موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآيات (32-37)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَسْفَرَ: أي: أضاء وانتَشَر ضَوؤُه، وأصلُ (سفر): يدُلُّ على انكِشافٍ وجَلاءٍ [210] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 497)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 85)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 412). .
الْكُبَرِ: أي: العَظائِمِ، وهي جمعُ «الكُبْرى»، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ [211] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/153)، ((البسيط)) للواحدي (22/446). .

مُشكِلُ الإعرابِ :

قَولُه تعالى: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ
قَولُه تعالى: نَذِيرًا: في نَصبِه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّه حالٌ ممَّا دلَّت عليه الجُملةُ، أي: كَبُرَت مُنذِرةً، فـ نَذِيرًا وَصفٌ بمعنى «مُنذِرةً»، وإنَّما لم يُؤَنِّثْ نَذِيرًا وهو حالٌ مِن مُؤَنَّثٍ «سَقَر»؛ لأنَّها بمعنى «ذاتَ إنذارٍ» على معنى النَّسَبِ. الثَّاني: أنَّه حالٌ مِنْ «إحْدَى»، أي: إنَّها لكبيرةٌ في حالِ الإنذارِ، والهاءُ في إِنَّهَا تعودُ إلى «سَقَر» النَّارِ، وذُكِّرَ الحالُ؛ لأنَّ النَّارَ في معنى «العذابِ». الثَّالثُ: أنَّه تمييزٌ عن «إحدى»؛ لِما تضَمَّنه مِن معنى التَّعظيمِ، كأنَّه قيل: أعظَمُ الكُبَرِ إنذارًا، فـ «نذير» بمعنى الإِنذارِ، كالنَّكيرِ بمعنى الإِنكارِ. وقيل غَيرُ ذلك [212] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/249)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1250)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/552)، ((تفسير القاسمي)) (9/359). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: ليس الأمرُ كما يظُنُّ المُشرِكونَ في شأنِ عِدَّةِ خَزَنةِ النَّارِ.
وأُقسِم بالقَمَرِ، وباللَّيلِ وَقتَ ذَهابِه، وبالصُّبحِ إذا ابتدَأَ ظُهورُ ضَوئِه؛ إنَّ النَّارَ لإِحْدى الأُمورِ الكُبْرى الَّتي لا نَظيرَ لها، مُنْذِرةً للنَّاسِ؛ لِمَن شاء أن يَقبَلَ النِّذارةَ ويَهتَدِيَ للحَقِّ، فيتقَدَّمَ إلى الإيمانِ، ولِمَن شاء أن يتأخَّرَ عن الإيمانِ، فلا يَرْعويَ بنِذارتِها.

تَفسيرُ الآياتِ:

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32).
كَلَّا.
أي: ليس الأمرُ كما يظُنُّ المُشرِكونَ في شأنِ عِدَّةِ خَزَنةِ النَّارِ [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((تفسير السمعاني)) (6/97)، ((تفسير الشوكاني)) (5/397). وهذا المعنى المذكورُ لـ كَلَّا ذهب إليه في الجملةِ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، واستظهره الشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((تفسير السمعاني)) (6/97)، ((تفسير الشوكاني)) (5/397). قال الشوكاني: (قال ابنُ جرير: والمعنى: ردُّ زعْمِ مَنْ زعَمَ أنَّه يُقاوِمُ خَزَنةَ جَهنَّمَ، أي: ليس الأمرُ كما يقولُ، ثمَّ أقسَمَ على ذلك بالقَمَرِ وبما بَعْدَه. وهذا هو الظَّاهِرُ مِن معنى الآيةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/397). وقيل: كَلَّا هنا بمعنى: حَقًّا. وممَّن ذهب إلى هذا: الواحديُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير البغوي)) (5/178). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/653)، ((تفسير أبي حيان)) (10/335). .
وَالْقَمَرِ.
أي: وأُقسِم بالقَمَرِ [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((تفسير ابن عطية)) (5/397)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 163). .
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ وَقتَ ذَهابِه وانصِرافِه [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/441)، ((تفسير القرطبي)) (19/84)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/322). .
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34).
أي: وأُقسِمُ بالصُّبحِ إذا ابتدَأَ ظُهورُ ضَوئِه عندَ الفَجرِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/443)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير ابن عطية)) (5/397)، ((تفسير القرطبي)) (19/84)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/441). قال ابن عطية: («أسفَرَ الصُّبحُ»: أضاء وانتَشَر ضَوؤُه قبلَ طُلوعِ الشَّمسِ بكثيرٍ، والإسفارُ رُتَبٌ: أوَّلُ، ووسَطٌ، وآخِرٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/397). .
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35).
أي: إنَّ النَّارَ لَإِحْدى الأُمورِ الكُبْرى الَّتي لا نَظيرَ لها [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/443)، ((تفسير الزمخشري)) (4/653)، ((تفسير القرطبي)) (19/85)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/322). ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه: إِنَّهَا يعودُ إلى سَقَرَ الَّتي جرى ذِكرُها، وهي النَّارُ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والرازي، والرَّسْعَني، والنسفي، والخازن، وأبو حيَّان، والعُليمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/443)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/249)، ((تفسير السمرقندي)) (3/518)، ((تفسير الثعلبي)) (10/76)، ((الوسيط)) للواحدي (4/385)، ((تفسير البغوي)) (5/178)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/365)، ((تفسير الرازي)) (30/714)، ((تفسير الرسعني)) (8/367)، ((تفسير النسفي)) (3/567)، ((تفسير الخازن)) (4/366)، ((تفسير أبي حيان)) (10/336)، ((تفسير العليمي)) (7/211)، ((تفسير الشوكاني)) (5/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ -أي: أنَّ المرادَ النَّارُ-: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وأبو رَزِينٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/397)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273). قال الماوَرْدي: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ فيها ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدُها: أي أنَّ تكذيبَهم بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم لَإِحْدى الكُبَرِ، أي: الكبيرةُ مِن الكبائرِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: أي أنَّ هذه النَّارَ لَإِحْدى الكُبَرِ، أي: لَإِحْدى الدَّواهي. الثَّالثُ: أنَّ هذه الآيةَ لَإِحْدى الكُبَرِ، حكاه ابنُ عيسى. ويحتمِلُ رابعًا: أنَّ قيامَ السَّاعةِ لَإِحْدى الكُبَرِ). ((تفسير الماوردي)) (6/146). وقال ابنُ عطيَّةَ: (يحتمِلُ أن يكونَ الضَّميرُ للنِّذارةِ وأمرِ الآخِرةِ، فهو للحالِ والقِصَّةِ، وتكونَ هذه الآيةُ مِثلَ قَولِه عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68]). ((تفسير ابن عطية)) (5/397). .
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36).
أي: مُنْذِرةً للنَّاسِ، فتُخَوِّفُهم وتحَذِّرُهم تحذيرًا بالِغًا [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/445)، ((تفسير القرطبي)) (19/85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالنَّذيرِ هنا: النَّارُ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/445)، ((تفسير القرطبي)) (19/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). قال ابنُ عاشور: (أي: إنَّها لَعُظمى العَظائمِ في حالِ إنذارِها للبَشَرِ، وكفى بها نذيرًا!). ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). .
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37).
أي: لِمَن شاء أن يَقبَلَ النِّذارةَ، ويَهتَدِيَ للحَقِّ، فيتقَدَّمَ إلى الإيمانِ والخَيرِ، ولِمَن شاء أنْ يتأخَّرَ عن الإيمانِ والخيرِ، فلا يَرْعويَ بنِذارتِها [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/446)، ((تفسير الزمخشري)) (4/654)، ((تفسير ابن عطية)) (5/398)، ((تفسير القرطبي)) (19/85)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 278)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

إنَّ إضاعةَ الوَقتِ الصَّحيحِ يَدْعو إلى دَرَكِ النَّقيصةِ؛ إذ صاحِبُ حِفْظِه مُتَرَقٍّ على دَرَجاتِ الكمالِ، فإذا أضاعه لم يقِفْ مَوضِعَه، بل يَنزِلُ إلى دَرَجاتٍ مِنَ النَّقصِ، فإنْ لَمْ يكنْ في تَقَدُّمٍ فهو مُتَأَخِّرٌ ولا بُدَّ، فالعبدُ سائرٌ لا واقفٌ؛ فإمَّا إلى فوقٍ وإمَّا إلى أسفلَ، إمَّا إلى أمامٍ وإمَّا إلى وراءٍ، وليس في الطبيعةِ ولا في الشَّريعةِ وُقوفٌ البَتَّةَ، ما هو إلَّا مراحِلُ تُطْوَى أسرعَ طيٍّ إلى الجنَّةِ أو النَّارِ، فمُسْرِعٌ ومُبْطِئٌ، ومُتَقَدِّمٌ ومُتَأَخِّرٌ، وليس في الطَّريقِ واقفٌ البَتَّةَ! وإنَّما يَتخالَفونَ في جهةِ المسيرِ، وفي السُّرعةِ والبُطءِ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 35 - 37] ، فلَمْ يَذْكُرْ واقفًا؛ إذْ لا مَنْزِلَ بيْن الجنَّةِ والنَّارِ، ولا طريقَ لسالكٍ إلى غيرِ الدَّارَينِ البَتَّةَ، فمَن لم يَتَقَدَّمْ إلى هذه بالأعمالِ الصَّالحةِ، فهو متأخِّرٌ إلى تلك بالأعمالِ السَّيِّئةِ [220] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/278). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

في قَولِه تعالى: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ أقْسَم سُبحانَه بهذه الأشياءِ الثَّلاثةِ -وهي: القمرُ، واللَّيلُ إذا أدْبَر، والصُّبحُ إذا أسْفَر- على المَعادِ؛ لِمَا في القَسَمِ مِن الدَّلالةِ على ثُبوتِ المُقْسَمِ عليه؛ فإنَّه يَتضمَّنُ كمالَ قدرتِه وحكمتِه وعنايتِه بخَلْقِه، وإبداءَ الخَلْقِ وإعادتَه، كما هو مشهودٌ في إبداءِ النَّهارِ واللَّيلِ وإعادتِهما، وفي إبداءِ النُّورِ وإعادتِه في القمرِ، وفي إبداءِ الزَّمانِ وإعادتِه -الَّذي هو حاصلٌ بسَيرِ الشَّمسِ والقمرِ-، وإبداءِ الحيوانِ والنَّباتِ وإعادتِهما، وإبداءِ فصولِ السَّنَةِ وإعادتِها، وإبداءِ ما يَحْدُثُ في تلك الفصولِ وإعادتِه، فكلُّ ذلك دليلٌ ظاهرٌ على المبدأِ والمعادِ الَّذي أخْبَرَتْ به الرُّسُلُ كلُّهم عنه؛ فصَرَّفَ سُبحانَه الآياتِ الدَّالَّةَ على صِدْقِ رُسُلِه، ونَوَّعَها، وجَعَلها للفِطَرِ تارةً، والسَّمعِ تارةً، والمُشاهَدةِ تارةً، فجَعَلها آفاقيَّةً ونفْسيَّةً، ومنقولةً ومعقولةً، ومشهودةً بالعِيَانِ ومذكورةً بالجَنانِ؛ فأبَى الظَّالِمونَ إلَّا كُفورًا! وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [221] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 172). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 897). [الفرقان: 3] .

بلاغةُ الآياتِ:

قولُه تعالَى: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
- قولُه: كَلَّا وَالْقَمَرِ (كلَّا) حرْفُ رَدْعٍ وإبطالٍ، وهو رَدْعٌ لقَولِ مَن قالوا: إنَّهم يَقدِرونَ على مُقاوَمةِ خَزَنةِ جَهنَّمَ [222] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/335). . ويحتمِلُ أنْ يكونَ إبطالًا لِما قبْلَه مِن قولِهم: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا، فيَكونَ ما بيْنَهما اعتراضًا، ويكونَ قولُه: وَالْقَمَرِ ابتداءَ كَلامٍ، فيَحسُنُ الوقفُ على كَلَّا. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ حرْفَ إبطالٍ مُقدَّمًا على الكلامِ الَّذي بعْدَه مِن قولِه: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ [المدثر: 35، 36] تَقديمَ اهتِمامٍ لإبطالِ ما يَجِيءُ بعْدَه مِن مَضمونِ قولِه: نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، أي: مِن حقِّهم أنْ يَنتذِروا بها، فلمْ يَنتذِرْ أكثَرُهم، على نحْوِ معْنى قولِه: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر: 23]، فيَحسُن أنْ تُوصَلَ في القراءةِ بما بعْدَها [223] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/653)، ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((تفسير أبي حيان)) (10/335)، ((تفسير أبي السعود)) (9/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/321)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/288). .
- الواوُ في وَالْقَمَرِ واوُ القسَمِ، وهذا القسَمُ يجوزُ أنْ يكونَ تَذييلًا لِما قبْلَه مُؤكِّدًا لِما أفادَتْه كَلَّا مِن الإنكارِ والإبطالِ لمَقالتِهم في شأْنِ عِدَّةِ خَزَنةِ النارِ؛ فتَكونَ جُملةُ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ تَعليلًا للإنكارِ الَّذي أفادَتْه كَلَّا، ويكونَ ضَميرُ إِنَّهَا عائدًا إلى سَقَرَ [المدثر: 26] ، أي: هي جَديرةٌ بأنْ يُتذكَّرَ بها؛ فلذلك كان مَن لم يَتذكَّرْ بها حَقيقًا بالإنكارِ عليه ورَدْعِه، وجُملةُ القَسَمِ على هذا الوجْهِ مُعترِضةٌ بيْن الجُملةِ وتَعليلِها. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ القسَمُ صَدْرًا للكلامِ الَّذي بعْدَه، وجُملةُ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ جَوابَ القسَمِ [224] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/653)، ((تفسير البيضاوي)) (5/262)، ((تفسير أبي حيان)) (10/336)، ((تفسير أبي السعود)) (9/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/321). .
- قولُه: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ هذه ثلاثةُ أيْمانٍ لزِيادةِ التَّأكيدِ؛ فإنَّ التَّأكيدَ اللَّفظيَّ إذا أُكِّد بالتَّكرارِ يُكرَّرُ ثلاثَ مرَّاتٍ غالبًا، أقسَمَ بمَخلوقٍ عَظيمٍ، وبحالَينِ عَظيمَينِ مِن آثارِ قُدرةِ اللهِ تعالَى [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/322). .
- ومُناسَبةُ القسَمِ بـ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ أنَّ هذه الثَّلاثةَ تَظهَرُ بها أنوارٌ في خِلالِ الظَّلامِ، فناسَبَت حالَيِ الهُدى والضَّلالِ مِن قولِه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [المدثر: 31] ، ومِن قولِه: وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] ؛ ففي هذا القسَمِ تَلويحٌ إلى تَمثيلِ حالِ الفَريقَينِ مِن النَّاسِ عندَ نُزولِ القُرآنِ بحالِ اختراقِ النُّورِ في الظُّلمةِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/322). .
- وأقسَمَ تعالَى بهذه الأشياءِ تَشريفًا لها، وتَنبيهًا على ما يَظهَرُ بها وفيها مِن عَجائبِ اللهِ وقُدرتِه، وقِوامِ الوُجودِ بإيجادِها [227] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/335). .
قولُه: إِذْ أَدْبَرَ أقسَمَ باللَّيلِ في حالةِ إدْبارِه الَّتي مضَتْ، وهي حالةٌ مُتجدِّدةٌ تَمضي وتَحْضُرُ وتُستقبَلُ، فأيُّ زَمنٍ اعتُبِرَ معها فهي حقيقةٌ بأنْ يُقسَمَ بكَونِها فيه؛ ولذلك أقْسَمَ بالصُّبحِ إذا أسفَرَ مع اسمِ الزَّمنِ المستقبَلِ، فحصَل تفنُّنٌ في القَسمِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/322، 323). .
- وقد أُجرِيَت جُملةُ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر: 35] مُجْرى المثَلِ، ومعنَى (إحْدَى) أنَّها المتوحدِّةُ المتميِّزةُ مِن بيْنِ الكُبَرِ في العِظَمِ لا نظيرةَ لها، كما يُقالُ: هو أحدُ الرِّجالِ، لا يُرادُ: أنَّه واحدٌ منهم، بل يُرادُ: أنَّه مُتوحِّدٌ فيهم بارزٌ ظاهرٌ [229] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/653)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/322). .
- قولُه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدَلٌ مُفصَّلٌ مِن مُجمَلٍ مِن قولِه: لِلْبَشَرِ، وأُعِيدَ حرْفُ الجرِّ مع البدَلِ للتَّأكيدِ، والمعْنى: أنَّها نَذيرٌ لِمَن شاء أنْ يَتقدَّمَ إلى الإيمانِ والخَيرِ ليَنتذِرَ بها، ولِمَن شاء أنْ يَتأخَّرَ عن الإيمانِ والخَيرِ فلا يَرْعوي بنِذارتِها؛ لأنَّ التَّقدُّمَ مشْيٌ إلى جِهةِ الأمامِ، فكأنَّ المُخاطَبَ يَمْشي إلى جِهةِ الدَّاعي إلى الإيمانِ، وهو كِنايةٌ عن قَبولِ ما يَدْعو إليه، وبعكْسِه التَّأخُّرُ، فحُذِفَ مُتعلَّقُ يَتَقَدَّمَ ويَتَأَخَّرَ لظُهورِه مِن السِّياقِ. ويَجوزُ أنْ يُقدَّرَ: لِمَن شاء أنْ يَتقدَّمَ إليها، أي: إلى سَقَرَ؛ بالإقدامِ على الأعمالِ الَّتي تُقدِّمُه إليها، أو يَتأخَّرَ عنها؛ بتَجنُّبِ ما مِن شَأنِه أنْ يُقرِّبَه منها [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). .
- وتَعليقُ نَذِيرًا بفِعلِ المشيئةِ إنذارٌ لِمَن لا يَتذكَّرُ بأنَّ عدَمَ تَذكُّرِه ناشئٌ عن عدَمِ مَشيئتِه، فتَبِعَتُه عليه؛ لتَفريطِه، على نحْوِ قولِ المثَلِ: «يَداكَ أَوْكَتَا، وفُوكَ نَفَخ» [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/323). .
- وذُكِّر نَذِيرًا؛ لأنَّ معناه معنَى العذابِ، أو أرادَ ذاتَ إنذارٍ على معنَى النَّسَبِ، كقولِهم: امرأةٌ طالِقٌ وطاهِرٌ، أو لأنَّ النَّذيرَ مصدرٌ كالنَّكيرِ؛ ولذلك يُوصَفُ به المؤَنَّثُ [232] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/85). .
- وفي ضَميرِ مِنْكُمْ الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ لأنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: لِمَن شاء مِنْهم، أي: مِن البشَرِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/324). .