موسوعة التفسير

سُورةُ البَيِّنةِ
الآيات (1-5)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ

غريب الكلمات:

مُنْفَكِّينَ: أي: زائِلينَ عن كُفْرِهم، والانفِكاكُ: الانفِصالُ والبَينونةُ مِنَ الشَّيءِ بَعْدَ الملابَسةِ والاجتِماعِ، وأصلُ (فكك): يدُلُّ على تفتُّحٍ وانفِراجٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 535)، ((تفسير ابن جرير)) (24/551)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/433)، ((البسيط)) للواحدي (24/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 643)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 462). .
الْبَيِّنَةُ: أي: محمَّدٌ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والبَيِّنةُ: الحُجَّةُ الظَّاهِرةُ الَّتي يَتمَيَّزُ بها الحَقُّ مِنَ الباطِلِ، وأصلُ (بين): يدُلُّ على انكِشافِ الشَّيءِ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/551)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 454)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/327)، ((البسيط)) للواحدي (24/207)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 462)، ((تفسير القرطبي)) (20/142). .
قَيِّمَةٌ: أي: مُستَقيمةٌ صادِقةٌ عادِلةٌ، وأصلُ (قوم): يدُلُّ على انتِصابٍ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 535)، ((تفسير ابن جرير)) (24/555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43، 159)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 462). .
حُنَفَاءَ: أي: مُسلِمينَ مائِلينَ عن العقائِدِ الزَّائِغةِ، جمعُ حَنيفٍ: وهو المائِلُ عن الدِّينِ الباطِلِ إلى الدِّينِ الحَقِّ، المُقبِلُ على الله، المُعرِضُ عمَّا سِواه، وأصلُ الحنَفِ: المَيلُ عن الشَّيءِ بالإقبالِ على آخَرَ، وأصْلُه مَيلٌ في إبهامَيِ القَدمَينِ مِن كلِّ واحدةٍ على صاحِبَتِها، وأصلُ (حنف): يدُلُّ على المَيلِ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 64)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 184)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 245)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/319)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (1/269)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 359، 412). قال ابن فارس: (الحَنَف: اعْوِجاجٌ في الرِّجْلِ إلى داخِلٍ. ورجُلٌ أحنَفُ، أي: مائِلُ الرِّجْلَينِ، وذلك يكونُ بأنْ تَتَدانَى صُدورُ قَدَمَيْه ويَتَباعَدَ عَقِباه. والحَنيفُ: المائِلُ إلى الدِّينِ المستقيمِ). ((مقاييس اللغة)) (2/110). وقيل: الحَنيفُ: المسلمُ المستقيمُ، وذلك بِناءً على قولِ مَن قال: إنَّ الحَنيفَ هو المستقيمُ مِن كلِّ شيءٍ. والحنَفَ: الاستقامةُ، وجعَلوا الرَّجُلَ الَّذي تُقبلُ إحدَى قَدَميه على الأُخرى، إنَّما قِيل له: أحنَفُ، على جهةِ التَّفاؤُلِ، كما قِيل للمَهْلَكةِ مِن البلادِ: المَفازَةُ، بمعنَى الفَوزِ بالنَّجاةِ منها والسَّلامةِ، وكما قِيل لِلَّديغِ: السَّليمُ؛ تَفاؤلًا له بالسَّلامةِ مِن الهلاكِ، وما أشْبَهَ ذلك. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 64)، ((تفسير ابن جرير)) (2/591)، ((تفسير الماوردي)) (2/353)، ((تفسير ابن عطية)) (3/146). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ سُبحانَه هذه السُّورةَ الكريمةَ قائِلًا: لم يكُنِ الكُفَّارُ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى والمُشرِكينَ عَبَدةِ الأصنامِ بتارِكينَ دينَهم مِن قَبلِ أن تأتيَهم علامةٌ واضِحةٌ مِن رَبِّهم تَدُلُّهم على الحَقِّ، وتلك البَيِّنةُ هي رَسولُ اللهِ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرأُ عليهم القُرآنَ المكتوبَ في صُحُفٍ مُنَزَّهةٍ عن كُلِّ سُوءٍ، في تلك الصُّحُفِ كُتُبٌ مُستقيمةٌ.
ثمَّ بيَّن سبحانَه ما كان عليه أهلُ الكتابِ مِن جَحدٍ للحقِّ معَ علمِهم به، فقال: وما تفَرَّق اليَهودُ والنَّصارى في شأنِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بعْدَما بعَثَه اللهُ؛ فكَذَّب به بعضُهم، وآمَنَ بَعضُهم!
ثمَّ بيَّن الله تعالى ما كان يجِبُ عليهم أن يَفْعلوه، فقال: وما أُمِروا إلَّا بعِبادةِ اللهِ وَحْدَه مُخلِصينَ مُسلِمينَ مائِلينَ عن الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، وأُمِروا بإقامةِ الصَّلَواتِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وذلك الَّذي أُمِروا به مِنَ التَّوحيدِ وإقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ: هو دينُ الإسلامِ المُستقيمُ العادِلُ.

تفسير الآيات:

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1).
أي: لم يكُنِ الكُفَّارُ مِنَ اليَهودِ، والنَّصارى، والمُشرِكينَ عَبَدةِ الأوثانِ والأصنامِ: بتارِكينَ لدينِهم مِن قَبلِ أن تأتيَهم علامةٌ واضِحةٌ مِن رَبِّهم تَدُلُّهم على الحَقِّ [11] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((تفسير الزمخشري)) (4/782)، ((تفسير القرطبي)) (20/140)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/186، 187)، ((تفسير السعدي)) (ص: 931)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/471، 472)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 276). ومِنْ للتَّبيينِ. وممَّن اختاره: الكرمانيُّ، والبيضاوي، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1369)، ((تفسير البيضاوي)) (5/328)، ((تفسير أبي السعود)) (1/142)، ((تفسير الألوسي)) (1/349)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/483). وقيل: مِنْ للتَّبعيضِ. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1369). قال ابن جُزَي: (ومعنى مُنْفَكِّينَ: مُنفَصِلينَ، ثمَّ اختُلِف في هذا الانفصالِ على أربعةِ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّ المعنى: لم يَكونوا مُنفصِلينَ عن كُفرِهم حتَّى تأتيَهم البَيِّنةُ؛ لِتَقومَ عليهم الحُجَّةُ. الثَّاني: لم يَكونوا منفصِلينَ عن معرفةِ نُبوَّةِ سيِّدِنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى بعثه اللهُ. الثَّالثُ: اختاره ابنُ عطيَّةَ، وهو: لم يَكونوا منفصلينَ عن نظَرِ الله وقُدرتِه حتَّى يَبعَثَ الله إليهم رسولًا يُقيمُ عليهم الحُجَّةَ. الرَّابعُ: وهو الأظهَرُ عندي، أنَّ المعنى: لم يَكونوا لِيَنفَصِلوا مِن الدُّنيا حتَّى بعث الله لهم سيِّدُنا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم فقامت عليهم الحُجَّةُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/501). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجملةِ -أي: زائلينَ عن كُفرِهم وشِركِهم، ومُفارِقينَ لدينِهم ومُنتَهِينَ عنه ومُنفصِلينَ عن ضَلالِهم-: الزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/349)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/151)، ((تفسير الثعلبي)) (10/260)، ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((تفسير السمعاني)) (6/263)، ((تفسير البغوي)) (5/290)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 782)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/475)، ((تفسير الرسعني)) (8/697)، ((تفسير القرطبي)) (20/140)، ((تفسير الخازن)) (4/454)، ((تفسير العليمي)) (7/411)، ((تفسير الشوكاني)) (5/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 931)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 276). قالوا: وحَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي: حتَّى أتَتْهم، مُستقبَلٌ بمعنى الماضي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((تفسير السمعاني)) (6/263)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/475)، ((تفسير القرطبي)) (20/140). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أي: مُفتَرِقِينَ في أمرِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم-: ابنُ جرير، والنَّحَّاسُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/552)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/168). قال النَّحَّاس: (لم يكُنِ الكفَّارُ متفرِّقينَ إلَّا مِن بَعدِ أن جاءهم الرَّسولُ؛ لأنَّهم فارَقوا ما عِندَهم مِن صفةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكفَروا بعدَ البَيانِ. وهذا القولُ في العربيَّةِ أَوْلى؛ لأنَّ مُنْفَكِّينَ لو كان بمعنى زائلينَ لَاحتاج إلى خبَرٍ، ولكن يكونُ مِن انفَكَّ الشَّيءُ مِن الشَّيءِ، أي: فارَقه). ((إعراب القرآن)) (5/168). ونحو ذلك قولُ أبي السعود: (مُنْفَكِّينَ: أي: عمَّا كانوا عليه مِن الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ، والعزمِ على إنجازِه). ((تفسير أبي السعود)) (9/184). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/782) وممَّن اختار القولَ الثَّالثَ: ابنُ عطيَّةَ، وابنُ تيميَّةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/507)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/494). قال ابن تيميَّةَ عن هذا القولِ: (هو أصَحُّ الأقوالِ لفظًا ومعنًى؛ أمَّا مِن جهةِ اللَّفظِ ودَلالتِه وبيانِه فإنَّ هذا اللَّفظَ هو مُستعمَلٌ فيما يُلزَمُ به الإنسانُ بغيرِ اختياره، ويُقهَرُ عليه إذا تخلَّصَ منه، فقولُه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي: لم يَكونوا مَتروكينَ باختيارِ أنفُسِهم يَفعلونَ ما يَهْوونَه لا حَجْرَ عليهم، كما أنَّ المُنفَكَّ لا حَجْرَ عليه. وهو لم يقُلْ: «مَفْكُوكينَ»، بل قال: مُنْفَكِّينَ، وهذا أحسَنُ؛ فإنَّه نفيٌ لِفِعْلِهم، ولو قال «مَفكوكينَ» كان التَّقديرُ: لم يَكونوا مُسَيَّبينَ مُخَلَّيْنَ، فهو نفْيٌ لفِعلِ غيرِهم. والمقصودُ أنَّهم لم يَكونوا مَتروكينَ لا يُؤْمَرونَ ولا يُنْهَوْنَ ولا تُرسَلُ إليهم رُسلٌ، بل يَفعلون ما شاؤوا ممَّا تَهواه الأنفُسُ! والمعنى: أنَّ اللهَ ما يُخلِّيهم ولا يَترُكُهم، فهو لا يَفُكُّهم حتَّى يَبعَثَ إليهم رسولًا، وهذا كقولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى، أي: أيَظُنُّ أنَّ هذا يكونُ؟! هذا ما لا يكونُ الْبَتَّةَ، بل لا بُدَّ أن يُؤمَرَ ويُنهَى). ((مجموع الفتاوى)) (16/494، 495). قال الواحديُّ: (وهذه الآيةُ مِن أصعَبِ ما في القرآنِ نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبَّط فيها الكبارُ مِن العُلماءِ، وسلَكوا في تفسيرِها طُرقًا لا تُفضي بهم إلى الصَّوابِ). ((البسيط)) (24/208). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/469). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 133-134] .
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه أجمَلَ البيِّنةَ، ثمَّ فصَّلها فيما بَعْدَها، فقال [12] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/43). :
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2).
أي: وتلك البَيِّنةُ هي رَسولٌ مِنَ اللهِ -وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَقرأُ عليهم القُرآنَ المكتوبَ في صُحُفٍ مُنَزَّهةٍ عن كُلِّ سُوءٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/552)، ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/475)، ((تفسير القرطبي)) (20/142)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/188)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 276، 277). قال ابن كثير: (يعني: محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما يَتلوه مِن القُرآنِ العظيمِ، الَّذي هو مُكتَتَبٌ في الملأِ الأعلى، في صُحُفٍ مُطَهَّرةٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/456). وقال السعدي: (محفوظةٌ عن قِرْبانِ الشَّياطينِ، لا يَمَسُّها إلَّا المطَهَّرونَ؛ لأنَّها في أعلى ما يكونُ مِن الكَلامِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 931). قال الماوَرْدي: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً يعني: القُرآنَ. ويحتَمِلُ ثانيًا: يتعقَّبُ بنُبوَّتِه نُزولَ الصُّحُفِ المطَهَّرةِ على الأنبياءِ قَبْلَه). ((تفسير الماوردي)) (6/316). وقيل: (جائزٌ أن يكونَ قَولُه: يَتْلُو صُحُفًا: القرآنَ وسائِرَ الصُّحُفِ؛ لأنَّ سائِرَ الصُّحُفِ فيه). يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/590). قال السمرقندي: (ويُقالُ: سُمِّيَ القُرآنُ صُحُفًا؛ مِن كثرةِ السُّوَرِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/603). .
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3).
أي: في تلك الصُّحُفِ كُتُبٌ مُستقيمةٌ ليس فيها خَطَأٌ؛ لأنَّها مِن عِندِ اللهِ تعالى [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/552)، ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((تفسير ابن عطية)) (5/507)، ((تفسير القرطبي)) (20/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 931)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 277). قال الماوَرْدي: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: يعني: كُتُبَ اللهِ المستقيمةَ الَّتي جاء القُرآنُ بذِكْرِها، وثبت فيه صِدْقُها. حكاه ابنُ عيسى. الثَّاني: يعني: فُروضَ اللهِ العادِلةَ. قاله السُّدِّيُّ). ((تفسير الماوردي)) (6/316). وقال ابنُ أبي زَمَنِين: (قَيِّمَةٌ أي: مُستَقيمةٌ لا عِوَجَ فيها، يعني: الَّتي جاءَتْ بها الأنبياءُ). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/151). وقال ابنُ عاشور: (معنى كَونِ الكُتُبِ كائِنةً في الصُّحُفِ: أنَّ الصُّحُفَ الَّتي يُكتَبُ فيها القُرآنُ تَشتَمِلُ على القُرآنِ، وهو يَشتَمِلُ على ما تضَمَّنَتْه كُتُبُ الرُّسُلِ السَّابِقينَ مِمَّا هو خالِصٌ مِن التَّحريفِ والباطِلِ، وهذا كما قال تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة: 97] ، وقال: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 18، 19]، فالقُرآنُ زُبدةُ ما في الكُتُبِ الأُولى ومَجمَعُ ثَمَرتِه؛ فأُطلِقَ على ثَمَرةِ الكُتُبِ اسمُ كُتُبٍ... [أو] المرادُ بالكُتُبِ أجزاءُ القُرآنِ أو سُوَرُه، فهي بمَثابةِ الكُتُبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/477). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/590). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الأحكامُ المكتوبةُ فيها، قَيِّمَةٌ أي: عادلةٌ، مُستقيمةٌ، غيرُ ذاتِ عِوَجٍ، تُبيِّنُ الحقَّ مِن الباطِلِ: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، وابن عطية. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1221)، ((تفسير السمعاني)) (6/263)، ((تفسير البغوي)) (5/290)، ((تفسير ابن عطية)) (5/507). قال السمعاني: (والكتابُ يأتي بمعنَى الحُكمِ، والكُتبُ بمعنى الأحكامِ). ((تفسير السمعاني)) (6/263). وقال ابن عطيَّة: (فيه حذفُ مُضافٍ، تقديرُه: فيها أحكامُ كُتبٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/507). قال السعدي: (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: أخبارٌ صادِقةٌ، وأوامِرُ عادِلةٌ تَهدي إلى الحَقِّ وإلى صِراطٍ مُستقيمٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 931). وقال مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ: (إنَّما سُمِّيَت كُتُبٌ؛ لأنَّ فيها أمورًا شَتَّى كثيرةً مِمَّا ذَكَر اللهُ -عزَّ وجَلَّ- في القرآنِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/780). .
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4).
أي: وما تفَرَّق اليَهودُ والنَّصارى في شأنِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَذَّبوا به إلَّا بعْدَما بعَثَه اللهُ، فتفَرَّقوا فيه؛ فكَذَّب به بعضُهم، وآمَنَ بَعضُهم، وقد كانوا قبْلَ مَبعَثِه مُتَّفِقينَ على نُبوَّتِه وتَصديقِه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/553)، ((الوسيط)) للواحدي (4/539)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/513)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 931)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 278). !
قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5).
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
أي: وما أَمَر اللهُ اليَهودَ والنَّصارى إلَّا بعِبادتِه مُفْرِدينَ له الطَّاعةَ، لا يُشارِكونَ في عبادَتِه معَه غيرَه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/553)، ((تفسير القرطبي)) (20/144)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 931)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/480). .
كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11] .
حُنَفَاءَ.
أي: مائِلينَ ومُعرِضينَ عن الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، مُستَقيمينَ على دينِ الإسلامِ [17] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/144)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((تفسير الألوسي)) (15/429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932). .
قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 161 - 163] .
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر أصْلَ الدِّينِ أتْبَعَه الفُروعَ؛ فبدأ بأعظَمِها الَّذي هو مَجمَعُ الدِّينِ، ومَوضِعُ التَّجَرُّدِ عن العَوائِقِ، فقال [18] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/195). :
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ.
أي: وأُمِروا بإقامةِ الصَّلواتِ بحُدودِها وشُروطِها وأركانِها في أوقاتِها [19] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/540)، ((تفسير القرطبي)) (20/144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/195). .
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى صِلةَ الخالِقِ؛ أتْبَعَها صِلةَ الخلائِقِ، بقَولِه تعالى [20] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/571). :
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ.
أي: وأُمِروا بإيتاءِ الزَّكاةِ إلى أهلِها المُستَحقِّينَ لها [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/554)، ((الوسيط)) للواحدي (4/540)، ((تفسير القرطبي)) (20/144)، ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/195). .
وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
أي: وذلك الَّذي أُمِروا به مِنَ التَّوحيدِ وإقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ: هو دينُ الإسلامِ المُستقيمُ العادِلُ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/554)، ((تفسير القرطبي)) (20/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 932)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/481). .
قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 30-31] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فيه تنبيهٌ على ما يجِبُ مِن تحصيلِ الإخلاصِ مِن ابتداءِ الفِعْلِ إلى انتِهائِه [23] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/243). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ تحريمُ الرِّياءِ [24] يُنظر: ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 457)، ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/338). ، وأنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يُخْلِصَ النِّيَّةَ للهِ سُبحانَه وتعالى في جميعِ عباداتِه، وألَّا يَنوِيَ بعباداتِه إلَّا وَجْهَ اللهِ تعالى، والدَّارَ الآخِرةَ [25] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/14). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ فيه أنَّ الكَمالَ في كُلِّ شَيءٍ إنَّما يَحصُلُ إذا حَصَل الأصلُ والفَرعُ معًا؛ فقَومٌ أطنَبوا في الأعمالِ مِن غَيرِ إحكامِ الأُصولِ، وهم اليَهودُ والنَّصارى والمجوسُ، فإنَّهم رُبَّما أتعَبوا أنفُسَهم في الطَّاعاتِ، ولكِنَّهم ما حَصَّلوا الدِّينَ الحَقَّ، وقَومٌ حَصَّلوا الأصولَ وأهملوا الفُروعَ، وهم المُرجِئةُ الَّذين قالوا: (لا يَضُرُّ الذَّنبُ مع الإيمانِ)! واللهُ تعالى خطَّأَ الفريقَينِ في هذه الآيةِ، وبيَّنَ أنَّه لا بُدَّ مِن العِلمِ والإخلاصِ، في قَولِه تعالى: مُخْلِصِينَ، ومِنَ العَمَلِ، في قَولِه تعالى: وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، ثمَّ قال تعالى: وَذَلِكَ المجموعُ كُلُّه هو دِينُ الْقَيِّمَةِ، أي: البيِّنةِ المُستقيمةِ المعتَدِلةِ، فكما أنَّ مجموعَ الأعضاءِ بَدَنٌ واحِدٌ، كذا هذا المجموعُ دِينٌ واحِدٌ [26] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/245). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- الشِّركُ المُطلَقُ في القُرآنِ لا يَدخُلُ فيه أهلُ الكِتابِ، وإنَّما يَدخُلونَ في الشِّركِ المُقَيَّدِ؛ قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ؛ فقد جَعَلَ سُبحانَه هنا المُشرِكينَ قِسمًا غيرَ أهلِ الكتابِ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [الحج: 17] فجَعَلَهم قِسمًا غيرَهم، فأمَّا دُخولُهم في المُقَيَّدِ ففي قَولِه تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] ، فوَصَفَهم بأنَّهم مُشرِكونَ، وسببُ هذا أنَّ أصلَ دِينِهم الَّذي أَنْزَلَ اللهُ به الكُتُبَ وأَرسَلَ به الرُّسُلَ ليس فيه شِركٌ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] ، ولكِنَّهم بَدَّلوا وغَيَّروا، فابتدَعوا مِن الشِّركِ ما لَمْ يُنَزِّلْ به اللهُ سُلطانًا؛ فصار فيهم شِرْكٌ باعتبارِ ما ابتدَعوا، لا باعتبارِ أصلِ الدِّينِ [27] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/213). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فيه سُؤالٌ: لِمَ قال: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ولم يقُلْ: (مِنَ اليَهودِ والنَّصارى)؟
الجوابُ: لأنَّ قَولَه: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدُلُّ على كَونِهم عُلَماءَ، وذلك يَقتضي إمَّا مَزيدَ تَعظيمٍ، فلا جرَمَ ذُكِروا بهذا اللَّقَبِ دونَ اليَهودِ والنَّصارى، أو لأنَّ كَونَه عالِمًا يَقتضي مَزيدَ قُبحٍ في كُفْرِه، فذُكِروا بهذا الوَصفِ؛ تنبيهًا على تلك الزِّيادةِ مِن العِقابِ [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/239). .
3- قَولُه تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فَسَّرَ الله تعالى قولَه: الَّذِينَ كَفَرُوا بِـ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبـِ (الْمُشْرِكِينَ)، فهذا يَقتضي كوْنَ الكُلِّ واحِدًا في الكُفرِ، فمِن ذلك قال العُلَماءُ: الكُفرُ كُلُّه مِلَّةٌ واحِدةٌ؛ واستُدِلَّ به على توارُثِ أهلِ الكفرِ فيما بيْنَهم [29] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/239). ويُنظر أيضًا: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/41). وهو مذهبُ الإمامَينِ أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، وروايةٌ عن الإمامِ أحمدَ: أنَّه يَثبُتُ التَّوارُثُ بيْنَهم وإنِ اختلفَتْ مِلَلُهم. وذهب الإمامُ مالكٌ إلى أنَّهم ثلاثُ مِلَلٍ: فاليهودُ مِلَّةٌ، والنَّصارى مِلَّةٌ، ومَن عَداهم مِلَّةٌ. وعندَ الإمامِ أحمدَ في روايةٍ عنه: هم مِلَلٌ شَتَّى. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (2/309). .
4- قولُه تعالى: يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ظاهرُه أنَّ الرَّسولَ يَقرَأُ المَكتوبَ مِن الكِتابِ، مع أنَّه مُنتفٍ في حقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكَونِه أُمِّيًّا، فالمرادُ أنَّه يَتْلو ما في الصُّحفِ عن ظَهرِ قَلبِه [30] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 621). ، ولا يَقرَؤُه من صُحُفٍ، فمعنى يَتْلُو صُحُفًا يَتْلو ما هو مكتوبٌ في صُحُفٍ، والقرينةُ ظاهِرةٌ، وهي اشتِهارُ كَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمِّيًّا [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/477). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ إقامةُ الحُجَّةِ على أهلِ الشَّرائعِ، وذَمُّ تَفَرُّقِهم واختلافِهم، وأنَّ ذلك بعدَ أنْ جاءتهم البَيِّنةُ [32] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/509). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ أنَّ أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ قبْلَ النَّسخِ والتَّبديلِ مُسلِمونَ حُنفاءُ على مِلَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [33] يُنظر: ((تفسير آيات أَشكلت على كثير من العلماء)) لابن تيمية (1/279). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ استُدِلَّ به على وُجوبِ النِّيَّةِ في العِباداتِ؛ لأنَّ الإخلاصَ لا يكونُ بدُونِها [34] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 295). . فالأصلُ المُستقِرُّ في جميعِ العباداتِ المقصودةِ: أنَّها لا تَصِحُّ إلَّا بنِيَّةٍ؛ لهذه الآيةِ [35] يُنظر: ((شرح العمدة لابن تيمية- كتاب الحج)) (2/582). . فالله سُبحانَه لم يأمُرْهم إلَّا بعَمَلٍ هو عبادةٌ قد أخلَصَ عامِلُها النِّيَّةَ فيها لرَبِّه عزَّ وجلَّ، ومَعلومٌ أنَّ النِّيَّةَ جُزءٌ مِن العبادةِ، بل هي رُوحُ العبادةِ؛ فعُلِمَ أنَّ العَمَلَ الَّذي لم يُنْوَ ليس بعِبادةٍ، ولا مأمورٍ به، فلا يكونُ فاعِلُه متقرِّبًا إلى اللهِ تعالى، وهذا ممَّا لا يَقْبَلُ نِزاعًا [36] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/189). .
8- قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ قد استدَلَّ كثيرٌ مِنَ الأئمَّةِ -كالزُّهْريِّ والشَّافِعيِّ وأحمدَ- بهذه الآيةِ الكريمةِ على أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في الإيمانِ [37] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/457)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/48). ، فقد جَعَلَ سُبحانَه عبادةَ اللهِ تعالى، وإخلاصَ القلبِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ؛ كلَّه: مِن الدِّينِ [38] يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) لابن قدامة (ص: 26). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ في هذه الآيةِ رَدٌّ صَريحٌ على أولئك الَّذين يُنادُونَ بدونِ عِلمٍ إلى وَحْدةِ الأديانِ! فهذا النَّصُّ الصَّريحُ بأنَّ ذلك الَّذي جاء به القرآنُ هو دِينُ القَيِّمةِ، وقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، وهي أفعَلُ تفضيلٍ، فلا يمكِنُ أن يُعادَلَ ويُساوى مع غيرِه أبدًا! وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] ، فأخَذَ الله العَهدَ على جميعِ الأنبياءِ لَئِنْ أدركوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيُؤمِنُنَّ به ولَيَنصُرُنَّه وليتَّبِعُنَّه، وقد أخبَرَ الرُّسُلُ أُمَمَهم بذلك؛ فلم يَبْقَ مجالٌ في هذا الوقتِ ولا غيرِه لدعوةِ الجاهِليَّةِ بعُنوانٍ مُجَوَّفٍ (وَحدةُ الأديانِ!)، بل الدِّينُ الإسلاميُّ وَحْدَه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [39] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/48). [آل عمران: 85] .
10- في قَولِه تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أنَّ النَّاسَ لم يُؤمَروا بشَيءٍ يَتعلَّقُ بأُمورِ الدُّنيا، أو بشَيءٍ يُكلِّفُهم، بل هو شيءٌ سَهلٌ عليهم وهو: عِبادةُ اللهِ عزَّ وجلَّ [40] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 88). !
11- التَّعبيرُ بالفِعلِ المُسنَدِ للمَجهولِ أُمِرُوا مُفيدٌ مَعنيَينِ، أي: ما أُمِروا في كِتابِهم إلَّا بما جاء به الإسلامُ، أو المعْنى: وما أُمِروا في الإسلامِ إلَّا بمِثلِ ما أمَرَهُم به كِتابُهم؛ فلا مَعذرةَ لهم في الإعراضِ عن الإسلامِ على كِلا التَّقديرينِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/480). .
12- قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ المَقصودُ إقامةُ الحُجَّةِ على أهلِ الكتابِ وعلى المشرِكين تَبَعًا لهم بأنَّهم أعْرَضوا عمَّا هم يَتطلَّبونه؛ فإنَّهم جَميعًا مُقِرُّون بأنَّ الحَنيفيَّةَ هي الحقُّ، والمشرِكون يَزعُمون أنَّهم يَطلُبون الحَنيفيَّةَ ويَأخُذون بما أدْرَكوه مِن بَقاياها، ويَزعُمون أنَّ اليهوديَّةَ والنَّصرانيَّةَ تَحريفٌ للحَنيفيَّةِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/482). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ هذا الكلامُ مَسوقٌ مَساقَ نقْلِ الأقوالِ المُستغرَبةِ المُضطرِبةِ الدَّالَّةِ على عدَمِ ثَباتِ آراءِ أصْحابِها؛ فهو مِن الحِكايةِ لِما كانوا يَعِدون به، فهو حِكايةٌ بالمعْنى، كأنَّه قِيل: كُنتُم تَقولون: لا نَترُكُ ما نحنُ عليه حتَّى تَأتِيَنا البيِّنةُ، وهذا تَعريضٌ بالتَّوبيخِ بأُسلوبِ الإخبارِ المُستعمَلِ في إنشاءِ التَّعجيبِ أو الشِّكايةِ مِن صَلَفِ المُخبَرِ عنه، وهو استعمالٌ عَزيزٌ بَديعٌ؛ فالخبَرُ مُوجَّهٌ لكلِّ سامعٍ، ومَضمونُه قَولٌ كان صدَرَ مِن أهلِ الكتابِ واشتَهَرَ عنهم وعُرِفوا به، وتَقرَّرَ تَعلُّلُ المشرِكينَ به لأهلِ الكتابِ حينَ يَدْعُونهم إلى اتِّباعِ اليَهوديَّةِ أو النَّصرانيَّةِ، فيَقولون: لمْ يَأتِنا رسولٌ كما أتاكم؛ قال تعالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 156-157] . وتَقرَّر تَعلُّلُ أهلِ الكتابِ به حِينَ يَدْعوهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للإسلامِ؛ قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران: 183] الآيةَ، وشُيوعُه عن الفريقينِ قَرينةٌ على أنَّ المرادَ مِن سِياقِه دَمْغُهم بالحُجَّةِ، وبذلك كان التَّعبيرُ بالمُضارعِ المُستقبَلِ في قولِه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ مُصادفًا المَحَزَّ [43] المَحَزُّ: مَوضِعُ الحَزِّ، أي: القَطعِ. وأصابَ المحَزَّ: عبارةٌ عن فِعلِ الأمرِ على ما يَنبَغي ويَليقُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 71)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 873). ؛ فإنَّهم كانوا يَقولون ذلك قبْلَ مَجيءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحاصلُ المعْنى: أنَّكم كُنتم تَقولون: لا نَترُكُ ما نحنُ عليه مِن الدِّينِ حتَّى تَأتِيَنا البيِّنةُ، أي: العلامةُ الَّتي وُعِدْنا بها، وقد جُعِلَ ذلك تَمهيدًا وتَوطئةً لقولِه بعْدَه: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً إلخ [44] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/471، 472). .
- قولُه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أي: اليهودُ والنَّصارَى، وإيرادُ الصِّلةِ فِعلًا؛ لِما أنَّ كُفْرَهم حادثٌ بعْدَ أنبيائِهم [45] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/184). .
- ومُتعلَّقُ مُنْفَكِّينَ مَحذوفٌ، دلَّ عليه وَصْفُ المُتحدَّثِ عنهم بصِلةِ الَّذِينَ كَفَرُوا، والتَّقديرُ: مُنفكِّين عن كُفْرِهم وتاركينَ له، سواءٌ كان كُفْرُهم إشراكًا باللهِ، مِثل كُفرِ المشركينَ، أو كان كُفْرًا بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/472). .
- والبيِّنةُ: الحُجَّةُ الواضحةُ والعلامةُ على الصِّدقِ، ولعلَّ إيثارَ التَّعبيرِ بها هنا؛ لأنَّها أحسَنُ ما تُترجَمُ به العبارةُ الواقعةُ في كُتبِ أهلِ الكتابِ ممَّا يَحومُ حولَ معْنى الشَّهادةِ الواضحةِ لكلِّ مُتبصِّرٍ، كما وَقَعَ في إنْجيلِ مَتَّى لَفظُ: (شَهادة لجَميعِ الأُمَمِ)، ولعلَّ التزامَ هذه الكلمةِ هنا مرَّتينِ كان لهذه الخُصوصيَّةِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/474). .
- والتَّعريفُ في (البيِّنة) تَعريفُ العهْدِ الذِّهنيِّ، وهو أنْ يُرادَ مَعهودٌ بنَوعِه لا بشَخْصِه، كقَولِهم: ادخُلِ السُّوقَ، لا يُريدون سُوقًا مُعيَّنةً، بلْ ما يُوجَدُ فيه ماهيَّةُ سُوقٍ، فالمعرَّفُ بهذه اللَّامِ هو في المعْنى نَكِرةٌ، فكأنَّه قِيل: حتَّى تَأتِيَهم بيِّنةٌ. ويَجوزُ أنْ يكونَ التَّعريفُ لمَعهودٍ عندَ المخبَرِ عنهم، أي: البيِّنةُ الَّتي هي وَصايا أنْبيائِهم، فهي مَعهودةٌ عندَ كلِّ فَريقٍ منهم وإنِ اختَلَفوا في تَخيُّلِها، وابتَعَدوا في تَوهُّمِها بما تُمْلِيه عليهم تَخيُّلاتُهم واختلاقُهُم [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/474). .
وقيل: التَّعريفُ في قولِه: الْبَيِّنَةُ للتَّفخيمِ، أي: هو البيِّنةُ الَّتي لا مَزيدَ عليها، أو البيِّنةُ كلُّ البيِّنةِ؛ لأنَّ التَّعريفَ قد يكونُ للتَّفخيمِ، وكذا التَّنكيرُ، وقد جمَعَهما اللهُ هاهنا في حقِّ الرَّسولِ عليه السَّلامُ؛ فبَدَأَ بالتَّعريفِ، وهو لفظ الْبَيِّنَةُ، ثمَّ ثنَّى بالتَّنكيرِ فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، أي: هو رَسولٌ، وأيُّ رسولٍ [49] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/240). !
- قيل: إنَّما قدَّمَ أهلَ الكتابِ على المشرِكين هنا في قولِه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ... مع أنَّ كُفرَ المشرِكين أشدُّ مِن كُفْرِ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّ لأهلِ الكتابِ السَّبْقَ في هذا المقامِ؛ فهمُ الَّذين بَثُّوا بيْن المشرِكين شُبهةَ انطباقِ البيِّنةِ الموصوفةِ بيْنَهم، فأيَّدوا المشرِكين في إنكارِ نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما هو أتقَنُ مِن تُرَّهاتِ المشرِكين؛ إذ كان المشرِكون أُمِّيِّينَ لا يَعلَمون شيئًا مِن أحوالِ الرُّسلِ والشَّرائعِ، فلمَّا صَدَمَتْهم الدَّعوةُ المُحمَّديةُ، فَزِعوا إلى اليهودِ ليَتلقَّوا منهم ما يرُدُّون به تلك الدَّعوةَ، وخاصةً بعْدَ ما هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، فالمَقصودُ بالإبطالِ ابتداءً هو دَعْوى أهلِ الكتابِ، وأمَّا المشركون فتَبَعٌ لهم [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/475). .
وقيل: لأنَّ السُّورةَ مَدَنيَّةٌ، فكأنَّ أهلَ الكِتابِ هم المقصودونَ بالذِّكْرِ.
وقيل: لأنَّهم لكَونِهم عُلَماءَ يَقتَدي غيرُهم بهم، فكان كُفرُهم أصلًا لكُفرِ غَيرِهم؛ فلهذا قُدِّموا في الذِّكرِ.
وقيل: لأنَّهم كانوا عُلَماءَ بالكُتُبِ، فكانت قُدرتُهم على معرفةِ صِدقِ محمَّدٍ أتَمَّ، فكان إصرارُهم على الكُفرِ أقبَحَ [51] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/239). . فالعالِمُ لَمَّا كان أَولى باتِّباعِ الحَقِّ، وأشَدَّ جُرمًا عندَ فِعلِ ما يقتَضي اللَّومَ؛ بدأ بقَولِه: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أي: مِنَ اليَهودِ والنَّصارى الَّذين كان أصلُ دينِهم حَقًّا [52] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/186). .
2- قولُه تعالَى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ يَجوزُ أنْ يكونَ الكلامُ انتَهى عندَ قولِه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ؛ فيكونَ الوقفُ هناك، ويكونَ قولُه: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إلى آخِرِها جُملةً مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا، أي: هي رسولٌ مِن اللهِ، يعني: لأنَّ ما في البيِّنةِ مِن الإبهامِ يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ عن صِفةِ هذه البيِّنةِ، وهي جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ إلى آخِرِها، وبيْن جُملةِ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البينة: 4] .
ويجوزُ أنْ يكونَ رَسُولٌ بدَلًا مِن الْبَيِّنَةُ، فيَقْتضي أنْ يكونَ مِن تَمامِ لَفظِ (بيِّنة)؛ فيكونَ مِن حِكايةِ ما زَعَموه، وأُريدَ بذلك إبطالُ مَعاذيرِهم، وإقامةُ الحُجَّةِ عليهم بأنَّ البيِّنةَ الَّتي يَنتظِرونها قد حلَّت، ولكنَّهم لا يَتدبَّرون، أو لا يُنصِفون، أو لا يَفقَهون، قال تعالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89] ، وتَنكيرُ رَسُولٌ للنَّوعيَّةِ المرادِ منها تَيسيرُ ما يُستصعَبُ، وفي هذا التَّبيينِ إبطالٌ لمَعاذيرِهم، كأنَّه قيل: فقدْ جاءتْكم البيِّنةُ، على حدِّ قولِه تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: 19] ، وهو يُفيدُ أنَّ البيِّنةَ هي الرَّسولُ، وذلك مِثلُ قولِه تعالَى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ [الطلاق: 10-11] ، وفي هذا تَذكيرٌ بغَلَطِهم؛ فإنَّ كُتبَهم ما وَعَدَت إلَّا بمَجيءِ رَسولٍ معه شَريعةٌ وكِتابٌ مُصدِّقٌ لِما بيْن يَدَيْه [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/475، 476). .
- قولُه: رَسُولٌ بدَلٌ مِن الْبَيِّنَةُ -على قولٍ- بدَلَ كلٍّ مِن كلٍّ، على سَبيلِ المُبالَغةِ، جُعِلَ الرَّسولُ نفْسَ البيِّنةِ، وعُبِّرَ عنه عليهِ السَّلامُ بالبيِّنةِ؛ للإيذانِ بغايةِ ظُهورِ أمرِه، وكَونِه ذلكَ المَوعودَ في الكتابَينِ، وللإعلامِ بأنَّ ذاتَه كانت بيِّنةً على نُبوَّتِه؛ لأنَّه كان في نِهايةٍ مِن الجِدِّ في تَقريرِ النُّبوَّةِ، وفي غايةٍ مِن الصِّدقِ، وكَمالٍ مِن العقْلِ [54] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32، 239، 240)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/528)، ((تفسير أبي السعود)) (9/184)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/542). .
- ولعلَّ السِّرَّ في جَعْلِه البيِّنةَ تَوطئةً لذِكرِ الرَّسولِ، التَّعريضُ بهم وبقَولِهم: النَّبيُّ الموعودُ الَّذي هو مَكتوبٌ في التَّوراةِ والإنجيلِ، كما وبَّخَهم بقولِه: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [طه: 133] ، ولهذا السِّرِّ أيضًا أُفرِدَ ذِكرُهم عن المشرِكين في قولِه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، كأنَّهم عُيِّروا بالتَّفرُّقِ وهم أهلُ الكتابِ؛ لأنَّ جُحودَ العالِمِ أقبَحُ مِن إنكارِ الغافلِ [55] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/528). .
- قولُه: مِنَ اللَّهِ مُتعلِّقٌ بـ رَسُولٌ، أو بمُضمَرٍ هو صِفةٌ لـ رَسُولٌ مُؤكِّد لِما أفادَه التَّنوينُ مِن الفَخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: رَسولٌ وأيُّ رَسولٍ كائنٌ منْهُ تعالى. ولم يُسلَكْ طَريقُ الإضافةِ؛ ليَتأتَّى تَنوينُ رَسُولٌ، فيُشعِرَ بتَعظيمِ هذا الرَّسولِ [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/184)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/476). .
- وجُملةُ يَتْلُو صُحُفًا ... إلخ صِفةٌ ثانيةٌ، أو حالٌ، وهي إدماجٌ [57] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). بالثَّناءِ على القرآنِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/476). .
- والتِّلاوةُ: إعادةُ الكلامِ دونَ زِيادةٍ عليه ولا نقْصٍ منه، سواءٌ كان كلامًا مَكتوبًا أو مَحفوظًا عن ظَهرِ قلْبٍ، ففِعلُ يَتْلُو مُؤذِنٌ بأنَّه يَقرَأُ عليهم كَلامًا لا تُبدَّلُ ألْفاظُه، وهو الوحْيُ المُنزَّلُ عليه [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/476). .
- والصُّحفُ: الأوراقُ والقَراطيسُ الَّتي تُجعَلُ لأنْ يُكتَبَ فيها، وتكونُ مِن رَقٍّ أو جِلدٍ، أو مِن خِرَقٍ، وتَسميةُ ما يَتْلوه الرَّسولُ صُحفًا باعتِبارِ ما سيَؤولُ إليه؛ لأنَّه مَأمورٌ بكِتابتِه، فهو عندَ تِلاوتِه سيَكونُ صُحفًا، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكِتابةِ القرآنِ في الصُّحفِ وما يُشبِهُ الصُّحفَ مِن أكتافِ الشَّاءِ والخِرَقِ والحِجارةِ، وأنَّ الوحْيَ المُنزَّلَ على الرَّسولِ سُمِّيَ كِتابًا في قولِه تعالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] مِن أجْلِ هذا المعْنى [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/477). .
- ووُصِفَت الصُّحفُ بـ مُطَهَّرَةً، وهو وَصْفٌ مُشتقٌّ مِن الطَّهارةِ، أي: كَونُ مَعانِيه لا لَبْسَ فيها، ولا تَشتمِلُ على ما فيه تَضليلٌ، وهذا تَعريضٌ ببَعضِ ما في أيْدي أهلِ الكتابِ مِن التَّحريفِ والأوهامِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/477). .
- والقَيِّمةُ: المُستقيمةُ، أي: شَديدةُ القيامِ الَّذي هو هنا مُعبَّرٌ به عن الكَمالِ والصَّوابِ، وهذا مِن تَشبيهِ المَعقولِ بالمَحسوسِ تَشبيهًا بالقائمِ لاستِعدادِه للعملِ النافعِ، وضِدُّه العِوَجُ؛ قال تعالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا [الكهف: 1-2] ، أي: لم يَجعَلْ فيه نقْصَ الباطلِ والخطَأِ، فالقيِّمةُ مُبالَغةٌ في القائمِ، مِثلُ السيِّدِ للسائدِ، والميِّتِ للمائتِ، وتَأنيثُ الوصْفِ؛ لاعتبارِ كَونِه وَصْفًا لجمْعٍ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/477، 478). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ كلامٌ مَسوقٌ لغايةِ تَشنيعِ أهلِ الكِتابِ خاصَّةً، وتَغليظِ جِناياتِهم ببَيانِ أنَّ ما نُسِبَ إليهم مِن الانفكاكِ [63] أي: عمَّا كانوا عليه مِن الوعدِ باتباعِ الحقِّ، والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/184). لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ، بلْ كان بعْدَ وُضوحِ الحقِّ، وتَبيُّنِ الحالِ، وانقطاعِ الأعذار بالكُلِّيَّةِ، وهو السِّرُّ في وصْفِهم بإيتاءِ الكتابِ المُنبِئِ عن كَمالِ تَمكُّنِهم مِن مُطالَعتِه والإحاطةِ بما فِي تَضاعيفِه مِن الأحكامِ والأخبارِ، الَّتي مِن جُملتِها نُعوتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ ذِكْرِهم فيما سبَقَ بما هُو جارٍ مَجْرى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ [64] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/185). .
- وهو ارتقاءٌ في الإبطالِ، وهو إبطالٌ ثانٍ لدَعْواهم بطَريقِ النَّقضِ الجَدَليِّ المُسمَّى بالمُعارَضةِ، وهو تَسليمُ الدَّليلِ، والاستدلالُ لِما يُنافي ثُبوتَ المَدلولِ [65] ذكر أبو الوليدِ الباجي أنَّ معنى المُعارَضةِ: (أن يَستدِلَّ المُستَدِلُّ بدَليلٍ، فيُسَلِّمَ السَّائلُ صِحَّتَه، ويُعارِضَه بدليلٍ مِثْلِه أو أقوى منه)، ثمَّ ذكر أنَّه إذا (عارَضه بمِثلِ دليلِه أو بما هو أقوى منه، فلا حُجَّةَ للمُستدِلِّ؛ لأنَّ للسَّائلِ أن يقولَ له: إذا تساوى الدَّليلانِ فلِمَ تَعلَّقْتَ بالدَّليلِ الَّذي استَدلَلْتَ به دونَ ما يُخالِفُه مِن الدَّليلِ الَّذي عارَضْتُك به، ويلزمُ المُستدِلَّ ترجيحُ دليلِه على دليلِ السَّائلِ، وإلَّا كان مُنقَطِعًا). ((الحدود في الأصول)) (ص: 126). ، وهذا إبطالٌ خاصٌّ بأهْلِ الكتابِ اليهودِ والنَّصارى؛ ولذلك أظْهَرَ فاعلَ تَفَرَّقَ ولم يَقُلْ: (وما تَفرَّقوا إلَّا مِن بعْدِ ما جاءتْهم البيِّنةُ)؛ إذ لو أُضمِرَ لتُوهِّمَتْ إرادةُ المشركين مِن جُملةِ معادِ الضَّميرِ، فيَجوزُ أنْ تكونَ الواوُ للعطْفِ عاطفةً إبطالًا على إبطالٍ، ويَجوزُ أنْ تكونَ واوَ الحالِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/478). .
- وجُمِعَ بيْن أهلِ الكتابِ والمشركينَ أوَّلًا، ثمَّ أُفرِدَ أهلُ الكِتابِ في قولِه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؛ للدَّلالةِ على شَناعةِ حالِهِم؛ لأنَّهم كانوا على عِلمٍ به؛ لوُجودِه في كُتبِهم، وعِلمِهم بنُبوَّتِه، وأنَّهم لَمَّا تَفرَّقوا مع عِلمِهم كان غيرُهم ممَّن لا كِتابَ له أدخَلَ في هذا الوصْفِ وأَولى [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/782)، ((تفسير البيضاوي)) (5/328). . أو لأنَّ المُشرِكينَ لم يُقَرُّوا على دينِهم، فمَنْ آمَنَ فهو المرادُ، ومَن لم يؤمِنْ قُتِلَ، بخِلافِ أهلِ الكِتابِ الَّذين يُقَرُّونَ على كُفْرِهم ببَذْلِ الجِزيةِ [68] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/241). . وقيل غيرُ ذلك [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/482). .
4- قولُه تعالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
- قولُه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ جُملةٌ حاليَّةٌ مَسوقةٌ لبَيانِ قُبْحِ ما فَعَلوا واسْتِسماجِه، وهو التَّفرُّقُ بعْدَ مَجيءِ البيِّنةِ الَّتي يجِبُ أنْ يَصدَعَ بها كلُّ مَن له مُسْكةٌ -أي: بقيَّةٌ- مِن عقْلٍ [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/185)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/543). .
- وهذا إبطالٌ ثالثٌ لتَنصُّلِهم مِن مُتابَعةِ الإسلامِ بعِلَّةِ أنَّهم لا يَترُكون ما همْ عليه حتَّى تَأتِيَهم البيِّنةُ، وزَعْمِهم أنَّ البيِّنةَ لم تَأتِهم، وهو إبطالٌ بطَريقِ القولِ بالمُوجَبِ [71] القولُ بالموجَبِ في اصطلاحِ الأصوليِّينَ: هو تسليمُ ما جعَله المُستَدِلُّ موجِبًا لعِلَّتِه مع استبقاءِ الخِلافِ، ومعنى ذلك: أن يسلِّمَ الخَصمُ الدَّليلَ الَّذى استدلَّ به المستدِلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدَّليلُ ليس فى محلِّ النزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخلافُ بيْنَهما. ومنه قولُه تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] ؛ فقد قال رأسُ النِّفاقِ ابنُ سَلولَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مِن غزوةِ بني المُصْطَلِقِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ -يَقصِدُ نفْسَه- مِنْهَا الْأَذَلَّ يعني: محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه؛ فأجابه الله تبارك وتعالى بمُوجَبِ قولِه مع عدمِ تسليمِه له، فقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؛ فإنه لَمَّا ذكر صِفةً -وهي العزَّةُ- وأثبَت لها حُكمًا -وهو الإخراجُ مِن المدينةِ-، ردَّ عليه ربُّ العِزَّةِ تبارك وتعالى بأنَّ هذه الصِّفةَ ثابتةٌ لكن لا لِمَن أراد ثُبوتَها له؛ فإنَّها ثابتةٌ لغيرِه، باقيةٌ على اقتضائِها للحُكمِ، وهو الإخراجُ؛ فالعزَّةُ موجودةٌ لكن لا له، بل للهِ ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنينَ. يُنظر: ((المنهاج)) للباجي (ص: ???)، ((الإيضاح لقوانين الاصطلاح في الجدل والمناظرة)) لابن الجوزي (ص335)، ((تشنيف المسامع بجمع الجوامع)) للزركشي (4 /361)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/297)، ((شرح المحلِّي على جمع الجوامع)) (2 /316)، ((غاية الوصول شرح لب الأصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 131). في الجدَلِ، أيْ: إذا سَلَّمْنا أنَّكم مُوصونَ بالتَّمَسُّكِ بما أنتم عليه لا تَنْفَكُّونَ عنه حتَّى تأتِيَكم البيِّنَةُ، فليسَ في الإسلامِ ما يُنافي ما جاءَ به كتابُكم لأنَّ كِتابَكم يَأْمُرُ بما أمَر به القرآنُ، وهو عبادةُ اللَّهِ وحدَه دونَ إشراكٍ، وذلك هو الحنيفِيَّةُ وهي دينُ إبراهيمَ الَّذي أخَذ عليهم العهدَ به، فذلك دينُ الإسلامِ وذلك ما أُمِرْتُمْ به في دينِكم [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/479، 480). .
- ومُتعلَّقُ أُمِرُوا مَحذوفٌ للعُمومِ، أي: ما أُمِروا بشَيءٍ إلَّا بأنْ يَعبُدوا اللهَ، أو التَّقديرُ: وما أُمِروا بما أمَرْناهم به مِن شَرائعَ وأحكامٍ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/480)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/543). .
- والغرَضُ مِن السِّياقِ إظهارُ تَوبيخِ أهلِ الكِتابِ، والنَّعْيُ على تَعكيسِ أمْرِهم؛ لأنَّ جُملةَ قولِه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ الآيةَ إمَّا حالٌ مِن فاعلِ تَفَرَّقَ مُقرِّرةٌ لجِهةِ الإشكالِ، أو عطْفٌ على جُملةِ قولِه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يعني: كان مِن مُوجبِ اتِّفاقِ الكتابينِ -أي: ما معهم، وهذا القُرآن المجيد- على دِينِ التَّوحيدِ؛ المُوافقةُ مع مَن يُوافِقُهم فيه، ومُعاضدتُه، والتَّفادي عن مُخالَفتِه والتَّفرُّقِ عنه، وهمْ قد عَكَسوا! ونظْمُ الآيةِ أنَّه تعالَى لَمَّا عيَّر أهلَ الكتابِ والمشرِكين في تَقاعُدِهم عمَّا وَعَدوا مِن أنفُسِهم، وما كانوا يَقولون قبْلَ المَبعثِ: لا نَنفَكُّ عن دِينِنا حتَّى يُبعَثَ النَّبيُّ الموعودُ، ثمَّ بيَّن ما لَهم مِن الخِزيِ دُنيا، والنَّكالِ دُنيا وعُقبى، وما لأعدائِهِم مِن الَّذين قامُوا على ما وَعَدوا تخجيلًا لأولئك وتَحسيرًا لهم، مِن قولِه: إِنَّ الَّذِينَ إلى آخِرِ السُّورةِ؛ وَسَّطَ بيْن الكلامينِ النَّعْيَ على أهلِ الكِتابِ خاصَّةً، وأظهَرَ أنَّهم أشدُّ غَيًّا وعِنادًا، حيث خالَفوا مع ما يُوجِبُ المُوافَقةَ [74] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/531 - 533). .
- وحُنفاءُ: جمْعُ حَنيفٍ، وهو لقَبٌ للَّذي يُؤمِنُ باللهِ وحْدَه دونَ شَريكٍ، وهذا الوصْفُ تَأكيدٌ لمعْنى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مع التَّذكيرِ بأنَّ ذلك هو دِينُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ الَّذي مُلِئَت التَّوراةُ بتَمجيدِه واتِّباعِ هَدْيِه [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/481). .
- وفي عطْفِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ على لِيَعْبُدُوا اللَّهَ المُقيَّدِ بالإخلاصِ، واختصاصِهِما بالذِّكْرِ دونَ سائرِ العِباداتِ: الدَّلالةُ على شَرَفِهما، واستِبدادِهما بشَرْطِ الإخلاصِ [76] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/529). ، وكَونِهما العبادتَينِ اللَّتَينِ مَن قام بهما قام بجَميعِ شرائِعِ الدِّينِ [77] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 931). .
- قولُه: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن عِبادةِ الله تعالَى، والإخلاصِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ. وما في الإشارةِ مِن معْنى البُعدِ؛ للإشعارِ بعُلوِّ رُتبةِ هذا الدِّينِ، وبُعدِ مَنزلتِه [78] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/185)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/544). .
- ودِينُ الْقَيِّمَةِ يَجوزُ أنْ تكونَ إضافتُه على بابِها؛ فتكونَ الْقَيِّمَةِ مُرادًا به غيرُ المرادِ بـ دِينُ ممَّا هو مُؤنَّثُ اللَّفظِ ممَّا يُضافُ إليه دِينٌ، أي: دِينُ الأُمَّةِ القيِّمةِ أو دِينُ الكُتبِ القيِّمةِ، وهذا إلزامٌ لهم بأحَقِّيَّةِ الإسلامِ، وأنَّه الدِّينُ القيِّمُ. وقيل: أضافَ الدِّينَ إلى القيِّمةِ وهي نَعْتُه؛ لاختلافِ اللَّفظَينِ. أو هو مِن بابِ إضافةِ الشَّيءِ إلى نفْسِه، ودَخَلَت الهاءُ للمَدْحِ والمُبالَغةِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/481)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/544). .