موسوعة التفسير

سورةُ فُصِّلَت
الآيات (52-54)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

شِقَاقٍ: أي: عَداوةٍ ومُبايَنةٍ ومُخالَفةٍ، وأصلُ الشِّقاقِ: الانصِداعُ .
الْآَفَاقِ: أي: النَّواحي والأطرافِ، وأصلُ (أفق): يدُلُّ على تَباعُدِ ما بيْنَ أطرافِ الشَّيءِ واتِّساعِه .
مِرْيَةٍ: أي: شَكٍّ، والمِرْيةُ كذلك: التَّرَدُّدُ في الأمرِ، وهو أخَصُّ مِنَ الشَّكِّ .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ فيه وَجهانِ؛ أحدُهما: أنَّ الباءَ في بِرَبِّكَ مَزيدةٌ في الفاعِلِ للتَّأكيدِ، و(ربك) فاعِلُ يَكْفِ مرفوعٌ مَحَلًّا مَجرورٌ لَفظًا بالباءِ. والمفعولُ مَحذوفٌ، والمصدَرُ المُؤَوَّلُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلُ اشتِمالٍ مِنْ (ربك) فيكونُ مَرفوعَ المحلِّ، مَجرورَ اللَّفظِ مِثلَه، أو يكونُ المَصدَرُ المُؤَوَّلُ في مَحَلِّ جرٍّ بباءٍ محذوفةٍ، والتَّقديرُ عليهما: أولَمَ يَكفِك ربُّك شَهادتُه، أو بأنَّه على كلِّ شَيءٍ شَهيدٌ. الثَّاني: أنَّ الباءَ في بِرَبِّكَ مَزيدةٌ في المفعولِ، و (ربك) مَفعولٌ مُقَدَّمٌ لـ يَكْفِ مَنصوبٌ مَحَلًّا مَجرورٌ لَفظًا بالباءِ، والمصدَرُ المؤَوَّلُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فاعلٌ مُؤَخَّرٌ، أي: أوَلَم يكْفِ ربَّك شَهادتُه .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يوبِّخَ هؤلاءِ الكافرينَ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لكُفَّارِ قَومِك: أخبِرُوني إن كان هذا القُرآنُ حَقًّا مِن عندِ اللهِ ثمَّ كَفَرْتُم به، فمَن أشَدُّ ضَلالًا وبُعدًا عن الحَقِّ منكم؟!
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه أنَّ حِكمتَه قد اقتضَتْ أنْ يُطلِعَ النَّاسَ على دَلائلِ وحدانيَّتِه، وصدقِ رسولِه، وأنَّ القرأنَ حقٌّ، فيقولُ: سنُري أولئك الكافِرينَ آياتِنا في الآفاقِ والنَّواحي، وفي أنفُسِهم؛ حتَّى يَتبيَّنَ لهم أنَّ القُرآنَ حَقٌّ. أوَلَم يَكْفِ برَبِّك -يا مُحمَّدُ- أنَّه شاهِدٌ على كُلِّ شَيءٍ؟!
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى حقيقةَ أمرِ هؤلاءِ الكافرينَ، فيقولُ: ألَا إنَّ أولئك الكافِرينَ في شَكٍّ مِن بَعثِهم بعدَ مَوتِهم، ولقاءِ رَبِّهم، ألَا إنَّ اللهَ سُبحانَه مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا وقُدرةً.

تفسير الآيات:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر الوَعيدَ العَظيمَ على الشِّركِ، وبيَّنَ أنَّ المُشرِكينَ يَرجِعونَ عن القَولِ بالشِّركِ في يومِ القيامةِ، ويُظهِرونَ مِن أنفُسِهم الذِّلَّةَ والخُضوعَ بسَبَبِ استيلاءِ الخَوفِ عليهم، وبيَّنَ أنَّ الإنسانَ جُبِلَ على التَّبَدُّلِ؛ فإنْ وَجَد لِنَفْسِه قُوَّةً بالَغَ في التَّكَبُّرِ والتَّعَظُّمِ، وإنْ أحَسَّ بالفُتورِ والضَّعفِ بالَغَ في إظهارِ الذِّلَّةِ والمَسكَنةِ- ذكَرَ عَقِيبَه كَلامًا آخَرَ يُوجِبُ على هؤلاء الكُفَّارِ ألَّا يُبالِغوا في إظهارِ النفرةِ مِن قَبولِ التَّوحيدِ، وألَّا يُفرِطوا في إظهارِ العَداوةِ معَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لكُفَّارِ قَومِك: أخبِروني إن كان هذا القُرآنُ حَقًّا مِن عندِ اللهِ، ثُمَّ كَفَرتُم به، فلا أحَدَ أضَلُّ مِنكم لِفَرطِ شِقاقِكم وعِنادِكم وعداوَتِكم؛ لأنَّه تَبيَّنَ لكم الحقُّ والصَّوابُ، ثمَّ عَدلْتُم عنه، فأهْلَكتُم أنفُسَكم .
سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أعقَبَ اللهُ أمْرَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقولَ لِلمُشرِكينَ ما فيه تَخويفُهم مِن عَواقِبِ الشِّقاقِ، على تَقديرِ أنْ يَكونَ القُرآنُ مِن عِندِ اللهِ وهُم قد كَفَروا به، بأنْ وَعَد رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -على سَبيلِ التَّسليةِ والبِشارةِ- بأنَّ اللهَ سَيَغمُرُ المُشرِكينَ بطائِفةٍ مِن آياتِه ما يَتبَيَّنونَ به أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ حَقًّا؛ فلا يَسَعُهم إلَّا الإيمانُ به .
وأيضًا لَمَّا أمَر حبيبَه صلواتُ الله عليه بمُتارَكةِ القَومِ في قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلى قولِه: مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ دخَل في خَلَدِه اليأسُ مِن إيمانِ القَومِ، وكادَتْ نفْسُه تذهبُ عليهم حَسَراتٍ، فأعلَمه اللهُ تعالى بقولِه: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا أنَّه ما عليك إلَّا البلاغُ ومِنَّا الهدايةُ، فأنت قد أدَّيتَ ما عليك مِن البلاغِ، وليس الهدايةَ، ونحن سنَهدي منهم مَن نريدُ هدايتَه بأنْ نَفتحَ قلوبًا غُلْفًا وآذانًا صُمًّا وعيونًا عُمْيًا، فيرَوْن آياتِنا في الآفاقِ وفي الأنفُسِ، ثمَّ قرَّر ذلك بقولِه: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إنجازًا للموعد، مُسليًا له صلواتُ الله عليه ممَّا اعتراه مِن اليأسِ .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى وُجوهًا كثيرةً في تقريرِ التَّوحيدِ والنُّبُوَّةِ، وأجاب عن شُبُهاتِ المُشرِكينَ وتمويهاتِ الضَّالِّينَ، قال :
سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ.
أي: سنُري أولئك الكافِرينَ بالقُرآنِ آياتِنا الدَّالَّةَ على أنَّ القُرآنَ حَقٌّ مِن عندِ اللهِ لا شَكَّ فيه ولا رَيبَ، وذلك بدَلائِلَ خارجيَّةٍ في الآفاقِ والنَّواحي، ودَلائِلَ في أنفُسِهم .
كما قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل: 93] .
وقال عزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر: 13] .
وقال تبارك وتعالى: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 81] .
وقال الله جَلَّ جَلالُه: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21].
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
أي: سنُري المُشرِكينَ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهم؛ حتَّى يَتبيَّنَ لهم أنَّ القُرآنَ حَقٌّ، فلا يَجِدوا إلى إنكارِ ذلك سَبيلًا .
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أي: أوَلَم يَكْفِ برَبِّك -يا مُحمَّدُ- أنَّه شاهِدٌ على كُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك شَهادتُه أنَّ القُرآنَ حَقٌّ نَزَل مِن عِندِه تعالى على رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟
كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 79].
وقال سُبحانَه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] .
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54).
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ.
أي: ألَا إنَّ الكافِرينَ بالقُرآنِ في شَكٍّ مِن وُقوعِ البَعثِ بعدَ الموتِ؛ ولذلك لا يَرجُونَ في الآخِرةِ ثَوابًا، ولا يَخافونَ فيها عِقابًا .
كما قال تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: 55] .
أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.
أي: ألَا إنَّ اللهَ مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا وقُدرةً وغَيرَ ذلك .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فيَنبغي للإنسانِ أنْ يَتفكَّرَ في آياتِ اللهِ تعالى في الآفاقِ وفي نَفْسِه؛ لأنَّ ذلك طريقٌ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ له الحقُّ، فأنت كلَّما ازدَدْتَ تأمُّلًا وتدبُّرًا لآياتِ اللهِ الآفاقيَّةِ والآياتِ الَّتي في نفْسِك؛ فإنَّك لا شكَّ تَزدادُ إيمانًا، ويَتَبَيَّنُ لك صِدْقُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
2- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يُؤخَذُ منه الحذرُ مِن المخالَفةِ، فإذا عَلِم العبدُ أنَّ اللهَ شهيدٌ على كلِّ شَيءٍ -على نَفْسِه؛ أفعالِه؛ أقوالِه؛ كلِّ تصرُّفاتِه- وأنَّه شهيدٌ عليه في خَلَواتِه؛ في وَحدتِه؛ في جلوسِه مع أهلِه؛ في جلوسِه مع صَحْبِه؛ فإنَّه سوف يُراقِبُ اللهَ عزَّ وجلَّ، وهذا هو معنى قولِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أنْ تَعْبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه؛ فإنْ لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراك)) ، ومَن لم يَتَّعِظْ بمِثْلِ هذه الآيةِ فإنَّه لن يَتَّعِظَ .
3- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيه أعظَمُ بِشارةٍ بتَمامِ أمرِ الدِّينِ، وظُهورِه على المُعتَدينَ؛ وذلك لأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَجِدُ في نَفْسِه أنَّه إذا أراد ثُبوتَ حَقٍّ يُنكِرُه مَن هو عليه، ولصاحِبِ الحَقِّ مِنَ الشُّهودِ ما يَتحَقَّقُ قَولُهم فيه، ووُصولُه بهم إليه: أنَّه يَكونُ مُطمَئِنًّا لا يَنزعِجُ بالجَحدِ؛ عِلمًا منه بأنَّ حَقَّه لا بُدَّ أن يَظهَرَ، ويُخزَى مُعانِدُه ويُقهَرَ، وفي هذا تأديبٌ لكُلِّ مَن كان على حَقٍّ ولا يَجِدُ مَن يُساعِدُه على ظُهورِه؛ فإنَّ اللهَ شاهِدُه، فلا بدَّ أن يَظهَرَ أمْرُه؛ فتوكَّلْ على اللهِ إنَّك على الحَقِّ المُبينِ .
4- في قَولِه تعالى: أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ تحقيقُ مراقبةِ اللهِ؛ لأنَّك إذا آمنتَ أنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ محيطٌ؛ فسوف تُرَاقِبُه مراقبةً تامَّةً، بحيثُ لا يَفْقِدُك حيثُ أمَرَك، ولا يَرَاك حيثُ نَهاك .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ؛ وَجهُ ذلك: أنَّ القُرآنَ وَصفٌ لأنَّه كَلامٌ، والوَصفُ لا بُدَّ أنْ يقومَ بمَوصوفٍ، وإذا كان مِن عندِ اللهِ لَزِمَ أنْ يكونَ الموصوفُ به هو اللهَ عزَّ وجلَّ، ثمَّ زيادةً على ذلك فوَجهُ الدَّلالةِ: كونُه مِن عندِ اللهِ، وأنَّ الكَلامَ صِفةٌ وليس عَينًا قائِمةً بنَفْسِها حتَّى نَقولَ: إنَّه مَخلوقٌ كما في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف: 206] .
2- في قَولِه تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أنَّه لا بُدَّ أنْ يُرِيَ اللهُ سُبحانَه أهلَ كلِّ قَرنٍ مِن الآياتِ ما يُبَيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، وأنَّ رُسُلَه صادِقونَ .
3- أنَّ القرآنَ قد نَبَّهَ على الطُّرُقِ الاعتباريَّةِ الَّتي بها يُستدَلُّ على مِثلِ ما في القرآنِ؛ كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، فأخْبَر أنَّه يُري عِبادَه مِن الآياتِ المشهودةِ العِيانيَّةِ في الآفاقِ وفي أنفُسِهم -الَّتي هي أدلَّةٌ عقليَّةٌ- ما يَتَبَيَّنُ به أنَّ آياتِه السَّمعيَّةَ القُرآنيَّةَ حَقٌّ وصِدقٌ؛ فآياتُ الرَّبِّ تعالى العِيانيَّةُ الأُفُقيَّةُ والنَّفْسيَّةُ مُستَلْزِمةٌ لإثباتِ الأدِلَّةِ السَّمعيَّةِ .
4- قَولُ الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فيه طَرَفٌ مِن الإعجازِ بالإخبارِ عن الغَيبِ؛ إذ أخبَرَ بالوَعدِ بحُصولِ النَّصرِ له تعالى ولدِينِه، وذلك بما يسَّرَ اللهُ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولخُلَفائِه مِن بَعدِه في آفاقِ الدُّنيا والمَشرِقِ والمَغرِبِ عامَّةً، وفي باحةِ العَرَبِ خاصَّةً- مِن الفُتوحِ وثَباتِها وانطِباعِ الأُمَمِ بها ما لم تَتيسَّرْ أمثالُها لأحَدٍ مِن مُلوكِ الأرضِ والقياصِرةِ والأكاسِرةِ، على قِلَّةِ المُسلِمينَ إنْ نُسِبَ عَدَدُهم إلى عَدَدِ الأُمَمِ الَّتي فَتَحوا آفاقَها بنَشرِ دَعوةِ الإسلامِ في أقطارِ الأرضِ، والتَّاريخُ شاهِدٌ بأنَّ ما تَهَيَّأ لِلمُسلِمينَ مِن عَجائِبِ الانتِشارِ والسُّلطانِ على الأُمَمِ أمْرٌ خارِقٌ لِلعادةِ، فيَتبَيَّنُ أنَّ دِينَ الإسلامِ هو الحَقُّ، وأنَّ المُسلِمينَ كُلَّما تَمَسَّكوا بعُرَى الإسلامِ لَقُوا مِن نَصرِ اللهِ أمْرًا عَجيبًا، يَشهَدُ بذلك السَّابِقُ واللَّاحِقُ، وقد تَحَدَّاهمُ اللهُ بذلك في قَولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41] ، ثمَّ قال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: 43] .
5- في قَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِهِمْ أنَّ الإنسانَ ناقصُ العلمِ نقصًا عظيمًا؛ وجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى يُريه آياتِه في نفْسِه، فالإنسانُ غيرُ عالِمٍ بنَفْسِه إلَّا إذا عَلَّمه اللهُ، ولذلك النَّفْسُ الَّتي هي مادَّةُ الحياةِ لا نَعْرِفُها ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ مُتَّصِلٌ بقَولِه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ [فصلت: 41] ، إلى قَولِه: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [فصلت: 45] ؛ فهذا انتِقالٌ إلى المُجادَلِة في شَأنِ القُرآنِ رَجَع به إلى الغَرَضِ الأصليِّ مِن هذه السُّورةِ، وهو بَيانُ حَقِّيَّةِ القُرآنِ وصِدقِه وصِدقِ مَن جاءَ به، وهذا استِدعاءٌ لِيُعمِلوا النَّظَرَ في دَلائِلِ صِدقِ القُرآنِ، مِثلَ إعجازِه وانتِساقِه، وتَأييدِ بَعضِه بَعضًا، وكَونِه مُؤَيِّدًا لِلكُتُبِ قَبْلَه، وكَونِ تلك الكُتُبِ مُؤَيِّدةً له، والمَعنى: ما أنتم عليه مِن إنكارِ صِدقِ القُرآنِ ليس صادِرًا عن نَظَرٍ وتَمحيصٍ يُحَصِّلُ اليَقينَ، وإنَّما جازَفتُم به قبْلَ النَّظَرِ، فلو تَأمَّلتُم لاحتَمَلَ أنْ يُنتِجَ لكمُ التَّأمُّلُ أنَّه مِن عِندِ اللهِ، وألَّا يَكونَ مِن عِندِه، فإذا فُرِضَ الاحتِمالُ الأوَّلُ فقد أقحَمتُم أنفُسَكم في شِقاقٍ قَويٍّ. وهذا مِنَ الكَلامِ المُنصِفِ، واقتُصِرَ فيه على ذِكرِ الحالةِ المُنطَبِقةِ على صِفاتِهم؛ تَعريضًا بأنَّ ذلك هو الطَّرَفُ الرَّاجِحُ في هذا الإجمالِ، كَأنَّه يَقولُ: كما أنَّكم قَضَيتُم بأنَّه ليس مِن عِندِ اللهِ، وليس ذلك مَعلومًا بالضَّرورةِ، فكَذلك كَونُه مِن عِندِ اللهِ، فتَعالَوْا فتَأمَّلوا في الدَّلائِلِ، فهُمْ لَمَّا أنكَروا أنْ يَكونَ مِن عِندِ اللهِ، وصَدُّوا أنْفُسَهم وعامَّتَهم عن الاستِماعِ إليه والتَّدَبُّرِ فيه؛ فقد أعمَلوا شَهواتِ أنْفُسِهم، وأهمَلوا الأخْذَ بالحَيطةِ لهم أنْ يَتدَبَّروه؛ حتَّى يَكونوا على بَيِّنةٍ مِن أمْرِهم في شأنِه، وهم إذا تَدَبَّروه لا يَلبَثونَ أنْ يَعلَموا صِدقَه، فاستَدعاهمُ اللهُ إلى النَّظَرِ بطَريقِ تَجويزِ أنْ يَكونَ مِن عِندِ اللهِ؛ فإنَّه إذا جازَ ذلك وكانوا قد كَفَروا به دُونَ تَأمُّلٍ، كانوا قد قَضَوْا على أنْفُسِهم بالضَّلالِ الشَّديدِ، وإذا كانوا كذلك فقد حَقَّتْ عليهم كَلِماتُ الوَعيدِ .
- قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ (إِنْ) الشَّرطيَّةُ شَأنُها أنْ تَدخُلَ على الشَّرطِ المَشكوكِ فيه، وهي هنا لإبرازِ الأمْرِ في صُورةِ الاحتِمالِ، أيْ: قُلْ: أرَأيتُم إن كان القُرآنُ مِن عِندِ اللهِ؟ وهو مِن عِندِ اللهِ بلا شَكٍّ، فالإتيانُ بها تَنَزُّلٌ معهم في الخِطابِ، وإرخاءٌ لِلعِنانِ معهم؛ لاستِنزالِ طائِرِ إنكارِهم، حتَّى يُقبِلوا على التَّأمُّلِ في دَلائِلِ صِدقِ القُرآنِ .
- ويُشبِهُ أنْ يَكونَ المَقصودُ بهذا الخِطابِ والتَّشكيكِ أوَّلًا دَهماءَ المُشرِكينَ الَّذين لم يَنظُروا في دَلالةِ القُرآنِ، أو لم يُطيلوا النَّظَرَ، ولم يَبلُغوا به حَدَّ الاستِدلالِ، وأمَّا قادَتُهم وكُبَراؤُهم وأهلُ العُقولِ منهم، فهمْ يَعلَمونَ أنَّه مِن عِندِ اللهِ، ولكِنَّهم غَلَبَ عليهم حُبُّ الرِّئاسةِ، على أنَّهم مُتَفاوِتونَ في هذا العِلْمِ إلى أنْ يَبلُغَ بَعضُهم إلى حَدٍّ قَريبٍ مِن حالةِ الدَّهماءِ، ولكِنَّ القُرآنَ ألقَى بيْنَهم هذا التَّشكيكَ؛ تَغليبًا ومُراعاةً لِاختِلافِ دَرَجاتِ المُعانِدينَ، ومُجاراةً لهم في ادِّعائِهم أنَّهم لم يَهتَدوا، نَظَرًا لِقَولِهم: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] .
- و(ثمَّ) في قولِه: ثُمَّ كَفَرْتُمْ للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لِأنَّ الكُفرَ بما هو مِن عِندِ اللهِ أمْرُه أخطَرُ مِن كَونِ القُرآنِ مِن عِندِ اللهِ . وقيل: دلَّتْ «ثُمَّ» -وهي للتَّرتيبِ والتَّراخي- على أنَّ كُفْرَهم كان بعدَ أنْ تَبَيَّنَ الأمرُ، ممَّا يدُلُّ على أنَّ الكفرَ بعدَ التَّبَيُّنِ أشَدُّ قُبْحًا مِن الكفرِ مع الجهلِ .
- وفي قولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ... فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَه هنا بحَرفِ ثُمَّ، وقالَه في سُورةِ (الأحقافِ): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [الأحقاف: 10] بالواوِ؛ لِأنَّ مَعناها هنا: كان عاقبةُ أمْرِكم بَعدَ الإمهالِ لِلنَّظَرِ والتَّدَبُّرِ الكُفرَ؛ فناسَبَ ذِكرُ ثُمَّ الدَّالَّةِ على التَّرتيبِ، وفي (الأحقافِ) لم يُنظَرْ إلى تَرتيبِ كُفرِهم على ما ذُكِرَ، بل عُطِفَ على وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ [الأحقاف: 10] بالواوِ، فناسَبَ ذِكرُها؛ لِدَلالَتِها على مُطلَقِ الجَمعِ .
- و(مَن) الأُولى في قولِه: مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ لِلاستِفهامِ، وهو مُستَعمَلٌ في مَعنى النَّفيِ، أيْ: لا أضَلُّ مِمَّن هو في شِقاقٍ بَعيدٍ إذا تَحَقَّقَ الشَّرطُ. و(مَن) الثَّانيةُ مَوصولةٌ، وماصَدَقَها المُخاطَبونَ بقَولِه: كَفَرْتُمْ بِهِ؛ فعَدَلَ عن الإضمارِ فلم يَقُلْ: (مَنْ أَضَلُّ مِنكم) إلى طَريقِ المَوصولِ مِمَّنْ؛ بَيانًا وشَرحًا لِحالِهم وصِفَتِهم، ولِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن تَعليلٍ؛ لِمَزيدِ ضَلالِهم، وأنَّهم أضَلُّ الضَّالِّينَ بكَونِهم شَديدي الشِّقاقِ، وذلك كِنايةٌ عن كَونِهم أشَدَّ الخَلقِ عُقوبةً؛ لِمَا هو مَعلومٌ مِن أنَّ الضَّلالَ سَبَبٌ لِلخُسرانِ .
- قولُه: مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ فيه وُقوعُ الاستِفهامِ مَوقعَ النَّفيِ، وفائدتُه: أنَّه إذا كان بصِيغةِ الاستفهامِ كان مُشْرَبًا بالتَّحدِّي؛ فقولُه: مَنْ أَضَلُّ أبلَغُ مِن قولِه: (لا أَضَلُّ)؛ ففيه بَيانُ بلاغةِ القرآنِ التَّامَّةِ؛ حيثُ يَختارُ في كِلِّ تَركيبٍ ما يُنَاسِبُ الحالَ .
- وأيضًا قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ مِن الاحتباكِ ، حيثُ ذُكِرَ الكُفرُ أوَّلًا دليلًا على الإيمانِ ثانيًا، وذُكِرَ الضَّلالُ ثانيًا دَليلًا على الهُدى أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّ ذِكرَ المَضارِّ أصْدَعُ للقلْبِ؛ فهو أنفَعُ في الوعْظِ .
2- قولُه تعالَى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَعَدَ اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على سَبيلِ التَّسليةِ والبِشارةِ بأنَّ اللهَ سَيَغمُرُ المُشرِكينَ بطائِفةٍ مِن آياتِه ما يَتبَيَّنونَ به أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ حَقًّا؛ فلا يَسَعُهم إلَّا الإيمانُ به، وفي هذا الوَعدِ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَعريضٌ بهم؛ إذْ يَسمَعونَه، على طَريقةِ: فاسمَعي يا جارةُ؛ فمَوقِعُ هذه الجُملةِ بصَريحِها وتَعريضِها مِنَ الجُملةِ الَّتي قَبْلَها مَوقِعُ التَّعليلِ لِأمْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَقولَ لهم ما أُمِرَ به، والتَّعليلُ راجِعٌ إلى إحالَتِهم على تَشكيكِهم في مَوقِفِهم لِلطَّعنِ في القُرآنِ .
- وعَطفُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قيل: يَجوزُ أنْ يَكونَ مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ، أيْ: وفي أُفْقِ أنْفُسِهم، أيْ: مَكَّةَ وما حَوْلَها، على حَذفِ مُضافٍ .
- وقد سُكِتَ عمَّا يَترَتَّبُ على ظُهورِ الآياتِ في الآفاقِ وفي أنْفُسِهم، المُبَيِّنةِ أنَّ القُرآنَ حَقٌّ؛ لِأنَّ ما قَبْلَه مِن قَولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] يُنبِئُ عن تَقديرِه، أيْ: لا يَسَعُهم إلَّا الإيمانُ بأنَّه حَقٌّ، فمَن كانَ منهم شاكًّا مِن قَبْلُ عن قِلَّةِ تَبَصُّرٍ، حَصَل له العِلْمُ بَعدَ ذلك، ومَن كانَ إنَّما يَكفُرُ عِنادًا واحتِفاظًا بالسِّيادةِ، افتَضَحَ بُهتانُه، وسَفَّهَه جِيرانُه، وكِلاهما قد فَوَّتَ بتَأخيرِ الإيمانِ خَيرًا عَظيمًا مِن خَيرِ الآخِرةِ بما أضاعَه مِن تَزَوُّدِ ثَوابٍ في مُدَّةِ كُفرِه، ومِن خَيرِ الدُّنيا بما فاتَه مِن شَرَفِ السَّبقِ بالإيمانِ والهِجرةِ، كما قال تَعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10] .
- قولُه: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ استِئنافٌ وارِدٌ لِتَوبيخِهم على تَرَدُّدِهم في شَأنِ القُرآنِ، وعِنادِهم المُحوِجِ إلى إراءةِ الآياتِ، وعَدَمِ اكتِفائِهم بإخبارِه تعالَى .
- والهمزةُ في أَوَلَمْ للإنكارِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: ألمْ يُغْنِ ولم يَكْفِ ربُّك. والباءُ في بِرَبِّكَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ .
- وقيل: إنَّ قولَه: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ عطْفٌ على إعلامِ الرَّسولِ بما سَيَظهَرُ مِن دَلائلِ صِدقِ القُرآنِ وصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ زِيادةً لِتَثبيتِ الرَّسولِ، وشَرحِ صَدرِه بأنَّ اللهَ تَكَفَّلَ له بظُهورِ دِينِه، ووُضوحِ صِدقِه في سائِرِ أقطارِ الأرضِ، على طَريقةِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّوبيخيِّ التَّقريريِّ؛ تَحقيقًا لِتَيَقُّنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَفالةِ رَبِّه، بحيث كانت مِمَّا يُقَرَّرُ عليها كِنايةً عن اليَقينِ بها؛ فالاستِفهامُ تَقريريٌّ. وهنالك وَجهٌ آخَرُ: أنْ يَكونَ مَساقُها مَساقَ تَلقينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَستَشهِدَ باللهِ على أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ؛ فيَكونَ مَوقِعُها مَوقِعَ القَسَمِ بإشهادِ اللهِ، وهو قَسَمٌ غَليظٌ فيه مَعنى نِسبةِ المُقسَمِ عليه إلى أنَّه مِمَّا يَشهَدُ اللهُ به؛ فيَكونَ الاستِفهامُ إنكاريًّا إنكارًا لِعَدَمِ الاكتِفاءِ بالقَسَمِ باللهِ، وهو كِنايةٌ عن القَسَمِ، وعن عَدَمِ تَصديقِهم بالقَسَمِ، وليس مَعنى الآيةِ إنكارًا على المُشرِكينَ أنَّهم لم يَكتَفوا بشَهادةِ اللهِ على صِدقِ القُرآنِ ولا على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِأنَّهم غَيرُ مُعتَرِفينَ بأنَّ اللهَ شَهِدَ بذلك، فلا يَظهَرُ تَوَجُّهُ الإنكارِ إليهم .
- قولُه: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ دَلَّ هذا اللَّفظُ المُوجَزُ على مَعانٍ مَبسوطةٍ، وذلك مِن مُقتَضى المَقامِ، والعُدولِ مِنَ الظَّاهِرِ؛ فإنَّ أصْلَ المَعنى: سَنُريهم هذه الآياتِ إظهارًا لِلحَقِّ، وكَفى به دَليلًا على ذلك، وإنَّما أدخَلَ هَمزةَ التَّقريرِ على جُملةِ أَوَلَمْ يَكْفِ لِمَزيدِ تَقريرِ حُصولِ المَوعودِ، وأنَّ هذه الآياتِ كافيةٌ في المَطلوبِ، لا مَزيدَ عليها. ووُضِعَ المُظهَرُ في قَولِه: بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مَوضِعَ ضَميرِ الآياتِ؛ لِلإشعارِ بالعِلِّيَّةِ، وأنَّ هذه الآياتِ إنَّما صَلَحَتْ لِلدَّليلِ على حَقِّيَّةِ المَطلوبِ؛ لِأنَّ مُنشِئَها مَن هو على كُلِّ شَيءٍ مُهَيمِنٌ مُطَّلِعٌ، وأُبدِلَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مِن بِرَبِّكَ؛ بَيانًا وتَفسيرًا وإيذانًا بأنَّ هذا الوَصفَ مُتَعَيَّنٌ له، وشاهِدٌ بأنَّ الرَّبَّ هو الَّذي يَكونُ على كُلِّ شَيءٍ شَهيدًا. وأمَّا اختِصاصُ الضَّميرِ في أَنَّهُ الْحَقُّ بالقُرآنِ، فمِن حيثُ المَقامُ؛ لِأنَّ هذه السُّورةَ الكَريمةَ نازِلةٌ في بَيانِ عَظَمةِ القُرآنِ المَجيدِ، والرَّدِّ على مُنكِريه ومُعانِديه، فكُلُّ ما جُعِل ذِكرُه مَشروعًا لِمَعنًى أتَى بما يُناسِبُه مِنَ المَعاني، فكان قَولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: 52] كَلامًا على سَبيلِ إرخاءِ العِنانِ كالخاتِمةِ لِهذه المَعاني؛ فجِيءَ بقَولِه: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ ... الآيةَ مُسَلِّيًا لِحَبيبِه صَلَواتُ اللهِ عليه، ووَعدًا لِإظهارِ كَلِمَتِه، وقَهرِ أعدائِه، وسُلِكَ فيه مَسلَكُ الدَّليلِ والبُرهانِ؛ لِيَظهَرَ لِلمُوافِقِ والمُخالِفِ حَقِّيَّتُه، وأُدمِجَ في الكَلامِ مَعنى الإخبارِ بالغَيبِ بذِكرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؛ لِيَكونَ كالشَّاهِدِ على أنَّها بنَفْسِها آيةٌ مُستَقِلَّةٌ مِن حيثُ إنَّها مُخبِرةٌ عنِ الغَيبِ .
- قولُه: سَنُرِيهِمْ صُدِّرَتْ بالسِّينِ الدَّالَّةِ على التَّحَقُّقِ والقُرْبِ؛ فدلَّ على أنَّ هذه الإراءةَ قريبةٌ مُحَقَّقَةٌ .
3- قولُه تعالَى: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
- قولُه: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ المِريةُ هي الشَّكُّ، وأُطلِقَ الشَّكُّ على جَزمِهم بعَدَمِ وُقوعِ البَعثِ؛ لِأنَّ جَزمَهم خَليٌّ عن الدَّليلِ الَّذي يَقتَضيه؛ فكان إطلاقُ الشَّكِّ عليه تَعريضًا بهم بأنَّ الأَوْلَى بهم أنْ يَكونوا في شَكٍّ على الأقَلِّ .
- وحَرْفُ الظَّرفيَّةِ (في) مُعبَّرٌ به عن تَمكُّنِ الشَّكِّ بهم، حتَّى كأنَّهم مَظْرُوفون فيه، و(مِن) ابتدائيَّةٌ، وتعدَّى بها أفعالُ الشَّكِّ إلى الأمْرِ المَشكوكِ فيه بتَنزيلِ مُتعلَّقِ الفِعلِ مَنزلةَ مَثارِ الفِعلِ، بتَشبيهِ المفعولِ بالمُنشَأِ، كأنَّ الشَّكَّ جاء مِن مكانٍ هو المَشكوكُ فيه. وفي تَعليقِه بذاتِ الشَّيءِ، مع أنَّ الشَّكَّ إنَّما يَتعلَّقُ بالأحكامِ؛ مُبالَغةً على طَريقةِ إسنادِ الأُمورِ إلى الأعيانِ، والمُرادُ أوصافُها؛ فتَقديرُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ: في مِرْيةٍ مِن وُقوعِ لِقاءِ ربِّهم وعَدَمِ وُقوعِه .
- وقولُه: أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ تَذييلانِ لِلسُّورةِ وفَذلَكَتانِ ، افتُتِحا بحَرفِ التَّنبيهِ (ألَا)؛ اهتِمامًا بما تَضَمَّناه، وتَنبيهًا لِلسَّامِعِ على ما يُقالُ؛ فأمَّا التَّذييلُ الأوَّلُ فهو جِماعُ ما تَضَمَّنَتْه السُّورةُ مِن أحوالِ المُشرِكينَ المُعانِدينَ؛ إذْ كانتْ أحوالُهمُ المَذكورةُ فيها ناشِئةً عن إنكارِهمُ البَعثَ، فكانوا في مَأمَنٍ مِنَ التَّفكيرِ فيما بَعدَ هذه الحياةِ؛ فانحَصَرتْ مَساعيهم في تَدبيرِ الحياةِ الدُّنيا، وانكَبُّوا على ما يَعودُ عليهم بالنَّفعِ فيها. وأمَّا التَّذييلُ الثَّاني فهو جامِعٌ لِكُلِّ ما تَضَمَّنَتْه السُّورةُ مِن إبطالٍ لِأقوالِهم، وتَقويمٍ لِاعوِجاجِهم؛ لأنَّ ذلك كُلَّه مِن آثارِ عِلْمِ اللهِ تعالَى بالغَيبِ والشَّهادةِ. وتَأكيدُ الجُملَتَيْنِ بحَرفِ التَّأكيدِ مع أنَّ المُخاطَبَ بهما لا يَشُكُّ في ذلك؛ لِقَصدِ الاهتِمامِ بهما، واستِدعاءِ النَّظَرِ لاستِخراجِ ما تَحويانِه مِنَ المَعاني والجُزئيَّاتِ، وبهاتَيْنِ الفَذلَكَتَيْنِ آذَنَ بانتِهاءِ الكَلامِ؛ فكان مِن بَراعةِ الخِتامِ .