موسوعة التفسير

سُورةُ النَّبَأِ
الآيات (17-20)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

مِيقَاتًا: أي: وَقْتًا ومِيعادًا، والميقاتُ: الوقتُ المضروبُ للشَّيءِ، والوَعدُ الَّذي جُعِلَ له وَقْتٌ، وأصلُ (وقت): يدُلُّ على حَدِّ شَيءٍ في زَمانٍ وغَيرِه [115] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 456)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/131)، ((المفردات)) للراغب (ص: 879)، ((تفسير القرطبي)) (19/175). قال ابن حجر: (مِيقاتٌ وهو مِفعالٌ مِن الوقتِ، وهو القَدْرُ المحدَّدُ للفعلِ مِن الزَّمانِ أو المكانِ). ((فتح الباري)) (2/3). .
الصُّورِ: أي: القَرْنِ الَّذي يَنفُخُ فيه إسرافيلُ الملَكُ الموكَّلُ به [116] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 25، 26)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 308)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566). .
أَفْوَاجًا: أي: جَماعاتٍ، والفَوجُ: الجَماعةُ مِنَ النَّاسِ، وأصلُ (فوج): يدُلُّ على تجَمُّعٍ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/19)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). .
سَرَابًا: أي: هَباءً وغُبارًا مُنتَشِرًا كالسَّرابِ في عَينِ النَّاظِرِ، والسَّرابُ: ما رأيتَ مِن الشَّمسِ كالماءِ نِصفَ النَّهارِ، وأصلُ (سرب): يدُلُّ على الاتِّساعِ والذَّهابِ في الأرضِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/20)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/155)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 258)، ((تفسير القرطبي)) (19/176). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا بعضَ أهوالِ يومِ القيامةِ: إنَّ يَومَ القيامةِ الَّذي يَحكُمُ اللهُ فيه بيْنَ عِبادِه يومٌ مُحَدَّدٌ بوَقتٍ مُعَيَّنٍ لجَمعِ النَّاسِ، يَومَ يَنفُخُ الملَكُ في القَرْنِ لبَعْثِ النَّاسِ، فتأتونَ مِن قُبورِكم إلى مَوضِعِ العَرْضِ جَماعاتٍ، وتتشَقَّقُ السَّماءُ فتكونُ أبوابًا مَفتوحةً، وتُقلَعُ الجبالُ مِن أماكِنِها فتكونُ هَباءً.

تفسير الآيات:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا بَيانٌ لِما أجمَلَه قولُه تعالى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 2-3] ، وهو المقصودُ مِن سِياقِ الفاتحةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها السُّورةُ، وهيَّأتْ للانتقالِ مُناسَبةُ ذِكرِ الإخراجِ مِن قولِه: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا [النَّبأ: 15] إلخ؛ لأنَّ ذلك شُبِّهَ بإخراجِ أجسادِ النَّاسِ للبعثِ، كما قال تعالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ إلى قولِه: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ في سُورةِ (ق) [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/29). [9- 11].
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17).
أي: إنَّ يَومَ القيامةِ الَّذي يَحكُمُ اللهُ فيه بيْنَ عِبادِه يومٌ مُحَدَّدٌ بوَقتٍ مُعَيَّنٍ لجَمعِ النَّاسِ للحِسابِ والجَزاءِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/18)، ((تفسير القرطبي)) (19/175)، ((تفسير ابن كثير)) (8/304)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/29، 30)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 29). وقال البِقاعي: (كَانَ أي: في عِلْمِ اللهِ وحِكْمتِه كَونًا لا بُدَّ منه، جُعِلَ فيه كالجِبِلَّةِ في ذوي الأرواحِ). ((نظم الدرر)) (21/200). .
كما قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخَان: 40].
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18).
أي: وذلك واقِعٌ يَومَ يَنفُخُ المَلَكُ في القَرْنِ لبَعْثِ النَّاسِ أحياءً يومَ القيامةِ، فتأتونَ -أيُّها النَّاسُ- مِن قُبورِكم إلى مَوضِعِ العَرْضِ للحِسابِ والجَزاءِ زُمَرًا وجَماعاتٍ [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/18، 19)، ((الوسيط)) للواحدي (4/413)، ((تفسير القرطبي)) (19/175)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/200، 201)، ((تفسير الشوكاني)) (5/441)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 29، 30). .
كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قرنٌ يُنفَخُ فيه)) [122] أخرجه أبو داودَ (4742)، وأحمدُ (6507) باختلافٍ يسيرٍ، والترمذيُّ (2430)، والنسائيُّ (11456) واللَّفظُ لهما. حَسَّنه الترمذيُّ، وصَحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/550)، ووافقه الذهبي في ((التلخيص)) (2/550)، وذَكَر ثُبوتَه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (5/308)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/9)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2430). .
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19).
أي: وتتشَقَّقُ السَّماءُ وتَنفَرِجُ، فتكونُ أبوابًا مَفتوحةً [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/19)، ((تفسير القرطبي)) (19/176)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/202)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). قال البِقاعي: (فَكَانَتْ أي: كُلُّها كَيْنونةً كأنَّها جِبِلَّةٌ لها أَبْوَابًا أي: كثيرةً جدًّا؛ لكثرةِ الشُّقوقِ الكبيرةِ بحيث صارت كأنَّها لا حقيقةَ لها إلَّا الأبوابُ). ((نظم الدرر)) (21/202). قيل: إنَّها تكونُ أبوابًا؛ مِن أجْلِ نُزولِ الملائكةِ. وممَّن قال بهذا: الثعلبيُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، وابن كثير، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/115)، ((تفسير البغوي)) (5/200)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/389)، ((تفسير القرطبي)) (19/176)، ((تفسير النسفي)) (3/591)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((تفسير أبي السعود)) (9/89). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة: 16-17] .
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر السَّقْفَ، ذَكَر أقرَبَ الأرضِ إليه وأشَدَّها، فقال [124] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/202). :
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20).
أي: وتُقلَعُ الجبالُ مِن أماكِنِها وتتفَتَّتُ تُرابًا، وتكونُ هَباءً، يُخيَّلُ إلى النَّاظرِ أنَّها شيءٌ، وليسَتْ بشيءٍ [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/20)، ((تفسير القرطبي)) (19/176)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/33)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). قال الماوَرْدي: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا فيه وجهانِ: أحدُهما: سُيِّرَتْ أي: أُزيلَتْ عن مَواضِعِها. الثَّاني: نُسِفَتْ مِن أُصولِها). ((تفسير الماوردي)) (6/185). قال ابنُ عاشور: (السَّرابُ: ما يَلُوحُ في الصَّحاري مِمَّا يُشبِهُ الماءَ وليس بماءٍ، ولكِنَّه حالةٌ في الجوِّ القَريبِ تَنشَأُ مِن تَراكُمِ أبْخِرَةٍ على سَطحِ الأرضِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/33). وقال ابن عطيَّة: (وقولُه تعالى: فَكَانَتْ سَرَابًا عِبارةٌ عن تلاشيها وفَنائِها بعْدَ كَونِها هَباءً مُنْبَثًّا، ولم يَرِدْ أنَّ الجبالَ تعودُ تُشبِهُ الماءَ على بُعدٍ مِن النَّاظِرِ إليها). ((تفسير ابن عطية)) (5/425). وقال الشنقيطي: (ذكَرَ جلَّ وعلا أنَّه يَجعلُ الجبالَ سَرابًا، فقال: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا. وبيَّن في موضعٍ آخَرَ أنَّ السَّرابَ عِبارةٌ عن لا شَيءَ؛ وهو قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ إلى قولِه: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور: 39] ). ((أضواء البيان)) (3/283) بتصرف. وقال البِقاعي: (وَسُيِّرَتِ أي: حُمِلَت بأيسَرِ أمرٍ على السَّيرِ الْجِبَالُ على ما تَعلَمونَ مِن صَلابتِها وصُعوبتِها في الهواءِ، كأنَّها الهباءُ المنثورُ، وعلى ذلك دَلَّ قَولُه: فَكَانَتْ أي: كَيْنونةً راسخةً سَرَابًا أي: لا نرى فيها إلَّا خَيالًا يتراءى، وهي سائِرةٌ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، ثمَّ تخفى؛ لتناثُرِ أجزائِها كالهَباءِ). ((نظم الدرر)) (21/202). قال الألوسي: (فَكَانَتْ سَرَابًا أي: فصارتْ بعدَ تسييرِها مِثلَ سرابٍ، فتُرى بعدَ تفَتُّتِها وارتفاعِها في الهواءِ كأنَّها جبالٌ، وليست بجبالٍ، بل غُبارٌ غليظٌ مُتراكِمٌ يُرى مِن بعيدٍ كأنَّه جبلٌ، كالسَّرابِ يُرى كأنَّه بحرٌ مثلًا، وليس به). ((تفسير الألوسي)) (15/213). .
كما قال تعالى: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 10].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا دليلٌ على كَمالِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ أنَّ هذه السَّبْعَ الشِّدادَ يَجعَلُها اللهُ تعالى يومَ القيامةِ كأنْ لم تكُنْ، فتكونُ أبوابًا [126] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا فيه سُؤالٌ: وهو أنَّ الآيةَ تُفيدُ أنَّ السَّماءَ بكُلِّيَّتِها تَصيرُ أبوابًا، فكيف يُعقَلُ ذلك؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ تلك الأبوابَ لَمَّا كَثُرت جدًّا صارت كأنَّها ليست إلَّا أبوابًا مُفَتَّحةً، كقَولِه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا [القمر: 12]، أي: كأنَّ كُلَّها صارت عُيونًا تتفَجَّرُ.
الوجهُ الثَّاني: هذا مِن بابِ تقديرِ حَذْفِ المضافِ، والتَّقديرُ: فكانت ذاتَ أبوابٍ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ الضَّميرَ في قَولِه: فَكَانَتْ أَبْوَابًا عائِدٌ إلى مُضمَرٍ، والتَّقديرُ: فكانت تلك المواضِعُ المفتوحةُ أبوابًا لِنُزولِ الملائكةِ، كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [127] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/13). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (23/126). [الفجر: 22] .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ذَكَر تعالى في مَواضِعَ مِن كتابِه أحوالَ هذه الجِبالِ على وُجوهٍ مُختَلِفةٍ، ويمكِنُ الجَمعُ بيْنَها:
بأنَّ أوَّلَ أحوالِها: الانْدِكاكُ، وهو قَولُه: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 14] .
والحالةُ الثَّانيةُ لها: أنَ تَصيرَ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، وذَكَر اللهُ تعالى ذلك في قَولِه: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 4-5] وقَولِه: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8-9] .
والحالةُ الثَّالثةُ: أن تصيرَ كالهَباءِ، وذلك أن تتقَطَّعَ وتتبَدَّدَ بعدَ أن كانت كالعِهْنِ، وهو قَولُه تعالى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 4 - 6] .
والحالةُ الرَّابِعةُ: أن تُنسَفَ؛ لأنَّها مع الأحوالِ المتقَدِّمةِ قارَّةٌ في مَواضِعِها، والأرضُ تحتَها غيرُ بارزةٍ، فتُنسَفُ عنها بإرسالِ الرِّياحِ عليها، وهو المرادُ مِن قَولِه: فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه: 105] .
والحالةُ الخامِسةُ: أنَّ الرِّياحَ تَرفَعُها عن وَجهِ الأرضِ، فتُطَيِّرُها شُعاعًا في الهواءِ كأنَّها غُبارٌ، فمَن نَظَر إليها مِن بُعْدٍ حَسِبَها لتَكاثُفِها أجسامًا جامِدةً، وهي في الحقيقةِ مارَّةٌ، إلَّا أنَّ مُرورَها بسَبَبِ مرورِ الرِّياحِ بها صَيَّرَها مُندَكَّةً مُتفَتِّتةً، وهي قَولُه: تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ، ثمَّ بَيَّن أنَّ تلك الحرَكةَ حَصَلت بقَهْرِه وتَسخيرِه، فقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] .
الحالةُ السَّادِسةُ: أنْ تَصيرَ سَرابًا، بمعنى: لا شَيءَ، فمَن نَظَر إلى مَواضِعِها لم يجِدْ فيها شيئًا، كما أنَّ مَن يَرى السَّرابَ مِن بُعْدٍ إذا جاء الموضِعَ الَّذي كان يَراه فيه لم يَجِدْه شَيئًا [128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/13، 14). .
4- في قَولِه تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا سُؤالٌ: أنَّه كيف التَّوفيقُ مع قولِه سُبحانَه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] ؟
الجوابُ: أنَّه وردتْ نصوصٌ في اليومِ الآخِرِ مختلِفةٌ في هذا وفي غيرِه، حتَّى في بني آدمَ وَرَدَ أنهم يُحشَرون زُرْقًا -يعني: المجرِمينَ منهم- ووَرَدَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، ولا تَعارُضَ بيْنَها؛ لأنَّ يومَ القيامةِ مِقدارُه خمسونَ ألْفَ سَنَةٍ؛ فتَتغَيَّرُ الأحوالُ وتَنتقِلُ وتَختَلِفُ، وإذا كنَّا نرى أنَّ الجَوَّ يَختَلِفُ في الدُّنيا بيْن عَشِيَّةٍ وضُحاها، وبيْن يومٍ وآخَرَ، وبيْن أُسبوعٍ وأُسبوعٍ، وبيْن شَهرٍ وشَهرٍ، وبيْن السَّنَةِ أَوَّلِها وآخِرِها؛ فإنَّ الجبالَ والأحوالَ يومَ القيامةِ تتغيَّرُ مِن شيءٍ إلى آخَرَ؛ ولذلك نقولُ: كلُّ النُّصوصِ في يومِ القيامةِ، الَّتي ظاهِرُها التَّعارُضُ، ليس فيها تعارُضٌ، بل تُحمَلُ على تغيُّرِ الأحوالِ [129] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 27). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا
- قولُه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ... استِئنافٌ بَيانيٌّ أُعقِبَ به قولُه: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا الآيةَ [النَّبأ: 15] فيما قُصِدَ به مِن الإيماءِ إلى دليلِ البعثِ، وهذا رَدٌّ لسؤالِهم تَعجيلَه وعن سَببِ تَأخيرِه، وهو سؤالٌ يُريدونَ منه الاستهزاءَ بخَبَرِه، والمعنى: أنْ ليس تأخُّرُ وُقوعِه دالًّا على انتفاءِ حصولِه، وفي هذا إنذارٌ لهم بأنَّه لا يُدرَى لَعلَّه يَحصُلُ قريبًا [130] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/29، 30). .
- وأُكِّد الكلامُ بحرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ لأنَّ فيه إبطالًا لإنكارِ المُشرِكينَ وتكذيبِهم بيومِ الفَصلِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/29). .
- وأُوثِرَ التَّعبيرُ بـ يَوْمَ الْفَصْلِ؛ لإثباتِ شَيئينِ؛ أحدُهما: أنَّه بيَّنَ ثُبوتَ ما جحَدوهُ مِن البعثِ والجزاءِ، وذلك فصلٌ بيْنَ الصِّدقِ وكَذِبِهم، وثانيهما: القضاءُ بيْنَ النَّاسِ فيما اختلَفوا فيه، وما اعتَدى به بعضُهم على بعضٍ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/29). .
- و أفاد فعلُ كَانَ أنَّ تَوقيتَه متأصِّلٌ في عِلمِ اللهِ؛ لِما اقتَضتْه حِكمتُه تعالى الَّتي هو أعلَمُ بها، وأنَّ استِعجالَهم به لا يُقدِّمُه على ميقاتِه [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/29). .
- قولُه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا دَلَّ السِّياقُ على متعلَّقِ ميقاتٍ، أي: كان ميقاتًا للبعثِ والجزاءِ، وكَونُ يومِ الفِصلِ مِيقاتًا كِنايةٌ تَلويحيَّةٌ [134] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ، نحوُ قولِك للمؤْذِي: «المسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِه ويَدِه»؛ تعريضًا بنَفيِ صِفةِ الإسلامِ عن المؤذِي. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ، نحوُ قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. والإيماءُ أو الإشارةُ اصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ وضوحِ اللُّزومِ، بلا تعريضٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). عن تَحقيقِ وُقوعِه؛ إذ التَّوقيتُ لا يكونُ إلَّا بزمنٍ مُحقَّقِ الوُقوعِ ولو تأخَّرَ وأبطَأَ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/30). .
- قولُه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدَلٌ مِن يَوْمَ الْفَصْلِ، وفائدةُ هذا البدلِ حصولُ التَّفصيلِ لبعضِ أحوالِ الفَصلِ وبعضِ أهوالِ يومِ الفصلِ، أو عطفُ بَيانٍ له، مُفيدٌ لزيادةِ تَفخيمِه وتهويلِه [136] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/31). .
- وبُنِيَ يُنْفَخُ إلى النَّائبِ؛ لعدمِ تَعلُّقِ الغرضِ بمعرفةِ النَّافخِ؛ وإنَّما الغرضُ معرفةُ هذا الحادثِ العظيمِ، وصورةِ حصولِه [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/31). .
- قولُه: فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا الفاءُ فصيحةٌ تُفصِحُ عن جملةٍ قد حُذِفَتْ؛ ثِقةً بدلالةِ الحالِ عليها، وإيذانًا بغايةِ سرعةِ الإتيانِ، أي: فتُبعثونَ مِن قُبورِكم، فتَأتونَ إلى الموقفِ عَقيبَ ذلكَ مِن غيرِ لُبثٍ أصْلًا [138] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/89). .
- وعُطِفَ (تَأْتون) بالفاءِ؛ لإفادةِ تَعقيبِ النَّفخِ بمَجيئِهم إلى الحِسابِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/31). .
- وحُذِفَ ما يحصُلُ بيْنَ النَّفخِ في الصُّورِ وبينَ حضورِهم؛ لزيادةِ الإيذانِ بسرعةِ حصولِ الإتيانِ حتَّى كأنَّه يحصُلُ عِندَ النفخِ في الصُّورِ، وإنْ كان المعنى: يُنفَخُ في الصُّورِ فتَحْيَوْنَ فتَسيرونَ فتَأتونَ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/31). .
2- قولُه تعالَى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا يَجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ مَعطوفةً على جُملةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، ويكون التَّعبيرُ بالفعلِ الماضي (فُتِحَت)؛ لتحقيقِ وُقوعِ هذا التَّفتيحِ حتَّى كأنَّه قد مَضى وُقوعُه [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/32)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/355). .
- قولُه: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا على قِراءةِ وفُتِّحَتِ بتشديدِ الفَوقيَّةِ، فهو مُبالَغةٌ في فعلِ الفتحِ بكثرةِ الفتحِ أو شِدَّتِه؛ إشارةً إلى أنَّه فتحٌ عظيمٌ؛ لأنَّ شقَّ السَّماءِ لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ. وعلى قِراءةِ وَفُتِحَتِ بتخفيفِ الفوقيَّةِ على أصلِ الفِعلِ؛ فمجرَّدُ تعلُّقِ الفتحِ بالسَّماءِ مُشعِرٌ بأنَّه فتحٌ شديدٌ، فالتَّفتُّحُ والفتْحُ سواءٌ في المعنى المقصودِ، وهو تَهويلُ يومِ الفصْلِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/32). قرأ الكوفيُّون: عاصِمٌ وحَمزةُ والكِسائيُّ وخلَفٌ بالتَّخفيفِ، وقرأ الباقونَ بالتَّشديدِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/364). .
- وفُرِّع على انفِتاحِ السَّماءِ بفاءِ التَّعقيبِ فَكَانَتْ أَبْوَابًا، أي: ذاتَ أبوابٍ. على قولٍ. والإخبارُ عن السَّماءِ بأنَّها أبوابٌ جَرى على طَريقِ المبالَغةِ في الوصْفِ بذاتِ أبوابٍ؛ للدَّلالةِ على كَثرةِ المَفاتِحِ فيها حتَّى كأنَّها هي أبوابٌ [143] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/688)، ((تفسير البيضاوي)) (5/279)، ((تفسير أبي حيان)) (10/386)، ((تفسير أبي السعود)) (9/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/32، 33). .
3- قولُه تعالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا تَشبيهٌ بليغٌ حُذِفَتْ منه الأداةُ وحُذِف وجهُ الشَّبهِ أيضًا؛ وهو أنَّ المرئيَّ خلافُ الواقعِ، فكما يُرى السَّرابُ مِن بعيدٍ للظَّامئِ المُلْتاحِ [144] المُلْتاحِ: أي: العَطِشِ. يقال: لاحَ لَوْحًا ولُواحًا: عَطِشَ. والْتاحَ مِثلُه. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (1/402)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (7/102). كأنَّه ماءٌ، فيَستبشِرُ به ويَخِفُّ إليه، حتَّى إذا أَدرَكَه بعدَ طُولِ الأَيْنِ [145] الأَيْن: الإعياء. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (5/2076). لم يَجِدْه شيئًا، وكذلك تُرى الجبالُ كأنَّها جبالٌ وليستْ كذلك في نفْسِ الأمرِ؛ إذ تُرى على صورةِ الجبالِ ولم تَبقَ على حقيقتِها؛ لِتَفتُّتِ أجزائِها وانبثاثِها [146] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/688)، ((تفسير البيضاوي)) (5/279)، ((تفسير أبي حيان)) (10/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/33)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/360). .
- وقد أُدمِجَ في هذا التَّشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تَخلْخُلِ الأجزاءِ وانتفاشِها كما يَنطِقُ به قولُه تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، يُبدِّلُ اللهُ تعالى الأرضَ ويُغيِّرُ هيئتَها، ويُسيِّرُ الجبالَ على تلك الهيئةِ الهائلةِ، ثمَّ يُفرِّقُها في الهواءِ، وذلك قولُه تعالَى: فَكَانَتْ سَرَابًا [147] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/90). .
- والتَّعبيرُ بالفِعلِ الماضي وَسُيِّرَتِ؛ لتحقيقِ وُقوعِ هذا التَّسييرِ حتَّى كأنَّه قد مضى وُقوعُه [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/32، 33). .