موسوعة التفسير

سورةُ المُرسَلاتِ
الآيات (35-40)

ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالَ المكذِّبينَ يومَ القيامةِ: هذا اليَومُ يومُ القيامةِ لا يَتكَلَّمُ فيه المكَذِّبونَ، ولا يُؤذَنُ لهم فيَعتَذِرونَ.
 ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوَعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.
هذا هو اليَومُ الَّذي يَحكُمُ اللهُ تعالى فيه بيْنَ عِبادِه، جمَعْناكم -أيُّها المكَذِّبونَ- مع كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ مِنْ قَبْلِكم، فإنْ كان لكم حِيلةٌ تتخَلَّصونَ بها مِن عَذابِ النَّارِ، فافعَلوا.
ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.

تفسير الآيات:

هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35).
أي: في ذلك الوَقتِ والموقِفِ مِن يومِ القيامةِ لا يَتكَلَّمُ المكَذِّبونَ .
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36).
أي: ولا يُؤذَنُ لهم؛ لِيَعتَذِروا مِن ذُنوبِهم .
قال تعالى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل: 84] .
وقال سُبحانَه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم: 57] .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ .
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38).
أي: هذا اليَومُ هو اليَومُ الَّذي يَحكُمُ اللهُ تعالى فيه بالعَدْلِ بيْنَ عِبادِه، جمَعْناكم فيه -أيُّها المكَذِّبونَ- مع كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ مِنْ قَبْلِكم .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49، 50].
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39).
أي: فإنْ كان لكم حِيلةٌ تتخَلَّصونَ بها مِن عَذابِ النَّارِ، فافعَلوا؛ فلا مَفَرَّ لكم مِن عَذابي .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام: 134].
وقال سُبحانَه: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ [الرحمن: 33 - 35].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فيه سؤالٌ: كيف يُمكِنُ الجَمعُ بيْنَ هذا، وبيْن قولِه تبارك وتعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] ، وقولِه تعالى حكايةً عن المشركينَ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقولِه: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ فيه إضمارًا، والتَّقديرُ: هذا يومُ لا يَنطِقونَ فيه بحُجَّةٍ، ولا يُؤْذَنُ لهم فيَعتَذِرونَ؛ لأنَّه ليس لهم فيما عَمِلوه عُذرٌ صحيحٌ، وجوابٌ مستقيمٌ، فإذا لم يَنطِقوا بحُجَّةٍ سليمةٍ، وكلامٍ مُستقيمٍ، فكأنَّهم لم يَنطِقوا؛ لأنَّ مَن نطَق بما لا يُفيدُ فكأنَّه لم يَنطِقْ، ونظيرُه ما يُقالُ لِمَن ذكر كلامًا غيرَ مُفيدٍ: (ما قُلْتَ شَيئًا!).
الوجهُ الثَّاني: أراد بقولِه: يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ تلك السَّاعةَ، وذلك القَدْرَ مِن الوقتِ الَّذي لا يَنطِقون فيه، كما تقولُ: (آتِيك يومَ يَقدَمُ فُلانٌ)، والمعنى: ساعةَ يَقدَمُ، وليس المرادُ باليَومِ كُلَّه؛ لأنَّ القُدومَ إنَّما يكونُ في ساعةٍ يَسيرةٍ، ولا يَمتَدُّ في كلِّ اليومِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ في يومِ القيامةِ مَواقِفَ ؛ فإنَّه يومٌ طويلٌ، فتأتي عليهم ساعةٌ لا يَنطِقونَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لهم فيَختَصِمونَ، ثُمَّ يكونُ ما شاء اللهُ يَحْلِفُون ويَجْحَدُون، فإذا فَعَلوا ذلك خَتَمَ اللهُ على أفواهِهم، وتُؤْمَرُ جوارحُهم فتَشْهَدُ على أعمالِهم بما صَنعوا، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهم فيَشْهَدونَ على أنْفُسِهم بما صَنعوا؛ وذلك قولُه: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] . وأيضًا فهذه الآيةُ ورَدَتْ عَقِيبَ قولِ خَزَنةِ جَهنَّمَ لهم: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] ، فيَنقادونَ ويَذهَبونَ، فقولُه: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ مُتقيِّدٌ بهذا الوقتِ في هذا العَمَلِ، وتقييدُ المطلَقِ بسَبَبِ مقدِّمةِ الكلامِ مشهورٌ في العُرفِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فيه سُؤالٌ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: (ولا يُؤذَنُ لهم فيَعتَذِروا) كما قال: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] ؟
الجواب: أنَّ قولَه: فَيَعْتَذِرُونَ عَطفٌ على يُؤْذَنُ مُنتَظِمٌ معه في سِلْكِ النَّفيِ، والفاءُ للتَّعقيبِ بيْنَ النَّفْيَينِ في الإخبارِ، أو لترَتُّبِ النَّفيِ الثَّاني على الأوَّلِ، ولم يَقُلْ: (فَيَعْتَذِرُوا) بالنَّصبِ في جَوابِ النَّفيِ؛ ليفيدَ الكلامُ نَفْيَ الاعتذارِ مُطلَقًا؛ إذ لا عُذْرَ لهم ولا يَعتَذِرونَ، بخِلافِ ما لو نُصِبَ وجُعِلَ جوابًا؛ فإنَّه يدُلُّ على أنَّ عَدَمَ اعتِذارِهم لعَدَمِ الإذنِ، فيُوهِمُ ذلك أنَّ لهم عُذرًا لكِنْ لم يؤذَنْ لهم فيه. وقيل: إنَّما لم يُنصَبْ في جوابِ النَّفيِ للمُحافَظةِ على رُؤوسِ الآيِ؛ لأنَّ الآياتِ بالواوِ والنُّونِ، ولو قِيلَ: (فيَعتَذِروا) لَمْ تتوافَقِ الآياتُ .
3- إنْ قيل: نفْيُ النُّطقِ عنهم يدُلُّ على انتفاءِ الاعتذارِ منهم؛ إذِ الاعتذارُ لا يكونُ إلَّا بالنُّطقِ؛ فما فائدةُ قولِه عَقِبَه: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟
فالجوابُ: أنَّ معناهُ: لا يَنطِقون ابتِداءً بعُذرٍ مَقبولٍ، ولا بَعْدَ أن يُؤذَنَ لهم في الاعتِذارِ -لو أُذِنَ لهم فيه-؛ إذِ الخائفُ عادةً قد لا يَنطِقُ لِسانُه بعُذرٍ وحُجَّةٍ لخَوفِه، لكنْ إذا أُذِنَ له فيه نَطَقَ، ففائدةُ ذلك نفْيُ هذا المعْنى، أي: لا يَنطِقون ابتِداءً بعُذرٍ، ولا بعْدَ الإذنِ . ويمكنُ أن يكونَ ذلك لقطعِ الرَّجاءِ، بحيث لا يُتوَهَّمُ أنَّه رُبَّما يُستثنى مِن نفيِ النُّطقِ ما كان مِن قَبيلِ الاعتِذارِ.
4- قوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ هذا مِن العَذابِ الَّذي يُعَذَّبونَه؛ إذ هو مِن نوعِ العَذابِ النَّفْسانيِّ، وقد يكونُ أوْقَعَ على العاقِلِ مِن العذابِ الجُسمانيِّ .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- قولُه: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ الحالةِ في ذلك اليومِ .
- والإشارةُ في قولِه: هَذَا يَوْمُ إنْ كانتْ على ظاهِرِها كان المشارُ إليه هو اليومَ الحاضرَ، وهو يومُ الفصلِ، فتَكونُ الجُملةُ مِن تَمامِ ما يُقالُ لهم في ذلك اليومِ بعْدَ قولِه: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] ، فيكونُ في الانتقالِ مِن خِطابِهم بقولِه: انْطَلِقُوا إلى إجْراءِ ضَمائرِ الغَيبةِ عليهم الْتِفاتٌ، يَزيدُه حُسنًا أنَّهم قدِ استَحَقُّوا الإعراضَ عنهم بعْدَ إهانتِهم بخِطابِ انْطَلِقُوا، وهذا الوجْهُ أنسَبُ بقولِه تعالَى بعْدَه: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] ، ومَوقعُ الجُملةِ -على هذا التَّأويلِ- مَوقعُ تَكريرِ التَّوبيخِ الَّذي أفادَهُ قولُه: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] ، وهو مِن جُملةِ ما يُقالُ لهم في ذلك اليومِ.
 وإنْ كانت الإشارةُ إلى المذكورِ في اللَّفظِ، وهو يومُ الفصْلِ المُتحدَّثُ عنه بأنَّ فيه الوَيْلَ للمُكذِّبينَ، كان هذا الكلامُ مُوَجَّهًا إلى الَّذين خُوطِبوا بالقرآنِ كلِّهم؛ إنذارًا للمُشرِكينَ منهم، وإنعامًا على المؤمنينَ؛ فكانتْ ضَمائرُ الغَيبةِ جاريةً على أصْلِها، وكانتْ عائدةً على المُكذِّبينَ مِن قولِه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 34] ، وتكونُ الجُملةُ مُعترِضةً بيْن جُملةِ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وجُملةِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] ، واسمُ الإشارةِ الَّذي هو إشارةٌ إلى القريبِ مُستعمَلٌ في مُشارٍ إليه بَعيدٍ باعتبارِ قُرْبِ الحديثِ عنه .
- قولُه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تَكريرٌ لتَهديدِ المشركينَ، مُتَّصِلٌ بقولِه: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [المرسلات: 35] الآيةَ -على أوَّلِ الوجهَينِ في مَوقعِ ذلك-، أو هو واردٌ لِمُناسَبةِ قولِه: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ -على ثاني الوجهَينِ المَذكورينِ فيه- فيكونُ تَكريرًا لنَظيرِه الواقعِ بعْدَ قولِه: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] إلى قولِه: صُفْرٌ [المرسلات: 33] ، اقْتَضى تَكريرَه عَقِبَه أنَّ جُملةَ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ إلخ، تَتضَمَّنُ حالةً مِن أحوالِهِم يومَ الحشْرِ لم يَسبِقْ ذِكرُها، فكان تَكريرُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بعْدَها لوُجودِ مُقتضى تَكريرِ الوَعيدِ للسَّامِعينَ .
2- قولُه تعالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- قولُه: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: ويُقالُ لهم: هذا... .
- وهو تَكريرٌ لتَوبيخِهم بعدَ جُملةِ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات: 29] ، شُيِّعَ به القولُ الصَّادرُ بطَرْدِهم وتَحقيرِهم؛ فإنَّ المَطرودَ يُشيَّعُ بالتَّوبيخِ، فهو ممَّا يُقالُ لهم يَومَئذٍ، ولم تُعطَفْ بالواوِ؛ لأنَّها وقَعَتْ مَوقعَ التَّذييلِ للطَّردِ، وذلك مِن مُقتَضَياتِ الفصْلِ، سواءٌ أكان التَّكريرُ بإعادةِ اللَّفظِ والمعْنى، أمْ كان بإعادةِ المعْنى والغرَضِ .
- وجُملةُ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ تَقريرٌ وبَيانٌ للفَصلِ بأنَّه الفصلُ في النَّاسِ كلِّهم، لجَزاءِ المُحسنينَ والمُسيئينَ كلِّهم؛ لأنَّه إذا كان يومُ الفصلِ بيْنَ السُّعداءِ والأشقياءِ وبيْنَ الأنبياءِ وأُمَمِهم، فلا بُدَّ مِن جمْعِ الأوَّلينَ والآخِرينَ؛ حتَّى يقَعَ ذلك الفصْلُ بيْنَهم، والمُخاطَبونَ بضَميرِ جَمَعْنَاكُمْ المُشرِكونَ الَّذين سِيقَ الكلامُ لتَهديدِهم، وهم المُكذِّبون بالقُرآنِ، وقد أُنذِروا بما حلَّ بالأوَّلين أمْثالِهم مِن عَذابِ الدُّنيا، فأُرِيدَ تَوقيفُهم يَومَئذٍ على صِدقِ ما كانوا يُنذَرونَ به في الحياةِ الدُّنيا مِن مَصيرِهم إلى ما صار إليه أمْثالُهم؛ فلذلك لم يَتعلَّقِ الغرَضُ يَومَئذٍ بذِكرِ الأُمَمِ الَّتي جاءت مِن بَعْدِهم، وباعتِبارِ هذا الضَّميرِ فُرِّعَ عليه قولُه: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، فكان تخلُّصًا إلى تَوبيخِ الحاضِرينَ على ما يَكيدونَ به للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمُسلِمينَ؛ قال تعالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق: 15-17] ، وأنَّ كَيدَهم زائلٌ، وأنَّ سُوءَ العُقبى عليهم. وفُرِّعَ على ذلك فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، أي: فإنْ كان لكمْ كَيدٌ اليومَ كما كان لكمْ في الدُّنيا فافْعَلوه .
- والشَّرطُ في قولِه: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ للتَّوبيخِ والتَّذكيرِ بسُوءِ صَنيعِهم في الدُّنيا، والتَّسجيلِ عليهم بالعجْزِ عن الكَيدِ يَومَئذٍ؛ حيث مُكِّنوا مِن البحثِ عمَّا عَسى أنْ يكونَ لهم مِن الكَيدِ، فإذا لم يَسْتطيعوه بعْدَ ذلك فقدْ سُجِّلَ عليهم العجْزُ .
- والأمْرُ فَكِيدُونِ للتَّعجيزِ، والتَّقريعِ لهم على كَيدِهم لدِينِ اللهِ وذَوِيه .
- قولُه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تَكريرٌ للوعيدِ والتَّهديدِ .