موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (27-31)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ

غريب الكلمات:

غَيْرَ ذِي عِوَجٍ: أي: لا اعوِجاجَ فيه ولا انحِرافَ، وقيل: العِوَجُ -بالكَسرِ- في المعاني، والعَوَجُ -بالفتحِ- في الأعيانِ، وأصلُ (عوج): يدُلُّ على مَيلٍ [629] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/179)، ((تفسير الزمخشري)) (3/88)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 331)، ((تفسير القرطبي)) (10/352)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96). .
مُتَشَاكِسُونَ: أي: مُختَلِفونَ مُتنازِعونَ، وأصلُ (شكس): يدُلُّ على سُوءِ خُلُقٍ [630] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 448)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 462). .
سَلَمًا لِرَجُلٍ: أي: خالصًا له، لا يَشرَكُه فيه غيرُه [631] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/196)، ((البسيط)) للواحدي (3/317) و (19/301)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/217)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 284). .
تَخْتَصِمُونَ: أي: تَتنازَعونَ، وتَختلِفونَ، وأصلُ (خصم): مُنازَعةٌ، وأصلُ المُخاصَمةِ: أن يَتعلَّقَ كلُّ واحدٍ بخُصْمِ الآخَرِ، أي: جانِبِه [632] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/86)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 284). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
قَولُه: قُرْآَنًا: مَنصوبٌ على الحالِ مِنِ اسمِ الإشارةِ هَذَا المُبَيَّنِ بالقُرآنِ، وهي حالٌ مُوَطِّئةٌ؛ لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ عَرَبِيًّا، وقُرْآَنًا تَوطِئةٌ له. وقيل: إنَّه مَنصوبٌ بمُقدَّرٍ، تقديرُه: أعْني، أو أخُصُّ، أو أمْدَحُ، ونحو ذلك. وقيل: يجوزُ نَصبُه على المفعوليَّةِ بـ يَتَذَكَّرُونَ، أي: يَتذكَّرونَ قُرآنًا.
قَولُه: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ نعتٌ ثانٍ لـ قُرْآَنًا، أو حالٌ منه [633] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/423)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/337)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/398)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1080). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُثْنِيًا على كتابِه الكريمِ: ولقد بَيَّنَّا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ يَحتاجُونَ إليه في أُمورِهم وشُؤونِهم؛ لعلَّهم يَتذَكَّرون فيَتَّعِظونَ؛ قُرآنًا عَربيًّا لا اعوِجاجَ فيه، ولا تَناقُضَ ولا اختِلافَ؛ لَعَلَّهم يَتَّقونَ اللهَ، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويَجتَنِبونَ نواهيَه.
ثمَّ يَضرِبُ اللهُ تعالى مَثَلًا للمُشرِكِ الَّذي يَعبُدُ آلِهةً شَتَّى، بعَبدٍ مَملوكٍ لِشُرَكاءَ مُتنازِعينَ؛ لِسُوءِ أخلاقِهم وطِباعِهم، وهذا العَبدُ مُوَزَّعٌ ومُمَزَّقٌ بيْنَهم، كلٌّ منهم يَستَخدِمُه بقَدْرِ مِلْكِه فيه، وهو حائِرٌ بيْنَهم جَميعًا؛ لا يُمكِنُه أن يُرضِيَهم جَميعًا، ولا يَملِكُ أن يُطيعَ أهواءَهم المُتنازِعةَ.
 ويَضرِبُ سُبحانَه مَثَلًا للمُوحِّدِ الَّذي يَعبُدُ اللهَ وَحْدَه، بعَبدٍ مَملوكٍ لسَيِّدٍ واحِدٍ، وخالِصٍ له، وليس لِغَيرِه مِن سَبيلٍ عليه؛ فهو في سَلامةٍ وراحةٍ مِن تَشاحُنِ الشُّرَكاءِ فيه، فهل يَستوي هَذانِ في العُقولِ؟ كلَّا لا يَستويانِ؛ فكذلك لا يَستوي المُشرِكُ الَّذي يَعبُدُ آلِهةً كَثيرةً، والموحِّدُ الَّذي لا يَعبُدُ إلَّا اللهَ وَحْدَه. الحَمدُ للهِ، بل أكثَرُهم لا يَعلَمونَ!
ثمَّ يُخبِرُ اللهُ سبحانَه رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الموتَ سيَنزِلُ به كما سيَنزِلُ بأعدائِه، فيقولُ: إنَّك -يا مُحمَّدُ- صائِرٌ إلى الموتِ، وكذلك قَومُك سيَموتونَ، ثمَّ إنَّكم جَميعًا يومَ القيامةِ عِندَ ربِّكم تَختَصِمونَ فيما كُنتُم تَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا، فيَفصِلُ اللهُ بيْنَكم بالحَقِّ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى هذه الفوائدَ المُتكاثِرةَ والنَّفائسَ المُتوافرةَ في هذه المَطالِبِ؛ بيَّن تعالى أنَّه بلَغت هذه البياناتُ إلى حدِّ الكمالِ والتمامِ [634] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/449). .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.
أي: ولقد ذكَرْنا وبَيَّنَّا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ كُلَّ صِنفٍ ممَّا يَحتاجُونَ إليه مِنَ الأمثالِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/195)، ((تفسير الماتريدي)) (8/677)، ((تفسير القرطبي)) (15/252)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير القاسمي)) (8/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/397)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 209). .
كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] .
وقال عزَّ وجلَّ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
أي: لَعلَّهم يَتذَكَّرونَ الحَقَّ، فيَتَّعِظونَ ويَنزَجِرونَ عمَّا هم فيه مِن ضَلالٍ [636] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/195)، ((تفسير القرطبي)) (15/252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/496)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). .
قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28).
قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ.
أي: قُرآنًا عَرَبيًّا، لا اعوِجاجَ فيه؛ فلا لَبْسَ فيه ولا اختِلافَ، ولا خَلَلَ ولا تَناقُضَ [637] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/196)، ((تفسير القرطبي)) (15/252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). .
كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2] .
وقال اللهُ سُبحانَه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا [الكهف: 1] .
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أي: جعَلْناه قرآنًا عربيًّا غيرَ ذي عِوَجٍ؛ لِيَفْهَمَه النَّاسُ ويَعْملوا به؛ فيَتَّقوا سخَطَ الله وعذابَه، بامتِثالِ أوامرِه، واجتِنابِ نواهيه [638] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/196)، ((تفسير القرطبي)) (15/252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). قال البِقاعي: (أي: لِيَكونَ حالُهم بعدَ التَّذَكُّرِ النَّاشِئِ عن التَّذكيرِ حالَ مَن يُرجى له أن يَجعَلَ بيْنَه وبيْن غَضَبِ اللهِ وقايةً). ((نظم الدرر)) (16/497). .
كما قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58] .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بالَغَ تعالى في شَرحِ وَعيدِ الكُفَّارِ؛ أردَفَه بذِكرِ مَثَلٍ ما يدُلُّ على فَسادِ مَذهَبِهم، وقُبحِ طريقتِهم، فقال [639] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/450). :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ.
أي: ذكَرَ اللهُ تعالى مَثَلًا للمُشرِكِ الَّذي يَعبُدُ آلِهةً شتَّى، بعَبدٍ مملوكٍ لِشُرَكاءَ مُتنازِعينَ سَيِّئةٍ أخلاقُهم، وكلٌّ مِنهم يَستَخدِمُه بقَدْرِ مِلْكِه فيه؛ فهو يُعاني منهم لاختِلافِهم، ولا يَقِرُّ له قَرارٌ، ولا يُمكِنُه أن يُرضِيَهم جميعًا؛ وضرَب مَثَلًا للمُوَحِّدِ الَّذي يَعبُدُ اللهَ وَحْدَه، بعَبدٍ خالِصٍ لرَجُلٍ واحِدٍ، لا يَملِكُه غَيرُه؛ فعَلِمَ مَقاصِدَ سَيِّدِه، وعَرَف الطَّريقَ إلى رِضاه، وهو في سَلامةٍ وطُمَأنينةٍ وراحةٍ مِن تَشاحُنِ الشُّرَكاءِ فيه، مع رَحمةِ مالِكِه به، وشَفَقَتِه عليه، وإحسانِه إليه [640] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/196، 197)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 933)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/143، 144)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/254)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/497، 498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/401). .
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا.
أي: فهل يَستوي في العُقولِ العَبدُ المَملوكُ لِشُرَكاءَ مُتشاكِسينَ، والمملوكُ لسَيِّدٍ واحِدٍ؟ كلَّا، لا يَستَويانِ؛ فكذلك لا يَستوي المُشرِكُ الَّذي يَعبُدُ آلِهةً كَثيرةً، والموَحِّدُ الَّذي لا يَعبُدُ إلَّا اللهَ وَحْدَه [641] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/199)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/9)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/499)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 218، 219). .
الْحَمْدُ لِلَّهِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا بَطَل القَولُ بإثباتِ الشُّرَكاءِ والأندادِ، وثَبَت أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحِدُ الأحَدُ الحَقُّ؛ ثَبَت أنَّ الحَمْدَ له لا لِغَيرِه [642] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/451). .
وأيضًا لَمَّا سَبَقَت هذه الدَّلائِلُ الظَّاهِرةُ، والبَيِّناتُ الباهِرةُ؛ قال: الحَمدُ لله على حُصولِ هذه البياناتِ، وظهورِ هذه البَيِّناتِ، وإن كان أكثَرُ الخَلقِ لم يَعرِفوها، ولم يَقِفوا عليها [643] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/451). .
الْحَمْدُ لِلَّهِ.
أي: الحَمدُ [644] الحمدُ: هو وصْفُ المحمودِ بالكمالِ محبَّةً وتعظيمًا. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 7). لله وَحْدَه دونَ كُلِّ مَن سِواه، الَّذي أقام بهذا المَثَلِ الواضِحِ الحُجَّةَ على المُشرِكينَ، وأبان الحَقَّ مِن الباطِلِ؛ فلا يَنبغي أن يكونَ له شَريكٌ [645] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). قال الماوَرْدي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ يحتمِلُ وجهَينِ؛ أحَدُهما: على احتِجاجِه بالمَثَلِ الَّذي خَصَمَ به المُشرِكينَ. الثَّاني: على هِدايتِه الَّتي أعان بها المؤمِنينَ). ((تفسير الماوردي)) (5/124). .
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: بل أكثَرُهم [646] قيل: أكثرُ على بابِها، والمرادُ بقولِه: أَكْثَرُهُمْ أي: أكثرُ النَّاسِ، وهم المشركون. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/530)، ((تفسير القاسمي)) (8/288). قال الشوكاني: (فإنَّ المؤمِنينَ باللهِ يَعلَمونَ ما في التَّوحيدِ مِن رِفعةِ شَأنِه، وعُلُوِّ مَكانِه، وأنَّ الشِّركَ لا يُماثِلُه بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، ولا يُساويه في وَصفٍ مِن الأوصافِ، ويَعلَمونَ أنَّ اللهَ سُبحانَه يَستَحِقُّ الحَمدَ على هذه النِّعمةِ، وأنَّ الحَمدَ مُختَصٌّ به). ((تفسير الشوكاني)) (4/530). وقال ابنُ عثيمين: (فأكثَرُ الخَلقِ لا يَعلَمونَ؛ إمَّا لجَهلِهم، أو لِغَيِّهم، فإن كانوا لِجَهلِهم... فهم قد انتفى عنهم العِلمُ، وإن كان لِغَيِّهم فإنَّ العِلمَ انتفى عنهم لانتِفاءِ فائِدتِه؛ حيثُ لم يَسترشِدوا به). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 224). وقيل: الضَّميرُ يعودُ على المشركين، قال ابنُ جرير: (بل أكثرُ هؤلاءِ المشركينَ باللهِ لا يَعلَمونَ أنَّهما لا يَستَويانِ، فهم بجهلِهم بذلك يَعْبُدونَ آلِهةً شَتَّى مِن دونِ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/200). وذكَر ابنُ عاشورٍ أنَّ الله تعالى قال: أَكْثَرُهُمْ؛ لأن أكثَرَ المشركينَ عامَّةٌ أتْباعٌ لزُعمائِهم الَّذِينَ سَنُّوا لهم الإشْراكَ وشَرائِعَه. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/403). وقال ابن عطيَّة: (و«أكثر» في هذه الآيةِ على بابِها؛ لأنَّا وجَدْنا الأقَلَّ عَلِمَ أمْرَ التَّوحيدِ، وتكلَّم به، ورفَض الأصنامَ؛ كوَرَقةَ، وزَيدٍ، وقُسٍّ). ((تفسير ابن عطية)) (4/530). وقيل: المرادُ بالأكثَرِ الكُلُّ. وممَّن اختاره: الواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 613)، ((تفسير البغوي)) (4/88)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/17). والأكثَرُ قد يُذْكَرُ ويُرادُ به الجميعُ؛ لأنَّ أكثَرَ الشَّيءِ يَقومُ مَقامَ الكلِّ؛ فذِكْرُ الأكثَرِ كذِكْرِ الجميعِ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/255). لا يَعلَمونَ الحَقَّ، فهم لا يَعلَمونَ أنَّ المُوحِّدَ والمُشرِكَ لا يَستَويانِ، وأنَّ عِبادةَ رَبٍّ واحدٍ خَيرٌ مِن عِبادةِ أربابٍ شَتَّى؛ فيَعبُدونَ غَيرَ اللهِ ويُشرِكونَ به [647] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200)، ((تفسير السمرقندي)) (3/185)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 219، 220). !
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا لم يَلتَفِتوا إلى هذه الدَّلائِلِ الباهِرةِ، أخبَرَ سُبحانَه الجَميعَ بأنَّهم مَيِّتونَ وصائِرونَ إليه، وأنَّ اختِصامَكم يكونُ بيْنَ يَدَيه يومَ القيامةِ، وهو الحَكَمُ العَدلُ؛ فيَتمَيَّزُ المُحِقُّ مِن المُبطِلِ، والنَّبيُّ عليه السَّلامُ وأتْباعُه: المُحِقُّونَ الفائِزونَ بالظَّفَرِ والغَلَبةِ، والكافِرونَ هم المُبطِلونَ [648] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/198). .
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30).
أي: إنَّك -يا مُحمَّدُ- صائرٌ إلى الموتِ لا مَحالةَ، وإنَّ جَميعَ قَومِك؛ مُؤمِنِهم وكافِرِهم، سيَموتونَ كذلك [649] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/404). قال القرطبي: (هو خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أخبَرَه بمَوتِه ومَوتِهم، فاحتمَلَ خَمسةَ أوجُهٍ؛ أحدُها: أن يكونَ ذلك تحذيرًا مِن الآخرةِ. الثَّاني: أن يُذَكِّرَه حَثًّا على العمَلِ. الثَّالثُ: أن يُذَكِّرَه تَوطِئةً للمَوتِ. الرَّابعُ: لئلَّا يَختَلِفوا في مَوتِه كما اختَلَفت الأمَمُ في غيرِه، حتَّى إنَّ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه لَمَّا أنكر مَوتَه احتَجَّ أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه بهذه الآيةِ، فأمسَك [البخاري «1242»]. الخامسُ: لِيُعْلِمَه أنَّ اللهَ تعالى قد سَوَّى فيه بيْن خَلْقِه مع تفاضُلِهم في غيرِه؛ لِتَكثُرَ فيه السَّلوةُ، وتَقِلَّ فيه الحَسرةُ). ((تفسير القرطبي)) (15/254). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/500، 501). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بقولِه: وَإِنَّهُمْ: جميعُ العالَمِ، وكلُّ العبادِ؛ أتباعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيرُهم: ابنُ عطية، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/530)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/500). وممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: وَإِنَّهُمْ: المكذِّبونَ مِن قومِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنونَ منهم: ابن جرير، ومكي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6335). ويُنظر أيضًا: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/677). وقال ابنُ عاشورٍ: (وضميرُ الغيبةِ في وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ للمشركينَ المتحدَّثِ عنهم، وأمَّا المؤمنونَ فلا غرضَ هنا للإخبارِ بأنَّهم ميتونَ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/404). وممن اختار أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الكفَّارِ: ابن جزي، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/221)، ((تفسير أبي حيان)) (9/198). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (26/451). .
كما قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144].
وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 15، 16].
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء: 34، 35].
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31).
أي: ثمَّ إنَّكم تَختَصِمونَ يومَ القيامةِ عِندَ اللهِ رَبِّكم فيما كُنتُم تَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا، فيَفصِلُ بيْنَكم بالحَقِّ [650] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200، 201)، ((تفسير القرطبي)) (15/254، 255)، ((تفسير ابن كثير)) (7/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 723). قال ابن كثير: (هذه الآيةُ وإن كان سياقُها في المؤمِنينَ والكافِرينَ، وذِكرِ الخُصومةِ بيْنَهم في الدَّارِ الآخِرةِ؛ فإنَّها شامِلةٌ لكُلِّ مُتنازِعَينِ في الدُّنيا، فإنَّه تعادُ عليهم الخُصومةُ في الدَّارِ الآخِرةِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/96، 98). .
كما قال الله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 113].
وقال الله سُبحانَه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السجدة: 25] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، عن الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا نَزَلت هذه السُّورةُ على رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزُّبَيرُ: أيْ رَسولَ الله، أيُكَرَّرُ علينا ما كان بَيْنَنا في الدُّنيا مع خَواصِّ الذُّنوبِ [651] أي: مع السُّؤالِ عن الذُّنوبِ المخصوصةِ بكلِّ أحدٍ مِنَّا. يُنظر: ((حاشية السندي على مسند الإمام أحمد بن حنبل)) (1/228). ؟ قال: نعَمْ، لَيُكَرَّرَنَّ عليكم حتَّى يُؤدَّى إلى كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه! فقال الزُّبَيرُ: واللهِ إنَّ الأمرَ لَشَديدٌ)) [652] أخرجه الترمذي (3236)، وأحمد (1434) واللفظُ له. قال الترمذيُّ: (حسَنٌ صحيحٌ). وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3236)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/21)، وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1434). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أنَّه ينبغي للمُعَلِّمِ غيرَه أنْ يُكْثِرَ له مِن ضَربِ الأمثالِ الَّتي تُعينُه على فَهمِ المعنى؛ لأنَّ هذا هو أُسلوبُ القُرآنِ الكريمِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 212). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تذكيرٌ بأنَّ النَّاسَ كُلَّهم صائِرونَ إلى المَوتِ؛ فإنَّ الموتَ آخِرُ ما يُذَكَّرُ به السَّادِرُ في غُلَوائِه [654] السَّادِرُ: الَّذي لا يَهتَمُّ لِشَيءٍ، ولا يُبالي ما صَنَع. والغُلَواءُ: الغُلُوُّ والتَّجاوُزُ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبيدي (11/528) و (39/180). إذا كان قد اغتَرَّ بعَظَمةِ الحياةِ، ولم يَتفَكَّرْ في اختيارِ طَريقِ السَّلامةِ والنَّجاةِ [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/403). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ خُصَّت أمثالُ القُرآنِ بالذِّكرِ مِن بيْنِ مزايا القُرآنِ؛ لأجْلِ لَفْتِ بَصائِرِهم للتَّدَبُّرِ في ناحيةٍ عَظيمةٍ مِن نواحي إعجازِه، وهي بلاغةُ أمثالِه؛ فإنَّ بُلَغاءَهم كانوا يَتنافَسونَ في جَودةِ الأمثالِ وإصابتِها المحَزَّ مِن تشبيهِ الحالةِ بالحالةِ [656] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/397). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أنَّ كُلَّ مَثَلٍ في القُرآنِ فإنَّ فيه دَليلًا على إثباتِ القياسِ [657] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 210). .
3- قَولُه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيه إثباتُ العِلَلِ والحِكَمِ في أفعالِ اللهِ تعالى وشَرعِه [658] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 212). ، والرَّدُّ على الجَهميَّةِ وأشباهِهم ممَّن أنكَروا حِكمةَ اللهِ تعالى، وقالوا: «إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَفعَلُ الشَّيءَ لا لِعِلَّةٍ وحِكمةٍ، ولكنْ لِمُجَرَّدِ المَشيئةِ»! ووجْهُ ذلك: أنَّ «لعلَّ» هنا للتَّعليلِ، والتَّعليلُ يعني: إثباتَ الحِكمةِ [659] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 212). .
4- في قَولِه تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ثناءٌ على القُرآنِ مِن حيثُ إنَّه كلامٌ، باستِقامةِ ألفاظِه؛ لأنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ أفصَحُ لُغاتِ البَشَرِ [660] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/398). .
5- قَولُه تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا يُستدَلُّ به على أنَّه لا يُوجدُ في القرآنِ لفظٌ أعجميٌّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ القرآنَ كلَّه بأنَّه عربيٌّ، وهذا يقتضي أنَّه ليس فيه شَيءٌ مِن لغةِ العَجَمِ، ولا شكَّ أنَّ هذا هو الواقعُ؛ فليس في القرآنِ لفظٌ أعجميٌّ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 215). ويُنظر أيضًا: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/125). .
6- في قَولِه تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا دَلالةٌ على شَرَفِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ وعِظَمِها [662] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/361). .
7- قَولُه تعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ يعني: ليس فيه خَلَلٌ ولا نَقْصٌ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ لا في ألفاظِه، ولا في مَعانيه، وهذا يَستلزِمُ كَمالَ اعتِدالِه واستِقامتِه، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا [663] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 724). [الكهف: 1] .
8- في قَولِه تعالى: رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ جوازُ الشَّرِكةِ، وأنَّها مُشاعةٌ [664] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 225). .
9- في قَولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أنَّ الحَمدَ المُطلَقَ إنَّما يكونُ للهِ عزَّ وجلَّ، أمَّا غيرُه فهو وإنْ حُمِدَ فليس حَمْدُه على الإطلاقِ، بل يُحمَدُ على شَيءٍ مُعَيَّنٍ وجُزءٍ مُعَيَّنٍ ممَّا يُحمَدُ عليه، أمَّا الحَمدُ على الإطلاقِ فهو للهِ ربِّ العالَمينَ عزَّ وجلَّ؛ فهو المحمودُ على كُلِّ حالٍ [665] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 225). .
10- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ يُشعِرُ بوقوعِ الهلاكِ بالذين أشرَكوا باللهِ غيرَه، كقولِه: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [666] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/198). [الأنعام: 45] .
11- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ سُؤالٌ: أنَّه في قَولِه تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] دَلالةٌ بظاهِرِها على أنَّ الشُّهَداءَ أحياءٌ غيرُ أمواتٍ، وقد قال في الآيةِ هنا لِمَن هو أفضَلُ مِن كُلِّ الشُّهَداءِ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ؟
الجوابُ: أنَّ الشُّهَداءَ يَموتونَ المَوتةَ الدُّنيَويَّةَ، فتُورَثُ أموالُهم، وتُنكَحُ نِساؤُهم بإجماعِ المُسلِمينَ، وهذه المَوتةُ هي الَّتي أخبَرَ اللهُ تعالى نَبيَّه أنَّه يموتُها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا الحياةُ الَّتي أثْبَتَها اللهُ للشُّهَداءِ في القُرآنِ، وحياتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّتي ثَبَت في الحديثِ أنَّه يَرُدُّ بها السَّلامَ على مَن سَلَّم عليه [667] أخرجه أبو داود (2041)، وأحمد (10815) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحَّحه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (14/158)، وحسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2041)، وصحَّح إسنادَه النَّوويُّ في ((المجموع)) (8/272)، وجوَّده العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (1/409)، وحسَّنه السَّخاويُّ في ((القول البديع)) (ص: 229)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2041). وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/488): (رواته ثقات). : فكِلْتاهما حياةٌ بَرزخيَّةٌ ليست مَعقولةً لأهلِ الدُّنيا، فأمَّا ما جاء في الشُّهَداءِ، فقد نَصَّ تعالى على ذلك بقَولِه: وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، وقد فسَّرها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم تُجعَلُ أرواحُهم في حواصِلِ طُيورٍ خُضرٍ تَرتَعُ في الجنَّةِ وتأوي إلى قناديلَ مُعَلَّقةٍ تحتَ العَرشِ [668] أخرجه مسلم (1887). ؛ فهم يتنَعَّمون بذلك، وأمَّا ما ثبت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أنَّه لا يُسَلِّمُ عليه أحدٌ إلَّا رَدَّ اللهُ عليه رُوحَه حتَّى يَرُدَّ عليه السَّلامَ [669] لفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) أخرجه أبو داود (2041) واللفظ له، وأحمد (10815) صححه السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (436)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (14/485)، وحسنه ابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/31)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2041) ، وأنَّ اللهَ وكَلَ ملائِكةً يُبَلِّغونَه سَلامَ أُمَّتِه [670] أخرجه النسائي (1282)، وأحمد (3666) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. صحَّحه ابنُ حبَّانَ في ((صحيحه)) (914)، وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (9/311)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (1282)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/456)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (6/154)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3/386). ؛ فإنَّ تلك الحياةَ أيضًا لا يَعقِلُ حقيقتَها أهلُ الدُّنيا، وهي ثابتةٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّ رُوحَه الكريمةَ في أعلى عِلِّيِّينَ مع الرَّفيقِ الأعلى فَوقَ أرواحِ الشُّهَداءِ؛ فتَعَلُّقُ هذه الرُّوحِ الطَّاهرةِ -الَّتي هي في أعلى عِلِّيِّينَ- بهذا البَدَنِ الشَّريفِ الَّذي لا تأكُلُه الأرضُ: يَعلَمُ اللهُ حَقيقتَه ولا يَعلَمُها الخَلْقُ، كما قال في جِنسِ ذلك: وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، ولو كانت كالحياةِ الَّتي يَعرِفُها أهلُ الدُّنيا لَمَا قال الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مات [671] يُنظر ما أخرجه البخاري (3668) من حديث عائشةَ رضي الله عنها. ، ولَمَا جاز دَفْنُه، ولا نُصِبَ خَليفةٌ غَيرُه، ولا قُتِل عُثمانُ، ولا اختلَف أصحابُه، ولا جرَى على عائِشةَ ما جرى، ولَسألوه عن الأحكامِ الَّتي اختلَفوا فيها بعدَه كالعَولِ [672] العَول: هو زيادةُ السِّهامِ على أجزاءِ أصلِ المسألةِ وارتفاعُها، أو زيادةُ السِّهامِ على الفريضةِ، فتَعولُ المسألةُ إلى سِهامِ الفريضةِ، فيَدخُلُ النُّقصانُ عليهم بقَدرِ حِصَصِهم. يُنظر: ((تحرير ألفاظ التنبيه)) للنووي (ص: 247)، ((المطلع على ألفاظ المقنع)) للبعلي (ص: 368)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 159). ، وميراثِ الجَدِّ والإخوةِ... ونحو ذلك، وممَّا يُقرِّبُ هذا للذِّهنِ حياةُ النَّائِمِ؛ فإنَّه يُخالِفُ الحيَّ في جميعِ التَّصَرُّفاتِ، مع أنَّه يُدرِكُ الرُّؤيا، ويَعقِلُ المعانيَ [673] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 24، 25). !
12- في قَولِه تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ إشارةٌ إلى أنَّ هذا الاختِصامَ مِن مُقتَضَى رُبوبيَّتِه عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه حَكَمٌ عَدلٌ، ومِن عَدلِه أنَّه يَفصِلُ بيْنَ المُتنازِعِينَ فيه يومَ القيامةِ كما يَفصِلُ بيْنَ المُتنازِعِينَ في الحُقوقِ الخاصَّةِ [674] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 228). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ إلى قولِه: فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] ، وهو تَتِمَّةٌ لِلتَّنويهِ بالقُرآنِ وإرشادِه، ولِلتَّعريضِ بتَسفيهِ أحلامِ الَّذين كَذَّبوا به، وأعرَضوا عن الاهتِداءِ بهَدْيِه [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/396، 397). .
- قولُه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فيه تَأكيدُ الخَبَرِ بلامِ القَسَمِ وحَرفِ التَّحقيقِ (قدْ)، وهو مَنظورٌ فيه إلى حالِ الفَريقِ الَّذين لم يَتَدبَّروا القُرآنَ، وطَعَنوا فيه، وأنكَروا أنَّه مِن عِندِ اللهِ [676] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/397). .
- والتَّعريفُ في (النَّاسِ) لِلاستِغراقِ، أي: لِجَميعِ النَّاسِ؛ فإنَّ اللهَ بَعَثَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلنَّاسِ كافَّةً [677] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/397). .
- وتَنوينُ مَثَلٍ لِلتَّعظيمِ والشَّرَفِ، أيْ: مِن كُلِّ أشرَفِ الأمثالِ، فالمَعنى: ذَكَرْنا لِلنَّاسِ في القُرآنِ أمثالًا هي بَعضٌ مِن كُلِّ أنفَعِ الأمثالِ وأشرَفِها [678] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/397). .
2- قولُه تعالَى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
- انتَصَبَ قُرْآَنًا على الحالِ مِنِ اسمِ الإشارةِ المُبَيَّنِ بالقُرآنِ؛ فالحالُ هنا مُوطِّئةٌ -على أحدِ الأقوالِ-، والمَقصودُ مِنَ الحالِ التَّوَرُّكُ على المُشرِكينَ؛ حيثُ تَلَقَّوُا القُرآنَ تَلقِّيَ مَن سَمِعَ كَلامًا لم يَفهَمْه، كأنَّه بِلُغةٍ غَيرِ لُغَتِه، لا يُعيرُه بالًا، كقَولِه: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58] ، مع التَّحدِّي لهم بأنَّهم عَجَزوا عن مُعارَضَتِه وهو مِن لُغَتِهم [679] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/398). .
- قولُه: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ هذا ثَناءٌ على القُرآنِ بكَمالِ مَعانيه بَعدَ أنْ أُثنيَ عليه باستِقامةِ ألفاظِه، ووَجْهُ العُدولِ عن وَصْفِه بالاستِقامةِ إلى وَصفِه بانتِفاءِ العِوَجِ عنه التَّوسُّلُ إلى إيقاعِ عِوَجٍ وهو نَكِرةٌ في سياقِ ما هو بمَعنى النَّفيِ، وهو كَلِمةُ (غَير)، فيُفيدُ انتِفاءَ جِنسِ العِوَجِ على وَجهِ عُمومِ النَّفيِ، أيْ: ليس فيه عِوَجٌ قَطُّ، ولا اختِلافَ فيه بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، والاستقامةُ يجوزُ أن تكونَ مِن وجْهٍ دونَ وجهٍ؛ فقولُه: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أبْلَغُ مِن المستقيمِ، وأخَصُّ بالمعانِي، ولِأنَّ لَفْظَ عِوَجٍ مُختَصٌّ باختِلالِ المَعاني، فيَكونُ الكَلامُ نَصًّا في استِقامةِ مَعاني القُرآنِ؛ لِأنَّ الدَّلالةَ على استِقامةِ ألفاظِه ونَظْمِه قدِ استُفيدَتْ مِن وَصْفِه بكَونِه عَرَبيًّا [680] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/125)، ((تفسير البيضاوي)) (5/41)، ((تفسير أبي السعود)) (7/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/398). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وقال قبْلُ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] ؛ لِأنَّهم إذا تَذَكَّروا يُسِّرتْ عليهمُ التَّقْوى، ولِأنَّ التَّذكُّرَ أنسَبُ بضَربِ الأمثالِ؛ لِأنَّ في الأمثالِ عِبرةً بأحوالِ المُمَثَّلِ به، فهي مُفْضيةٌ إلى التَّذكُّرِ، والاتِّقاءُ أنسَبُ بانتِفاءِ العِوَجِ؛ لِأنَّه إذا استَقامَتْ مَعانيه واتَّضَحتْ، كان العَمَلُ بما يَدعو إليه أيسَرَ، وذلك هو التَّقْوى [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/399). .
3- قولُه تعالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ الآيةَ، استِئنافٌ، وهو مِن قَبيلِ التَّعرُّضِ إلى المَقصودِ بَعدَ المُقدِّمةِ؛ فإنَّ قَولَه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] تَوطِئةٌ لِهذا المَثَلِ المَضروبِ لِحالِ أهلِ الشِّركِ وحالِ أهلِ التَّوحيدِ، وفي هذا الانتِقالِ تَخلُّصٌ؛ أُتْبِعَ تَذكيرُهم بما ضُرِبَ لهم في القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ على وَجهِ إجمالِ العُمومِ؛ استِقصاءً في التَّذكيرِ، ومُعاوَدةً لِلإرشادِ، وتَخلُّصًا مِن وَصفِ القُرآنِ بأنَّ فيه مِن كُلِّ مَثَلٍ؛ إلى تَمثيلِ حالِ الَّذين كَفَروا بحالٍ خاصٍّ، فهذا المَثَلُ مُتَّصِلٌ بقَولِه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، إلى قَولِه: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] ؛ فهو مَثَلٌ لِحالِ مَن شَرَح اللهُ صُدورَهم لِلإسلامِ، وحالِ مَن قَسَتْ قُلوبُهم [682] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/399). .
- قولُه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا ... فيه مَجيءُ فِعلِ ضَرَبَ بصِيغةِ الماضي، مع أنَّ ضَرْبَ هذا المَثلِ ما حَصَل إلَّا في زَمَنِ نُزولِ هذه الآيةِ؛ لِتَقريبِ زَمَنِ الحالِ مِن زَمَنِ الماضي؛ لِقَصدِ التَّشويقِ إلى عِلْمِ هذا المَثَلِ، فيُجعَلُ كالإخبارِ عن أمْرٍ حَصَل؛ لِأنَّ النُّفوسَ أرغَبُ في عِلْمِه، كقَولِ المُثَوِّبِ: قد قامَتِ الصَّلاةُ، وفيه التَّنبيهُ على أنَّه أمْرٌ مُحقَّقُ الوُقوعِ [683] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/399). . وقيل: إنَّ فِعلَ (ضرَبَ) مُستعمَلٌ في معنى الأمْرِ، فالمعنى: اضرِبْ لهم مَثلًا، وقُلْ لهم: ما تَقولون في رجُلٍ مِن المَماليكِ قد اشترَكَ فيه شُركاءُ... إلخ؟ والخبَرُ هنا مُستعمَلٌ في الطَّلبِ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا سمِعَ قولَه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] ، عَلِم أنَّه سيَنزِلُ عليه مَثَلٌ مِن أمثالِ القرآنِ، فأنْبَأه اللهُ بصِدقِ ما عَلِمَه، وجَعَله -لِتَحقُّقِه- كأنَّه ماضٍ. والاستِفهامُ في قولِه: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا سؤالُ تَبكيتٍ؛ فعُدِلَ عن مُقْتضى الظَّاهرِ مِن إلقاءِ ضَرْبِ المثَلِ بصِيغةِ الأمْرِ، إلى إلقائِه بصِيغةِ المُضِيِّ؛ لإفادةِ صِدقِ عِلمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقد يُقال: إنَّما عُدِل عن أنْ يُصاغَ بصِيغةِ الطَّلبِ -كما في قولِه تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الكهف: 32] ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 45] ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] - إلى أنْ صِيغَ بصِيغةِ الخبرِ؛ ليُتَوسَّلَ بذلك إلى إسنادِه إلى اللهِ؛ تَنويهًا بشَأْنِ المثَلِ [684] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/304) و (23/399، 400). .
- قولُه: رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ... وما بَعْدَه في مَوضِعِ البَيانِ لـ مَثَلًا، وجَعْلُ المُمَثَّلِ به حالةَ رَجُلٍ، ليس لِلاحتِرازِ عنِ امرأةٍ أو طِفلٍ؛ ولكنْ لِأنَّ الرَّجُلَ هو الَّذي يَسبِقُ إلى أذهانِ النَّاسِ في المُخاطَباتِ والحِكاياتِ، ولِأنَّ ما يُرادُ مِنَ الرَّجُلِ مِنَ الأعمالِ أكثَرُ مِمَّا يُرادُ مِنَ المَرأةِ والصَّبيِّ، ولِأنَّ الرَّجُلَ أشَدُّ شُعورًا بما هو فيه مِنَ الدَّعةِ أو الكَدِّ، وأمَّا المَرأةُ والصَّبيُّ فقد يَغفُلانِ ويَلهَيانِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/401). .
- وهذا تَمثيلٌ لِحالِ المُشرِكِ في تَقسُّمِ عَقلِه بيْنَ آلِهةٍ كَثيرينَ، فهو في حَيرةٍ وشَكٍّ مِن رِضا بَعضِهم عنه، وغَضَبِ بَعضٍ، وفي تَردُّدِ عِبادَتِه إنْ أرضى بها أحَدَ آلِهَتِه، لَعَلَّه يُغضِبُ بها ضِدَّه؛ فرَغَباتُهم مُختَلِفةٌ، وبَعضُ القَبائِلِ أوْلى ببَعضِ الأصنامِ مِن بَعضٍ، ويَبقَى هو ضائِعًا لا يَدري على أيِّهم يَعتَمِدُ؛ فهَمُّه شَعاعٌ (مُتفرِّقٌ)، وقَلْبُه أوزاعٌ -بحالِ مَملوكٍ اشتَرَك فيه مالِكونَ لا يَخلونَ مِن أنْ يَكونَ بَيْنَهمُ اختِلافٌ وتَنازُعٌ، فهم يَتَعاوَرونَه في مِهَنٍ شَتَّى، ويَتَدافَعونَه في حَوائِجِهم، فهو حَيرانُ في إرضائِهم، تَعبانُ في أداءِ حُقوقِهم، لا يَستَقِلُّ لَحظةً، ولا يَتمَكَّنُ مِنِ استِراحةٍ، ويُقابِلُه تَمثيلُ حالِ المُسلِمِ المُوحِّدِ؛ يَقومُ بما كَلَّفَه رَبُّه، عارِفًا بمَرضاتِه، مُؤمِّلًا رِضاه وجَزاءَه، مُستَقِرَّ البالِ؛ بحالِ العَبدِ المَملوكِ الخالِصِ لِمالِكٍ واحِدٍ، قد عَرَف مُرادَ مَولاه، وعَلِم ما أوجَبَه عليه؛ ففَهْمُه واحِدٌ، وقَلبُه مُجتَمِعٌ، وكذلك الحالُ في كُلِّ مُتَّبِعِ حَقٍّ ومُتَّبِعِ باطِلٍ؛ فإنَّ الحَقَّ هو المُوافِقُ لِمَا في الوُجودِ والواقِعِ، والباطِلَ مُخالِفٌ لِما في الواقِعِ، فمُتَّبِعُ الحَقِّ لا يَعتَرِضُه ما يُشَوِّشُ عليه بالَه، ولا ما يُثقِلُ عليه أعمالَه، ومُتَّبِعُ الباطِلِ يَتَعثَّرُ به في مَزالِقِ الخُطى، ويَتخَبَّطُ في أعمالِه بيْن تَناقُضٍ وخَطَأٍ [686] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/126)، ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/401، 402)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/418). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا يَجوزُ أنْ يَكونَ تَقريريًّا، ويَجوزُ أنْ يَكونَ إنكاريًّا، وجيءَ فيه بـ هَلْ؛ لِتَحقيقِ التَّقريرِ أوِ الإنكارِ، والاقتِصارُ في التَّمييزِ على الواحِدِ لِبَيانِ الجِنسِ، وقد عُرِفَ التَّعدُّدُ مِن فاعلِ يَسْتَوِيَانِ [687] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/377)، ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/402). . وأيضًا جاء التَّعبيرُ بقولِه: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ولم يقُلْ: مَثَلَينِ؛ لأنَّهما كِلَيْهما ضُرِبَا مثَلًا واحدًا؛ فجَرى المثَلُ بالتَّوحيدِ، كما قال جَلَّ ثَناؤه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] ؛ إذ كان مَعناهما واحدًا في الآيةِ [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/200). .
- وجُملةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجوزُ أنْ تَكونَ جَوابًا لِلاستِفهامِ التَّقريريِّ، بِناءً على أنَّ أحَدَ الظَّرفَينِ المُقَرَّرَ عليهما مُحقَّقُ الوُقوعِ، لا يَسَعُ المُقرَّرَ عليه إلَّا الإقرارُ به، فيُقَدَّرونَ: أنَّهم أقَرُّوا بعَدَمِ استِوائِهما في الحالةِ، أيْ: بأنَّ أحَدَهما أفضَلُ مِنَ الآخَرِ؛ فإنَّ مِثلَ هذا الاستِفهامِ لا يَنتظِرُ السَّائلُ جوابًا عنه. وقد يُبنى على أنَّ المَسؤولَ اعتَرَف، فيُؤتَى بما يُناسِبُ اعتِرافَه كما هنا، فكَأنَّهم قالوا: لا يَستَويانِ، وذلك هو ما يَبتَغيه المُتكَلِّمُ مِنِ استِفهامِه، فلَمَّا وافَقَ جَوابُهم بُغيةَ المُستَفهِمِ حَمِدَ اللهَ على نُهوضِ حُجَّتِه، فتَكونُ الجُملةُ استِئنافًا؛ فمَوقِعُها كمَوقِعِ النَّتيجةِ بَعدَ الدَّليلِ، وتكون جُملةُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَرينةً على أنَّهم نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن عَلِم فأقَرَّ، وأنَّهم ليسوا كذلك في الأمْرِ نَفْسِه. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مُعتَرِضةً إذا جُعِل الاستِفهاُم إنكاريًّا، فتَكونَ مُعتَرِضةً بيْنَ الإنكارِ وبيْنَ الإضرابِ الانتِقاليِّ في قَولِه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أيْ: لا يَعلَمونَ عَدَمَ استِواءِ الحالَتَيْنِ، ولو عَلِموا لاختاروا لأنفُسِهمُ الحُسنَى منهما، ولَمَا أصَرُّوا على الإشراكِ، وأفادَ هذا أنَّ ما انتَحَلوه مِنَ الشِّركِ وتَكاذيبِه لا يَمُتُّ إلى العِلْمِ بصِلةٍ؛ فهو جَهالةٌ واختِلاقٌ [689] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/402، 403). .
- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَلْ لِلإضرابِ الانتِقاليِّ؛ تَسجيلًا عليهم بالجَهلِ المُفرِطِ، وأنَّهم مِمَّن طُبِعَ على قُلوبِهم، فلا يَلتَفِتونَ إلى هذه البَياناتِ الظَّاهِرةِ، والحُجَجِ المُتَظاهِرةِ، مع كمالِ ظُهورِها، فيَبْقَون في وَرطةِ الشِّركِ والضَّلالِ، وأسنَدَ عَدَمَ العِلْمِ لِأكثَرِهم؛ لِأنَّ أكثَرَهم عامَّةٌ أتْباعٌ لِزُعَمائِهمُ الَّذين سَنُّوا لهمُ الإشراكَ وشَرائِعَه؛ انتِفاعًا بالجاهِ والثَّناءِ الكاذِبِ، بحيثُ غَشَّى ذلك على عَمَلِهم [690] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/382)، ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/403). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
4- قولُه تعالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
- جُمْلَتا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ استِئنافٌ، تَمهيدٌ لِمَا يَعقُبُه مِنَ الاختِصامِ يَومَ القيامةِ، وعُطِفَ على هاتَينِ الجُملَتَينِ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ بحَرفِ (ثُمَّ) الدَّالِّ على التَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لِأنَّ الإنباءَ بالفَصلِ بيْنَهم يَومَ القيامةِ أهَمُّ في هذا المَقامِ مِنَ الإنباءِ بأنَّهم صائِرونَ إلى المَوتِ [691] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/404). .
- وأيضًا قولُه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ قَدَّم تذكيرَهم بأنَّ النَّاسَ كلَّهم صائِرونَ إلى الموتِ، وهذا مِنِ انتِهازِ القُرآنِ فُرَصَ الإرشادِ والمَوعِظةِ؛ فالمَقصودُ هو قَولُه: إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، فاغتُنِمَ هذا الغَرَضُ لِيُجتَلَبَ معه مَوعِظةٌ بما يَتقَدَّمُه مِنَ الحَوادِثِ؛ عَسى أنْ يَكونَ لهم بها مُعتَبَرٌ، فحَصَلتْ بهذا فَوائِدُ؛ منها: تَمهيدُ ذِكرِ يَومِ القِيامةِ، ومِنها التَّذكيرُ بزَوالِ هذه الحَياةِ، فهذانِ عامَّانِ لِلمُشرِكينَ والمُؤمِنينَ. ومنها: حَثُّ المُؤمِنينَ على المُبادَرةِ لِلعَمَلِ الصَّالِحِ. ومِنها: إشعارُهم بأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَموتُ كما مات النَّبيُّونَ مِن قَبلِه؛ لِيَغتَنِموا الانتِفاعَ به في حَياتِه، ويَحرِصوا على مُلازَمةِ مَجلِسِه. ومنها: ألَّا يَختَلِفوا في مَوتِه كما اختَلَفتِ الأُمَمُ في غَيرِه. ومنها: تَعليمُ المُسلِمينَ أنَّ اللهَ سَوَّى في المَوتِ بيْن الخَلقِ دُونَ رَعْيٍ لِتَفاضُلِهم في الحياةِ؛ لِتَكثُرَ السَّلوةُ، وتَقِلَّ الحَسرةُ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/403، 404). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (15/254). .
- والخِطابُ في قوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في التَّعريضِ بالمُشرِكينَ؛ إذْ كانوا يَقولونَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30]، والمَعنى: أنَّ المَوتَ يأتيكَ ويأتيهم، فما يُدري القائِلينَ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أنْ يَكونوا يَموتونَ قَبْلَكَ؟! وتَأكيدُ الخَبرَيْنِ بـ (إنَّ)؛ لِتَحقيقِ المَعنى التَّعريضيِّ المَقصودِ منهما [693] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/404). .
- قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تَأكيدُ هذه الجُملةِ بـ (إنَّ)؛ لِرَدِّ إنكارِ المُشرِكينَ البَعثَ [694] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/405). .
- وتَقديمُ عِنْدَ رَبِّكُمْ على تَخْتَصِمُونَ؛ لِلاهتِمامِ، ورِعايةِ الفاصِلةِ [695] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/405). .
- والاختِصامُ: قيل: هو كِنايةٌ عنِ الحُكمِ بيْنَهم، أيْ: يَحكُمُ بيْنَكم فيما اختَصَمتُم فيه في الدُّنيا؛ مِن إثباتِ المُشرِكينَ آلِهةً، وإبطالِكم ذلك؛ فهو كقَولِه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النحل: 124] . ويَجوزُ أنْ يَكونَ الاختِصامُ أُطلِقَ على حِكايةِ ما وَقَعَ بيْنَهم في الدُّنيا حينَ تُعرَضُ أعمالُهم، كما يُقالُ: هذا تَخاصُمُ فُلانٍ وفُلانٍ، في طالِعِ مَحضَرِ خُصومةٍ ومُقاوَلةٍ بيْنَهما يُقرَأُ بيْن يَدَيِ القاضي. ويَجوزُ أنْ تُصوَّرَ خُصومةٌ بيْن الفَريقَينِ يَومَئِذٍ؛ لِيُفتَضَحَ المُبطِلونَ، ويُبهَجَ أهلُ الحَقِّ، على نَحوِ قَولِه تَعالى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [696] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/405). [ص: 64] .