موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (57-58)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

بُشْرًا: أي: مُبَشِّراتٍ بالغَيثِ، والبُشرى تُطلَقُ على  الإِخْبار بِمَا يَسُرُّ، وما يُعطَى للمُبشَّرِ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجَمالٍ [715] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 129)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((المفردات)) للراغب (ص:91، 93). .
أَقَلَّتْ: أي: حمَلَتْ؛ يُقال: أقلَّ فلَانٌ الشَّيْءَ واستقلَّ به: إذا أطاقَه وحمَلَه، وأقْلَلْت كذا: وجدتَه قليلَ المحمَلِ أي: خفيفًا، وأصلُ (قلل): يدلُّ على نَزارةِ الشَّيءِ، وعلى الانزعاجِ الذي هو خِلافُ الاستقرارِ [716] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 59، 402)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/3)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 112). .
خَبُثَ: أي: رَدُؤَت تُرْبَتُه، وَمَلُحَتْ مَشَارِبُه، والخُبْثُ والخَبِيثُ: ما يُكرَهُ رداءةً وخَساسةً، مَحسوسًا كان أو معقولًا، وأصْل (خبث): يَدُلُّ على خِلافِ الطَّيِّبِ، وعلى الرَّدِيءِ [717] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/238)، ((المفردات)) للراغب (ص: 272). .
نَكِدًا: قَلِيلًا عَسِرًا، أو عديمَ النَّفْعِ، والنَكِدُ: كُلُّ شيءٍ خَرَجَ إلى طالبِه بتعسُّرٍ [718] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 169)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 461)، ((المفردات)) للراغب (ص: 823)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه هو الذي يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بنُزُولِ المَطَرِ، الذي يرحَمُ به خَلقَه، حتَّى إذا حمَلَت تلك الرِّياحُ سحابًا مُثقَلًا بالماءِ، ساقَه اللهُ لبَلَدٍ مَيِّتٍ، فأخرجَ به مِن جَميعِ الثَّمراتِ، فكَما يُحيِي هذا البَلَدَ المَيِّتَ بما يُنْزِلُ فيها مِنَ الماءِ، فيُخرِجُ به مِنَ الثَّمراتِ، بعد مَوتِه وجُدُوبَتِه وقُحُوطِ أهلِه، كذلك يُخرِجُ المَوتى مِن قُبورِهم أحياءً بعد فَنائِهم؛ لعَلَّكم- أيُّها النَّاسُ- تَعتَبِرونَ.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الأرضَ الطَّيِّبةَ يخرُجُ نباتُها- بإذنِ اللهِ- سريعًا حَسَنًا طَيِّبًا، والأرضُ الرَّديئةُ لا يخرُجُ نَباتُها إلَّا خُروجًا عَسِرًا بطيئًا، مسلوبَ النَّفعِ والخَيرِ والبَرَكةِ، كذلك يُبَيِّنُ اللهُ الآياتِ لِقَومٍ يَشكرونَ.

تفسير الآيتين:

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لِتعَلُّقِ الآيةِ بما قَبلَها عِدَّةُ أوجُهٍ:
الأول: لما ذكَر اللهُ تعالى دلائلَ الإلهيَّة، وكمالَ العلمِ والقُدرة مِن العالمِ العُلوي، وهو السمواتُ والشَّمس والقمرُ والنُّجوم- أتبَعه بذكرِ الدَّلائلِ مِن بعضِ أحوالِ العالمِ السُّفلي [719] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/286). .
الثاني: لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الدَّلالةَ في الآيةِ الأولى- والتي هي قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- على وُجُودِ الإلهِ القادِرِ العالِمِ، الحكيمِ الرَّحيمِ؛ أقام الدَّلالةَ في هذه الآيةِ على صِحَّةِ القَولِ بالحَشرِ والنَّشرِ والبَعثِ والقِيامةِ؛ ليحصُلَ بِمَعرفةِ هاتينِ الآيتينِ كُلُّ ما يُحتاجُ إليه في مَعرفةِ المَبدأِ والمَعَادِ [720] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/287). .
الثالث: لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى رَحمَتَه، وأنَّها قَريبٌ مِنَ المُحسنينَ، ذَكَّرَنا بما نغفلُ عنه كثيرًا مِنَ التفَكُّرِ والتأمُّلِ في أظهَرِ أنواعِ رَحْمَتِه: وهو إرسالُ الرِّياحِ، وما فيها مِن مَنافِعِ الخَلقِ، وإنزالِ المَطَرِ، الذي هو مَصدَرُ الرِّزقِ، وسَبَبُ حياةِ كُلِّ حَيٍّ في هذه الأرضِ، وما فيه مِنَ الدَّلالةِ على قُدرَتِه تعالى على البَعِث، وما يستحِقُّه عليه مِنَ الحَمدِ والشُّكرِ، فقال [721] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/413). :
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: بُشْرًا قراءاتٌ؛ منها:
بُشْرًا جمعُ بَشيرٍ، مِنَ البِشارةِ، فالرِّيحُ تُبَشِّرُ بالمطَرِ [722] قرأ بها عاصم. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 259). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (10/252)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 286). .
نُشُرًا جمع: ناشِرٍ، من النَّشْرِ، ضِد الطَّيِّ، وقيل: مِنَ النُّشُورِ بمعنى الإِحياءِ، فجَعَلَ الرِّيحَ ناشِرةً للأرضِ، أي مُحْيِيةً لها؛ إذ تأتي بالمَطَرِ الذي يكونُ النَّباتُ به. وقيل (نُشُرًا) جمعُ: نشُورٍ، بمعنى: مَنشورٍ، أي: إنَّ الله تعالى أحيا الرِّيحَ؛ إذ بعَثَها لتأتِيَ بين يَدَيْ رَحْمَتِه، فهي ريحٌ منشورةٌ، أي مُحْياةٌ [723] قرأ بها الحَرَميَّانِ وأبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 259). ويُنظَرُ لِمَعنى هذه القراءة: ((الدر المصون)) (5/347) للسمين الحلبي، ((الكشف)) لمكي (1/465). .
نَشْرًا قيل: النَّشْرُ صِنْفٌ مِنَ الرِّيَاحِ الطّيبَةِ اللَّينةِ الَّتِي تُنشئُ السَّحَابَ، وقيل: مصدَرُ: نَشَرَت الرِّيحُ السَّحَابَ: نَشْرًا، فالمعنى: هو الذي يُرسِلُ الرِّياحَ ناشِرةً للسَّحابِ [724] قرأ بها حمزة والكسائي. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 259). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) ابن زنجلة (ص: 285). .
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
أي: واللهُ الذي يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بنُزُولِ المَطَرِ، الذي يرحَمُ اللهُ به خَلْقَه [725] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/252 - 254)، ((تفسير ابن كثير)) (3/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/180). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم: 46] .
وقال سبحانه: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] .
حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
أي: حتَّى إذا حمَلَتْ هذه الرِّياحُ سَحابًا ثقيلةً، مِن كَثرةِ ما فيها مِنَ الماءِ؛ سُقْنا السَّحابَ إلى بَلَدٍ ذِي أرضٍ مَيِّتةٍ مُجدِبةٍ، لا نباتَ فيها، فأنزَلْنا فيها الماءَ يتقاطَرُ مِن ثُقُوبِ ذلك السَّحابِ، فأخرَجْنا بسبَبِه مِن كُلِّ أنواعِ الثَّمَراتِ [726] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/254)، ((الوسيط)) للواحدي (2/379)، ((تفسير ابن كثير)) (3/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/416 - 424). قال القرطبي: (يُقالُ: سُقْتُه لبلدِ كذا، وإِلى بلدِ كذا. وقيلَ: لأجلِ بلدٍ مَيِّتٍ، فاللَّامُ لامُ أجلِ). ((تفسير القرطبي)) (7/230). قال ابن عاشور: (البلدُ الواحدُ يخرجُ ثمراتُه المعتادةُ فيه، فإذا نظرتَ إلى ذلك البلدِ خاصةً فاجعلِ استغراقَ كلِّ الثمراتِ استغراقًا عرفيًّا، أي مِن كلِّ الثمراتِ المعروفةِ في ذلك البلدِ، وحرفُ (مِن) للتبعيضِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/183). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ [النور: 43] .
وقال سبحانه: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 33 - 35] .
وقال تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .
كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أي: كما أحيَيْنا البلَدَ المَيِّتَ بالماءِ، فأخرَجْنا به مِن كُلِّ الثَّمَراتِ؛ كذلك نُخرِجُ المَوتى مِن قُبورِهم أحياءً؛ لعلَّكم بما بَيَّنَّاه لكم تعتبرونَ، فتَستَدِلُّونَ به على قدرةِ اللهِ على البَعثِ، فإحياءُ الأمواتِ كإحياءِ الأرضِ بالنَّباتِ [727] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/255)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/346)، ((الوسيط)) للواحدي (2/379)، ((تفسير ابن كثير)) (3/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/424). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
وقال سبحانه: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف: 11] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذه الآيةَ تضَمَّنَت تفصيلًا لمضمونِ جُملةِ: فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؛ إذ قد بيَّنَ فيها اختلافَ حالِ البَلَدِ الذي يُصيبُه ماءُ السَّحابِ، ودعا إلى هذا التَّفصيلِ أنَّه لَمَّا مَثَّلَ إخراجَ ثَمَراتِ الأرضِ بإخراجِ الموتى منها يومَ البَعثِ؛ تذكيرًا بذلك للمُؤمنينَ، وإبطالًا لإحالةِ البَعثِ عند المُشركينَ- مَثَّلَ هنا باختلافِ حالِ إخراجِ النَّباتِ مِنَ الأرضِ، اختلافَ حالِ النَّاسِ الأحياءِ في الانتفاعِ برحمةِ هُدى اللهِ [728] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/184). ، فقال تعالى:
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
أي: والأرضُ الطَّيِّبةُ تُربَتُها، يَخرُجُ نَباتُها- إذا أنزَلَ اللهُ المطَرَ- سريعًا حَسنًا طَيِّبًا، بإرادةِ اللهِ ومَشيئَتِه [729] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/256)، ((تفسير ابن كثير)) (3/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292).
وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا
أي: والأرضُ الرَّديئةُ تُربَتُها، لا يخرُجُ نَباتُها- إذا أنزَلَ اللهُ المَطَرَ- إلَّا خُروجًا عَسِرًا بَطيئًا، مسلوبًا منه النَّفعُ والخَيرُ، لا بَرَكةَ فيه [730] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/256- 257)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/352)، ((تفسير ابن كثير)) (3/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/185)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/432). قال ابن عاشور: (والذي خَبُثَ: حَمَلَه جميعُ المُفَسِّرينَ على أنَّه وَصفٌ للبَلَدِ، أي: البلَدُ الذي خَبُثَ، وهو مقابِلُ البلدِ الطَّيبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/185). وروى ابنُ جريرٍ عن ابن عباس قال: (هذا مَثَلٌ ضَرَبه اللهُ للمُؤمِنِ؛ يقول: هو طَيِّبٌ، وعَمَلُه طَيِّبٌ، كما البلدِ الطَّيبِ ثَمَرُه طيِّبٌ، ثم ضربَ مَثَلَ الكافِرِ، كالبَلدةِ السَّبخةِ المالحةِ التي لا تَخرُجُ منها البركةُ، فالكافِرُ هو الخبيثُ، وعَمَله خبيثٌ). ((تفسير ابن جرير)) (10/258). وممَّن اختار ما ذهب إليه ابنُ عباس رضي الله عنهما: ابنُ جرير، وابنُ القيم، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/258)، ((إعلام الموقعين)) (1/108-109)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/431-432). .
وعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((إنَّ مَثَلَ ما بعثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ مِنَ الهُدى والعِلمِ؛ كَمَثلِ غَيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنبَتَتِ الكَلَأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ [731] الأجادِبُ: الأرضُ الصُّلبةُ التي تُمسِكُ الماءَ؛ مِنَ الجَدْبِ، وهو القَحْطُ، سَمَّاها أجادِبَ؛ لأنَّها لِصَلابَتِها لا تُنبِتُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/47)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/242)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/234). أمسَكَتِ الماءَ، فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوْا ورَعَوْا، وأصابَ طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ [732] القِيعانُ: جمعُ قاعٍ، وهي الأرضُ المُستَوِيَةُ التي لا نَباتَ فيها. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/47)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/235). ؛ لا تُمسِكُ ماءً، ولا تُنبِتُ كَلأً، فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دِينِ اللهِ، ونَفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الذي أُرسِلْتُ به )) [733] رواه البخاري (79) ومسلم (2282). .
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
أي: ومِثلَما نوَّعْنا الآياتِ الدَّالَّةَ على إبطالِ الشِّركِ، وإثباتِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى وألوهِيَّتِه، وعظيمِ قُدرَتِه على البَعثِ والنُّشورِ، وغير ذلك، ننوِّعُ أيضًا الآياتِ في كُلِّ ما يَحتاجُ إليه النَّاسُ، فنأتي بآيةٍ بعد آيةٍ، في أساليبَ مُختلفةٍ، لقومٍ يَشكرونَ اللهَ تعالى على نِعَمِه، معترفينَ بها ومُقِرِّينَ، ولله تعالى طائعينَ، فهم الذين ينتفعونَ بتلك الآياتِ، ويتَّعظونَ بالحُجَجِ والدَّلالاتِ [734] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/258)، ((تفسير ابن عطية)) (2/414)، ((تفسير القرطبي)) (7/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 292)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/437- 439). .

الفوائد التربوية:

الحِرصُ على التذكُّرِ والتفَكُّرِ في آلاءِ اللهِ، والنَّظَرُ إليها بِعَينِ الاعتبارِ والاستدلالِ، لا بِعَينِ الغَفلةِ والإهمالِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذِلَكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [735] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:292). .
قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ هذا مِثالٌ لِلقُلوبِ حينَ يَنزِلُ عليها الوَحيُ الذي هو مادَّةُ الحياةِ، كما أنَّ الغَيثَ مادَّةُ الحياةِ؛ فإنَّ القُلوبَ الطَّيبةَ حين يَجِيئُها الوَحيُ، تَقبَلُه وتَعلَمُه، وتُنْبِتُ بحَسَبِ طِيبِ أَصلِها، وحُسنِ عُنصُرِها، وأمَّا القُلوبُ الخَبيثةُ التي لا خَيرَ فيها، فإذا جاءَها الوحيُ لم يجِدْ مَحَلًّا قابلًا، بل يجِدُها غافلةً مُعرضةً، أو مُعارِضةً، فيكون كالمَطَرِ الذي يمُـرُّ على السِّباخِ والرِّمالِ والصُّخورِ، فلا يؤثِّرُ فيها شيئًا، وهذا كَقَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا... الآيات [736] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 292). .
في قَولِه تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ليس المقصودُ مُجَرَّدَ تفصيلِ أحوالِ الأرضِ بعد نُزولِ المَطَرِ؛ لأنَّ الغَرَضَ المسوقَ له الكلامُ يجمَعُ أمرينِ: العبرةَ بصُنعِ الله، والموعظةَ بما يماثِلُ أحوالَه، فكذلك يُخرِجُ اللهُ الموتى، وكذلك يَنتفِعُ برحمةِ الهُدى مَن خُلِقَت فِطرَتُه طيِّبةً قابلةً للهُدى، كالبلَدِ الطَّيِّبِ ينتَفِعُ بالمَطَرِ، ويُحرَمُ مِنَ الانتفاعِ بالهُدى مَن خُلِقَت فِطرَتُه خبيثةً، كالأرضِ الخبيثةِ لا تنتفِعُ بالمطرِ، فلا تُنبِتُ نباتًا نافعًا [737] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/184). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ إجراءُ الرِّيحِ وانتشارُها من هاهنا وهاهنا أمامَ المَطَرِ مُبَشِّرةً به؛ مِن غرائِبِ صُنعِه عَزَّ وجَلَّ وعجائِبِه، ومن عظائِمِ نِعَمِه على خَلقِه، والمرادُ بالرَّحمةِ هنا: المطَرُ؛ لأنَّ المطَرَ رحمةُ اللهِ يرحَمُ بها عبادَه في الدُّنيا، فيكونونَ في جَدْبٍ وفي فَقرٍ، ومواشيهم على وشْكِ الهَلاكِ، فيُغيثُهم اللهُ بالمَطَر، فتَنْبُتُ زُرُوعُهم وثِمارُهم، وتَنعَمُ مواشِيهم؛ فتكثُرُ عندهم اللُّحومُ والأسمانُ والأزبادُ، وتتوفَّرُ عندهم الأشعارُ والأصوافُ والأوبارُ، يَنسِجونَ منها اللِّباسَ وغيرَه مِنَ الفُرُشِ والخِيامِ [738] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/415). .
قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ ريحُ المَطَرِ تكون لَيِّنةً؛ تجيءُ مرَّةً مِنَ الجَنوبِ، ومرَّةً مِنَ الشَّمالِ، وتتَفَرَّقُ في الجِهاتِ؛ حتى ينشَأَ بها السَّحابُ، ويتعَدَّدُ سحاباتٍ مبثوثةً؛ ومِن أجلِ ذلك عَبَّرَ عنها بصيغةِ الجَمعِ لتعَدُّدِ مَهابِّها [739] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/179). .
الإرسالُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ هو إرسالٌ كونيٌّ، ويقابلُه: الإرسالُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [740] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/269). [الفتح: 8] .
في قَولِه تعالى: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ جاءت تَسمِيَةُ المَطَرِ بـالرَّحمةِ، على اعتبارِ أنَّ الرحمةَ أُضِيفَتْ إلى اللهِ تعالى هاهنا إضافةَ المفعولِ إلى فاعِلِه، لا إضافةَ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، فهذه رحمةٌ مخلوقةٌ مضافةٌ إليه إضافةَ المخلوقِ بالرَّحمةِ إلى الخالِقِ تعالى، وعليه فلا يمتنعُ الدعاءُ المشهورُ بين النَّاسِ قديمًا وحديثًا، وهو قولُ الدَّاعي: «اللَّهُمَّ اجمَعْنا في مُستَقَرِّ رَحْمَتِكَ» والمقصودُ به الجنَّة [741] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/183). .
قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لَمَّا دَلَّ على العَظَمةِ بالجَمعِ في كلمةِ سَحَابًا وحَقَّقَ الأمرَ بالوَصفِ في قوله ثِقَالًا- أفرَدَ اللَّفظَ، فقال سُقْنَاهُ-ولم يقل: سُقْنَاها- وذلك دَلالةً على غايةِ العَظَمةِ بِسَوقِه مُجتَمِعًا؛ كأنَّه قِطعةٌ واحدةٌ، لا يفتَرِقُ جُزءٌ منه عن سائِرِه؛ إذ لو تفرَّقَ لاختَلَّ أمرُه [742] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/422). .
في قَولِه تعالى: أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ دلالةٌ على إثباتِ الأسبابِ والطَّبائعِ؛ حيث أَخبرَ سُبحانَه أنَّ الرِّياحَ تَحمِلُ السَّحابَ؛ فجعل هذا الجمادَ فاعلًا بطَبعِه [743] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/192). .
قَولُ اللهِ تعالى: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ نِسبةُ السَّوقِ إليه تعالى بنُونِ العَظَمةِ؛ التفاتًا لِمَا في المطَرِ مِن عَظيمِ المِنَّةِ؛ إذ هو مِن أجَلِّ النِّعَمِ وأحسَنِها أثَرًا [744] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/78)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/422). .
اللَّامُ في قَولِ اللهِ تعالى: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لامُ العِلَّةِ؛ أي: لأجلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وفي هذه اللَّامِ دَلالةٌ على العِنايةِ الرَّبانِيَّةِ بذلك البَلَدِ؛ فلذلك عُدِلَ عَن تعدِيَةِ سُقْنَاهُ بِحَرفِ (إلى) [745] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/183). ، وهذا على أحدِ القولينِ في (اللامِ).
لَمَّا كانَ ذلك موضِعَ قُربِ رَحمةِ اللهِ، وإظهارِ إحسانِه، ذكَرَ أخَصَّ الأرض وهو البَلَدُ؛ حيث مُجتَمَعُ النَّاسِ، ومكانُ استِقرارِهم، فقال: سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ [746] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/78). .
قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الاستغراقُ في قَولِه كُلِّ الثَّمَرَاتِ استغراقٌ حقيقيٌّ؛ لأنَّ البَلَدَ المَيِّتَ ليس مُعَيَّنًا، بل يشمَلُ كُلَّ بلدٍ مَيِّتٍ يَنزِلُ عليه المَطَرُ، فيحصُلُ مِن جميعِ أفرادِ البلَدِ المَيِّتِ جميعُ الثَّمَراتِ، قد أخرَجَها اللهُ بواسطةِ الماءِ [747] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/183). .
في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  بيانُ أنَّ إخراجَ النَّباتِ بالماءِ هو ممَّا يُتذكَّرُ به إخراجُ الموتى من قُبُورِهم [748] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/378). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي: بِمَشِيئَتِه وتَيسيرِه، وخُصَّ خروجُ نَباتِ الطَّيِّبِ بذلك، وإن كان كِلَا النَّباتَينِ يَخرُجُ بإذنِه تعالى؛ مدحًا وتشريفًا لنَباتِ الطَّيِّبِ، وتنبيهًا على كَثرَتِه وحُسْنِه وغزارةِ نَفعِه، وكذلك لنِسبَةِ الإسنادِ الشَّريفةِ الطَّيِّبةِ إليه تعالى [749] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/79)، ((تفسير الشربيني)) (1/483). وقال ابنُ عاشورٍ: (أشار إلى طِيبِ نباتِه بأنَّ خُروجَه بإذنِ رَبِّه، فأُريدَ بهذا الإذنِ إذنٌ خاصٌّ، هو إذنُ عنايةٍ وتَكريمٍ، وليس المرادُ إذنَ التَّقديرِ والتَّكوينِ؛ فإنَّ ذلك إذنٌ مَعروفٌ، لا يتعلَّقُ الغَرَضُ ببيانِه في مثلِ هذا المقام). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/185). .
قوله تعالى: وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَنِ استقَرَّ فيه وصْفُ الخَبيثِ يَبعُدُ عنه النُّزُوعُ إلى الخَيرِ [750] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/80). .
قَولُ اللهِ تعالى: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ خَصَّ كَونَها آياتٍ بالقَومِ الشَّاكرينَ؛ لأنَّهم هم المُنتَفِعونَ بسَماعِ القُرآنِ [751] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/293). .
قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ثمَّ قال في الآيةِ التي تليها: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ، فعَبَّرَ بالشُّكرِ في الآيةِ التي مَوضوعُها الاهتداءُ بالعِلمِ والعَمَلِ والإرشادِ، وعَبَّرَ بالتَّذكيرِ في الآيةِ التي موضوعُها الاعتبارُ والاستدلالُ [752] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/428). .

بلاغة الآيتين:

قوله: وَهُو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ جملةٌ عُطِفتْ على جملةِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وقد حصَلتِ المناسبةُ بينَ آخِرِ الجُمَلِ المعترَضةِ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وبينَ الجملةِ المُعترَضِ بينها وبين ما عُطِفتْ عليه، بأنَّه لَمَّا ذَكَر قُرْبَ رحمتِه من المحسنِين ذَكَر بعضًا من رحمتِه العامَّة، وهو المطرُ [753] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/178). .
وفيه: تعريضٌ ببشارةِ المؤمنينَ بإغداقِ الغَيثِ عليهم، ونذارةِ المشرِكينَ بالقَحطِ والجُوعِ [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/178). .
وقولُه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ قُصِدَ منه تَقريعُ المشركينَ، وتفنيدُ إشراكِهم، ويَتْبعُه تذكيرُ المؤمنين، وإثارةُ اعتبارِهم؛ لأنَّ الموصولَ الَّذِي دلَّ على أنَّ الصِّلةَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ معلومةُ الانتسابِ للموصولِ؛ لأنَّ المشركين يَعلمون أنَّ للرِّياحِ مُصرِّفًا، وأنَّ للمطرِ مُنزِلًا، غير أنَّهم يَذْهَلون أو يَتَذاهلون عن تَعيينِ ذلك الفاعِل؛ ولذلك يَجِيئون في الكلامِ بأفعالِ نُزولِ المطرِ مَبنيَّةً إلى المجهولِ غالبًا، فيقولون: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، فأخبر الله تعالى بأنَّ فاعِلَ تلك الأفعالِ هو اللهُ، وذلك بإسنادِ هذا الموصولِ إلى ضَميرِ الجلالةِ في قوله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ؛ فالخبرُ مسوقٌ لتعيينِ صاحبِ هذه الصِّلة، فهو بمنزلةِ الجوابِ عن استفهامٍ مقصودٍ منه طلبُ التَّعيينِ [755] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/181). .
وفي قولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هُنا في سُورةِ الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ على لفْظِ المُستقْبَلِ (المضارِع)، وكذلك في سُورة الروم قال: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ،  بَينما قال في سُورةِ الفرقان: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ، على لَفْظِ الماضِي، وكذلِك في سُورةِ فاطرٍ، حيث قال: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [فاطر: 9] ؛ وذلك لأنَّ الآية التي هنا في سورةِ الأعرافِ جاءَ فيها يُرْسِلُ بلفظِ المُستقْبَلِ (المضارِع)؛ لأنَّ قَبْلَها: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 55- 56] ؛ فكان في ذلك بَعْثٌ على الدُّعاءِ والتضرُّع، وتعليقُ الخوفِ والطمعِ بما يكونُ منه مِن الرحمةِ وصنوفِ ما رَزَقَ اللهُ الخَلْقَ مِن النِّعم؛ فكان لفظُ المستقبَل أشْبهَ بموضِعِ الخوفِ والطَّمْعِ للدَّاعين، وأدْعى لهم إلى الدُّعاءِ [756] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/589-590)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:120). .
وقيل: المناسبةُ أنَّ آيةَ الأعرافِ لَمَّا تَقدَّمها قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] ، فذَكَر سُبحانَه ما تَقرَّر وتَحصَّل مِن خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ ممَّا لا تَكرُّرَ فيه، فلمَّا ذَكَر تعالى مِن هذه الأفعالِ العَظيمةِ ما ذَكَر مِمَّا لا يَتكرَّر، أعْقَب سبحانه بما يَتكرَّرُ ويَتوالَى مِن إنعامِه على الخليقةِ، ممَّا به قِوامُ أحوالِهم ومصالِحِ عَيشِهم؛ فقال سُبحانَه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وأَمَرَ عِبادَه بالدُّعاءِ والتضرُّعِ إليه، وحذَّرَهم وذَكَّرهم باستصحابِ الخوفِ، ثم رجَّاهم بقُربِ رحمتِه ممَّن أحْسَن، ثم عادَ الكلامُ إلى التذكيرِ بجليلِ المتوالي مِن إنعامِه وعظيمِ ألْطافِه، فقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛ فانتظَمَ آخِرُ الكلامِ بأوَّلِه، وارتبَطَ عَودُه ببَدْئِه، وتناسَب أوضحَ تَناسُبٍ بما يُفْهِمُه الفِعلُ المضارعُ مِن التَّكرُّرِ مِن حيثُ لا يمنع ذلك. وعلى هذا النحوِ جرَى الواردُ في سُورةِ الرُّوم في قوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ؛ فإنّه جاءَ قَبْلَه قولُه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ [الروم: 46] ، ثمَّ اعترَض بقولِه تأنيسًا لرسولِه ووعدًا بنَصْرِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، ثمَّ عادَ الكلامُ إلى إتمامِ ما تَقدَّم ممَّا يُرسِلُ سبحانه به ولأجْلِه الرِّياحَ، فقال بصورةِ الاستئنافِ لأجْلِ آيةِ الاعتراضِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الروم: 48] ، وأَوْردَ مِن النِّعمِ بها ما ذُكِر قبلُ، وجاءَ بلفظِ الاستقبالِ؛ لأنَّه مِن تَتْميم ما تَقدَّم وليناسبَه، ولو جاءَ بلفظ الماضِي لَمَا ناسَبَ [757] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/591)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/182-184). .
أمَّا في سورةِ الفُرقانِ، فمجيءُ هذا اللَّفظِ فيها بلفظِ الماضي؛ فلأنَّ قبلَ الآيةِ قَوْلَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 45 - 47] ثم قال: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ؛ فلمَّا عدَّدَ أنواعَ ما أَنْعَم به، كان إرسالُ الرِّياحِ مِن جُملةِ عَدِّه مع ما تَقدَّمه، وأخبر منه عمَّا فَعَلَه وأَوْجَدَه؛ فكان الماضِي أليقَ به [758] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/590)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:120). . وأمَّا في سُورة فاطر، واختيارُ لفظِ الماضي فيها على المستقبَلِ؛ فلأنَّ أوَّلَها: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ، بمعنى: فَطَر وجَعَل، وهُما بمعنى الماضِي لا غيرُ، ولم يقعْ بعدَ هذا ذِكرٌ مقصودٌ به الاعتبارُ مِن مخلوقاتِه سبحانَه، ممَّا نَصَبَه دالًّا عليه إلَّا قوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ [فاطر: 9] ؛ فأَتْبَعَه ما كان مِن جِنسِه ممَّا فعل، فكان اختيارُ لفظ الماضي هاهنا لموافقةِ اسمِ الفاعلِ معنًى ومُناسبتِه، ولا يُناسِبُه المستقبلُ [759] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/591-592)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/184). .
ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلِك أنَّه قال تعالى هنا في سورةِ الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛ فوصَف الرِّياحَ وأتْبعَها بقولِه: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وكذلك وقَعَ في سورةِ الفُرقان: قال: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان: 48] ، ولم يَرِدْ ذلك في سُورتَيِ الروم وفاطر؛ وذلك لمناسبةٍ حَسَنةٍ؛ فآيةُ الأعراف قد تقدَّمها قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ...، ثمَّ قال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وقال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ثم قال: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وفي هذا كلِّه استلطافٌ، ونحوُه قولُه سبحانَه في سورة الفرقان: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان: 45] ، ثمَّ قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] ؛  فهذا أعظمُ استلطافٍ؛ فناسَب الواردَ في السُّورتَينِ مِن هذا قولُه تعالى عقِبَ إرسالِ الرِّياح: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه، ولَمَّا لم يَرِدْ في سورةِ الرُّوم ولا في سُورةِ فاطِر مثلُ هذا الاستلطافِ ولا بَعضُه، لم يُتْبَعْ ذِكرُ إرسالِ الرِّياحِ بما أُتْبِع في آيتَي الأعراف والفرقان؛ إذ لم يكُنْ ذلك ليُناسِب، فجاءَ كلٌّ على ما يُناسِب [760] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/184-185). .
قولُه: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُعترِضةٌ؛ استطرادًا للمَوعظةِ والاستدلالِ على تَقريبِ البَعثِ الذي يَستبْعِدونَه [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/183). .
قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا
قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا المقصودُ مِن هذه الآيةِ التَّمثيلُ، وليس المقصودُ مُجرَّدَ تَفصيلِ أحوالِ الأرضِ بعدَ نُزولِ المطرِ، أي: كذلِكَ نُخرِجُ الموتَى، وكذلك يَنتفِعُ برَحمةِ الهُدَى مَن خُلقت فِطرتُه طيِّبةً قابلةً للهُدَى، كالبلدِ الطيِّبِ يَنتفِعُ بالمطرِ، ويُحرَم مِن الانتفاعِ بالهُدَى مَن خُلِقت فِطرتُه خَبيثةً، كالأرضِ الخبيثةِ لا تَنتفِعُ بالمطرِ؛ فلا تُنبِتُ نَباتًا نافعًا [762] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/184). .
وفي هذِه الآيةِ احتِباكٌ؛ إذ لم يُذْكَرْ وصْفُ الطيِّبِ بعدَ نباتِ البَلدِ الطيِّب، ولم تُذكَرِ الأرضُ الخَبيثةُ قبلَ ذِكرِ النَّباتِ الخبيثِ؛ لدَلالةِ كِلَا الضِّدَّينِ على الآخَر، والتقديرُ: والبلدُ الطيِّبُ يخرُج نباتُه طيِّبًا بإذنِ ربِّه، والنباتُ الذي خَبُثُ يَخرُج نَكِدًا مِن البَلدِ الخَبيثِ، وهذا صُنعٌ دَقيقٌ في الكلامِ البَليغِ [763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/186). .
قولُه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ (الطيِّبُ) وصفٌ على وزن (فَيْعِل)، وهي صيغةٌ تَدلُّ على قُوَّةِ الوصفِ في الموصوفِ [764] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/185). .
قولُه: وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا فيه حَصْرُ خُروجِ نَباتِ الذي خَبُثَ على حالةِ النكدِ؛ وهو مبالغةٌ شديدةٌ في كونِه لا يكونُ إلَّا هكذا، ولا يُمكِنُ أنْ يُوجَدَ إلَّا نَكِدًا [765] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/80). .