موسوعة التفسير

سُورةُ الزَّلْزَلةِ
الآيات (1-8)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ

غريب الكلمات:

زُلْزِلَتِ: أي: حُرِّكَتْ حَرَكةً شَديدةً، ورَجَفَتْ واهْتَزَّتْ، والزِّلْزالُ هو التَّحْريكُ الشَّديدُ [7] يُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/828)، ((البسيط)) للواحدي (24/223)، ((تفسير السمعاني)) (6/267)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 463)، ((تفسير ابن جزي)) (2/503). قال ابن عاشور: (فِعلُ «زلْزَلَ» مَأخوذٌ مِن الزَّللِ، وهو زَلَقُ الرِّجلَينِ، فلمَّا عَنَوا شِدَّةَ الزَّللِ ضاعَفوا الفِعلَ؛ للدَّلالةِ بالتَّضعيفِ على شِدَّةِ الفِعلِ، كما قالوا: كَبْكَبَه، أي: كبَّه، ولَمْلَمَ بالمكانِ، مِن اللَّمِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/490). .
أَثْقَالَهَا: أي: مَوتاها، وأصلُ (ثقل): يدُلُّ على ضِدِّ الخِفَّةِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 535)، ((تفسير ابن جرير)) (24/559)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 87)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 463)، ((تفسير القرطبي)) (20/147)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 471). قال الهَرَويُّ: (أَثْقَالَهَا يُقالُ: مَوْتاها؛ لأنَّها تَثقُلُ بهم). ((الغريبين في القرآن والحديث)) (1/287). .
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا: أي: يَرجِعونَ عن مَوقِفِ الحِسابِ فِرَقًا؛ لِيَنزِلوا منازِلَهم مِن الجنَّةِ والنَّارِ، ومفردُ أشتاتٍ: شَتٌّ، وأصلُ (صدر): يدُلُّ على خِلافِ الوِرْدِ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تَفرُّقٍ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 535)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/177، 337)، ((المفردات)) للراغب (ص: 445)، ((تفسير البغوي)) (8/502)، ((تفسير القرطبي)) (20/149). .
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ: أي: زِنَةَ نَملةٍ صَغيرةٍ. وقِيلَ: الذَّرُّ: ما يُرى في شُعاعِ الشَّمسِ مِنَ الهباءِ، وأصلُ (ثقل): يدُلُّ على ضِدِّ الخِفَّةِ، وأصلُ (ذرر): يدُلُّ على لَطافةٍ وانتِشارٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 127)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 455)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382) و(2/343)، ((تفسير الألوسي)) (15/437). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ قائِلًا: إذا حُرِّكَت الأرضُ يومَ القيامةِ واضطَرَبت، وأخرَجَت ما في بَطْنِها مِن الأمواتِ للحِسابِ والجَزاءِ، وقال الإنسانُ حينَئذٍ: ما للأرضِ زُلزِلَت وأخرَجَت أثقالَها؟! في ذلك اليَومِ تتكَلَّمُ الأرضُ بما فعَل النَّاسُ على ظَهْرِها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ؛ بسَبَبِ وَحْيِ اللهِ إليها، وإذْنِه لها بذلك، وفي ذلك اليَومِ ينصَرِفُ النَّاسُ عن مَوقِفِ الحِسابِ فِرَقًا؛ ليرى كُلُّ واحدٍ منهم جزاءَ عَمَلِه؛ فمَن يَعمَلْ في الدُّنيا وَزنَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَه ويجِدْ ثوابَه في الآخِرةِ، ومَن يَعمَلْ في الدُّنيا وَزنَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ويجِدْ ثوابَه في الآخِرةِ.

تفسير الآيات:

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1).
أي: إذا حُرِّكَت الأرضُ يومَ القيامةِ تحريكَها الشَّديدَ، واضطَرَبت اضطِرابَها العَظيمَ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/558)، ((الوسيط)) للواحدي (4/542)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/203)، ((تفسير العليمي)) (7/415)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). قال ابن عاشور: (وجملةُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا إلخ جَوابُ إِذَا... والتَّقديرُ يومَ إذْ تُزَلْزَلُ الأرضُ وتُخرِجُ أثقالَها ويَقولُ النَّاسُ: ما لَها؛ تُحَدِّثُ أخبارَها... إلخ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/492). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/73). وقيل: العاملُ في: إِذَا فِعلٌ مُضمَرٌ يَقتضيه المعنى، وتقديرُه: تُحشَرون أو تُجازَون. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/510). .
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2).
أي: وأخرَجَت الأرضُ ما في بَطْنِها مِن الأمواتِ، فيَبعَثُهم اللهُ أحياءً للحِسابِ والجَزاءِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/558)، ((تفسير ابن عطية)) (5/510)، ((تفسير ابن كثير)) (8/460). قال ابنُ الجَوْزيِّ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا فيه قَوْلانِ: أحَدُهما: ما فيها مِن المَوْتى، قالَه ابنُ عبَّاسٍ. والثَّاني: كُنوزُها، قالَه عَطِيَّةُ. وجمَعَ الفَرَّاءُ بيْنَ القَولَينِ، فقال: لفَظَتْ ما فيها مِن ذهَبٍ أو فِضَّةٍ أو مَيِّتٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/477). مِمَّن اختارَ القولَ الأوَّلَ: ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، وابنُ عطيَّةَ، وابنُ جُزَي، واقتَصَر عليه ابنُ كَثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/558)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/153)، ((تفسير ابن عطية)) (5/510)، ((تفسير ابن جزي)) (2/503)، ((تفسير ابن كثير)) (8/460). وممَّن قال بذلك مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابنُ جُبَيْرٍ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8390)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/592). وقال ابنُ جُزَي: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا: يَعني: المَوْتى الَّذين في جَوْفِها، وذلك عندَ النَّفْخةِ الثَّانيةِ في الصُّورِ. وقيلَ: هي الكُنوزُ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ إخْراجَها للكُنوزِ وَقْتَ الدَّجَّالِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/503). وقال ابنُ عَطيَّةَ: (وليسَتِ القِيامةُ مَوْطنًا لإخْراجِ الكُنوزِ، وإنَّما تُخرِجُ كُنوزَها وَقْتَ الدَّجَّالِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/510). وقال الأَلوسيُّ: (وهذه الكُنوزُ على هذا القَولِ غيرُ الكُنوزِ الَّتي تخرجُ أيَّامَ الدَّجَّالِ على ما وَرَدَتْ به الأخبارُ، وذلك بأن تُخرِجَ بَعضًا في أيَّامِه وبَعضًا عندَ النَّفْخةِ الثَّانيةِ، ولا بُعْدَ في أن تكونَ بَعْدَ الدَّجَّالِ كُنوزٌ أيضًا فتُخرِجَها معَ ما كان قد بَقِيَ يَومَئذٍ). ((تفسير الألوسي)) (15/434). وممَّن جمَعَ بيْن المَعنيَينِ السَّابقَينِ لأثْقالِها: الفَرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، والسَّمَرْقَنديُّ، والثَّعْلَبيُّ، والواحِديُّ، والبَغَويُّ، والنَّسَفيُّ، وجَلالُ الدِّينِ المَحلِّيُّ، والعُلَيْميُّ، والشربينيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/283)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/351)، ((تفسير السمرقندي)) (3/606)، ((تفسير الثعلبي)) (10/264)، ((الوسيط)) للواحدي (4/542)، ((تفسير البغوي)) (5/292)، ((تفسير النسفي)) (3/669)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 817)، ((تفسير العليمي)) (7/415)، ((تفسير الشربيني)) (4/573)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .
كما قال تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 3-4] .
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3).
أي: ويَقولُ الإنسانُ حينَئذٍ: أيُّ شَيءٍ عرَض للأرضِ، وما الَّذي حدَث، وما شأنُها [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/559)، ((تفسير ابن عطية)) (5/510)، ((تفسير القرطبي)) (20/148)، ((تفسير ابن كثير)) (8/460)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/491)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 284). قال القرطبي: (معنى مَا لَهَا أي: ما لَها زُلزِلَت؟! وقيل: ما لَها أخرَجَت أثقالَها؟!). ((تفسير القرطبي)) (20/148). وممَّن جمع بيْن المعنيَينِ: القاسِميُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/526). قال ابنُ عطيَّة: (قَولُ الإنسانِ: مَا لَهَا هو قولٌ على معنى التَّعجُّبِ مِن هَولِ ما يَرى، قال جمهورُ المفَسِّرينَ: الإنسانُ هنا يرادُ به الكافِرُ، وهذا ممكِنٌ؛ لأنَّه يرى ما لم يَظُنَّ به قطُّ ولا صَدَّقَه، وقال بعضُ المتأوِّلينَ: هو عامٌّ في المؤمِنِ والكافِرِ؛ فالكافِرُ على ما قدَّمْناه، والمؤمِنُ وإن كان قد آمَنَ بالبعثِ فإنَّه استَهْوَل المَرأى، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ليس الخبَرُ كالمُعايَنةِ» [أخرجه أحمدُ «2447»، وابنُ حِبَّانَ «6213»، والحاكمُ «3250»، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) «5374»، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) «4/261»]). ((تفسير ابن عطية)) (5/510). وقال الماوَرْديُّ: (وفي المرادِ بهذا الإنسانِ قولان: أحدُهما: أنَّ المرادَ جميعُ النَّاسِ مِن مؤمنٍ وكافرٍ، وهذا قولُ مَن جعَله في الدُّنيا مِن أشراطِ السَّاعةِ؛ لأنَّهم لا يَعلمونَ جميعًا أنَّها مِن أشراطِ السَّاعةِ في ابتداءِ أمرِها حتَّى يتحقَّقوا عُمومَها؛ فلذلك سأَل بعضُهم بعضًا عنها. الثَّاني: أنَّهم الكفَّارُ خاصَّةً، وهذا قولُ مَن جعَلها زلزلةَ القيامةِ؛ لأنَّ المؤمنَ يَعترِفُ بها، فهو لا يَسألُ عنها، والكافرُ جاحدٌ لها؛ فلذلك يَسألُ عنها). ((تفسير الماوردي)) (6/319). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإنسانِ: الكافرُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسَّمرقندي، ومكِّي، والواحدي، والسَّمعاني، والقرطبي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/790)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/351)، ((تفسير السمرقندي)) (3/606)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8390)، ((الوسيط)) للواحدي (4/542)، ((تفسير السمعاني)) (6/267)، ((تفسير القرطبي)) (20/148)، ((تفسير العليمي)) (7/415). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالإنسانِ: الجنسُ، وعُمومُ النَّاسِ، وأنَّه يَشملُ كلَّ فردٍ مِن أفرادِ الإنسانِ: ابنُ جرير، والزَّمخشريُّ، والرَّسْعَني، والبيضاوي، والنَّسفي، وأبو حيَّان، والشَّوكاني، وابنُ عاشور، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/559)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 783)، ((تفسير الرسعني)) (8/702)، ((تفسير البيضاوي)) (5/330)، ((تفسير النسفي)) (3/669)، ((تفسير أبي حيان)) (10/522)، ((تفسير الشوكاني)) (5/584)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/491)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 284). وقال ابنُ عاشور: (قال النَّاسُ: ما لَها، أي: النَّاسُ الَّذين هم أحياءٌ ففَزِعوا وقال بعضُهم لبعضٍ، أو قال كُلُّ أحدٍ في نَفْسِه حتَّى استوى في ذلك الجَبانُ والشُّجاعُ، والطَّائِشُ والحكيمُ؛ لأنَّه زلزالٌ تَجاوَزَ الحَدَّ الَّذي يَصبِرُ على مِثْلِه الصَّبورُ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/491). ؟!
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4).
أي: في ذلك اليَومِ تتكَلَّمُ الأرضُ بما فعَل النَّاسُ على ظَهْرِها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، فتَشهَدُ عليهم بأعمالِهم [14] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 285). .
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5).
أي: تُحدِّثُ الأرضُ أخبارَها؛ بسَبَبِ وَحْيِ اللهِ إليها، وإذْنِه لها بذلك [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/560)، ((تفسير ابن عطية)) (5/511)، ((تفسير القرطبي)) (20/149)، ((تفسير ابن كثير)) (8/461)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 285). .
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6).
أي: في ذلك اليَومِ يَنصَرِفُ النَّاسُ عن مَوقِفِ الحِسابِ فِرَقًا كثيرةً؛ ليرى كُلُّ واحدٍ منهم عمَلَه الَّذي عَمِل، وجزاءَه عليه مِن الثَّوابِ في الجنَّةِ، أو العِقابِ في النَّارِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/562)، ((الوسيط)) للواحدي (4/542)، ((تفسير القرطبي)) (20/149، 150)، ((تفسير ابن كثير)) (8/461)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 286). قال الماوَرْديُّ: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا فيه قَوْلانِ: أحَدُهما: أنَّه يَومَ القِيامةِ يَصدُرونَ مِن بَيْنِ يَدَيِ اللهِ تعالى فِرَقًا فِرَقًا، مُختَلِفينَ في قَدَرِهم وأعمالِهم؛ فبَعضُهم إلى الجَنَّةِ وهُمْ أصحابُ الحسَناتِ، وبَعضُهم إلى النَّارِ وهم أصحابُ السَّيِّئاتِ. قالَه يَحيى بنُ سَلَّامٍ. الثَّاني: أنَّهم في الدُّنيا عنْدَ غَلَبةِ الأهْواءِ يَصدُرونَ فِرَقًا؛ فبَعضُهم مُؤمِنٌ وبَعضُهم كافِرٌ، وبَعضُهم مُحسِنٌ وبَعضُهم مُسِيءٌ، وبَعضُهم مُحِقٌّ وبَعضُهم مُبطِلٌ). ((تفسير الماوردي)) (6/320). ممَّن اختارَ القَولَ الأوَّلَ في الجُملةِ -أي: أنَّ المَعْنى: أنَّهم يَنصَرِفونَ مِن مَوقِفِ الحِسابِ بعْدَ العَرْضِ فِرَقًا مُختَلِفينَ ما بيْنَ سَعيدٍ وشَقِيٍّ، مِنهم مَن يَأخُذُ ذاتَ اليَمينِ إلى الجَنَّةِ، ومِنهم مَن يَأخُذُ ذاتَ الشِّمالِ إلى النَّارِ-: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، وابن جرير، والسَّمَرْقَنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِينَ، والثَّعْلَبيُّ، ومَكِّيٌّ، والواحِديُّ، والبَغَويُّ، وابنُ الجَوْزيِّ، والرَّسْعنيُّ، وابنُ جُزَي، والخازِنُ، وابنُ كَثيرٍ، وجَلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والعُلَيْميُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 791)، ((تفسير ابن جرير)) (24/562)، ((تفسير السمرقندي)) (3/607)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/153)، ((تفسير الثعلبي)) (10/265)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8392)، ((الوسيط)) للواحدي (4/542)، ((تفسير البغوي)) (5/293)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/478)، ((تفسير الرسعني)) (8/703)، ((تفسير ابن جزي)) (2/503)، ((تفسير الخازن)) (4/459)، ((تفسير ابن كثير)) (8/461)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 818)، ((تفسير العليمي)) (7/416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). وقيلَ: المَعْنى: يَصدُرُ النَّاسُ مِن قُبورِهم إلى مَوقِفِ الحِسابِ مُتَفَرِّقينَ بحَسَبِ مَراتِبِهم؛ مِن مُؤمِنٍ وكافِرٍ، وآمِنٍ وخائِفٍ، ومُطيعٍ وعاصٍ، وسَعيدٍ وشَقِيٍّ. وممَّن اختارَه في الجُملةِ: البَيْضاويُّ، والبِقاعيُّ، والشَّوْكانيُّ، والقاسِميُّ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/330)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/207)، ((تفسير الشوكاني)) (5/584)، ((تفسير القاسمي)) (9/526). قال ابنُ عطيَّةَ: (... قال جُمْهورُ النَّاسِ: الوِرْدُ: هو الكَونُ في الأرْضِ بالمَوْتِ والدَّفْنِ. والصَّدْرُ: هو القِيامُ للبَعْثِ، وأشْتاتًا: مَعْناه: قَوْمٌ مُؤمِنونَ، وقَوْمٌ كافِرونَ، وقَوْمٌ عُصاةٌ مُؤمِنونَ، والكُلُّ سائِرٌ إلى العَرْضِ ليرى عَمَلَه، ويَقِفَ عليه). ((تفسير ابن عطية)) (5/511). وأمَّا قَولُه: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فقيلَ: أي: ثَوابَها وجَزاءَها. وممَّن اختارَه: مَكِّيٌّ، والماوَرْديُّ، والكرمانيُّ، والقُرْطُبيُّ، وجَلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والعُلَيْميُّ، والشَّوْكانيُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8392)، ((تفسير الماوردي)) (6/320)، ((تفسير الكرماني)) (2/1374)، ((تفسير القرطبي)) (20/150)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 818)، ((تفسير العليمي)) (7/416)، ((تفسير الشوكاني)) (5/585). قال الواحديُّ: (قَولُه: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ قال ابنُ عبَّاسٍ: لِيُرَوا جَزاءَ أعمالِهم. والمَعنى: أنَّهم يَرجِعونَ عن المَوقِفِ فِرَقًا لِيُرَوا مَنازِلَهم في الجَنَّةِ أو النَّارِ). ((البسيط)) (24/228). وقيلَ: المَعْنى: أنَّ اللهَ يُريهم أعْمالَهم الَّتي عَمِلوها. وممَّن اختارَه: السَّمْعانيُّ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/268)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 286). قال الخازِنُ: (قيلَ: مَعْناه: لِيُرَوا صَحائِفَ أعْمالِهم الَّتي فيها الخَيْرُ والشَّرُّ). ((تفسير الخازن)) (4/459). وممَّن جَمَع بيْنَ المَعْنيَينِ السَّابِقَينِ: ابنُ جَريرٍ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/562)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). قال ابنُ جرير: (فيَرى المُحسِنُ في الدُّنْيا المُطيعُ للهِ عمَلَه وما أَعَدَّ اللهُ له يَوْمَئذٍ مِن الكَرامةِ على طاعتِه إيَّاه كانت في الدُّنْيا، ويَرى المُسِيءُ العاصي للهِ عمَلَه وجَزاءَ عَمَلِه وما أَعَدَّ اللهُ له مِن الهَوانِ والخِزْيِ في جَهنَّمَ على مَعْصيتِه إيَّاه كانت في الدُّنْيا، وكُفْرِه به). ((تفسير ابن جرير)) (24/562). .
كما قال تبارك وتعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 14 - 16].
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).
أي: فمَن يَعمَلْ في الدُّنيا خَيرًا ولو كان بمِقْدارِ وَزنِ ذَرَّةٍ، فإنَّه سيَراه ويَجِدُ ثَوابَه في الآخِرةِ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/562)، ((الوسيط)) للواحدي (4/543)، ((تفسير ابن كثير)) (8/464)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 287). قيلَ: المُرادُ بالذَّرَّةِ: النَّمْلةُ الصَّغيرةُ. وممَّن اخْتارَه: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، والواحِديُّ، والبَغَويُّ، والزَّمَخْشَريُّ، وابنُ عطيَّةَ، والرَّسْعَنيُّ، والنَّسَفيُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ كَثير، وجَلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والعُلَيْميُّ، والشَّوْكانيُّ، والقاسِميُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/791)، ((الوسيط)) للواحدي (4/543)، ((تفسير البغوي)) (5/293)، ((تفسير الزمخشري)) (4/785)، ((تفسير ابن عطية)) (5/512)، ((تفسير الرسعني)) (8/ 703)، ((تفسير النسفي)) (3/670)، ((تفسير ابن جزي)) (2/503)، ((تفسير ابن كثير)) (8/464)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 818)، ((تفسير العليمي)) (7/416)، ((تفسير الشوكاني)) (5/585)، ((تفسير القاسمي)) (9/526)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/494)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 287). قال مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ: (يَعني: وَزْنَ نَملةٍ؛ أَصغَرِ النَّمْلِ الأَحمَرِ الَّتي لا تَكادُ نَراها مِن صِغَرِها). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/791). وقيلَ: الذَّرُّ: ما يُرَى في شُعاعِ الشَّمْسِ مِن الهَباءِ. وممَّن اخْتارَه: السَّمَرْقَنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/607). ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (5/330)، ((تفسير أبي حيان)) (10/521). قال السعديُّ في هذه الآيةِ والتي تليها: (هذا شامِلٌ عامٌّ للخَيْرِ والشَّرِّ كُلِّه؛ لأنَّه إذا رأى مِثْقالَ الذَّرَّةِ الَّتي هي أَحقَرُ الأشياءِ، وجُوزِيَ عليها، فما فَوْقَ ذلك مِن بابِ أَوْلى وأَحْرى!). ((تفسير السعدي)) (ص: 932). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/152). وقال القُرْطُبيُّ: (وهي [أي: الذَّرَّةُ] في الجُملةِ عِبارةٌ عن أَقَلِّ الأشْياءِ وأَصغَرِها). ((تفسير القرطبي)) (5/195). وقال ابنُ العربي: (قَد اتَّفق العُلَماءُ على عُمومِ هذه الآيةِ). ((أحكام القرآن)) (4/440). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران: 30].
وقال سُبحانَه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء: 40] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سُئِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الحُمُرِ، فقال: ما أُنزِلَ علَيَّ فيها إلَّا هذه الآيةُ الجامِعةُ الفاذَّةُ [18] الفَاذَّةُ: أي: المُنْفَرِدةُ في معناها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1266). : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)) [19] رواه البخاري (3646)، ومسلم (987). .
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الخَيرَ؛ أتْبَعَه ضِدَّه، فقال [20] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/208). :
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).
أي: ومَن يَعمَلْ في الدُّنيا شَرًّا ولو كان بمِقْدارِ وَزنِ ذَرَّةٍ، فإنَّه سيَراه ويَجِدُ جَزاءَه في الآخِرةِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/562)، ((الوسيط)) للواحدي (4/543)، ((تفسير ابن كثير)) (8/464). .
قال الله سُبحانَه وتعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] .

الفوائد التربوية:

1- قولُه تبارك وتعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ... فيه التَّحذيرُ والتَّخويفُ مِن زلزلةِ الأرضِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 290). .
2- قَولُه تعالى: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ هذا مُضافٌ، والمضافُ يَقتضي العُمومَ، وظاهرُه أنَّهم يَرَونَ الأعمالَ؛ الصَّغيرَ والكبيرَ -وذلك على قولٍ-، إلَّا ما غَفَرَه اللهُ مِن قَبْلُ بحَسَناتٍ أو دُعاءٍ، أو ما أَشْبهَ ذلك؛ فهذا يُمْحَى، كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114] ؛ ولهذا يجبُ على الإنسانِ ألَّا يُقْدِمَ على شَيءٍ لا يُرضِي اللهَ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّه مكتوبٌ عليه، وأنَّه سوف يُحاسَبُ عليه [23] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 287). .
3- في قَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فيه الحثُّ على الأعمالِ الصَّالحةِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 290). ، والتَّرغيبُ في قَليلِ الخَيرِ وكَثيرِه، والتَّحذيرُ مِن قليلِ الشَّرِّ وكَثيرِه [25] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 296). ، ومَن فَقِهَ ذلك لم يُحَقِّرْ ذَنبًا وإن دَقَّ؛ لأنَّه يجتَمِعُ إلى أمثالِه فيَصيرُ كَبيرًا [26] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/208). ! وفيه أنَّ العَمَلَ لا يَضِيعُ مهما قَلَّ، حتَّى لو كان مِثقالَ ذرَّةٍ أو أقَلَّ؛ فإنَّه لا بُدَّ أنْ يراه الإنسانُ ويَطَّلِعَ عليه يومَ القيامةِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 290). .
4- عن إبراهيمَ التَّيْميِّ، قال: (سمِعتُ الحارثَ بنَ سُويدٍ يقرأُ: إِذَا زُلْزِلَتِ حتَّى بلَغ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ...، قال: فبكى، ثمَّ قال: إنَّ هذا الإحصاءَ شديدٌ) [28] يُنظر: ((مصنف ابن أبي شيبة)) (7/226). .
5- (جاء سائلٌ إلى بابِ عائشةَ رضيَ الله عنها، فقالت لجاريتِها: أطعِميه، فذهَبت ثمَّ رجَعت، فقالت لها: ما وجدْتُ شيئًا أُطعِمُه، قالت: ارجِعي فابتَغي له، فرجَعَتْ، فوجَدَتْ تمرةً، فأتَت بها، فقالت عائشةُ: أعطيه إيَّاها؛ فإنَّ فيها مَثاقيلَ ذرَّةٍ إنْ تُقُبِّلتْ) [29] يُنظر: ((شُعَب الإيمان)) للبيهقي (5/132). . (وأتَى سعدَ بنَ مالِكٍ سائِلٌ وبينَ يَدَيْه طَبَقٌ عليه تَمْرٌ، فأَعْطاه تَمْرةً، فقَبَض يَدَه، أو قال: فكَفَّ يَدَه، فقال: إنَّ اللهَ تَعالى يَقبَلُ مِنَّا الذَّرَّةَ والخَرْدَلةَ، فكائِنٌ في هذه مَثاقيلُ ذَرٍّ) [30] يُنظر: ((الأموال)) لابن زنجويه (2/769). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا شَهادةُ الأرضِ؛ مِن أجْلِ بيانِ عَدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه سُبحانَه وتعالى لا يُؤاخِذُ النَّاسَ إلَّا بما عَمِلوه، وإلَّا فإنَّ اللهَ تعالى بكلِّ شيءٍ مُحيطٌ، ويكفي أنْ يقولَ لعِبادِه جَلَّ وعلا: عَمِلتُم كذا وعَمِلتُم كذا، لكنْ مِن بابِ إقامةِ العَدلِ، وعدمِ إنكارِ المجرمِ؛ لأنَّ المجرِمينَ يُنكِرون أنْ يَكونوا مُشرِكين؛ قال اللهُ تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 285). [الأنعام: 23] .
2- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا أنَّ الأرضَ يومَ القيامةِ تَشهَدُ على ما عُمِلَ فيها مِن خَيرٍ وشَرٍّ [32] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/165). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا انتَزَع بَعضُهم مِن هذه الآيةِ أنَّ: «حَدَّثَنا» و«أخبَرَنا» سَواءٌ، وهو قولُ مالكٍ وغَيرِه، خِلافًا لِمَن فَرَّق بيْنَهما وقال: «أخبَرَنا» يجوزُ أن يُقالَ في المسموعِ على العالِمِ مِن غَيرِ لَفظِه، و«حَدَّثَنا» لا يُقالُ إلَّا فيما سُمِعَ مِن لَفظِ العالِمِ، وهو قَولُ ابنِ وَهبٍ [33] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/624). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا فيه سؤالٌ: لِمَ لَمْ يقلْ: (أوحى إليها)؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ أَوْحَى لَهَا، أي: أوحى إليها.
الوَجهُ الثَّاني: لَعَلَّه إنَّما قال: لَهَا، أي: فعَلْنا ذلك لأجْلِها؛ حتَّى تتوسَّلَ الأرضُ بذلك إلى التَّشَفِّي مِنَ العُصاةِ [34] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/256). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: عَدَل عن قَولِه (إليها) إلى قَولِه تعالى: لَهَا؛ إيذانًا بالإسراعِ في الإيحاءِ [35] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/206)، ((تفسير الشربيني)) (4/574). .
5- قال تبارك وتَعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ هذه الآيةُ الكريمةُ تَقتضي أنَّ كلَّ إنسانٍ كافِرًا كانَ أو مُسلمًا يُجازى بالقليلِ مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ.
وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خِلافِ هذا العُمومِ، أمَّا مَا فعَله الكافِرُ مِن الخَيرِ فالآياتُ تُصرِّحُ بإحباطِه، كقولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15-16] ، وقولِه تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] ، وكقولِه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18] ، وقولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39] ، إلى غيْرِ ذلك مِن الآياتِ.
وأمَّا ما عمِلَه المُسلمُ مِن الشَّرِّ فقد صرَّحت الآياتُ بعَدمِ لُزومِ مؤاخَذتِه به؛ لاحتِمالِ المَغفرةِ أو لوعدِ اللهِ بها، كقَولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48-116] ، وقَولِه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ.
والجوابُ عن هذا مِن ثلاثةِ أوجهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الآيةَ مِن العامِّ المخصوصِ، والمعنى: فمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ خَيرًا يَرَه إنْ لم يُحبِطْه الكُفرُ؛ بدليلِ آياتِ إحباطِ الكفرِ عمَلَ الكفَّارِ، ومَن يَعمَلْ مثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا يَرَه إن لم يَغفِرْه اللهُ له؛ بدليلِ آياتِ احتمالِ الغُفرانِ والوَعْدِ به.
الثَّاني: أنَّ الآيةَ على عُمومِها، وأنَّ الكافِرَ يَرى جزاءَ كلِّ عمَلِه الحسَنِ في الدُّنيا، كما يدُلُّ عليه قولُه تعالى: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا الآيةَ [هود: 15] ، وقولُه: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] ، وقولُه تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور: 39] ، والمُؤمنُ يَرى جزاءَ عمَلِه السَّيِّئِ في الدُّنيا بالمَصائِبِ والأمْراضِ والآلامِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ الآيةَ أيضًا على عُمومِها، وأنَّ معناها أنَّ المُؤمنَ يَرى كلَّ مَا قدَّم مِن خيْرٍ وشَرٍّ، فيَغفِرُ اللهُ له الشَّرَّ ويُثيبُه بالخيْرِ، والكافِرُ يَرى كلَّ ما قدَّم مِن خيْرٍ وشَرٍّ، فيُحبِطُ ما قدَّمَ مِن خيْرٍ، ويجازِيه بما فعَل مِن الشَّرِّ [36] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 281). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (32/ 257)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 623). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ نَبَّه به على أنَّ ما فوقَ الذَّرَّةِ يراه، قليلًا كان أو كثيًرا، وهذا يُسَمَّى مَفهومَ الخِطابِ، وهو أن يكونَ المذكورُ والمسكوتُ عنه في حُكمٍ واحدٍ، بل يكونُ المسكوتُ عنه بالأَولى في ذلك الحُكمِ، كقَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [37] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/524). [الإسراء: 23] .
7- في قَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قيامُه سُبحانَه بالقِسْطِ، وقيامُه على كلِّ نَفْسٍ بما كَسَبَتْ؛ فهو لا يَظْلِمُ مِثقالَ ذرَّةٍ [38] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/182). ، يُحصي أعمالَ العِبادِ، أي: يَضْبِطُها بالعدَدِ، فلا يَنْقُصُ أحدًا شَيئًا [39] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 250). .
8- في قَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أنَّ الثَّوابَ على قَدْرِ العَمَلِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 265). .
9- في قَولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أنَّ العمَلَ يُطْلَقُ على القَولِ والفِعلِ [41] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/318). .
10- قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (أحكمُ آيةٍ في القرآنِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [42] يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/266). .
11- قَولُه تعالى: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ استُدِلَّ به على أنَّ الأعمالَ تُوزنُ [43] قال ابنُ عُثَيمينَ: (الَّذي يُوزَنُ العَمَلُ، ولكن رُبَّما يكونُ بعضُ النَّاسِ تُوزَنُ صَحائِفُ أعمالِه، وبعضُ النَّاسِ يُوزَنُ هو بنفْسِه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 289). وقال ابنُ أبي العِزِّ: (ثَبَت وزنُ الأعمالِ والعاملِ وصحائِفِ الأعمالِ، وثَبَت أنَّ الميزانَ له كِفَّتانِ. واللهُ تعالى أعلمُ بما وراءَ ذلك مِن الكيفيَّاتِ). ((شرح الطحاوية)) (2/613). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/72-74). ، ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ تقديرَ الآيةِ: فمَن يَعمَلْ عمَلًا مِثقالَ ذرَّةٍ، وفيه سؤالٌ عن وَزْنِ العمَلَ مع أنَّه ليس جِسمًا يمكِنُ أنْ يوضَعَ في الميزانِ، بلِ العمَلُ عمَلٌ انتهى وانقضى؟
الجوابُ:
أوَّلًا: على المرءِ أنْ يُصَدِّقَ بما أخْبَرَ اللهُ تعالى به ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أمورِ الغَيبِ، وإنْ كان عقْلُه قد يَحارُ فيه ويَتَعَجَّبُ، ويقولُ: كيف يكونُ هذا؟! فعليه التَّصديقُ؛ لأنَّ قدرةَ اللهِ تعالى فوقَ ما نتصوَّرُ، فالواجِبُ على المسلمِ أنْ يُسَلِّمَ ويَستَسلِمَ ولا يقولَ: كيف؟ لأنَّ أمورَ الغيبِ فوقَ ما يتصوَّرُ.
ثانيًا: أنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ هذه الأعمالَ أجسامًا توضَعُ في الميزانِ وتَثْقُلُ وتَخِفُّ، واللهُ تعالى قادرٌ على أنْ يَجْعَلَ الأمورَ المعنويَّةَ أجسامًا، كما صَحَّ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال ((يُؤتَى بالموتِ كهَيئةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُنادي مُنادٍ: يا أهلَ الجَنَّةِ، فيَشْرَئِبُّون [44] فيَشْرَئِبُّونَ: أي: يَرفَعونَ رُؤوسَهم إلى المُنادي. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/185). ويَنظُرونَ، فيقولُ: هل تَعرِفونَ هذا؟ فيقولونَ: نَعم، هذا الموتُ -وكلُّهم قد رآه- ثمَّ يُنادي: يا أهلَ النَّارِ، فيَشْرَئِبُّون ويَنظُرون، فيقولُ: هل تَعرِفون هذا؟ فيَقولون: نعم، هذا الموتُ، وكلُّهم قد رآه ))، مع أنَّه في صورةِ كَبشٍ، والموتُ معنًى ليس جِسمًا، ولكنَّ اللهَ تعالى يَجْعَلُه جسمًا يومَ القيامةِ، ((فيُذْبَحُ، ثمَّ يقولُ: يا أهلَ الجَنَّةِ خُلودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلودٌ فلا موتَ )) [45] أخرجه البخاريُّ (4730) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2849) مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ الله عنه. ، وبهذا يَزولُ الإشكالُ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 288). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا
- افتِتاحُ الكلامِ بظَرْفِ الزَّمانِ إِذَا مع إطالةِ الجُمَلِ المُضافِ إليها الظَّرفُ، تَشويقٌ إلى مُتعلَّقِ الظَّرفِ؛ إذ المَقصودُ ليس تَوقيتَ صُدورِ النَّاسِ أشتاتًا لِيُرَوا أعمالَهُم، بلِ الإخبارُ عن وُقوعِ ذلك، وهو البعثُ، ثمَّ الجزاءُ، وفي ذلك تَنزيلُ وُقوعِ البَعثِ مَنزلةَ الشَّيءِ المُحقَّقِ المَفروغِ منه، بحيث لا يُهِمُّ النَّاسَ إلَّا مَعرفةُ وَقتِه وأشراطِه، فيكونُ التَّوقيتُ كِنايةً عن تَحقيقِ وُقوعِ المُوقَّتِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/490). .
- وإنَّما بُنِيَ فِعلُ زُلْزِلَتِ بصِيغةِ النَّائبِ عن الفاعلِ؛ لأنَّه مَعلومٌ فاعلُه، وهو اللهُ تعالَى [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/491). .
- وانتَصَبَ زِلْزَالَهَا على المفعولِ المُطلَقِ المؤكِّدِ لفِعلِه؛ إشارةً إلى هَولِ ذلك الزِّلزالِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/491). .
- وأُضيفَ الزِّلزالُ إلى الأرضِ؛ لإفادةِ تَمكُّنِه منها وتَكرُّرِه، حتَّى كأنَّه عُرِفَ بنِسبتِه إليها؛ لكَثرةِ اتِّصالِه بها، أو ليَدُلَّ على أنَّها زُلزِلَت الزِّلزالَ المخصوصَ بها على مُقْتضى المَشيئةِ المَبْنيَّةِ على الحِكَمِ البالغةِ، وهو الزِّلزالُ الشَّديدُ الَّذي لا غايةَ وَراءَه، أو زِلزالَها العَجيبَ الَّذي لا يُقادَرُ قَدْرُه، أو زِلزالَها الدَّاخلَ في حيِّزِ الإمكانِ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/783)، ((تفسير البيضاوي)) (5/330)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 622)، ((تفسير أبي السعود)) (9/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/491)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/548). .
فقولُه: زِلْزَالَهَا ليس مِن التَّكرارِ؛ فإنَّ إضافةَ الزِّلزالِ يفيدُ معنًى زائدًا، وهو زِلزالُها المختَصُّ بها، المعروفُ منها، المتوقَّعُ منها، كما تقولُ: غَضِبَ زيدٌ غضَبَه، وقاتَلَ قِتالَه، أي: غضَبَه الَّذي يُعْهَدُ منه، وقِتالَه المختَصَّ به الَّذي يُعْرَفُ منه [51] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (8/344). .
- وإعادةُ لَفظِ الْأَرْضُ في قولِه: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، وتَفخيمِ هَولِ السَّاعةِ، أوْ للإيماءِ إلى تبَدُّلِ الأرضِ غَيرَ الأرضِ، أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بَعضِ أجزائِها [52] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/491)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/549). .
- والتَّعريفُ في الْإِنْسَانُ قيل: هو تَعريفُ الجِنسِ المُفيدُ للاستغراقِ، أي: وقال النَّاسُ: ما لَها؟ على أنَّ الكافرَ يقولُ هذا بطَريقِ التَّعجُّبِ، والمؤمنَ يَقولُه بطَريقِ الاستعظامِ؛ فالمؤمنُ -وإنْ كان مُؤمنًا بالبعثِ- فإنَّه استَهوَلَ المَرْأى.
وقيل: ذلك قولُ الكافرِ؛ لأنَّه يَرى ما لم يَقَعْ في ظنِّه قطُّ ولا صَدَّقَه، لأنَّه كان لا يُؤمِنُ بالبعثِ، فأمَّا المؤمنُ فيَقولُ: هذا ما وعَدَ الرَّحمنُ وصَدَقَ المُرسَلون [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/784)، ((تفسير ابن عطية)) (5/510)، ((تفسير البيضاوي)) (5/330)، ((تفسير أبي حيان)) (10/522)، ((تفسير أبي السعود)) (9/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/491)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/549). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ
- قولُه: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا حُذِفَ مَفعولُ تُحَدِّثُ الأوَّلُ لظُهورِه، أي: تُحدِّثُ الإنسانَ؛ لأنَّ الغرَضَ مِن الكلامِ هو إخبارُها، لا ذِكرُ الخلْقِ؛ لِما فيه مِن التَّهويلِ، وتَعظيمِ اليومِ [54] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/784)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/492). .
- قولُه: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَتعلَّقُ بفِعلِ تُحَدِّثُ، ومعْناه: تُحدِّثُ أخبارَها بسَببِ إيحاءِ ربِّك لها، وأمْرِه إيَّاها بالتَّحديثِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ بِأَنَّ رَبَّكَ بدَلًا مِن أَخْبَارَهَا، وأُظهِرَت الباءُ في البدَلِ؛ لتَوكيدِ تَعديةِ فِعلِ تُحَدِّثُ إليه، كأنَّه قِيل: يَومَئذٍ تُحدِّثُ بأخبارِها بأنَّ ربَّك أَوحى لها؛ لأنَّك تَقولُ: حدَّثْتُه كذا، وحدَّثْتُه بكذا [55] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/784)، ((تفسير أبي حيان)) (10/523)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/493). .
 - وعُدِّيَ فِعلُ أَوْحَى باللَّامِ؛ لتَضمينِ أَوْحَى معْنى (قال)، وإلَّا فإنَّ حقَّ أَوْحَى أنْ يَتعدَّى بحرْفِ (إلى) [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/493). .
- وقولُه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا بدَلٌ مِن جُملةِ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، والجَوابُ هو فِعلُ يَصْدُرُ النَّاسُ، وقولُه: يَوْمَئِذٍ يَتعلَّقُ به، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه للاهتمامِ، وهذا الجوابُ هو المَقصودُ مِن الكَلامِ؛ لأنَّ الكَلامَ مَسوقٌ لإثباتِ الحَشْرِ، والتَّذكيرِ به، والتَّحذيرِ مِن أهوالِه؛ فإنَّه عندَ حُصولِه يَعلَمُ النَّاسُ أنَّ الزِّلزالَ كان إنذارًا بهذا الحشْرِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/493). .
- وصُدورُ النَّاسِ: الخُروجُ مِن مَحلِّ اجتماعِهم، يُقالُ: صدَرَ عن المكانِ، إذا تَرَكه وخَرَج منه، ومنه: الصَّدَرُ عن الماءِ بعْدَ الوِرْدِ، فأُطلِقَ هنا فِعلُ يَصْدُرُ على خُروجِ النَّاسِ إلى الحشْرِ جَماعاتٍ، أو انصرافِهم مِن المَحشرِ؛ تَشبيهًا بانصرافِ النَّاسِ عن الماءِ بعْدَ الوِردِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/493). .
- وبُنِيَ فِعلُ لِيُرَوْا إلى النَّائبِ؛ لأنَّ المقصودَ رُؤيتُهم أعمالَهم، لا تَعيينُ مَن يُرِيهم إيَّاها [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/493). .
3- قولُه تعالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ تَفريعٌ على قولِه: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة: 6] تَفريعَ الفَذْلَكةِ [60] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كُنَّاشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). ، انتقالًا للتَّرغيبِ والتَّرهيبِ بعْدَ الفَراغِ مِن إثباتِ البَعثِ والجزاءِ، والتَّفريعُ قاضٍ بأنَّ هذا يكونُ عَقِبَ ما يَصدُرُ النَّاسُ أشتاتًا [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/494). .
- وقولُه: فَمَنْ يَعْمَلْ ... تَفصيلٌ لِقولِه: يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، والأعمالُ جمْعٌ مُضافٌ يُفيدُ الشُّمولَ والاستغراقَ، ويَصْدُرُ النَّاسُ مُقيَّدٌ بقَولِه: أَشْتَاتًا، فيُفيدُ أنَّهم على طَرائقَ شتَّى للنُّزولِ في مَنازِلِهم مِن الجنَّةِ والنَّارِ، بحسَبِ أعمالِهِم المُختلِفةِ، ومِن ثَمَّ كانت الجنَّةُ ذاتَ دَرَجاتٍ، والنَّارُ ذاتَ دَرَكاتٍ. وقد ورَدَت الآيةُ لبَيانِ الاستِقصاءِ في عرْضِ الأعمالِ والجزاءِ عليها؛ لقولِه تعالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ، وهي مِن الجوامعِ الحاويةِ لفَوائدِ الدِّينِ أصولًا وفُروعًا [62] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/544). .
- والذَّرَّةُ: النَّملةُ الصَّغيرةُ في ابتداءِ حَياتِها -على قولٍ-، و«مِثقالُ ذَرَّةٍ» مَثَلٌ في أقلِّ القِلَّةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/494). .
- ولَمَّا كان الكلامُ مَسوقًا للتَّرغيبِ والتَّرهيبِ معًا، أُوثِرَ جانبُ التَّرغيبِ بالتَّقديمِ في التَّقسيمِ؛ تَنْويهًا بأهلِ الخَيرِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/495). .
- وإنَّما أُعِيدَ قولُه: وَمَنْ يَعْمَلْ دونَ الاكتفاءِ بحرْفِ العطْفِ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُتَّصلٌ بقولِه: خَيْرًا يَرَهُ، والثانيَ مُتَّصِلٌ بقولِه: شَرًّا يَرَهُ، ولتَكونَ كلُّ جُملةٍ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ على المُرادِ؛ لتَختَصَّ كلُّ جُملةٍ بغَرَضِها مِن التَّرغيبِ أو التَّرهيبِ، فأهمِّيَّةُ ذلك تَقْتضي التَّصريحَ والإطنابَ [65] يُنظر: ((أسرار التَّكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 253)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/535)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 622، 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/495). .