موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (48-52)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

مَكْظُومٌ: مَكروبٌ، مُمتَلِئٌ خَوفًا وحُزنًا، والكَظْمُ: ترَدُّدُ الغَيظِ والخَوفِ والحُزنِ في القَلبِ حتَّى يَضيقَ به، وأصلُ (كظم): يدُلُّ على إمساكٍ وجَمعٍ للشَّيءِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/199)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/184)، ((تفسير القرطبي)) (18/253)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
لَنُبِذَ: أي: لأُلقِيَ وطُرِحَ، وأصلُ (نبذ): يدُلُّ على إلقاءِ الشَّيءِ وطَرْحِه؛ لقِلَّةِ الاعتِدادِ به [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن كثير)) (7/423). .
بِالْعَرَاءِ: أي: المكانِ الخالي، لا يَتوارى فيه بشَجَرٍ ولا غَيرِه، وأصلُه: يدُلُّ على خُلُوٍّ ومُفارَقةٍ [364] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((تفسير ابن جرير)) (19/631)، ((المفردات)) للراغب (ص: 562)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355). .
فَاجْتَبَاهُ: أَي: اصطَفاه واختارَه، والاجتِباءُ: الجَمعُ على طريقِ الاصطِفاءِ، وأصْلُ (جبي): يدُلُّ على جَمعِ الشَّيءِ [365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/201)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 505)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/503)، ((المفردات)) للراغب (ص: 186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 55)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .
لَيُزْلِقُونَكَ: أي: لَيَرمُونَك، ويُزيلونَك عن مَوضِعِك؛ مِن حِدَّةِ نَظَرِهم إليك بأبصارِهم، كما يُقالُ: كاد يَصرَعُني لشِدَّةِ نَظَرِه إلَيَّ؛ مِنْ: أزلَقَه عن مَوضِعِه: إذا رماه ونحَّاه، وأصلُ (زلق): يدُلُّ على تزلُّجِ الشَّيءِ عن مَقامِه [366] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 539)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((البسيط)) للواحدي (22/120)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 422). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- لِما حكَمَ اللهُ به شرعًا وقدَرًا، ولا تَكُنْ -يا مُحمَّدُ- في الغَضَبِ والعَجَلةِ على قَومِك كيُونُسَ الَّذي حُبِسَ في بَطنِ الحُوتِ، حينَ نادى رَبَّه قائِلًا: «لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك إنِّي كُنتُ مِن الظَّالِمينَ»، وصَدْرُه مَملوءٌ غَيظًا وغَمًّا.
لولا أنْ أدرَكَتْ يُونُسَ رَحمةٌ عَظيمةٌ مِن رَبِّه لَطُرِحَ بالأرضِ الخاليةِ مِن كلِّ شَيءٍ وهو يُذَمُّ ويُلامُ بالذَّنْبِ، فاصطفاه رَبُّه وجعَلَه مِن عِبادِه الصَّالِحينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه شدَّةَ عداوةِ الكفَّارِ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: ولقد كاد الَّذين كَفَروا أن يُسقِطوك ويَصرَعوك -يا مُحمَّدُ- مِن إحدادِ نَظَرِهم إليك؛ عَداوةً وغَيظًا وحَسَدًا، ويقولونَ: إنَّ محمَّدًا لَمجنونٌ! وما هذا القُرآنُ إلَّا تذكيرٌ وعِظةٌ للعالَمينَ!

تفسير الآيات:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بالَغَ اللهُ تعالَى في تَزييفِ طَريقةِ الكفَّارِ، وفي زَجْرِهم عمَّا همْ عليه؛ قال لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [367] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/616). :
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ.
أي: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- لِما حكَمَ اللهُ به شرعًا وقدَرًا: بتبليغ رِسالتِه، والانقيادِ التَّامِّ لأمرِه، وتحمُّلِ أذى الكُفَّارِ والمُشرِكينَ في سَبيلِ ذلك دونَ سخطٍ أو جزَعٍ لإمهالِهم [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/199)، ((الوسيط)) للواحدي (4/341)، ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((تفسير ابن كثير)) (8/201)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/330، 331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881). قال الرازي: (فيه وَجهانِ؛ الأوَّلُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في إمهالِهم، وتأخيرِ نُصرتِك عليهم. والثَّاني: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في أنْ أوجَبَ عليك التَّبليغَ والوَحيَ وأداءَ الرِّسالةِ، وتحمَّلْ ما يَحصُلُ بسَبَبِ ذلك مِنَ الأذى والمحنةِ). ((تفسير الرازي)) (30/616). ممَّن ذهب إلى الوجهِ الأوَّلِ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، وأبو حيَّان، وأبو السعود، والألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/596)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 237)، ((تفسير النسفي)) (3/526)، ((تفسير أبي حيان)) (10/248)، ((تفسير أبي السعود)) (9/19)، ((تفسير الألوسي)) (15/41)، ((تفسير القاسمي)) (9/306). وممَّن ذهب إلى الوَجهِ الثَّاني: ابنُ جرير، وابن عطية، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/199)، ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((تفسير ابن كثير)) (8/201). وقال السعدي: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ: أي: لمَا حكَم به شرعًا وقدرًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 881) .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] .
وقال سُبحانَه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ... [الطور: 48].
وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ.
أي: ولا تَكُنْ -يا مُحمَّدُ- في الضَّجَرِ والغَضَبِ، والعَجَلةِ وقِلَّةِ الصَّبرِ على قَومِك؛ كيُونُسَ الَّذي حُبِسَ بسَبَبِ ذلك في بَطنِ الحُوتِ [369] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/199)، ((الوسيط)) للواحدي (4/341)، ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((تفسير ابن كثير)) (8/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881). .
إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ.
أي: حينَ نادى رَبَّه قائِلًا: «لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك إنِّي كُنتُ مِن الظَّالِمينَ»، وصَدْرُه مَملوءٌ غَيظًا وغَمًّا وهَمًّا [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/199)، ((الوسيط)) للواحدي (4/341)، ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((تفسير ابن كثير)) (8/201)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/331، 332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881). قيل: العامِلُ في إِذْ معنى قَولِه: كَصَاحِبِ الْحُوتِ، أي: لا تَكُنْ كمَن صَحِبَ الحُوتَ حالَ نِدائِه؛ وذلك لأنَّه في ذلك الوَقتِ كان مكظومًا، فكأنَّه قيل: لا تكُنْ مَكظومًا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الرَّازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/616). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (22/ 118، 119)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/419)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 216). وقيل: المعنى: لا تكُنْ مُشابِهًا ليُونُسَ في الحالِ الَّتى أفضَت به إلى صُحبةِ الحُوتِ وحُصولِ النِّداءِ منه، وهي: ضَعفُ العزيمةِ والصَّبرِ لحُكمِه تعالى. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ القيِّم. يُنظر: ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 34، 35). وقيل: إِذْ مُتعَلِّقةٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: اذكُرْ. وممَّن ذهب إلى هذا: مكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7653)، ((تفسير النسفي)) (3/ 526). .
قال الله سُبحانَه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 87، 88].
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49).
أي: لولا أنْ أدرَكَتْ يُونُسَ رَحمةٌ عَظيمةٌ مِن رَبِّه لَطُرِحَ بالأرضِ الخاليةِ مِنَ النَّاسِ والأشجارِ والبِناءِ، وهو يُذَمُّ ويُلامُ بالذَّنْبِ [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/200، 201)، ((البسيط)) للواحدي (22/119، 120)، ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/332، 333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 881)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/106، 107). قال القرطبي: (والعراءُ: الأرضُ الواسعةُ الفضاءُ، الَّتي ليس فيها جبلٌ ولا شجرٌ يَستُرُ. وقيل: ولولا فضلُ الله عليه لَبَقِيَ في بطنِ الحوتِ إلى يومِ القيامةِ، ثمَّ نُبِذ بعراءِ القيامةِ مذمومًا. يدُلُّ عليه قولُه تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144]). ((تفسير القرطبي)) (18/254). قال الألوسي عن القولِ الثَّاني: (ولا يخفَى بُعْدُه). ((تفسير الألوسي)) (15/42). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ: رحمةٌ مِن الله أدرَكَتْه فرَحِمَه، وتاب عليه: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/412)، ((تفسير الثعلبي)) (10/23)، ((الوسيط)) للواحدي (4/341)، ((تفسير السمعاني)) (6/31)، ((تفسير البغوي)) (5/142)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/326)، ((تفسير الخازن)) (4/331)، ((تفسير العليمي)) (7/137). وقيل: المرادُ: أنَّ اللهَ أنعَمَ عليه بالتَّوفيقِ للتَّوبةِ، وقَبِلَها منه، وتاب عليه. وهو قريبٌ مِن القولِ السَّابقِ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والرازي، والبيضاوي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/596)، ((تفسير الرازي)) (30/617)، ((تفسير البيضاوي)) (5/237)، ((تفسير أبي السعود)) (9/19)، ((تفسير الشوكاني)) (5/330)، ((تفسير الألوسي)) (15/42). قال الشوكاني: (قال الضَّحَّاكُ: النِّعمةُ هنا النُّبُوَّةُ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: عبادتُه الَّتي سلَفَت. وقال ابنُ زَيدٍ: هي نداؤُه بقَولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87]). ((تفسير الشوكاني)) (5/330). !
كما قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88] .
وقال سُبحانَه: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 145، 146].
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50).
أي: فاصطفَى اللهُ يُونُسَ، وجعَلَه مِن عِبادِه الطَّائِعينَ الَّذين فَضَّلَهم؛ ممَّن صَلَحَت أعمالُهم، وأقوالُهم، ونيَّاتُهم، وأحوالُهم [372] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). قال الرازي: (في الآيةِ وجهانِ؛ أحدُهما: قال ابنُ عبَّاسٍ: رَدَّ اللهُ إليه الوَحيَ وشَفَّعَه في قَومِه. والثَّاني: قال قومٌ: ولعَلَّه ما كان رَسولًا صاحِبَ وَحيٍ قبْلَ هذه الواقِعةِ، ثمَّ بعْدَ هذه الواقِعةِ جَعَله اللهُ رسولًا، وهو المرادُ مِن قَولِه: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ). ((تفسير الرازي)) (30/617). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/330). وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذِكْرُه: فاجتَبى صاحِبَ الحوتِ ربُّه، يعني: أنَّه اصطفاه واختاره لِنُبُوَّتِه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: مِن المُرسَلينَ، العامِلينَ بما أمَرَهم به ربُّهم، المُنتَهينَ عمَّا نهاهم عنه). ((تفسير ابن جرير)) (23/201، 202). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ الصَّالِحِينَ المفَضَّلونَ مِن الأنبياءِ، وقد قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83]). ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). وقيل: المرادُ بالصَّالحينَ: الأنبياءُ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والخازن، وأبو حيَّان، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/596)، ((تفسير الخازن)) (4/331)، ((تفسير أبي حيان)) (10/249)، ((تفسير العليمي)) (7/137). قال الألوسي: (وهو مبنيٌّ على أنَّه لم يكُنْ قبْلَ الواقعةِ نبيًّا). ((تفسير الألوسي)) (15/42). وقيل: المرادُ بالصَّالحينَ: الكامِلونَ في الصَّلاحِ. وممَّن اختاره: النَّسَفيُّ، والشَّوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/526)، ((تفسير الشوكاني)) (5/330)، ((تفسير الألوسي)) (15/ 42). .
كما قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 85 - 87] .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما يَنبغي لعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى [373] قوله: ((أنا)) يَحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ به رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال ذلك تواضُعًا إنْ كان قالَه بعْدَ أنْ عَلِمَ أنَّه سيِّدُ البشَرِ. وقيل: هو عبارةٌ عن كلِّ قائلٍ يقولُ ذلك؛ كي لا يُفضِّلَ أحدٌ نفْسَه على يُونسَ عليه السَّلامُ. قيل: وخَصَّ يُونسَ بالذِّكرِ؛ لِما يُخْشى على مَن سَمِعَ قِصَّتَه أنْ يَقَعَ في نفْسِه تَنقيصٌ له، فبالَغَ في ذِكرِ فضْلِه لسَدِّ هذه الذَّريعةِ. وقد وَرَدَ ما يُؤيِّدُ هذا القولَ ويدُلُّ عليه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/132)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/267)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (1/462). ) [374] أخرجه البخاري (4630)، ومسلم (2377). وأخرجه البخاري (3416)، ومسلم (2376) أيضًا من حديث أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَه تعالَى بالصَّبرِ لِما أرادهُ تعالَى ونَهاهُ عمَّا نَهاهُ؛ أخبَرَ بشِدَّةِ عَداوةِ الكفَّارِ؛ ليَتلقَّى ذلك بالصَّبرِ [375] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/249). .
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ.
أي: ولقد أوشَكَ الَّذين كَفَروا أن يُسقِطوك ويَصرَعوك -يا مُحمَّدُ- مِن إحدادِ نَظَرِهم إليك نَظَرَ عَداوةٍ وغَيظٍ منك، وحَسَدٍ لك، وذلك لَمَّا سَمِعوا كلامَ اللهِ يُتلَى عليهم [376] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 108، 109)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 482)، ((تفسير ابن جرير)) (23/202 - 204)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/212)، ((الوسيط)) للواحدي (4/342)، ((تفسير السمعاني)) (6/32)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/327)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). قيل: المعنى: يَنظُرونَ إليك نَظَرًا شَديدًا بالعَداوةِ، يَكادُ يُزيلُ قدَمَك ويُسقِطُك ويَصرَعُك؛ لأنَّهم يَكرَهونَ سَماعَ القُرآنِ أشدَّ الكراهةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والسمعاني، وابن الجوزي، والبِقاعي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. قال الرَّسْعَني: (ويدُلُّ على صحَّةِ هذا المعنى: أنَّ اللهَ تعالى قرَن هذا النَّظرَ بسَماعِ القرآنِ، وهو قولُه تعالى: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وهم كانوا يَكرَهون ذلك أشدَّ الكراهةِ، فيُحِدُّونَ النَّظرَ إليه بالبَغضاءِ، والإصابةُ بالعَينِ تكونُ مع الإعجابِ والاستِحسانِ، ولا تكونُ مع البُغضِ). ((تفسير الرسعني)) (8/245). وذهب الفرَّاءُ، والسَّمينُ الحلبيُّ، وابنُ كثير، والسعديُّ: إلى أنَّ المعنى: وإن يَكادُ الَّذين كفروا لَيَعِينُونَك بأبصارِهم؛ لحَسَدِهم لك، فلولا وقايةُ اللهِ لك مِن أعيُنِهم الخبيثةِ لأصابوك بها. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/179)، ((الدر المصون)) للسَّمين الحلبي (10/420)، ((تفسير ابن كثير)) (8/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). قال ابنُ القيِّم: (فالكُفَّارُ كانوا يَنظُرونَ إليه نَظَرَ حاسِدٍ شَديدِ العدواةِ، فهو نظرٌ يكادُ يُزْلِقُه لولا حِفظُ اللهِ وعِصمتُه، فهذا أشدُّ مِن نظَرِ العائِنِ، بل هو جِنسٌ من نظَرِ العائِنِ، فمَن قال: إنَّه مِن الإصابةِ بالعَينِ، أراد هذا المعنى، ومَن قال: ليسَ به، أراد أنَّ نَظَرَهم لم يكُنْ نَظَرَ استِحسانٍ وإعجابٍ؛ فالقَولانِ حقٌّ). ((بدائع الفوائد)) (2/232). قال الرَّسْعَني: (وعباراتُ العلماءِ مُتقارِبةُ المعنى: لَيُزْلِقُونَكَ أي: ليَنفُذونَك بأبصارِهم، ... وقال الكلبيُّ: يَصْرَعُونك. ورُويَ عنه: يَصرِفونَك عمَّا أنت عليه مِن تبليغِ الرِّسالةِ. وقال المُؤَرِّجُ: يَرْمُونَك. وقال ابنُ كَيْسانَ: يَقتُلونَك. ورُويَ عن الحسَنِ أيضًا مِثلُه. وقال قَتادةُ: يُزهِقونك). ((تفسير الرسعني)) (8/247، 248). !
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا [الحج: 72] .
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
أي: ويقولونَ: إنَّ محمَّدًا لَمجنونٌ، وهذا الَّذي جاءَنا به هَذَيانٌ يَهذِي به في جُنونِه [377] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/204)، ((الوسيط)) للواحدي (4/342)، ((تفسير ابن كثير)) (8/207). !
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها إبطالٌ لِقَولِ المُشرِكينَ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ؛ لأنَّهم قالوه في سِياقِ تَكذيبِهم بالقُرآنِ، فإذا ثَبَت أنَّ القُرآنَ ذِكرٌ، بَطَل أن يكونَ مُبَلِّغُه مَجنونًا [378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/109). .
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52).
أي: وما هذا القُرآنُ إلَّا تذكيرٌ وعِظةٌ مِنَ اللهِ لجَميعِ الإنْسِ والجِنِّ [379] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/355)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/108). قال البقاعي: (وَمَا أي: والحالُ أنَّ هذا القُرآنَ أو الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: مَوعِظةٌ وشَرَفٌ لِلْعَالَمِينَ أي: كُلِّهم). ((نظم الدرر)) (20/336). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: وَمَا هُوَ القرآنُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، الواحدي، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، وأبو حيَّان، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/412)، ((تفسير السمرقندي)) (3/487)، ((الوسيط)) للواحدي (4/342)، ((تفسير البغوي)) (5/143)، ((تفسير ابن عطية)) (5/355)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/327)، ((تفسير الرازي)) (30/619)، ((تفسير القرطبي)) (18/256)، ((تفسير أبي حيان)) (10/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم: ابنُ جرير، والثعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/204)، ((تفسير الثعلبي)) (10/24). وقال ابنُ عاشور: (أي: ما القُرآنُ إلَّا ذِكرٌ للنَّاسِ كُلِّهم، وليس بكَلامِ المجانينِ، وينتقلُ مِن ذلك إلى أنَّ النَّاطِقَ به ليس مِن المجانينِ في شَيءٍ. والذِّكرُ: التَّذكيرُ باللهِ والجَزاءِ، وهو أشرَفُ أنواعِ الكلامِ؛ لأنَّ فيه صلاحَ النَّاسِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/108). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف: 104] .
وقال سُبحانَه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص: 86، 87].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: لِمَا حَكَم به شَرعًا وقَدَرًا، فالحُكمُ القَدَريُّ يُصبَرُ على المؤذِي منه، ولا يُتلقَّى بالسَّخَطِ والجَزَعِ، والحُكمُ الشَّرعيُّ يُقابَلُ بالقَبولِ والتَّسليمِ، والانقيادِ التَّامِّ لأمْرِه [380] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 881). .
2- خَتَمَ اللهُ تعالَى السُّورةَ بالأمرِ بالصَّبرِ الَّذي هو جِماعُ الخُلُقِ العَظيمِ في قَولِه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وذلك نصٌّ في الصَّبرِ على ما يَنالُه مِن أذَى الخلْقِ، وعلى المصائبِ السَّماويَّةِ، والصَّبرُ على الأَوَّلِ أشَدُّ؛ ولهذا قال: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ إلخ، والإزْلاقُ بالبَصَرِ هو الغايةُ في البُغْضِ والغَضَبِ والأَذَى. فالصَّبرُ على ذلك نَوعٌ مِن الحِلْمِ، وهو احتِمالُ أذَى الخَلقِ، وفي ذلك ما يَدْفَعُ كَيدَهم وشَرَّهم. وما ذَكَره في قِصَّةِ أهْلِ الجَنَّةِ مِن أمْرِ السَّخاءِ والجُودِ، وما ذَكَرَه هنا مِن الحِلْمِ والصَّبرِ: هو جِماعُ الخُلُقِ الحَسَنِ، كما جَمَعَ بيْنَهما في قَولِه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ، كما قِيل:
بِحِلْمٍ وبَذْلٍ سادَ في قَومِه الفَتَى            وكَونُك إيَّاه عليْكَ يَسِيرُ
فالإحسانُ إلى النَّاسِ بالمَالِ والمَنفَعةِ، واحتِمالُ أذَاهُم مِن الخُلُقِ المَحمودِ، وجَمَع بيْنَهما أيضًا في قَولِه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [381] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/70). [الأعراف: 199] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ يدُلُّ على أنَّه لا يَتِمُّ شَيءٌ مِنَ الصَّالِحاتِ والطَّاعاتِ إلَّا بتوفيقِ اللهِ تعالى وهدايتِه [382] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/617). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فيه سؤالٌ: لِمَ لَمْ يقلْ: (لولا أنْ تدارَكَتْه نِعمةٌ مِن رَبِّه)؟
الجوابُ: إنَّما حَسُنَ تذكيرُ الفِعلِ؛ لِفَصلِ الضَّميرِ (الهاءِ) في تَدَارَكَهُ [383] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/596)، ((تفسير الرازي)) (30/617). ، ولأنَّ تأنيثَ النِّعمةِ غيرُ حقيقيٍّ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/354). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ احتُجَّ به على أنَّ فِعلَ العَبدِ خَلقُ اللهِ تعالى؛ فالآيةُ تدُلُّ على أنَّ ذلك الصَّلاحَ إنَّما حَصَل بجَعلِ اللهِ وخَلْقِه [385] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/617). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ أصلٌ في أنَّ العَينَ حَقٌّ [386] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 272). العينُ حقٌّ ولها تأثيرٌ، لكن لا تأثيرَ لها إلَّا بإذْنِ الله عزَّ وجلَّ؛ عن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((العينُ حقٌّ)) [البخاري (5740) ومسلم (2187)]. وعن عائشةَ رضيَ الله عنها، قالت: ((أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أوْ أمَر أنْ يُسْتَرْقَى مِن العَيْنِ)) [البخاري (5738) ومسلم (2195)]. يُنظر: ((معارج القبول)) للحكمي (2/501). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ تَفريعٌ على ما تَقدَّمَ مِن إبطالِ مَزاعمِ المشرِكين ومَطاعنِهم في القرآنِ والرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما تَبِعَه مِن تَكفُّلِ اللهِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعاقبةِ النَّصرِ؛ وذلك أنَّ شِدَّتَه على نفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن شأْنِها أنْ تُدخِلَ عليه يَأْسًا مِن حُصولِ رَغبتِه، ونَجاحِ سَعْيِه، ففرَّعَ عليه تَثبيتَه وحثَّه على المُصابَرةِ، واستِمرارِه على الهُدى، وتَعريفَه بأنَّ ذلك التَّثبيتَ يَرفَعُ دَرَجتَه في مَقامِ الرِّسالةِ ليَكونَ مِن أُولي العزْمِ، فذَكَّرَه بمَثَلِ يُونسَ عليه السَّلامُ؛ إذ استَعجَلَ عن أمْرِ ربِّه، فأدَّبَه اللهُ ثمَّ اجتباهُ وتاب عليه، وجَعَلَه مِن الصَّالحينَ تَذكيرًا مُرادًا به التَّحذيرُ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/104). .
- قولُه: إِذْ نَادَى العاملُ في (إذْ) هو المحذوفُ المُضافُ، أي: كحالِ، أو كقصَّةِ صاحبِ الحوتِ وقتَ نِدائِه [388] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/248)، ((تفسير أبي السعود)) (9/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/105)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/185). .
- جُملةُ وَهُوَ مَكْظُومٌ حالٌ مِن ضَميرِ نَادَى، وعليها يَدورُ النَّهيُ لا على النِّداءِ؛ فإنَّه أمْرٌ مُستحسَنٌ، ولذلكَ لم يُذكَرِ المُنادَى [389] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/19). .
- قولُه: وَهُوَ مَكْظُومٌ جِيءَ بهذه الحالِ جُملةً اسميَّةً؛ لدَلالتِها على الثَّباتِ، أي: هو في حَبْسٍ لا يُرجَى لمِثلِه سَراحٌ، وهذا تَمهيدٌ للامتِنانِ عليه بالنَّجاةِ مِن مِثلِ ذلك الحبْسِ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/105). . وذلك على أنَّ معنَى مَكْظُومٌ: مَحبوسٌ.
2- قولُه تعالَى: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن مَضمونِ النَّهيِ مِن قولِه: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى إلخ؛ لأنَّه يَتضمَّنُ التَّحذيرَ مِن الوُقوعِ في كَرْبٍ مِن قَبيلِ كَرْبِ يُونسَ، ثمَّ لا يَدْري كيف يكونُ انفراجُه [391] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/105). .
- واعتُمِدَ في جَوابِ (لولا) على الحالِ -أي: وَهُوَ مَذْمُومٌ-، فلَولاهُ لم يكُنْ لقولِه: لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ فائدةٌ؛ لأنَّه نُبِذَ فيه، يعني أنَّ حالَه كانت على خِلافِ الذَّمِّ حِينَ نُبِذَ بالعَراءِ، ولولا تَوبتُه لَكانت حالُه على الذَّمِّ [392] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/596)، ((تفسير البيضاوي)) (5/237)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/603)، ((تفسير أبي السعود)) (9/19)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/187). .
- أو جَوابُ (لَولا) مَحذوفٌ، دلَّ عليه قولُه: وَهُوَ مَكْظُومٌ، مع ما تُفِيدُه صِيغةُ الجُملةِ الاسميَّةِ مِن تَمكُّنِ الكظْمِ، فتلك الحالةُ إذا استَمرَّت لم يَحصُلْ نَبْذُه بالعَراءِ، ويكونُ الشَّرطُ بـ (لَوْلَا) لاحقًا لجُملةِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، أي: لَبَقِيَ مَكظومًا، أي: مَحبوسًا في بطْنِ الحوتِ أبدًا -على قولٍ-، وهو معْنى قولِه في سُورةِ (الصافاتِ): فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144]، وتُجعَلُ جُملةُ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن الإجمالِ الحاصلِ مِن مَوقعِ (لولا)، واللَّامُ فيها لامُ القسَمِ للتَّحقيقِ؛ لأنَّه خارقٌ للعادةِ، والمعْنى: لقدْ نُبِذَ بالعَراءِ وهو مَذمومٌ. والمذمومُ: إمَّا بمعْنى المُذْنِبِ؛ لأنَّ الذَّنْبَ يَقْتضي الذَّمَّ في العاجِلِ والعِقابَ في الآجِلِ، وهو معْنى قولِه في آيةِ (الصَّافَّاتِ): فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142]، وإمَّا بمعْنى العَيبِ، وهو كونُه عاريًا جائعًا، فيكونُ في معْنى قولِه: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات: 145] ؛ فإنَّ السَّقَمَ عَيبٌ أيضًا [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/106، 107). . وفيه بُعْدٌ.
- والتَّدارُكُ: تَفاعُلٌ مِن الدَّرَكِ -بالتَّحريكِ-، وهو اللَّحاقُ، أي: أنْ يَلحَقَ بَعضُ السَّائرينَ بَعضًا، وهو يَقْتضي تَسابُقَهم، وهو هنا مُستعمَلٌ في مُبالَغةِ إدراكِ نِعمةِ اللهِ إيَّاهُ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/105). .
- إنَّ اللهَ أنْعَمَ على يونسَ عليه السَّلامُ بأنْ أنْبَتَ عليه شَجرةَ اليَقطينِ، كما في سُورةِ (الصَّافَّاتِ). وأُدمِجَ في ذلك فضْلُ التَّوبةِ والضَّراعةِ إلى اللهِ، وأنَّه لولا تَوبتُه، وضَراعتُه إلى اللهِ، وإنعامُ اللهِ عليه نِعمةً بعْدَ نِعمةٍ؛ لَقَذَفَه الحوتُ مِن بَطْنِه مَيِّتًا، فأخْرَجه الموجُ إلى الشَّاطئِ، فلَكانَ مُثلةً للنَّاظِرينَ، أو حيًّا مَنبوذًا بالعَراءِ لا يَجِدُ إسعافًا، أو لَنَجَا بعْدَ شدَّةٍ وجهدٍ واللهُ غاضبٌ عليه، فهو مَذمومٌ عندَ اللهِ مَسخوطٌ عليه، وهي نِعَمٌ كثيرةٌ عليه؛ إذ أنْقَذَه مِن هذه الوَرَطاتِ كلِّها إنقاذًا خارقًا للعادةِ، وهذا المعْنى طُوِيَ طيًّا بَديعًا، وأُشِيرَ إليه إشارةٌ بَليغةٌ بجُملةِ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/106). .
- وتَنكيرُ نِعْمَةٌ للتَّعظيمِ؛ لأنَّها نِعمةٌ مُضاعَفةٌ مُكرَّرةٌ [396] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). .
3- قولُه تعالَى: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عطفٌ على مُقدَّرٍ، أي: فتَداركَتْه نِعمةٌ مِن ربِّه، فاجْتَباهُ [397] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/19). .
- وفُرِّع على النَّفيِ في قولِه: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ الإخبارُ بأنَّ اللهَ اجتباهُ، وجَعَلَه مِن الصَّالحينَ، وذلك إيماءٌ إلى أنَّ الصَّلاحَ هو أصلُ الخَيرِ، ورفْعِ الدَّرجاتِ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). .
- وتَعريفُ الصَّالِحِينَ يُفيدُ أنَّه جَعَلَه مِن الكامِلينَ في الصَّلاحِ [399] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/237)، ((تفسير أبي السعود)) (9/19). .
4- قولُه تعالَى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
- هو عطْفٌ على جُملةِ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ [القلم: 44] ؛ عرَّفَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعضَ ما تَنْطوي عليه نُفوسُ المشرِكين نحْوَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مِن الحِقدِ والغَيظِ وإضمارِ الشَّرِّ عندَما يَسمَعون القرآنَ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). .
- قولُه: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ جاء يَكَادُ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ ذلك في المُستقبَلِ. وجاء فِعلُ سَمِعُوا ماضيًا؛ لوُقوعِه مع (لَمَّا)، وللإشارةِ إلى أنَّه قد حَصَل منهم ذلك، وليس مُجرَّدَ فرْضٍ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/108). .
- ولَمَّا كان الزَّلَقُ يُفْضي إلى السُّقوطِ غالبًا، أُطلِقَ الزَّلَقُ وما يُشتَقُّ منه على السُّقوطِ والاندحاضِ على وَجْهِ الكِنايةِ، ومنه قولُه هنا: لَيُزْلِقُونَكَ، أي: يُسقِطونك ويَصرَعونك [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/107). . على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ لَمَّا ظرْفٌ، العاملُ فيه لَيُزْلِقُونَكَ، والجوابُ مَحذوفٌ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: لَمَّا سَمِعوا الذِّكرَ كادُوا يُزلِقونك [403] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/250)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/186). .
- وفي قولِه: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ مع قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] مُحسِّنُ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ [404] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/108). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/70). .
5- قولُه تعالَى: وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ حيثُ كانُ مَدارُ حُكمِهم الباطلِ ما سَمِعُوه منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، رُدَّ ذلك ببَيانِ عُلوِّ شَأنهِ، وسُطوعِ بُرهانِه؛ فقيل: وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، على أنَّه حالٌ مِن فاعلِ (يَقولونَ)، مُفيدةٌ لغايةِ بُطلانِ قولِهم، وفيه تَعجيبٌ للسَّامعينَ مِن جُرأتِهم على تَفَوُّهِ تلكَ العَظيمةِ، أي: يقولونَ ذلكَ والحالُ أنَّه ذِكرٌ للعالَمينَ [405] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/20). !
- وهو إبطالٌ لقولِهم: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ؛ لأنَّهم قالوهُ في سِياقِ تَكذيبِهم بالقرآنِ، فإذا ثبَتَ أنَّ القُرآنَ ذِكرٌ بَطَلَ أنْ يكونَ مُبلِّغُه مَجنونًا، وهذا مِن قَبيلِ الاحتباكِ [406] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ إذ التَّقديرُ: ويقولون: إنَّه لَمجنونٌ، وإنَّ القرآنَ كَلامُ مَجنونٍ، وما القرآنُ إلَّا ذِكرٌ، وما أنتَ إلَّا مُذكِّرٌ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/109). .