحبةَ إنَّما تكونُ للضَّعيفِ العاجزِ الَّذي تَضْطَرُّه الشَّهوةُ الباعثةُ إلى اتِّخاذِها له، وأنَّ الولَدَ إنَّما يكونُ عن شَهوةٍ أزعَجَتْه إلى الوِقاعِ الَّذي يَحدُثُ منه الولَدُ، فقال النَّفَرُ مِن الجِنِّ: عَلا مُلْكُ ربِّنا وسُلطانُه وقُدرتُه وعَظَمتُه أنْ يكونَ ضَعيفًا ضَعْفَ خَلْقِه الَّذين تَضطَرُّهم الشَّهوةُ إلى اتِّخاذِ صاحبةٍ، أو وِقاعِ شَيءٍ يكونُ منه ولَدٌ .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا فيه دليلٌ على المنعِ مِن أكثَرِ الرُّقى والعزائِمِ .
15- الاستِعاذةُ بالأمواتِ أو الأحياءِ غيرِ الحاضِرينَ القادِرينَ على العَوذِ: شِركٌ، ومنه قَولُه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا .
16- في قَولِه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أنَّ الاستِعاذةَ بالجِنِّ حرامٌ؛ لأنَّها لا تفيدُ المُستعيذَ، بل تَزيدُه رَهَقًا -أي: خَوفًا وضَعفًا-، فعُوقِبَ بنَقيضِ قَصْدِه، وهذا على اعتبارِ أنَّ «الواوَ» ضميرُ الجِنِّ، و«الهاءَ» ضميرُ الإنسِ .
17- قال اللهُ تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ الإنسُ سُمُّوا إنسًا لأنَّهم يؤنَسونَ، أي: يُرَونَ. كما قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السَّلامُ: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا [طه: 10] ، أي: رأيتُها، والجِنُّ سُمُّوا جِنًّا لاجتِنانِهم، يجتَنُّونَ عن الأبصارِ، أي: يَستَتِرونَ، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] ، أي: استولى عليه، فغَطَّاه وستَرَه .
18- في قَولِه تعالى: يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ تسميتُه الجِنَّ رجالًا، إلَّا أنَّه لم يُطْلِقْ عليهم: الرِّجالَ، بل هي تسميَّةٌ مقيَّدةٌ بقَولِه: مِنَ الْجِنِّ، فهم رجالٌ مِن الجِنِّ، ولا يَستَلزِمُ ذلك دُخولَهم في الرِّجالِ عندَ الإطلاقِ، كما تقولُ: «رجالٌ مِن حِجارةٍ» و «رِجالٌ مِن خشَبٍ» ونحوَه؛ وعليه فلا يُشْكِلُ هذا مع قولِه سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] في أنَّه لم يُرْسِلْ جِنِّيًّا، ولا امرأةً، ولا بَدَويًّا .
19- في قَولِه تعالى: بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ أنَّ للجِنِّ رجالًا، ولهم إناثٌ .
20- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا يدُلُّ على أنَّ الجِنَّ كما أنَّهم كان فيهم مُشرِكٌ ويَهودِيٌّ ونَصرانيٌّ، ففيهم مَن يُنكِرُ البَعثَ . على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا
- افتِتاحُ السُّورةِ بالأمرِ بالقولِ يُشيرُ إلى أنَّ ما سيُذكَرُ بعْدَه حدَثٌ غَريبٌ، وخاصَّةً بالنِّسبةِ للمشرِكينَ الَّذين همْ مَظِنَّةُ التَّكذيبِ به، كما يَقتضيهِ قولُه: كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [الجن: 7] .
- قولُه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذين أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يقولَ لهم: إنَّه أُوحِيَ إليه بخبَرِ الجنِّ؛ همْ جميعُ النَّاسِ الَّذين كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبلِّغُهم القُرآنَ مِن المسلمينَ والمشرِكين، أراد اللهُ إبلاغَهُم هذا الخبَرَ؛ لِما له مِن دَلالةٍ على شرَفِ هذا الدِّينِ، وشرَفِ كِتابِه، وشرَفِ مَن جاء به، وفيه إدخالُ مَسرَّةٍ على المسلِمينَ، وتَعريضٌ بالمُشرِكين؛ إذ كان الجنُّ قدْ أدْرَكوا شرَفَ القُرآنِ وفَهِموا مَقاصِدَه وهمْ لا يَعرِفون لُغتَه، ولا يُدرِكون بَلاغتَه، فأقْبَلوا عليه، والَّذين جاءهُم بلِسانِهم وأدْرَكوا خَصائصَ بَلاغتِه أنْكَروه وأعْرَضوا عنه !
- وفي الإخبارِ هنا عن استِماعِ الجنِّ للقُرآنِ بأنَّه أُوحِيَ إليه ذلك إيماءٌ إلى أنَّه ما عَلِمَ بذلك إلَّا بإخبارِ اللهِ إيَّاهُ بوُقوعِ هذا الاستماعِ، فالآيةُ تَقْتضي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَعلَمْ بحُضورِ الجنِّ لاستماعِ القُرآنِ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ، وأمَّا في قولِه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ ... [الأحقافِ: 29] الآياتِ؛ فتَذكيرٌ بما في هذه الآيةِ، أو هي إشارةٌ إلى قصَّةٍ أُخرى رَواها عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ ، ولا عَلاقةَ لها بهذه الآيةِ . وذلك على قولٍ.
- وتأْكيدُ الخبَرِ المُوحَى بحرْفِ (أنَّ)؛ للاهتِمامِ به؛ لغَرابتِه .
- وضَميرُ أَنَّهُ ضَميرُ الشَّأنِ، وخبَرُه جُملةُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وفي ذلك زِيادةُ اهتمامٍ بالخبَرِ المُوحى به .
- قولُه: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا فيه تأْكيدُ الخبَرِ بـ (إِنَّ)؛ لأنَّهم أخْبَروا به فَريقًا منهم يَشُكُّون في وُقوعِه، فأَتَوا في كَلامِهم بما يُفيدُ تَحقيقَ ما قالُوه .
- ووَصْفُ القُرآنِ بالعجَبِ وَصْفٌ بالمَصدرِ على سبيلِ المُبالَغةِ، أي: هو عجبٌ في نفسِه؛ لفَصاحةِ كَلامِه، وحُسنِ مَبانِيه، ودِقَّةِ مَعانيهِ، وغَرابةِ أُسلوبِه، وبَلاغةِ مَواعظِه، وكَونِه مُبايِنًا لسائرِ الكُتبِ .
2- قولُه تعالَى: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا
- قولُه: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ، أي: بالقُرآنِ؛ لَمَّا كان الإيمانُ بالقرآنِ يَقْتضي الإيمانَ بمَن جاء به وبمَن أنْزَلَه، قالوا: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا؛ فعطْفُ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا مِن بابِ عطْفِ المُسبَّبِ على السَّببِ، وحرْفُ الجمْعِ يُفوِّضُ التَّرتيبَ إلى ذِهنِ السَّامعِ، وهو أبلَغُ مِن الفاءِ. ويُمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّ مَجموعَ قولِهم: فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا مُسبَّبٌ عن مَجموعِ قولِهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ؛ فكَوْنُه قُرآنًا عجَبًا -أي: مُعجِزًا بَديعًا- يُوجِبُ الإيمانَ به، وكَونُه يَهدي إلى الرُّشدِ مُوجِبٌ قلْعَ الشِّركِ مِن أصْلِه، والدُّخولَ في دِينِ اللهِ كلِّه .
- وقولُ الجنِّ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، أي: يَنْتفي ذلك في المُستقبَلِ، وهذا يَقْتضي أنَّهم كانوا مُشرِكين، ولذلك أكَّدوا نفْيَ الإشراكِ بحرْفِ (لن)؛ فكما أُكِّدَ خبَرُهم عن القرآنِ والثَّناءِ عليه بحرْفِ (إنَّ)، أُكِّدَ خبَرُهم عن إقلاعِهم عن الإشراكِ بحرْفِ (لنْ) .
3- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا
- الجَدُّ -بفتْحِ الجيمِ-: العَظَمةُ والجَلالُ، وهذا تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لقولِه: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا؛ لأنَّ اتِّخاذَ الصاحبةِ للافتقارِ إليها؛ لأُنْسِها وعَونِها والالتِذاذِ بصُحبتِها، وكلُّ ذلك مِن آثارِ الاحتياجِ، وللهِ تعالَى الغِنَى المُطلَقُ، وتعالَى جَدُّه بغِناهُ المطلَقِ، والولدُ يُرغَبُ فيه للاستِعانةِ والأُنسِ به، مع ما يَقتضيهِ مِن انفصالِه مِن أجزاءِ والِدَيْه؛ وكلُّ ذلك مِن الافتِقارِ والانتقاصِ .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (أنَّ)؛ لأنَّه مَسوقٌ إلى فَريقٍ يَعتقِدون خِلافَ ذلك مِن الجنِّ .
- وضَميرُ الجَماعةِ في قولِه: رَبِّنَا عائدٌ إلى كلِّ مُتكلِّمٍ مع تَشريكِ غيرِه؛ فعلَى تَقديرِ أنَّه مِن كَلامِ الجِنِّ، فهو قولُ كلِّ واحدٍ منهم عن نفْسِه ومَن معَه مِن بَقيَّةِ النَّفَرِ .
- وقولُه: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا بَيانٌ لِحُكْمِ تَعالِي جَدِّه سُبحانَه .
- والاقتِصارُ في بَيانِ تَعالِي جَدِّ الله على انتفاءِ الصَّاحبةِ عنه والولَدِ يُنبِئُ بأنَّه كان شائعًا في عِلمِ الجنِّ ما كان يَعتقِدُه المشرِكون أنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ مِن سَرَواتِ -أي ساداتِ وأشرافِ وخَواصِّ- الجنِّ، وما اعتقادُ المشركينَ إلَّا ناشئٌ عن تَلقينِ الشَّيطانِ، وهو مِن الجنِّ، ولأنَّ ذلك ممَّا سَمِعوه مِن القرآنِ، مِثل قولِه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعامِ: 101].
- وإعادةُ (لا) النَّافيةِ مع المَعطوفِ للتَّأكيدِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ المعطوفَ مَنفيٌّ باستِقلالِه؛ لدَفْعِ توهُّمِ نفْيِ المجموعِ .
4- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا
- تأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (أنَّ)؛ لأنَّه مَسوقٌ إلى فَريقٍ يَعتقِدون خِلافَ ذلك مِن الجنِّ .
- قولُه: شَطَطًا نعْتٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: قولًا شَططًا، وهو البُعدُ ومُجاوَزةُ الحدِّ، أوْ هُو شطَطٌ في نفْسِه؛ لفَرْطِ بُعدِه عن الحقِّ .
5- قولُه تعالَى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا اعتِذارٌ عمَّا اقتَضاهُ قولُهم: فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 2] مِن كَونِهم كانوا مُشرِكينَ لجَهْلِهم، وأخْذِهم قولَ سُفهائِهم يَحسَبونَهم لا يَكذِبون على اللهِ تعالَى .
- والتَّأكيدُ بحرْفِ (أنَّ)؛ لقصْدِ تَحقيقِ عُذرِهم فيما سلَفَ مِن الإشراكِ .
- وتأْكيدُ المَظنونِ بحرْفِ (لنْ) يُفيدُ أنَّهم كانوا مُتوغِّلينَ في حُسنِ ظَنِّهم بمَن ضَلَّلوهم، ويدُلُّ على أنَّ الظَّنَّ هنا بمعْنى اليقينِ، وهو يَقينٌ مُخطِئٌ .
- قولُه: كَذِبًا مَصدرٌ مُؤكِّدٌ لـ تَقُولَ؛ لأنَّه نَوعٌ مِن القولِ، أو وصْفٌ لمَصدرِه المحذوفِ، أيْ: قولًا كذِبًا، أيْ: مَكذوبًا فيهِ .
6- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا التَّأكيدُ بـ (أنَّ) راجِعٌ إلى ما تَفرَّعَ على خبَرِها مِن قَولِهم: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا .
7- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا
- التَّأكيدُ بحرْفِ (أنَّ) للاهتِمامِ بالخبَرِ؛ لغَرابتِه .
- وجُملةُ كَمَا ظَنَنْتُمْ مُعترِضةٌ بيْنَ ظَنُّوا ومَعمولِه، فيَجوزُ أنْ تكونَ مِن القولِ المَحكيِّ، يقولُ الجنُّ بَعضُهم لبعضٍ؛ يُشبِّهونَ كُفَّارَهم بكفَّارِ الإنسِ، وقيل غيرُ ذلك .
- وكَمَا نعْتٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: ظنُّوا ظنًّا مِثلَ ظَنِّكم .
- قولُه: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا فيه التَّعبيرُ بحرْفِ (لن)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم كانوا غيرَ مُتردِّدينَ في إحالةِ ذلك .
- والإخبارُ عن هذا فيه تَعريضٌ بالمشركينَ بأنَّ فَسادَ اعتقادِهِم تَجاوَزَ عالَمَ الإنسِ إلى عالَمِ الجنِّ .