موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (91-93)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

الطُّورَ: الجبل الشاهق، أو اسم لكلِّ جبل، أو الجبل المنبت، أو اسمُ جبلٍ مخصوصٍ، وأصل طور: الامتدادُ في شيءٍ من مكان أو زمان [800] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 52، 281)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/430)، ((المفردات)) للراغب (2/39)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 459)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 91، 392). .

المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى عن اليهود أنَّهم حين أُمِروا بالإيمان بالقرآن كان ردُّهم بأنَّ إيمانهم بالتوراة يَكفيهم، وجحَدوا بما جاء بعد التوراة من الكتُب التي أنزلها الله تعالى، مع أنَّ ما فيها حقٌّ موافِقٌ للذي عندهم في التوراة.
فأمَر الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يسألهم إنْ كانوا حقًّا مؤمنين بما في التوراة؛ فَلِمَ يَقتُلون أنبياءَ الله الذين جاؤوا بتصديق ما فيها؟!
ثمَّ ذَكَّرهم الله تعالى بما فعَلوه حين أتاهم موسى عليه السَّلام بالآيات الواضحات، الدَّالَّات على صِدق ما جاء به، لكنَّهم جعَلوا العِجل إلهًا يعبدونه بعد أنْ فارقهم موسى لمناجاة ربِّه، مُتعدِّين بذلك حدودَ الله تعالى.
وذَكَّرهم سبحانه أيضًا بما أَخَذ عليهم من عهد الإيمان به وبرُسله، والالتزام بشَرْعه، وخوَّفهم بأنْ رفَعَ الجبل فوقهم، وقيل لهم: خذوا التوراة التي أعطيناكموها بحَزمٍ وجِدٍّ، واسمعوا كلامَ الله وانقادوا له، فأجاب اليهود بأنَّهم سمِعوا بآذانهم، وعصَوْا بأفعالهم، وقد خالَط حبُّ العجل قلوبَهم؛ بسبب كفرهم، فإنْ كانوا يدَّعون الإيمان ويفعلون كلَّ تلك القبائح، فبِئس ذلك الإيمان الذي ادَّعوْه!

تفسير الآيات:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا.
أي: وإذا قيل لليهود الذين كانوا على عهد رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: آمِنوا بالقرآن الذي أَنزلَه اللهُ تعالى، ردُّوا على ذلك بأنَّه يَكفيهم الإيمانُ بالتوراة [801] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/254)، ((العقود)) لابن تَيميَّة (ص: 12)، ((تفسير ابن كثير)) (1/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). .
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ.
أي: إنَّ اليهود يَجحدون بما بعد التَّوراة من كتُب الله تعالى التي أنزلها إلى رُسلِه عليهم الصَّلاة والسَّلام، والحال أنَّ ما أنزله الله عزَّ وجلَّ هو الحقُّ الموافِق لِمَا عندهم من التوراة؛ فَلِمَ يؤمنون بما أُنزل عليهم، ويَكفُرون بنظيره؟! هل هذا إلَّا تعصُّب واتِّباع للهوى؟! فكُفرهم بالقرآن، كُفرٌ بما في أيديهم، ونقضٌ له [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/255-256)، ((تفسير ابن كثير)) (1/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). وممَّن قال من السَّلف: إنَّ مَا وَرَاءَهُ، أي: ما بَعدَ التوراة من الكتُب: أبو قتادة، وأبو العالية، والرَّبيع، يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/255)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/174). .
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: قلْ يا محمَّد، لهؤلاء اليهود المتناقضين: إنْ كنتم صادقين في دَعواكم الإيمانَ بالتوراة، فَلِمَ قَتلتُم- والمقصود أسلافُهم [803] وهذا نظيرُ قول العَرَبِ بعضِها لبعضٍ: فَعَلْنا بِكم يومَ كذا، كذا وكذا، وفعلتُم بنا يومَ كذا، كذا وكذا، يَعنُون بذلك: أنَّ أسلافَنا فعَلوا بأسلافِكم، وأنَّ أوائِلَنا فَعَلوا بأوائلكم. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/259). - الأنبياءَ الذين جاؤوكم بتصديق التوراة والحُكم بها وعدَم نَسخِها، وأنتم تعلمون صِدقَهم، وقد حرَّم الله عليكم في التوراة قتْلَهم، بل أمرَكم فيها باتِّباعهم وطاعتهم؟! وهذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [804] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/256-257، 260)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/100)، ((تفسير ابن كثير)) (1/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لمَّا بيَّن الله تعالى كذِبَ اليهود في دعواهم الاكتفاء بالإيمان بالتوراة، مع كُفرهم بالقرآن، ذكر أنَّهم لم يَصْدُقوا حتى في دعواهم الإيمانَ بالتوراة؛ فقد قابَلوا دعوة موسى عليه السَّلام- الذي يزعمون أنَّهم لا يؤمنون إلَّا بما جاءهم به- قابلوا دعوتَه بالكُفر والعِصيان، فقال سبحانه [805] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/609). :
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قد جاءكم يا معشرَ اليهود، موسى عليه السَّلام، بالآيات الواضحاتِ، والأدلَّة القاطعة على صِدقه وصِحَّة رِسالته، كالعصا واليَد، وغيرهما من المُعجِزات المؤيِّدة له [806] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/261)، ((تفسير ابن كثير)) (1/329). .
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ.
أي: إنَّكم يا مَعشرَ يهود، كفرتُم بما جاءكم به موسى عليه السَّلام من توحيدِ الله تعالى، فجعلتُم العِجل إلهًا تَعبُدونه، من بعد ذَهاب موسى إلى الطُّور لمناجاة ربِّه سبحانه، وأنتم بهذا قد تَعدَّيتم حدودَ الله عزَّ وجلَّ، وليس لكم أن تفعلوا ذلِك وأنتم تعلمون أنَّه لا معبودَ بحقٍّ سواه، وليس في التوراة- التي تَدَّعون تمسُّككم بها فحسبُ- أمرُكم بعبادة العِجل؛ فدعواكم أنَّكم مؤمنون بالتوراة، باطلةٌ [807] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/261-262)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/175)، ((تفسير ابن عطية)) (1/180)، ((تفسير ابن كثير)) (1/329)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/609)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/300). .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.
أي: واذكُروا يا معشر اليهود، حين أَخذْنا عليكم عهدًا مؤكَّدًا بالإيمان بالله سبحانه وبرُسله، والالتزام بشرعِه، ورَفعْنا فوقكم الجبلَ لتخويفكم؛ كي تقرُّوا بما عُوهِدتم عليه، وتعملوا به [808] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/46-48)، ((الروح)) لابن القيِّم (ص: 167)، ((تفسير ابن كثير)) (1/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 54)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/541-542). .
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا.
أي: قلنا لهم تلقَّوُا التوراة التي أعطيناكم إيَّاها، بهِمَّةٍ وحزمٍ، وجِدٍّ ونشاط، واسمعوا لكلام الله تعالى سماعَ قَبول واستجابة وانقياد [809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/262)، ((تفسير ابن عطية)) (1/180)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/609-610)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/40)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/302). .
قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.
أي: كان جوابهم على ما سبق أنْ قالوا: سمِعْنا بآذاننا قولَك، وعصينا بأفعالِنا ما أُمِرْنا به [810] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/263)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/175-176)، ((تفسير ابن عطية)) (1/180)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/302-303). .
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
أي: خالَط حبُّ العِجل وعبادته شغافَ قلوبِهم، وتغلغل في أعماقها، كالماء الذي يَتغلغل في باطِن أعضاء الجسَد، وإنَّما وقع لهم ذلك؛ بسبب جُحودِهم الحقَّ [811] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/265)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/176)، ((الرد على الأخنائي)) لابن تَيميَّة (1/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/611)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/303-304). وممَّن قال بهذا القول من السَّلف: قتادة، وأبو العالية، والرَّبيع بن أنس. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/176). .
قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: أنتم تدَّعون الإيمانَ، مع أنَّكم قتلتُم أنبياءَ الله، واتَّخذتم العِجل إلهًا من دون الله، ولم تَنقادوا لكلامِه؛ فما هذا الإيمان الذي تدَّعون؟! فإنْ كان هذا إيمانًا بزعمكم، فبِئس الإيمانُ الداعي صاحبَه إلى الطُّغيان، والكفرِ برُسل الله، وكثرةِ العصيان! فإنَّ الإيمان الصَّحيح يأمُر صاحبَه بكلِّ خير، وينهاه عن كلِّ شر؛ فتبيَّن بهذا كذبُهم، وتناقضُهم [812] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/266-267)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 118)، ((تفسير ابن كثير)) (1/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). .

الفوائد التربويَّة:

1- وجوب تلقِّي شريعة الله تعالى بقوَّة، دون كسَلٍ أو فُتور؛ لقوله تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [813] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/305). .
2- في قوله تعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 93] ، دلالةٌ على أنَّ الإيمان الصَّحيح يأمُر صاحبَه بالطاعات لا بالمعاصي [814] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 59). .
3- في قوله تعالى ذامًّا بني إسرائيل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91] ، دلالةٌ على وجوب قَبول الحقِّ مِن كلِّ مَن جاء به [815] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/298). .
4- أنَّ الشرَّ لا يُسنده الله تعالى إلى نفْسه، وإنْ كان هو سبحانه الخالِقَ للخير والشرِّ، بل يَذكُره بصيغة المبنيِّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله؛ لقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِم [816] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/306). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- ممَّا يُستفاد من قوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [البقرة: 91] ، أن الله تعالى لَمَّا رفَع مقدار بني إسرائيل بالدُّعاء إلى الإيمان بما أُسنِد إلى هذا الاسم العظيم في قوله: أَنْزَلَ اللهُ قالوا تسفيلًا لأنفسهم: نؤمِن بما أُنزل عَلَينا، فأَسقطوا اسمَ مَن يُتشرَّف بذِكره، ويُتبرَّك باسمه، وخصُّوا بعضَ ما أنزله سبحانه [817] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/47). .
2- إفحام الخَصْم بإقامة الحُجَّة عليه مِن فِعله؛ ووجه ذلك: أنَّ الله تعالى أقام على اليهود الحُجَّةَ عليهم بفِعلهم؛ لأنَّهم قالوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا، لكنَّهم قتَلوا أنبياء الله الذين جاؤوهم بالحقِّ من ربِّهم، فعُلم إذًا أنَّ قولهم: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ليس بصحيح؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنين حقيقةً ما قتَلوا الأنبياء؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [818] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/299). ؟!
3- مِن دَلائل النبوَّة والمعجِزات العلميَّة، إشاراتُ القرآن إلى العِبارات التي نطَق بها موسى عليه السلام في بني إسرائيل، وكُتبت في التوراة؛ فإنَّ الأمر بالسَّماع تَكرَّر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله: اسمَعْ يا إسرائيل، وجاء في القرآن: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة: 93] ، فهذا من نُكت اختيار هذا اللَّفْظ للدَّلالة على الامتثال دون غيرِه، وهذا مِثل التعبير بالعهد [819] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/610). .

بلاغة الآيات:

1- في قوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
الاستفهام للتبكيت والتوبيخ [820] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 129). .
وجاء قوله: تَقْتُلُونَ بصيغة المضارع، مع أنَّ الكلام عن الماضي بدليل قوله: مِنْ قَبْلُ، ومعلومٌ أنَّه لا يجوز أن يُقال: أنا أضربك أمس؛ وهذا إنما حسُن في هذه الآية؛ لأنَّ ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصِّفة اللازمة كقوله تعالى: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ [البقرة: 102] ولم يقل: ما تَلَت؛ لأنَّه أراد: مِن شأنها التِّلاوة، فأراد هنا: مِن شأنهم القَتْل، وللإعلام بأنَّ الأمر مستمرٌّ؛ ففيه إشارةٌ لليهود الذين في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أرادوا قتْله عليه الصَّلاة والسَّلام، لولا أنَّ الله تعالى عَصمَه منهم. وربَّما يكون خِطابًا لمن كانوا في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال لهم: لِمَ ترضَوْن بقتْل الأنبياء من قبلُ؟ لأنَّ الراضي بالقتل بمنزلة القاتل، فصحَّ أن يُقال للرَّاضين بالقتل لِمَ تَقْتُلُونَ [821] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/603-604)، ((تفسير أبي حيان)) (1/493). .
وفيه ما يُعرف بالاحتباك [822] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ من الأوائل لدَلالة الأواخِر، والحذفُ من الأواخر لدَلالة الأوائل، إذا  اجتمَع الحذفان معًا، وله في القرآن نظائرُ، وهو من إبداعاتِ القرآن وعناصر إعجازِه، وهو من ألطفِ الأنواع. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ حيث حُذِف الشرطُ الأوَّل، (والتقدير: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون أنبياء الله؟)، والجوابُ الأخير، (والتقدير: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم؟) [823] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/493)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 130). .
2- قوله: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فيه تأكيدٌ بالقَسَم؛ للاهتمام بالخبر، أو لتنزيلهم منزلة المنكرين؛ لعدم حِرصهم على موجب العلم [824] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 131). .
3- قوله: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ عبر بالجملة الاسميَّة للدَّلالة على استمرارهم في الظُّلم وثُبوتهم الأصلي عليه [825] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 131). .
4- قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ كرَّر رفْع الطور؛ لِمَا تعلَّق به من زيادة ليست مع الأوَّل وهي قولهم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، مع ما فيه من التوكيد وإيجاب الحُجَّة على الخَصْم على عادة العرب، وتذكارهم بتعداد نِعم الله تعالى عليهم ونِقَمه منهم، ليزدجرَ الأخلاف بما حلَّ بالأسلاف [826] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/166)، ((تفسير أبي حيان)) (1/507)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/609). .
5- في قوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
جاء التعبير بالفِعل المبنيِّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله أُشْرِبُوا؛ إشارةً إلى أنَّ حبَّهم للعجل بلَغ مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه، كأنَّ غيرهم أشربهم إيَّاه [827] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/495)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/611). .
وفيه: إيجاز بالحذف، والتقدير: (حب العجل) أو (حب عبادة العجل)، وحسُن الحذف هنا، وأُسند الإشراب إلى ذات العِجل مبالغةً في حبِّهم له، أو لعبادته [828] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/604)، ((تفسير القاسمي)) (1/353). .
وفيه: تشبيهٌ بليغ؛ حيث صوَّر قلوبهم لتمكُّن حبِّ العجل منها كأنها تَشرَب؛ وعبر بالشُّرب إشارةً إلى أنَّ تلك المحبة كانت مادَّةً لجميع ما صدَر عنهم من الأفعال، مثلما أنَّ الشُّرب مادةٌ لحياةِ ما تنبته الأرض [829] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/149). .
6- في قوله: يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ جاءت إضافة الأمر إلى إيمانهم من باب التهكُّم؛ إذ الإيمان الحقيقي لا يأمر إلا بخير، وكذلك إضافة الإيمان إليهم؛ لأنَّهم ليسوا بمؤمنين حقيقةً؛ ولإظهار أنَّ الإيمان المذموم هو إيمانُهم، أي: الذي دخَلَه التحريف والاضطراب [830] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/56). .