موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (24-26)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

الْخِزْيَ: أي: الذُّلَّ والهوانَ، بما أنزَل بهم مِن العذابِ والنَّكالِ، وأصلُ الخِزيِ: الإبعادُ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: أفمَن يَلْقى النَّارَ بوَجهِه يَومَ القيامةِ لِيَكُفَّها عن نَفْسِه: خَيرٌ أمَّنْ هو آمِنٌ مِن العذابِ؟ ويُقالُ للظَّالِمينَ: ذُوقوا جزاءَ ما كُنتُم تَكسِبونَ مِن الكُفرِ والعِصيانِ.
كذَّب الَّذين مِن قَبْلِهم مِن كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ، فأهلَكَهم اللهُ بالعَذابِ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ، فأذاقهم اللهُ العذابَ الَّذي يُذِلُّهم ويُخزِيهم في الحياةِ الدُّنيا، ولَعذابُ الآخرةِ أكبَرُ، لو كانوا يَعلَمونَ ذلك لاتَّعَظوا وآمَنوا.

تفسير الآيات:

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أتَمَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الإنكارَ على مَن سَوَّى بيْنَ مَن شَرَح صَدْرَه ومَن ضَيَّق، وما تَبِعَه، وخَتَم بأنَّ الأوَّلَ مُهتَدٍ، والثَّانيَ ضالٌّ؛ شَرَع في بيانِ ما لِكُلٍّ منهما .
وأيضًا لَمَّا حَكَم على القاسيةِ قُلوبُهم بحُكمٍ في الدُّنيا، وهو الضَّلالُ التَّامُّ؛ حَكَم عليهم في الآخِرةِ بحُكمٍ آخَرَ، وهو العَذابُ الشَّديدُ، فقال :
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: أفمَن يتَّقي بوَجهِه العَذابَ السَّيِّئَ يومَ القيامةِ خَيرٌ أمَّنْ ليس كذلك، فهو مِنَ الآمِنينَ المُنعَّمِينَ ؟
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
أي: ويُقالُ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم في الدُّنيا بالكُفرِ والمعاصي: ذوقوا جزاءَ ما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن كُفرٍ وعِصيانٍ .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55] .
وقال سُبحانَه: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48].
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25).
أي: كذَّب كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلَهم، فأهلَكَهم اللهُ بعَذابٍ جاءَهم مِن جِهةٍ لم يَتوقَّعوا مَجيئَه منها .
كما قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام: 148] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأعراف: 96 - 100] .
وقال عزَّ وجلَّ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [النحل: 26] .
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26).
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: فعَجَّل اللهُ لِكُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ عَذابَ الذُّلِّ والهَوانِ في الحياةِ الدُّنيا .
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان انتِظارُ الفَرَجِ مِمَّا يُسَلِّي، قال مُعْلِمًا أنَّ عَذابَهم دائِمٌ على سَبيلِ التَّرقِّي إلى ما هو أشَدُّ :
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولَعذابُ الآخِرةِ أكبَرُ مِن عَذابِ الدُّنيا، فلو كانوا يَعلَمونَ ذلك لاعتَبَروا واتَّعَظوا، فآمَنوا ولم يُعَرِّضوا أنفُسَهم لِعَذابِ اللهِ تعالى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ جُعِل إتيانُه مِن مَأمَنِهم؛ لِيَكونَ ذلك أوجَعَ للمُعَذَّبِ، وأدَلَّ على القُدرةِ، بأنَّه سَواءٌ عندَه تعالى الإتيانُ بالعذابِ مِن جِهةٍ يُتوقَّعُ منها، ومِن جِهةٍ لا يُتوقَّعُ أن يأتيَ منها شَرٌّ ما -فَضلًا عمَّا أُخِذوا به- بل لا يُتوقَّعُ منها إلَّا الخَيرُ !
2- في قَولِه تعالى: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أنَّه لَمَّا بَيَّن أنَّه أتاهم العَذابُ في الدُّنيا؛ بَيَّنَ أيضًا أنَّه أتاهم الخِزيُ، وهو الذُّلُّ والصَّغارُ والهَوانُ؛ والفائِدةُ في ذِكرِ هذا القَيدِ: أنَّ العذابَ التَّامَّ هو أن يَحصُلَ فيه الألمُ مَقرونًا بالهَوانِ والذُّلِّ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
- قولُه: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ استِئنافٌ جارٍ مَجرى التَّعليلِ لِمَا قَبْلَه مِن تَبايُنِ حالَيِ المُهتَدي والضَّالِّ . أو اعتراضٌ بيْن الثَّناءِ على القُرآنِ فيما مضَى وقولِه الآتي: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] . وقيل: هو تَفريعٌ على جُملةِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] ، بدَلالةِ مَجموعِ الجُملتَينِ على فَريقينِ: فَريقٍ مُهتدٍ، وفريقٍ ضالٍّ، ففُرِّعَ على ذلك هذا الاستِفهامُ، وفي الكلامِ حذْفٌ، تَقديرُه: كمَنْ أمِنَ العذابَ، أو كمَنْ هو في النَّعيمِ؟ والاستِفهامُ تَقريريٌّ، أو إنكاريٌّ، والمَقصودُ: عَدَمُ التَّسويةِ بيْن مَن هو في العَذابِ، وهو الضَّالُّ، ومَن هو في النَّعيمِ، وهو الَّذي هداه اللهُ، وحُذِفَ حالُ الفَريقِ الآخَرِ؛ لِظُهورِه مِنَ المُقابَلةِ الَّتي اقتَضاها الاستِفهامُ، وتَقديرُ الكَلامِ: أفمَن يَتَّقي بوَجهِه سُوءَ العَذابِ لِأنَّ اللهَ أضَلَّه، كمَنْ أمِنَ مِنَ العَذابِ لِأنَّ اللهَ هَداه؟ ويَجوزُ أنْ يَكونَ الكَلامُ تَفريعًا على جُملةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] ، تَفريعًا لِتَعيينِ ماصَدَقَ (مَنْ) في قَولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، ويَكونَ (مَن يَتَّقي) خَبَرًا لِمُبتَدأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: أفهو مَن يَتَّقي بوَجهِه سُوءَ العَذابِ؟ والاستِفهامُ لِلتَّقريرِ .
- قولُه: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا كان وَجْهُ الإنسانِ ليس مِن شأْنِه أنْ يُوقَى به شَيءٌ مِن الجسَدِ؛ إذ الوجهُ أعَزُّ ما في الجسَدِ، وهو يُوقَى ولا يُتَّقى به؛ فإنَّ مِن جِبِلَّةِ الإنسانِ إذا تَوقَّعَ ما يُصِيبُ جسَدَه، ستَرَ وَجْهَه خوفًا عليه؛ فتعيَّنَ أنْ يكونَ الاتِّقاءُ بالوَجهِ مُستعمَلًا كِنايةً عن عَدَمِ الاتِّقاءِ، على طَريقةِ التَّهكُّمِ أو التَّلميحِ، فكأنَّه قِيل: مَن يَطلُبُ وِقايةَ وَجهِه، فلا يَجِدُ ما يَقِيه به إلَّا وَجهَه، وهذا مِن إثباتِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ نفْيَه .
- قَولُه: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فيه احتِباكٌ ؛ فذَكَر الاستِفهامَ أوَّلًا دَليلًا على حَذفِ مُتعَلَّقِه ثانيًا، وما يُقالُ للظَّالمِ ثانيًا دَليلًا على ما يُقالُ للعَدلِ أوَّلًا .
- قولُه: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ جاءَ فِعلُ وَقِيلَ بصِيغةِ المُضيِّ وهو واقِعٌ في المُستَقبَلِ؛ لِأنَّه لِتَحقُّقِ وُقوعِه نُزِّلَ مَنزِلةَ فِعلٍ مَضى. ويَجوزُ أنْ يَكونَ جُملةُ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ في مَوضِعِ الحالِ، بتَقديرِ (قد)؛ ولذلك لا يُحتاجُ إلى تأويلِ صِيغةِ المُضيِّ على مَعنى الأمْرِ المُحقَّقِ وُقوعُه .
- والتَّعبيرُ هنا بـ (الظَّالِمينَ) إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ -على القولِ بأنَّ المرادَ بالظالِمينَ هنا المشرِكونَ المُتحدَّثُ عنهم-؛ لِلإيماءِ إلى أنَّ ما يُلاقونَه مِنَ العَذابِ مُسَبَّبٌ على ظُلمِهم، أيْ: شِركِهم، أي: أفمَن يَتَّقي بوَجهِه سُوءَ العَذابِ فلا يَجِدُ وِقايةً تُنجيه مِن ذَوقِ العَذابِ؟ فيُقالُ لهم: ذُوقوا العَذابَ.
ويَجوزُ أنْ يَكونَ المُرادُ بالظَّالِمينَ جَميعَ الَّذين أشرَكوا باللهِ مِنَ الأُمَمِ، غَيرَ خاصٍّ بالمُشرِكينَ المُتَحدَّثِ عنهم؛ فيَكونَ (الظَّالِمينَ) إظهارًا على أصْلِه؛ لِقَصدِ التَّعميمِ؛ فتَكونَ الجُملةُ في مَعنى التَّذييلِ، أيْ: ويُقالُ لِهؤلاء وأشباهِهم، ويَظهَرُ بذلك وَجهُ تَعقيبِه بقَولِه: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: 25] .
- قولُه: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ المَذوقُ هو العَذابُ؛ فهو جَزاءُ ما اكتَسَبوه في الدُّنيا مِنَ الشِّركِ وشَرائِعِه، فجُعِلَ المَذوقُ نَفْسَ ما كانوا يَكسِبونَ؛ مُبالَغةً مُشيرةً إلى أنَّ الجَزاءَ وَفْقَ أعمالِهم، وأنَّ اللهَ عادِلٌ في تَعذيبِهم .
- وأُوثِرَ تَكْسِبُونَ على (تَعمَلونَ)؛ لِأنَّ خِطابَهم كان في حالِ اتِّقائِهم سُوءَ العَذابِ، ولا يَخلو حالُ المُعذَّبِ مِنَ التَّبرُّمِ الَّذي هو كالإنكارِ على مُعَذِّبِه؛ فجيءَ بالصِّلةِ الدَّالَّةِ على أنَّ ما ذاقوه جَزاءُ ما اكتَسَبوه؛ قَطعًا لِتَبرُّمِهم .
2- قولُه تعالَى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لِأنَّ ما ذُكِر قَبْلَه مِن مَصيرِ المُشرِكينَ إلى سُوءِ العَذابِ يَومَ القِيامةِ ويَومَ يُقالُ لِلظَّالِمينَ هم وأمثالِهم: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] ؛ يُثيرُ في نُفوسِ المُؤمِنينَ سُؤالًا عن تَمتُّعِ المُشرِكينَ بالنِّعمةِ في الدُّنيا، ويَتمَنَّوْنَ أنْ يُجعَلَ لهمُ العَذابُ؛ فكان جَوابًا عن ذلك قَولُه: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أيْ: هم مَظِنَّةُ أنْ يَأتيَهم العَذابُ، كما أتَى العَذابُ الَّذين مِن قَبلِهم، إذْ أتاهمُ العَذابُ في الدُّنيا بدُونِ إنذارٍ، غَيرَ مُتَرقِّبينَ مَجيئَه، فكان عَذابُ الدُّنيا خِزيًا يُخزي به اللهُ مَن يَشاءُ مِنَ الظَّالِمينَ، وأمَّا عَذابُ الآخِرةِ فجَزاءٌ يَجزي به اللهُ الظَّالِمينَ على ظُلمِهم .
- وضَميرُ مِنْ قَبْلِهِمْ عائِدٌ على (مَنْ) في قولِه: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 24] باعتبارِ أنَّ معنى (مَن) جمْعٌ، وفي هذا تَعريضٌ بإنذارِ المُشرِكينَ بعَذابٍ يَحِلُّ بهم في الدُّنيا، وهو عذابُ السَّيفِ الَّذي أخزاهم اللهُ به يومَ بَدرٍ؛ فالمرادُ بالعذابِ الَّذي أتَى الَّذين مِن قبْلِهم: هو عذابُ الدُّنيا؛ لأنَّه الَّذي يُوصَفُ بالإتيانِ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ .
- والفاءُ في قَولِه: فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ دالَّةٌ على تَسَبُّبِ التَّكذيبِ في إتيانِ العَذابِ إليهم، فلَمَّا ساواهم مُشرِكو العَرَبِ في تَكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كان سَبَبُ حُلولِ العَذابِ بأولئك مَوجودًا فيهم، فهو مُنذِرٌ بأنَّهم يَحِلُّ بهم مِثلُ ما حَلَّ بأولئك .
قولُه تعالَى: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ في هذه الآيةِ احتِباكٌ ، حيثُ ذكَرَ (الخِزْي) أوَّلًا دليلًا على إرادتِه ثانيًا، و(الأكْبَر) ثانيًا دليلًا على الكَبيرِ أوَّلًا. وسِرُّ هذا الاحتِباكِ: تَغليظُ الأمْرِ عليهم -بالجمْعِ بيْن الخِزيِ والعذابِ- لِمَا فَعَلوا برُسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، بخِلافِ ما في سُورةِ (فُصِّلت) في قولِه تعالى: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى [فصلت: 16] ؛ فإنَّ سِياقَه للطَّعنِ في الوَحدانيَّةِ، وهي لِكثرةِ أدلَّتِها، وبُعدِها عن الشُّكوكِ، وعظيمِ المتَّصِفِ بها، وعدَمِ تأْثيرِه بشَيءٍ؛ يَكفي في نَكالِ الكافرِ به مُطلَقُ العذابِ .
- وعُطِفَ قَولُه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ على فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِلاحتِراسِ، أيْ: إنَّ عَذابَ الآخِرةِ هو الجَزاءُ، وأمَّا عَذابُ الدُّنيا فقد يُصيبُ اللهُ به بَعضَ الظَّلَمةِ زِيادةَ خِزيٍ لهم .
- وقولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعتَرِضةٌ في آخِرِ الكَلامِ، ومَفعولُ يَعْلَمُونَ دَلَّ عليه الكَلامُ المُتقَدِّمُ، أيْ: لو كان هؤلاء يَعلَمونَ أنَّ اللهَ أذاقَ الآخَرينَ الخِزيَ في الدُّنيا بسَبَبِ تَكذيبِهمُ الرُّسُلَ، وأنَّ اللهَ أعَدَّ لهم عَذابًا في الآخِرةِ هو أشَدُّ، وضَميرُ يَعْلَمُونَ عائِدٌ إلى ما عادَ إليه ضَميرُ قَبْلِهِمْ [الزمر: 25] .
وجَوابُ لَوْ مَحذوفٌ، دَلَّ عليه التَّعريضُ بالوَعيدِ في قَولِه: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: 25] الآيةَ، تَقديرُه: لو كانوا يَعلَمونَ أنَّ ما حَلَّ بهم سَبَبُه تَكذيبُهم رُسُلَهم كما كَذَّبَ هؤلاء مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . على قولٍ في التفسيرِ.