موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآيات (38-48)

ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ ﰥ ﰦ ﰧ ﰨ ﰩ ﰪ ﰫ ﰬ ﰭ ﰮ ﰯ ﰰ ﰱ ﰲ ﰳ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ

غَريبُ الكَلِماتِ:

رَهِينَةٌ: أي: محبوسةٌ بكَسْبِها، مأخوذةٌ بعمَلِها، ومُرتَهَنةٌ به غيرُ مفكوكةٍ، وكلُّ ما احتُبِس به شيءٌ فرهينُه ومُرْتهَنُه، والرَّهينةُ اسمٌ بمعنى الرَّهنِ، كالشَّتيمةِ بمعنى الشَّتمِ، وأصلُ (رهن): يدُلُّ على ثباتِ شيءٍ يُمْسَكُ بحقٍّ أو غيرِه [234] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/452)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/800)، ((المفردات)) للراغب (ص: 367)، ((تفسير الرازي)) (30/715)، ((تفسير القرطبي)) (19/86)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/101)، ((تفسير الشوكاني)) (5/399). .
سَلَكَكُمْ: أي: أدخلَكم، والسُّلوكُ: النَّفاذُ في الطَّريقِ، يُقالُ: سَلَكْتُ الطَّريقَ أسْلُكُه، وسَلَكْتُ الشَّيءَ في الشَّيءِ: أنْفَذْتُه، وأصلُ (سلك): يدُلُّ على نُفوذِ شيءٍ في شيءٍ [235] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 498)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 271)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/97)، ((المفردات)) للراغب (ص: 421). .
الْخَائِضِينَ: أي: الغاوِينَ الكاذِبينَ أهلِ الباطِلِ، والخَوضُ: الشُّروعُ في الماءِ والمرورُ فيه، ويُستعمَلُ في الدُّخولِ في الأمرِ بالقَولِ، وأكثَرُ ما وردَ في القُرآنِ فيما يُذَمُّ الشُّروعُ فيه، وأصلُ (خوض): يدُلُّ على توسُّطِ شَيءٍ ودُخولٍ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/229)، ((تفسير القرطبي)) (19/87). .
بِيَوْمِ الدِّينِ: أي: يومِ الجزاءِ والحسابِ، وهو يومُ القيامةِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازيتُه، وأصلُ (دين): جِنْسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [237] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (22/456)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 323). .
الْيَقِينُ: أي: الموتُ المُوقَنُ به؛ فإنَّه أمرٌ متيقَّنٌ لا شكَّ فى إتيانِه، واليَقينُ: اسمُ مصدَرِ يَقِنَ -كفَرِحَ-، إذا عَلِم عِلْمًا لا شَكَّ معه ولا تَرَدُّدَ، وأصلُ اليقينِ: زوالُ الشَّكِّ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/452)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/157)، ((تفسير الخلوتي)) (10/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/328). .
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ: الشَّفاعةُ: الانضِمامُ إلى آخَرَ؛ نُصرةً له، وسؤالًا عنه، يُقالُ: شفَع لفُلانٍ إذا جاء مُلتَمِسًا مَطلبَه، ومُعينًا له، وأصْلُ الشَّفْعِ: ضمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه [239] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 7)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457). .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ اللهُ تعالى جانبًا مِن مَظاهِرِ عدلِه، والأسباب الَّتي أدَّتْ إلى دُخولِ الكافِرينَ النَّارَ، فيقولُ: كلُّ نَفْسٍ بما عَمِلَت في الدُّنيا مِن سَيِّئاتٍ وذُنوبٍ: مَحبوسةٌ بها في النَّارِ، إلَّا المؤمِنينَ الَّذين يُعطَونَ كُتُبَ أعمالِهم بأيْمانِهم؛ فإنَّهم تُغفَرُ ذُنوبُهم، ولا يُحبَسُونَ في النَّارِ بها.
إنَّ أصحابَ اليَمينِ في جَنَّاتِ النَّعيمِ يَسألونَ عن أصحابِ النَّارِ، يقولونَ لهم: ما الَّذي أوجَبَ دُخولَكم النَّارَ؟ قالوا لهم: لم نكُنْ في الدُّنيا مِنَ المصَلِّينَ، ولم نكُنْ نُطعِمُ المِسكِينَ، وكنَّا نخوضُ في الباطِلِ مع مَن يَخوضونَ فيه، وكُنَّا نُكذِّبُ بيومِ الحِسابِ والجَزاءِ، حتَّى أتانا الموتُ. فما تَنفَعُ أولئك الكافِرينَ شَفاعةُ الشَّافِعينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38).
أي: كلُّ نَفْسٍ بما عَمِلَت في الدُّنيا مِن سَيِّئاتٍ وذُنوبٍ: مَحبوسةٌ بها في النَّار [240] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/499)، ((تفسير ابن جرير)) (23/447)، ((تفسير البغوي)) (5/179)، ((تفسير القرطبي)) (19/86)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/118)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). ممَّن اختار المعنى المذكورَ لقولِه تعالى: رَهِينَةٌ في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/447)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7845)، ((تفسير البغوي)) (5/179)، ((تفسير الخازن)) (4/366)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 777)، ((تفسير العليمي)) (7/212). وقال السعدي: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مِن أعمالِ السُّوءِ، وأفعالِ الشَّرِّ رَهِينَةٌ بها، موثَقةٌ بسَعْيِها، قد أُلزِمَ عُنُقَها، وغُلَّ في رقبتِها، واستوجَبَتْ به العذابَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ يقولُ: كلُّ كافرٍ مُرتَهَنٌ بذُنوبِه في النَّارِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/499). قال الماوَرْدي: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحَدُها: أنَّ كُلَّ نفْسٍ مُرتَهَنةٌ مُحتبَسةٌ بعَمَلِها؛ لِتُحاسَبَ عليه، إلَّا أصحابَ اليمينِ، وهم أطفالُ المسلِمينَ؛ فإنَّه لا حسابَ عليهم؛ لأنَّه لا ذُنوبَ لهم. قاله عليٌّ رضيَ الله عنه. الثَّاني: كلُّ نفْسٍ مِن أهلِ النَّارِ مُرتَهَنةٌ في النَّارِ، إلَّا أصحابَ اليمينِ، وهم المسلِمون؛ فإنَّهم لا يُرتَهَنونَ، وهم إلى الجنَّةِ يُسارِعونَ. قاله الضَّحَّاكُ. الثَّالثُ: كُلُّ نفْسٍ بعَمَلِها مُحاسَبةٌ، إلَّا أصحابَ اليمينِ، وهم أهلُ الجنَّةِ؛ فإنَّهم لا يُحاسَبونَ. قاله ابنُ جُرَيجٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/148). .
كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39).
أي: إلَّا المؤمِنينَ الَّذين يُعطَونَ كُتُبَ أعمالِهم بأيْمانِهم؛ فإنَّهم لا يُحبَسُونَ في النَّارِ بذُنوبِهم؛ لأنَّ اللهَ يَغفِرُها لهم [241] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/499)، ((تفسير ابن جرير)) (23/447)، ((الوسيط)) للواحدي (4/386)، ((تفسير البغوي)) (5/179)، ((تفسير القرطبي)) (19/86)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/71). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ الَّذين أُعطوا كُتُبَهم بأيْمانِهم، لا يُرتَهنون بذُنوبِهم في النَّارِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/499). وقال البغوي: (لا يُرتَهنونَ بذُنوبِهم في النَّارِ، ولكنْ يَغفِرُها اللهُ لهم). ((تفسير البغوي)) (5/179). وقال جلال الدِّين المحلِّي: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ وهم المؤمنونَ؛ فناجُونَ منها). ((تفسير الجلالين)) (ص: 777). .
كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة: 19 - 22] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ يُدْني المؤمِنَ، فيَضَعُ عليه كَنَفَه [242] كَنَفَه: سَتْرَه وعَفْوَه. يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 78)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/87). ويَستُرُه، فيقولُ: أتعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرِفُ ذنْبَ كذا؟ فيقولُ: نَعَمْ، أيْ رَبِّ! حتَّى إذا قَرَّره بذُنوبِه، ورأى في نَفْسِه أنَّه هلَك، قال: ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليومَ، فيُعطَى كِتابَ حَسَناتِه )) [243] رواه البخاريُّ (2441) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2768). .
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41).
أي: إنَّ أصحابَ اليَمينِ في جَنَّاتِ النَّعيمِ يَسألونَ عن أصحابِ النَّارِ المُجرِمينَ [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((تفسير الزمخشري)) (4/655)، ((تفسير القرطبي)) (19/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). قال الشوكاني: (قولُه: يَتَسَاءَلُونَ يجوزُ أن يكونَ على بابِه، أي: يَسألُ بعضُهم بعضًا، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى: يَسألون، أي: يَسألون غيرَهم، نحو دَعَيْتُه وتَداعَيْتُه؛ فعلى الوجهِ الأوَّلِ يكونُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مُتعلِّقًا بـ يَتَسَاءَلُونَ، أي: يَسألُ بعضُهم بعضًا عن أحوالِ المجرِمين، وعلى الوجهِ الثَّاني تكونُ «عن» زائدةً، أي: يَسألونَ المجرِمين). ((تفسير الشوكاني)) (5/399). وقال ابن عاشور: (إنْ كان السُّؤالُ على حقيقَتِه والاستفهامُ مُستعمَلًا في أصلِ معناه كانَ الباعِثُ على السُّؤالِ: إمَّا نسيانُ الَّذي كانوا عَلِموه في الدُّنيا مِن أسبابِ الثَّوابِ والعقابِ فيَبقَى عُمومُ يَتَسَاءَلُونَ الرَّاجعُ إلى أصحابِ اليمينِ وعُمومُ الْمُجْرِمِينَ على ظاهِرِه، فكلٌّ مِن أصحابِ اليمينِ يُشرِفُ على المجرِمينَ مِن أعالي الجنَّةِ، فيَسألُهم عن سببِ وُلُوجِهم النَّارَ، فيحصلُ جوابُهم، وذلك إلهامٌ مِن الله لِيَحمَدَه أهلُ الجنَّةِ على ما أخَذوا به مِن أسبابِ نجاتِهم ممَّا أصاب المجرِمينَ، ويَفرَحوا بذلك. وإمَّا أن يكونَ سؤالًا موَجَّهًا مِن بعضِ أصحابِ اليمينِ إلى ناسٍ كانوا يَظُنُّونَهم مِن أهلِ الجنَّةِ فرَأَوْهم في النَّارِ مِن المُنافِقينَ أو المرتَدِّينَ بعدَ موتِ أصحابِهم، فيكونَ المرادُ بأصحابِ اليمينِ بعضَهم، وبالمجرِمينَ بعضَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/326). .
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42).
أي: يَقولونَ لهم: ما الَّذي أوجَبَ دُخولَكم النَّارَ [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((تفسير القرطبي)) (19/87)، ((تفسير ابن جزي)) (2/430)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/326).            ؟
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43).
أي: قال المجرِمونَ لهم: الَّذي أدخَلَنا النَّارَ هو أنَّنا لم نكُنْ في الدُّنيا مِنَ المصَلِّينَ للهِ وَحْدَه [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((تفسير القرطبي)) (19/87)، ((تفسير ابن عادل)) (19/534)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). .
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44).
أي: ولم نكُنْ نُطعِمُ المِسكِينَ؛ بُخلًا بما أعطانا اللهُ، ومَنْعًا لِما أوجَبَ علينا مِن الزَّكَواتِ والصَّدَقاتِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((تفسير القرطبي)) (19/87)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273). قال ابنُ كثير: (أي: ما عبَدْنا رَبَّنا، ولا أحسَنَّا إلى خَلْقِه مِن جِنْسِنا). ((تفسير ابن كثير)) (8/273). .
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45).
أي: وكنَّا في الدُّنيا نَخوضُ في الباطِلِ مع مَن يَخوضونَ فيه، فنُخالِطُهم في باطِلِهم [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/451)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/249)، ((تفسير القرطبي)) (19/87)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير الألوسي)) (15/147). قال البِقاعي: (مَعَ الْخَائِضِينَ بحيث صار لنا هذا وَصفًا راسِخًا، فنَقولُ في القُرآنِ: إنَّه سِحرٌ، وإنَّه شِعرٌ، وإنَّه كِهانةٌ، وغيرَ هذا مِن الأباطيلِ، لا نتوَرَّعُ عن شيءٍ مِن ذلك، ولا نَقِفُ مع عَقلٍ، ولا نرجِعُ إلى صحيحِ نَقلٍ). ((نظم الدرر)) (21/76). .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف: 83] .
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46).
أي: وكُنَّا في الدُّنيا نُكذِّبُ بيومِ الحِسابِ والجَزاءِ، فلا نُصدِّقُ بالقيامةِ ولا بالجنَّةِ والنَّارِ [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/452)، ((تفسير القرطبي)) (19/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/327). .
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47).
أي: فاستَمرَرْنا على كُفْرِنا وضَلالِنا حتَّى أتانا الموتُ [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/452)، ((تفسير ابن عطية)) (5/399)، ((تفسير الرازي)) (30/716)، ((تفسير القرطبي)) (19/88)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (3/273)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 898). قال ابن تيمية: (المرادُ به ما يُوقَنُ به من الموتِ وما بَعْدَه، باتِّفاقِ السَّلَفِ). ((الرد على الشاذلي)) (ص: 51). وقال ابن القيم: (اليقينُ هاهنا هو الموتُ، بإجماعِ أهلِ التَّفسيرِ). ((مدارج السالكين)) (1/124). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/147). وقال الشوكاني: (هو الموتُ، كما في قَولِه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] ). ((تفسير الشوكاني)) (5/400). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/456). .
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48).
أي: فما تَنفَعُ الكافِرينَ شَفاعةُ الشَّافِعينَ؛ مِنَ الملائكةِ والأنبياءِ، والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، حينَ يَقبَلُ اللهُ شفاعتَهم في المُذنِبينَ الموَحِّدينَ [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/452)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/366)، ((تفسير القرطبي)) (19/88)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/76). قال ابنُ جزي: (أجمعَ العُلَماءُ أنَّه لا يَشفَعُ أحَدٌ في الكُفَّارِ، وجَمْعُ الشَّافِعِينَ دليلٌ على كثرتِهم، كما ورد في الآثارِ؛ تَشفَعُ الملائكةُ والأنبياءُ، والعُلَماءُ والشُّهَداءُ والصالحونَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/430-431). .
كما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] .
وقال سُبحانَه: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أنَّه لا أحدَ يُعطَى مِن عَمَلِ أحَدٍ، ولا يُؤْخَذُ منه [252] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/82). .
2- قولُه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ أي: كلُّ نفسٍ مرتهنَةٌ محبوسةٌ وموثقةٌ بكسبِها السيئِ، وحبسُها في العذابِ السيئِ؛ وذلك لأنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ، فكما حبَس المجرمونَ ما لديهم لله ولخلقِه مِن الحقوقِ اللَّازمةِ؛ فلم يُؤدُّوا الصَّلاةَ التي هي أكبرُ العباداتِ المتضمِّنةِ للإخلاصِ للمعبودِ، ولا أطعَموا المساكينَ مِن الحقِّ الذي أوجَبه الله لهم في أموالِهم، ولا حبَسوا نفوسَهم على ما شرَع، وقيَّدوها بقيودِ الدين، بل أطلَقوها فيما شاؤوا مِن المراداتِ الفاسدةِ، فخاضوا بالباطلِ معَ الخائضينَ، ولا صدَّقوا ربَّهم ورسلَه معَ تواترِ الآياتِ، بل كانوا يُكذِّبونَ بيومِ الدِّينِ؛ فلذلك حُبِسوا في هذا المحبسِ الفظيعِ، وأُدخِلوا في سقرَ. ولمَّا كان أصحابُ اليمينِ قد حبَسوا نفوسَهم في الدُّنيا على شرعِ الله تصديقًا وعملًا، وأطلَقوا ألسنتَهم وجوارحَهم في طاعةِ الله ومرضاتِه؛ أطلَق الله إسارَهم، وفكَّ رهنَهم، فلم يكونوا في ذلك اليومِ مرتهنينَ، بل كانوا مطلَقينَ فيما اشتَهتْ أنفسُهم، ولذَّت عيونُهم.
فعملُ العبدِ في الدُّنيا إمَّا أنْ يكونَ سببًا لارتهانِه، أو سببًا لخلاصِه، بل الأصلُ أنَّ الإنسانَ في حبسٍ، وأنَّ عملَه سيُرتهَنُ؛ لأنَّه ظلومٌ وجهولٌ طبعًا، إلَّا مَن خلَّصه الله مِن هذا، ومَنَّ عليه بالصبرِ وعملِ الصالحاتِ، فلهذا جعَل الارتهانَ، واستثنَى منه أصحابَ اليمينِ، فقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [253] يُنظر: ((المواهب الربانية)) للسعدي (ص: 82، 83). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ هذا تنبيهٌ على أنَّ رُسوخَ القَدَمِ في الصَّلاةِ مانِعٌ مِن مِثْلِ حالِهم، وعلى أنَّ الصَّلاةَ أعظَمُ الأعمالِ، وأنَّ الحِسابَ بها يُقَدَّمُ على غَيرِها [254] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/75). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ سُؤالٌ: أنَّه قال تعالى أيضًا: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]!
الجوابُ: أنَّه لا يُسأَلُ عن ذنْبِه سؤالَ استِرشادٍ واستِعلامٍ، وإنَّما يُسألونَ سؤالَ تبكيتٍ وتوبيخٍ، وما جاء مِن سؤالِ الإنسِ والجِنِّ عن ذُنوبِهم: هل أنت عَمِلْتَ أو لم تَعمَلْ؟ فهو سؤالُ تبكيتٍ وتوبيخٍ، وهناك فرقٌ بيْن سؤالِ الاسترشادِ وسؤالِ التَّوبيخِ؛ فلا تَتناقَضُ الآياتُ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 317). .
وقيل: إنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.
وقيل: إنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عن التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدَمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يَستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه [256] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 100). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (10/60، 61)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 300). ، وقيل غيرُ ذلك [257] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/28). .
2- قال اللهُ تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ الظَّاهِرُ أنَّ مَجموعَ ما ذَكَروه سَبَبٌ لدُخولِ مَجموعِهم النَّارَ، فلا يَضُرُّ في ذلك أنَّ مِن أهلِ النَّارِ مَن لم يكُنْ وَجَب عليه إطعامُ مِسْكينٍ، كفُقَراءِ الكَفَرةِ المُعْدِمينَ [258] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/147). .
3- في قَولِه تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أنَّ الكافرَ يُعاقَبُ على أصلِ الكفرِ وعلى المعاصي أيضًا الَّتي عَمِلَها؛ فالمُشرِكُ إذا زنا وسَرَق وشَرِب الخَمْرَ يُعاقَبُ على ذلك، فيُعاقَبُ على الأصلِ والفرعِ، فالصَّدَقةُ ليست مِن الأُصولِ، وكذلك الزَّكاةُ -على القَولِ الصَّحيحِ- لا يَكْفُرُ تارِكُها، ومع ذلك ذَكَروا أنَّها مِن أسبابِ دُخولِهم النَّارَ، ولولا أنَّ لها تأثيرًا في الجزاءِ ما صارتْ مِن الأسبابِ، أمَّا الصَّلاةُ فمِن أهلِ العِلمِ مَن ذهَب إلى أنَّها مِن الأُصولِ، وأنَّ تارِكَها يَكْفُرُ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 515). ، فالآيةُ احتُجَّ بها على أنَّ الكُفَّارَ يُعَذَّبونَ بتَرْكِ فُروعِ الشَّرائِعِ [260] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/716). ، وإن كانت لا تَصِحُّ منهم، فلو فَعَلوها قبْلَ الإيمانِ لم يُعْتَدَّ بها [261] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/75). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، استُدِلَّ به على أنَّ الكفارَ مكلَّفونَ بالفُروعِ [262] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 277). . ففي الآيةِ التَّصريحُ بأنَّ مِن الأسبابِ الَّتي سلَكَتْهم في سَقَرَ عدَمَ إطعامِ المسكينِ، وهو فرعٌ مِن الفُروعِ [263] يُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 40). قال ابن عاشور: (معنَى قولِ مَن قال مِن العلماءِ بأنَّ الكفَّارَ مُخاطَبونَ بفروعِ الشَّريعةِ يَعْنونَ خِطابَ المُؤاخَذةِ على ما نُهُوا عن ارتكابِه، وليس المرادُ أنَّهم يُطلَبُ منهم العملُ؛ إذْ لا تُقْبَلُ منهم الصَّالحاتُ بدونِ الإيمانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/75). وقال ابن عثيمين: (الكفَّارُ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّريعةِ... ولكن ليس معنَى خِطابِهم بها أنَّهم مُلزَمونَ بها في حالِ الكفرِ؛ لأنَّنا نَدْعوهم أوَّلًا إلى الإسلامِ، ثمَّ نُلزِمُهم بأحكامِه، وليس معنَى كَونِهم مُخاطَبينَ بها أنَّهم يُؤْمَرونَ بقضائِها... والفائدةُ مِن قولِنا: إنَّهم مُخاطَبونَ بها -كما قال أهلُ العِلمِ-: زيادةُ عُقوبتِهم في الآخرةِ، وهذا يدُلُّ عليه قولُه تعالى: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ). ((تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة)) (2/235). .
5- في قَولِه تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ دليلٌ على توكيدِ حُرْمةِ المسكينِ حينَ قَرَنَ تضييعَه بتَركِ الصَّلاةِ، وخَوضِ الخائِضينَ، وتَكذيبِ يومِ الدِّينِ! وكما قال تبارك وتعالى في سورةِ (الحاقَّةِ): إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 33، 34]، وكقَولِه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [264] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/448). [الماعون: 1 - 3].
6- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المسلِمَ الَّذي أضاع إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ مُستَحِقٌّ حَظًّا مِن سَقَرَ على مِقدارِ إضاعتِه، وعلى ما أراد اللهُ مِن مُعادَلةِ حسَناتِه وسَيِّئاتِه، وظَواهِرِه وسَرائِرِه، وقبْلَ الشَّفاعةِ وبَعْدَها [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/328). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ فيه سُؤالٌ: لِمَ أخَّرَ التَّكذيبَ، وهو أفحَشُ تلك الخِصالِ الأربَعةِ؟
الجوابُ: أُريدَ أنَّهم بعدَ اتِّصافِهم بتلك الأُمورِ الثَّلاثةِ كانوا مُكَذِّبينَ بيَومِ الدِّينِ، والغَرَضُ تعظيمُ هذا الذَّنْبِ، كقَولِه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا [266] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/716). [البلد: 17] .
8- قَولُ اللهِ تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ احتُجَّ على ثُبوتِ الشَّفاعةِ للفُسَّاقِ بمفهومِ هذه الآيةِ؛ فإنَّ تخصيصَ هؤلاء بأنَّهم لا تَنفَعُهم شَفاعةُ الشَّافِعينَ يدُلُّ على أنَّ غيرَهم تَنفَعُهم شفاعةُ الشَّافِعينَ [267] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/716). ، وأنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه مُشَفِّعٌ بَعْضَ خَلْقِه في بَعْضٍ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/452). . ووردت أحاديثُ في صِحَّةِ ذلك [269] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/339). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ
- قولُه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ يُبيِّنُ للسَّامعِ عُقْبَى الاختيارِ الَّذي في قولِه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/324)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/290). [المدثر: 37] .
- قولُه: كُلُّ نَفْسٍ مُرادٌ به خُصوصُ أنفُسِ المُنذَرينَ مِن البشَرِ؛ فهو مِن العامِّ المرادِ به الخُصوصُ بالقَرينةِ، أي: قَرينةُ ما تُعْطيهِ مادَّةُ رَهينةٍ مِن معْنى الحبْسِ والأسْرِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/324). .
- ورَهِينَةٌ: مَصدرٌ بوَزنِ فَعيلةٍ، كالشَّتيمةِ، والإخبارُ بالمَصدرِ للمُبالَغةِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/325). .
2- قولُه تعالَى: فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ
- قولُه: فِي جَنَّاتٍ يَجوزُ أنْ يكونَ مُتعلِّقًا بقولِه: يَتَسَاءَلُونَ، قُدِّمَ للاهتِمامِ، ويَتَسَاءَلُونَ حالٌ مِن أصحابِ اليمينِ، وهو مَناطُ التَّفصيلِ الَّذي جِيءَ مِن أجْلِه بالاستثناءِ المُنقطِعِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ فِي جَنَّاتٍ خبَرَ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: همْ في جنَّاتٍ، والجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ لمَضمونِ جُملةِ الاستثناءِ، والتَّقديرُ: فما شَأنُهم وحالُهم [273] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/338)، ((تفسير أبي السعود)) (9/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/325)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/291). ؟
- ومعْنى يَتَسَاءَلُونَ يَجوزُ أنْ يكونَ على ظاهرِ صِيغةِ التَّفاعُلِ؛ للدَّلالةِ على صُدورِ الفِعلِ مِن جانبَينِ، أي: يَسأَلُ أصحابُ اليمينِ بعضُهم بعضًا عن شأْنِ المُجرمين، وتكونَ جُملةُ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بَيانًا لجُملةِ يَتَسَاءَلُونَ. وضَميرُ الخِطابِ في قولِه: سَلَكَكُمْ يُؤذِنُ بمَحذوفٍ، والتَّقديرُ: فيَسْأَلون المُجرِمين: ما سلَكَكُم في سَقَرَ؟ وليس الْتِفاتًا، أو يقولُ بعضُ المَسؤولينَ لأصحابِهم جَوابًا لِسائلِيهم: قُلْنا لهم: ما سَلَكَكم في سَقَرَ؟ ويجوزُ أنْ تكونَ صِيغةُ التَّفاعُلِ مُستعمَلةً في معْنى تَكريرِ الفِعلِ، أي: يَكثُرُ سُؤالُ كلِّ أحدٍ منهم سُؤالًا مُتكرِّرًا، أو هو مِن تَعدُّدِ السُّؤالِ مِن أجْلِ تَعدُّدِ السَّائلينَ، وعلى هذا يكونُ مَفعولُ يَتَسَاءَلُونَ مَحذوفًا يدُلُّ عليه قولُه: عَنِ الْمُجْرِمِينَ، والتَّقديرُ: يَتساءلون المُجرِمين عنهم، أي: عن سَببِ حُصولِهم في سَقَرَ، ويدُلُّ عليه بَيانُ جُملةِ يَتَسَاءَلُونَ بجُملةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؛ فإنَّ مَا سَلَكَكُمْ فيه بَيانٌ للتَّساؤُلِ [274] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/325، 326). .
وقيل: قولُه: يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ، أي: يَسألونَهم عن أحوالِهم، وقد حُذِفَ المَسؤولُ لكَونِه عينَ المسؤولِ عنه، وقولُه تعالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ مُقدَّرٌ بقَولٍ هو حالٌ مِن فاعلِ يَتَسَاءَلُونَ، أيْ: يَسأَلونَهم قائلينَ: أيُّ شَيءٍ أدْخَلَكم فيها [275] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/61، 62). ؟
- قولُه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ يَسأَلونهم وهم عالِمونَ بحالِهم؛ تَوبيخًا لهم وتَحسيرًا، وليكونَ حِكايةُ اللهِ ذلك في كِتابِه تَذكرةً للسَّامعينَ [276] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/655)، ((تفسير أبي حيان)) (10/338)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/327)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/291). .
- و(ما) الاستفهاميةُ مُحتمِلةٌ للتَّوبيخِ والتَّعجيبِ [277] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/73). .
- قولُه: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ كِنايةٌ عن عدَمِ إيمانِهِم، وسَلَكوا بها طَريقَ الإطنابِ المناسِبَ لمَقامِ التَّحسُّرِ والتَّلهُّفِ على ما فاتَ، فكأنَّهم قالوا: لأنَّا لم نكُنْ مِن المؤمنينَ؛ لأنَّ أهلَ الإيمانِ اشتَهَروا بأنَّهم أهلُ الصَّلاةِ، وبأنَّهم في أموالِهِم حقٌّ مَعلومٌ للسَّائلِ والمَحرومِ، وبأنَّهم يُؤمِنون بالآخِرةِ وبيَومِ الدِّينِ، ويُصدِّقون الرُّسلَ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/327). .
- قولُه: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، أي: بيَومِ الجَزاءِ، أضافُوه إلى الجزاءِ مع أنَّ فيه مِن الدَّواهِي والأهوال ما لا غايةَ له؛ لأنَّه أدْهاهَا وأهْوَلُها، وأنَّهم مُلابِسوه [279] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/62). .
- قولُه: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ تَأخيرُ جِنايتِهم هذه مع كَونِها أعظَمَ مِنَ الكُلِّ؛ لتَفخيمِها، كأنَّهم قالُوا: وكنَّا بعْدَ ذلكَ كلِّه مُكذِّبينَ بيَومِ الدِّينِ، ولبَيانِ كَونِ تَكذيبِهم به مُقارنًا لسائرِ جِناياتِهم المَعدودةِ مُستمِرًّا إلى آخِرِ عُمرِهم، حسبَما نطَقَ به قولُهم: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [280] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/655)، ((تفسير البيضاوي)) (5/263)، ((تفسير أبي السعود)) (9/62). .
- وفي الأفعالِ المُضارِعةِ في قولِه: لَمْ نَكُ، ونَخُوضُ، ونُكَذِّبُ إيذانٌ بأنَّ ذلك دَيدنُهم، ومُتجدِّدٌ منهم طُولَ حَياتِهم [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/328). .
- وفاءُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ تَفريعٌ على قولِه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، أي: فهمْ دائِمون في الارتهانِ في سَقَرَ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/328). .
- وفي قولِه تعالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بنفْيِ الشَّيءِ بإيجابِه [283] نفْي الشَّيءِ بإيجابِه: هو أنْ يكونَ الكلامُ ظاهِرُه إيجابُ الشَّيءِ وباطنُه نفْيُه، بأنْ يُنفَى ما هو مِن سببِه وهو المنفيُّ في الباطِنِ، أو أنْ يُذكرَ كَلامٌ يدُلُّ ظاهِرُه أنَّه نفْيٌ لصِفةِ مَوصوفٍ، وهي نفْيٌ للمَوصوفِ أصْلًا، وهو مِن مَحاسِنِ الكلامِ، فإذا تأمَّلْتَه وجَدْتَ باطنَه نفيًا، وظاهِرَه إيجابًا. يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رَشِيق (2/80)، ((المثل السائر)) للضياء ابن الأثير (2/203)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 377)، ((خزانة الأدب)) لابن حِجَّة الحَمَوي (2/24)، ((شرح عقود الجُمَان)) للسيوطي (ص: 134)، ((أنوار الربيع)) لابن معصوم (4/364). ؛ فهنا ليس المعْنى أنَّهم يُشفَعُ لهم فلا تَنفَعُهم شفاعةُ مَن يَشفَعُ لهم، وإنَّما المعْنى نفْيُ الشَّفاعةِ، فانْتَفى النَّفعُ، أي: لا شَفاعةَ شافِعينَ لهم فتَنفَعَهم، مِن بابِ «على لاحِبٍ لا يُهتَدى بمَنارِهِ» [284] القائلُ هو امرُؤ القَيسِ. يُنظر: ((ديوان امرئ القيس)) (ص: 96). واللَّاحبُ: الطَّريقُ الواضحُ، ولم يُرِدْ أن فيه منارًا لا يُهتدَى به، ولكنَّه نفَى أن يكون به منارٌ. والمعنى: لا منارَ فيه فيُهتدَى به. يُنظر: ((خِزانة الأدب)) للبغدادي (10/193). ، أي: لا مَنارَ له فيُهتَدى به [285] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/339)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/293). .